أَصْلِ الْبَراءَة

هویة الکتاب

أَصْلِ الْبَراءَة

تألیف

آیة الله العظمی الحاج الشیخ

محمدحسین النجفی الاصفهانی

صاحب مجدالبیان فی تفسیر القرآن

1308-1266 ق.

تحقیق

الشیخ الدکتور محمود النعمتی

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

تاريخ طبع کِتابِ «أَصْلِ الْبَراءَة» من نظم سماحة العلّامة الأستاذ السيّد عبدالسّتّار الحسني (دامت برکاته)

تاريخ طبع کِتابِ «أَصْلِ الْبَراءَة» للمجتهد الکبير آيةالله العظمیٰ الإمام الشيخ محمّد الحسين النجفيِّ من آلِ صاحِب الحاشيَةِ(قدس سره) من نظم سماحة العلّامة المحقّق الحجّة الأستاذ الكبير السيّد عبدالسّتّار الحسني (دامت برکاته)

(أصْلُ الْبَراءةِ) بِ-(الْحُسَيْنِ) بُحُوثُهُ *** نَضِجَتْ وَأَثْرَتْ أَيَّما إثْراءِ

فَبِهِ قَدِ استوْفَیٰ المَقاصِدَ مُوْغِلاً *** في سَبْرِهِنَّ بِهِمَّةٍ قَعْساءِ

وَلِرَأْيِهِ کانَ الصَّوابُ مُلازِماً *** کَالظِّلِّ عِنْدَ تَبايُنِ الآراءِ

وَجَرَتْ يَراعَتُهُ بِمَدِّ حَقائِقٍ *** هِيَ مِنْ نَتائِجِ فِکْرِهِ المِعْطاءِ

وَبِزَبْرِهِ المَيْمُوْنِ غُرَّ صَحائِفٍ *** قَدْ أَشْرَقَتْ أَنْوارُها کذُکاءِ

لِ-(أصُوْلِنا الْعَمَلِيَّةِ) الزُّهْرِ اغتَدیٰ *** (أصْلُ البَراءَةِ) ثاقِبَ الْإِيْراءِ

وَ(أَدِلَّةُ السَّمْعِ) اسْتَطالَ مَنَارُها الْ- *** وَضّاحُ - فِي إِلْزامِها - للرَّائِيْ

ص: 3

وَبِسِفْرِهِ هَذا الشَّواهِدُ قَدْ أَتَتْ *** تَتْریٰ، فَعدِّ بِها عَنِ الْإحْصاءِ

فَاصْدَحْ بِها يا مَنْ تَرُوْمُ إِفادَةً *** مُسْتَوْثِقاً مِنْها بِغَيرِ مِراءِ

وبِعَدِّكَ الخُلَفاءَ (1) أَرِّخْهُ: «وَقُلْ *** صَدَعَ الحسينُ بِ- (أصْلِهِ الوضّاءِ)»

(12) (136)(164) (159) (128) (839)

(سنة 1438ﻫ)

الأقل (عبدالسّتّار) عفا عنه المليك الغفّار

النجف الأشرف - المدرسة المهديّة العلميّة الدينيّة

ص: 4


1- . في عبارةِ (عَدِّكَ الخُلفاءَ) توريةٌ بإدخال عدد الخلفاء وهم الأَئمّةُ الاثْنَا عَشَرَ المعصومون علیهم السلام، کما جاء من نصوص الفريقَين أنَّ الخلفاءَ بعده (صلی الله علیه و آله و سلم) اثناعَشَرَ خليفة وکُلُّهُمْ من قريش. وقد أَلَّفَ الحافظُ ابْنُ حَجَرٍ العسقلانيُّ الشافعيُّ (ت852ﻫ) رسالةً حافِلَةً في اسْتيفاءِ طُرُقِ هذا الحديث من رُواة الجُمهور وَسَمّاها (طِيْب العَيْش في طُرُقِ حديثِ الأُئِمّة مِنْ قريش)؛ وَمِمّا يُضْحِكُ الثَّکْلیٰ ما (تبرَّع) بِهِ الحافِظُ السُّيوطيُّ من شَرْحٍ لِهذا الحديث الصحيح بتطبيقهِ علیٰ غير مصاديقه، وکأنَّهُ يُجري القُرْعَةَ لينتخبَ ما يَرْتَئِيْهِ مِنْ أسماءِ رِجالٍ من الدَّولة الأُمَوِيّة والدولة العبّاسيّة وإضافتهم إلی الخلفاء الأربعة المُعَبَّر عنهم عند الجُمهور ب-(الخلفاء الراشدين) وهذا يَدُلُّ علیٰ أنَّ السُّيوطيَّ حاطِبُ لَيْل وخابِطُ سَيْل يَهْرفُ بما لا يَعْرِفُ، واللهُ العاصِم.

بسم الله الرحمن الرحیم

تمهید بقلم آيةالله الشيخ هادي النجفي (دام ظله) حفيد المؤلّف

أحمد الله علی مستفيض آلائه وتواتر نعمائه وأصلّي علی نبيّه المُرْسَل مُضْمَرِ سِرِّهِ الأوّل والرسول الخاتم أبي القاسم محمّد وآله الأئمّة الطاهرين المعصومين، وأتَوَلّیٰ آخرهم بما تولّيت به أوّلهم، وأبرءُ من کلّ وليجةٍ دونهم، وأتقرّب إلی الله في أيّام حياتي بالبراءة مِن أعدائهم واللعنة عليهم.

هذا کتاب جدّ جدّي في أصل البراءة، لابدّ أن أبحث حوله وحول مؤلِّفه:

أمّا المؤلِّف

اسمه ونسبه وأمّه وولادته

فهو آيةالله العظمی الحاج الشيخ محمّدحسين النجفي الإصفهاني (1266-1308) صاحب مجدالبيان في تفسير القرآن.

ابن آيةالله العظمی الحاج الشيخ محمّدباقر النجفي (1235-1301) صاحب شرح هداية المسترشدين - حجّيّة الظن -.

ص: 5

ابن آيةالله العظمی الشيخ محمّدتقي الرازي النجفي الإصفهاني (ح1185-1248) صاحب هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين و تبصرة الفقهاء و رسالهٔ صلاتيه.

ولد من أُمٍّ عريقةٍ بالشّرف والمجدِ والسّيادة وهي العَلَوية زمزم بيگم بنتُ آيةالله العظمی السيّد صدرالدين الصدر العاملي الکبير (1193-1264) ابن السيّد صالح (1122-1217). وأُمُّها جان جان خاتون بنت مرجع الطائفة آيةالله العظمی الشيخ جعفر کاشف الغطاء (1156-1228).

ولد في يوم الأحد، الثاني من محرّم الحرام سنة 1266 في مدينة إصفهان.

دراسته وهجرته إلی النجف الأشرف وأساتيده

اشارة

ابتدأ بالعلوم في مسقط رأسه مدينة إصفهان عند أساتذة کلّ فنٍّ، وفرغ من الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق وسائر المقدّمات قبل بلوغه، لأنّه کان فطناً ذکيّاً، ولا يشتغل باللهو واللّعب، ومنتهی همّه الدّرس والبحث.

واشتغل عند بلوغه بالفقه والأصول لدیٰ:

1- والده العلّامة الشيخ محمّدباقر، «وکان من شدّة ذکائه وفطنته وجودة فهمه وجربزته جدليّاً عيون الطلبة ووجوه المشتغلين يهابون مباحثته مع صغر سنّه، وأعيان العلماء والمحصّلين يعترفون بسموّ قدره وجلالة

ص: 6

منزلته» (1).

يحدّثنا نجله أبوالمجد عن حضوره في درس والده: «وقد حدّثني جماعة أنّه حضر بعض أيّام الشتاء وهو لابس الفراء درس والده العلّامة وهو غلام لم يبلغ الحلم وجلس في زاوية المجلس ولمّا شرع والده العلّامة في الدرس أخذ في المنازعة معه والإيراد عليه بما بهت به الحاضرون، فنظروا إلی اطراف المجلس، فلم يروه لصغره إلی أن أحدّ النظر إليه بعض ظرفاء الحاضرين، فقال للشيخ متعجّباً علی سبيل المزاح بالفارسية ما معناه: إنّ الفروة هي الّتي تناظرك، فعرف الشيخ أنّه صاحب الترجمة، فقطع البحث ومنعه بعد ذلك عن الحضور خوفا عليه من أعين الطلّاب» (2).

ثمّ ذهب لأجل استمرار دراسته العلمية إلی النجف الأشرف مع أخويه الأکبر - آيةالله العظمی الشيخ محمّدتقي آقا النجفي الإصفهاني (1262-1332)- والأصغر - آيةالله العظمی الشيخ محمّدعلي النجفي الإصفهاني (1271-1318)- وآيةالله العظمی السيّد محمّدکاظم الطباطبائي اليزدي (م1337) صاحب العروة الوثقیٰ بنفقة والدهم.

والمؤلّف حضر في الحوزة النجفية علیٰ الأعلام التالية:

ص: 7


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن، ص11، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.
2- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، مخطوط مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.

2- آيةالله العظمی الشيخ الميرزا حبيب الله الرشتي صاحب بدائع الأفکار، حضر عليه في أصول الفقه.

وقد وصف نجله أبوالمجد (1) صاحب البدائع بأنّه أستاد والده.

ويحدّثنا عن هذا الدرس: «وحدّثني [الشيخ العالم الفاضل الکامل الشيخ حسن التويسرکاني] أيضاً أنّ العلّامة الميرزا حبيب الله الجيلاني لمّا باحث مسألة الظنّ بالطريق وبالواقع، أورد علی العلّامة الجدّ الأكبر إشكالات علی مختاره المشهور وأذعن لإشكالاته الحاضرون جميعاً إلّا صاحب الترجمة والسيّد المتقدّم [الميرزا حبيب الله الخراساني] وأصرّا علی تصحيح كلام الشيخ الأكبر، وانقضت أيّام والنزاع قائم بين العلّامة المذكور وبينهما وفي كلّ يوم يصدق بقوّتهما جمع كثير من الفضلاء الحاضرين، إلی أن صعد المنبر يوماً فقال له أحد الحاضرين: أنّ الصلاح أن تترك هذه المسألة، فإنّه لم يبق لك موافق فيها، فعمل بقوله وشرع في مسألة أخری» (2).

3- آيةالله العظمی الشيخ راضي النجفي، تتلمذ عليه في الفقه.

4- سيّد الطائفة ومرجعها آيةالله العظمی السيّد محمّدحسن الحسيني

ص: 8


1- . راجع کتابه وقاية الأذهان: ص100.
2- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، مخطوط مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.

الشيرازي الکبير، حضر عليه في العلمين.

وفي الحکمة حضر علی:

5- الشيخ الميرزا باقر الشکّي (1) (م1298).

وقرأ الأسفار الأربعة علی:

6- الشيخ محمّدعلي الترك.

وقال نجله: «وكان لا يفتر عن التحصيل ليلاً ولا نهاراً. حدّثني الشيخ العالم الفاضل الكامل الشيخ حسن التويسركاني قال: لمّا أتيت إلی النجف لأجل التحصيل سألت عن أفضل المحصّلين والمشتغلين، فأرشدوني إلی صاحب الترجمة وإلی السيّد العالم الميرزا حبيب الله الخراساني، فرأيت السيّد المذكور وإن كان علی ما وصف، لكنّه غير مجدّ في الاشتغال ورأيت صاحب الترجمة مواظباً عليه أشدَّ المواظبة وداره كأنّها مدرسة يجتمع فيها أرباب العلم والفضل من كلِّ مكانٍ ولا تخلو غالباً من المذاكرة، فلزمتُ ذلك المجلس السامي وواظبتُ عليه.

وبالجملة، بقي في العراق مدّة كثيرة مواظباً علی تحصيل العلوم مجدّاً فيه لم يفتر عنه ساعة ومعه في الدار أفضل تلامذة والده العلّامة جناب

ص: 9


1- . راجع ترجمته في کتاب معارف الرجال: ج1/ ص127؛ ومکارم الآثار: ج8/ ص3110.

السيّد محمّدكاظم اليزدي والعالم الفاضل الآمرزا (1) أبوالقاسم البروجردي رحمة الله تعالی وكان أيضاً من تلامذة والده» (2).

تصحيحان

الأول: قد توهّم بعض (3) أنّ الشيخ محمّدحسين الطريحي من أحفاد صاحب مجمع البحرين کان أُستاذ المترجم له وشيخه في الطريقة والسلوك مع أنّه لم يثبت قطعاً.

وأمّا توجّه المترجم له إليه کما ورد في کلام بعض آخر (4) علی فرض ثبوته لم يدلّ علی أنّه أستاذه أو شيخه أو نحو ذلك.

الثاني: المترجم له لم يحضر علی الميرزا عبدالرحيم الفقاهتي الماهاني الزنجاني (5) المولود سنة 1279ﻫ والوارد في النجف الأشرف سنة 1298ﻫ في التاسع عشر من عمره والمتوفّیٰ في الثاني عشر من شهر صفر سنة

ص: 10


1- . كذا في المصدر ولعل صحيح «الميرزا».
2- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، مخطوط مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.
3- . راجع کتاب: أحوال و آثار شيخ محمّدتقی رازی نجفی إصفهانی و خاندانش: ص489، تأليف المؤرخ رحيم القاسمي.
4- . وهو السيّد أبوالحسن الکتابي في تعليقه علی کتاب نسب نامه الفت، مخطوط.
5- . کما ادعاه ولده کمال الدين الفقاهتي في مقدمته علی کتاب القضاء لوالده خطأ ونبّه عليه المؤرخ رحيم القاسمي في کتابه: أحوال و آثار شيخ محمّدتقی رازی نجفی إصفهانی و خاندانش: ص473.

1365ﻫ. لأنّ المترجم له ورد في النجف الأشرف وهذا علی ثدي أمّه يرتضع!

رجوعه إلی إصفهان

وبالجملة: بعد مضيّ أکثر من خمسة عشر سنة قضاها عند أساتيد الفنّ وجهابذة العلم في الحوزة العلميّة النجفيّة بجوار أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) رجع إلی مسقط رأسه مدينة إصفهان بأمر مولوي صدر من والده المعظم في حدود سنة 1296ق.

واشتغل في إصفهان بتدريس الکلام وأصول الفقه والفقه وقد استفاد من مجلس درسه الشريف جماعة من العلماء المبرزين وکتب ما التقطوا من فوائد کلماته وتقريرات بحوثه في مجلّدات عديدة.

منهم: آيةالله العظمی الشيخ محمّدحسين النائيني قال: «وقد انقطعتُ به واعتكفتُ عليه وكنتُ أحضر جميع أبحاثه الفقهية والأصولية والكلامية، وأكتبها في مجلس البحث بكمال السرعة مترجماً لها بالعربيّة وأعرض عليه كراريسي ويتعجّبُ هو وجميع مَنْ يحضره عن عدم فوت شيء ممّا كان يفيده ويستنسخها الحاضرون، وقد طلبها منّي أخوه الفقيه البارع الزّكي حضرة الشيخ محمّدتقي المعروف بآقا نجفي (قدس سره) ليطبعها ولم يرض هو طاب رمسه بذلك ومنعني عن دفعها إليه» (1).

ص: 11


1- . ترجمة المحقّق النائيني بخطّه الشريف موجودة عند حفيده آيةالله الشيخ جعفر النائيني (دام ظله). وقد طبعتها في کتابي الآراء الفقهية: ج5/ ص407-405. ثمّ طُبعت من دون الاستيذان منّي ولا من حفيده في کتاب شيعه، العدد الثاني: ص113 و114.

وقال شقيقه عن دروسه في إصفهان: «واشتغل بالإفادة والاستفادة واتّکأ علی وسادة الإجادة، أقبل عليه طلبة العلم من کلِّ مکانٍ، وأحاطوا عليه لتحصيل العلوم من کلِّ فجٍّ عميق مرخی العنان، فتصدر من غير نکير في مجلس التدريس، وفاق علماء عصره بالاتّفاق في کلِّ فنٍّ نفيسٍ، وأذعن کلِّ ذي فضل بفضله الجزيل، واعترف کلِّ ذي فنٍّ بمهارته في کلِّ فنٍّ جليلٍ، وتصدّی للوعظ وإرشاد الخلق إلی الحقِّ بلطف التقرير وحسن التفسير، فصار في ذلك واحد عصره بالإتّفاق بلانظير» (1).

حضوره علی والده

بعد رجوعه من النجف الأشرف واشتغاله بالتدريس والوظائف، حضر علی والده أيضاً، وقد نقل عنه في شأن درس والده هذه المقالة: «لولا ما في درسه من عدم الترتيب الناشئ من کثرة أشغاله لکان أنفع درس علی وجه الأرض» (2).

انقلابه الروحي

ثمّ بعد اشتغاله بالدرس والبحث والوعظ وحصول رياسة ومرجعيّة

ص: 12


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن: ص12، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.
2- . الحصون المنيعة، مخطوطٌ.

دينيّة، ترکها وحصل له انقلابٌ روحيٌ يحدّثنا عنه شقيقه الأصغر الشيخ محمّدعلي بقوله: «إنّي کلَّما أردتُ أن أُقيمَ الصّلاة ساعةً أو ساعتين، أُفکِّر في أمر نيَّتها، لأجعَلَه خالصاً لله تبارك وتعالی! لتحصيل الخلوص الّذي هو أصل کلِّ عبادةٍ. وأثَّر هذا الفکر في نفسي تأثيراً عظيماً، حتّی منَعني من الأعمال» (1).

وهذا تقرير آخر من سبب هذا الإنقلاب: «لمّا کنتُ في إصفهان مشتغلاً بإمامة الجماعة، خطر في قلبي بعض الوسواس الّذي هو من الخنّاس الّذي يوسوس في صدور الناس، فکنتُ کلَّ يومٍ قبل الخروج إلی الصلاة أشتغل بالفکر ساعة أو ساعتين لتحصيل الخلوص الّذي هو للصلاة عين الفرض وفرض العين، أفکّر في فناء الدنيا وغرورها، وعدم بقاء نعيمها وسرورها، وما يجري فيها من المکاره علی أهلها، وانقضاء صعبها وسهلها، وفي الآخرة وبقائها ومنجياتها ومهلکاتها دفعاً للمراء، وحذراً من الرياء، فأثّر في قلبي أثراً انقطعت بالمرّة عمّا سوی الله، وتوجّهت بکلِّ وجهي إلی الله، فحصل لي ما حصل ببرکة التفکّر في تلك الساعات، وظهر لي حقيقة قوله (علیه السلام): «تفکّرُ ساعةٍ خيرٌ مِنْ عبادةِ سنة»، وأنّه أصل

ص: 13


1- . رسالةٌ في ترجمة العلّامة الشّيخ محمّدحسين النجفي الإصفهاني (قدس سره) لحفيده العلّامة الفقيد آيةالله الشيخ مجدالدّين النجفي الإصفهاني (قدس سره)، المطبوعة في ميراث حوزه اصفهان: ج5/ ص606 بتحقيق الأستاذ الشيخ مجيد هادي زاده (دامت برکاته).

لکلِّ العبادات، ورأس لجميع السعادات» (1).

وقال شقيقه الآخر الحاج آقا نورالله: «ثمّ سنح له في ذلك الحال وبدا له في خلال تلك الأحوال التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلی دار البقاء والسرور، فترك جميع ما کان متصديّاً من الوعظ والتدريس، وهجر جميع ما کان يحجبه عن الأُنس بالله وهو نعم الأنيس، فأشرق له من صبح السّعادة نور أضاءت به غياهب الدجی، وظهر له من نور الحقيقة ضياء تقشّعت عنه سحائب العمی، واشتغل بالفکر والذکر والتلاوة، وصرف ليله ونهاره في الزهادة والعبادة، ولا يفتر عن ذکر «لا إله إلّا الله» ليلاً ونهاراً، ويبکي بکاء الثکلی علی نفسه سرّاً وجهاراً بحيث تأذّی من شدّة بکائه الإخوان، وفزع من عويله النساء والصبيان، بحيث سَألَ عن جنابه ترك البکاء إمّا باللّيل وإمّا بالنهار بعضُ الجيران، وذکروا أنّ شدّة بکائه يمنعهم عن النوم في تلك الأحيان» (2).

وقال نجله: «حدّثني (رحمة الله) عن سبب إعراضه عن الدنيا بالمرّة مع إقبالها عليه بالآخرة ممّا لم يتّفق لأقرانه فقال: لمّا رجعتُ من بلاد العراق لم يكن لي همٌّ إلّا الرياسة وكنت أعتقد حصولها أوّل وصولي إلی بلادي لعلوّ مقامي

ص: 14


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن: ص14، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.
2- . المصدر، ص13.

في العلوم ومعرفتي بكيفيّة السياسة وطرق تحصيل الرياسة واجتماع الأسباب الموجبة لذلك من الحسب والنسب والشّرف والأقارب وغير ذلك، فلم أزل أطوي الفيافي والقفار لا أفتر عن ذلك بالليل والنهار حتّی بلغت إصفهان ومضت عليَّ مدّة ولم تُقْبِل الأمور عليَّ كما كنتُ أبتغي، بل كنت أری آثار الانحطاط عن مرتبتي قبل السَّفر إلی العراق والأخذ من علمائها وتصديقهم بعلّو مرتبتي في الفضل والاجتهاد، بل لم يكن حبّ والدي لي وإقباله عليَّ مثل ما كان قبل ذلك.

قال: فبقيت علی ذلك مدّة من الزمان وكلّما ازددتُ الجهد في تحصيل أسباب ذلك، أزداد الأمر عنّي إدباراً إلی أن تفكّرتُ يوماً وقلتُ في نفسي: أنّه قد ظهر لي من التجارب في هذه المدّة أنّ الدنيا لا تريدني، فإنّه قد اجتمع لي من أسبابها ما لم يجتمع لأحد من أقراني وأخداني ومع ذلك كلّه أراها معرضة عنّي ومقبلة علی سواي ومن الحزم والعقل أن لا يريد الإنسان مَن لا يريده ويترك مَن هو تاركه، فعزمتُ تلك الساعة علی الإعراض عن الدنيا بالمرّة والإقبال علی الآخرة وقمتُ من مجلس عازماً علی ذلك، فلم تمض ثلاثة أيّام - بل الظنّ أنّه (رحمة الله) قال: تلك الليلة - أتاني والدي العلّامة وقال: إنّي قد عزمتُ علی أن أفوّض عليك جميع ما لي من الأمور الدنيا، فتصلي عوضاً عنّي في المسجد الجامع في الأوقات الثلاثة وأترك لك الدرس وآمر الطلبة جميعاً بالحضور عليك، وأهب لك جميع أموالي وتقوم بنفقة أولادي، كما كنتُ أقوم بها وتحتسبهم كأنّهم أولادك وأخلو بنفسي وإصلاح

ص: 15

أمور آخرتي.

قال والدي: فضحكتُ عجباً وقلتُ: هلّا كان بعض ذلك قبل هذا الوقت بساعات معدودة، وأمّا الآن فلستُ براجع عمّا عزمتُ عليه، فاعتذرتُ إليه من ذلك وهو مصرٌّ علی كلامه، فبالغتُ في الإنكار، ثمّ اخترتُ العزلة وسكنتُ في دار فارغة لا يدخل عليَّ أحد ولا أخرج منها، إلی أن تحدّث الناس بذلك وتحيّروا في أمري واخترعوا لذلك أسباباً كثيرة حتّی كثر منهم القول وبلغ والدي ذلك، فتفأّل بالقرآن الشريف علی أن يمنعني من ذلك ويأمرني بما كلّفني به قبل ذلك، فكانت أوّل آية وقع بصره عليها قوله تعالی: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ (1) فأتاني نصف الليل وأنا عازم علی النوم، فقال لي: لا أنهاك عمّا أنت فيه ولكن أخيّرك بين ترك هذه الأمور وبين الخروج إلی العراق، فاخترتُ الثاني ورجعتُ إلی العراق، إنتهی حاصل كلامه» (2).

هجرته إلی العراق ثانية ثمّ رجوعه إلی إصفهان مجدّداً

«وبعد رجوعه إلی العراق اجتهد في العزلة والعبادة والمجاهدات الشرعيّة حتّی فتح الله عليه من أبواب العلوم الظاهريّة والمعنويّة فاتح

ص: 16


1- . سورة العنکبوت، الآية 6.
2- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، مخطوط مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.

ومنحه من الفضائل والكمالات مانح، نعم، صدر أمر والده العلّامة بالرجوع إلی إصفهان لما كان يريده منه من الدخول في الأمور المتقدّمة، فامتثل ما أمره ورجع إلی إصفهان ولكن لم يدخل في شيء ممّا كان يريده منه إلّا التدريس لجماعة من الخواصّ وكان له درسان، أحدهما في الكلام وأصول الفقه، وثانيهما في الفقه وقد استفاد من مجلسه الشريف جماعة من العلماء المبرّزين وكتبوا ما التقطوا من فوايد كلماته في مجلّدات عديدة.

ثمّ اجتمع أهل البلدة علی إلزامه بإقامة الجماعة وتلافت أنفسهم علی الصلاة خلفه وتوصَّلوا إلی ذلك بكلِّ حيلةٍ، فلم يجبهم إلی ذلك حتّی اجتمعوا علی باب داره يوماً وأخرجوه منها وأركبوه دابّة ومضوا به وهو بلا عمامة ولا رداء ومع ذلك لم يزل يعتذر إليهم ويمتنع حتّی رجع من منتصف الطريق وأرضاهم بما وعدهم من إقامة مجلس الموعظة، فوفیٰ لهم بذلك في شهر رمضان، وكان الناس يجتمعون في المسجد من جميع الأصناف وانتفع منه طبقات الخلق كلٌّ بمقدار استعداده، وكان أعجوبة العصر في حلاوة البيان ورشاقة التعبير وبيان المطالب الغامضة بعبارات سهلة، ثمّ ترك الوعظ أيضاً معتذراً بأنّه لا يثق من نفسه في خلوص النيّة، وانحصر الانتفاع منه ببعض الخواصّ.

ثم إنّ الشاهزاده ظلّ السلطان [مسعود ميرزا ابن ناصرالدين شاه القاجاري] والي إصفهان، أظهر له المحبّة والإخلاص والإرادة وبذل له من نفائس الأموال الّتي منها قرية عظيمة المنافع من أشهر قری إصفهان

ص: 17

ووسّط في ذلك وسائط كثيرة، فلم يقبل شيئاً من ذلك، بل لم يتمكّن من ملاقاته إلّا عدّة مرّات بأمر من والده في بعض زياراته للشيخ قدس روحه ولم يزل مدّة إقامته في إصفهان مختفياً في بيت صغير من بيوت الدّار مشغولاً بالعبادات والطاعات، لا يصل إليه أحد إلّا إخوانه.

ووالده العلّامة يزوره أکثر الليالي ويبقی شطراً من الليل وصاحب الترجمة يقرأ له فقرات من نهج البلاغة ويقرنه ببعض كلماته في النصايح والمعارف والشيخ قدس الله روحه دموعه تتقاطر علی خدّيه وربّما يكلّموا في المباحث العلميّة ثمّ يمضي الشيخ إلی داره ويشتغل صاحب الترجمة بموظّف طاعاته.

وكان في تلك المدّة لا يتصرّف في شيء من أمور الدنيا أصلاً وكان أمر معاشه موكولاً إلی أهل الدار، لا يمسّ درهماً ولا ديناراً إلّا ما كان يأخذه من أهل الدار ويعطيه للفقراء بيده» (1).

تلاميذه

اشارة

حضر عليه في رجوعه الأوّل إلی إصفهان جمٌ غفيرٌ من روّاد الحقيقة في علوم الکلام و الفقه وأُصوله.

وبعد رجوعه الثاني إلی إصفهان لا يرضی للحضور عليه إلّا لجماعة من الخواصّ وکذلك عند هجرته الثالثة إلی العراق.

ص: 18


1- . المصدر.

ولم يضبط أرباب التراجم إلّا عدداً قليلاً ممّن حضر عليه ومنهم:

1- شقيقه الحاج آقا نورالله النجفي

قال: «قد تتلمذتُ عنده رحمه الله تعالی في النجف الأشرف أوان ابتداء تشرّفي هناك للتحصيل بمقدار من کتاب الفصول لعمّي العلّامة في الأصول، وقليل من علم الهيئة، ونبذة من علم المعقول» (1).

2- المحقّق الميرزا محمّدحسين النائيني صاحب المدرسة الأصوليّة.

کتب النائيني في ترجمته بخطّه في شأن هذا الأستاذ ووالده العلّامة: «ولكن معظم تتلمذي واستفادتي كان من الحبر المحقّق الفريد والبحر الزاخر الوحيد، مَنْ قلّ أن يسمح الزمان بمثيله، أو تری عينه بعديله، شيخي العلّامة الشيخ محمّدحسين، سبط المحقّق التقي صاحب التعليقة الكبری علی المعالم 0، وكان في من أدركته ورأيته حائزاً في علمه وعمله وزهده وورعه وطول باعه في العلوم العقليّة والنقليّة ما يبهر العقول، وقد أكمل جميع ذلك ولم يبلغ الأربعين من عمره ومع أنّه كان من ذوي الفنون الّذين قلّ أن يعهد الدهر بأمثالهم، ففي كلِّ واحدٍ منها كان أبا عذرته والوحيد فيه، وكان له في علم الهيئة مسلك بين المسلكين به يتّضح رموز الأخبار وينحلّ مشكلاتها، ولم يبرز من تصانيفه الّتي أخبرني بها إلّا اليسير

ص: 19


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن، ص16، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.

من تفسيره الّذي لم يعمل مثله، وقد أودع فيه ما ينبئ عن كمال تبحّره وطول باعه، وكان (قدس سره) من أظهر مصاديق مَنْ وصفه أميرالمؤمنين عليه وآله أفضل الصلاة والسلام في خطبتي همّام المرويّ أحدهما في الكافي (1)، والأُخری في النهج (2): «يذكّر الله تعالی برؤيته ويدعو إليه برويّته» (3)؛ وقد أثرتْ مواعظه الشافية في سني إقامته بإصبهان من التقوی في نفوس الخواص والعوام ما لا يوصف... وكان نور ضريحه أشفق بي من الوالد لولده وكثيراً ما يرغبني ويحثّني إلی الحضور معه بحث والده الفقيه العلّامة حجّة العصابة ووجهها الزاهر حضرة الآقا الشيخ محمّدباقر قدّس سرّه الزكي، ولكنّي كنت أرغب عن ذلك لعدم بلوغي من العمر مبلغاً يليق لي الحضور في ذلك المجلس العظيم الّذي كان يحضره أعاظم العلماء البارزين، وكنت أنا ابن تسعة عشر أو العشرين إلی أن أخذني ذات يوم بعد فراق عن بحثه معه وأحضرني ذلك المحضر وأجلسني بجنبه وأظهر من جميل الصنع ما أسكن روعتي وأذهب خجلتي، فكنتُ أحضر بعد ذلك بحثه وبعد الفراغ نحضر جميعاً بحث

ص: 20


1- . الكافي: ج3/ ص573، ح1، باب المؤمن وعلاماته وصفاته. (ج2/ ص226، طبعة علي أكبر الغفاري).
2- . نهج البلاغة، خطبة 193.
3- . ليست هذه الجملة في خطبة همام ولکن ورد في الكافي: ج1/ ص95، ح3، باب مجالسة العلماء (ج1/ ص39) هکذا: «مَن تُذَكِّركم اللهُ رُؤْيَتُهُ ويَزيدُ في عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ ويُرَغِّبُكُمْ في الآخرةِ عَمَلُهُ».

والده واستمرّ ذلك قريباً من خمسة أعوام وكان عنوان بحثه حينئذٍ كتاب البيع وقد أدركتُ بحثه من مبحث المعاطاة إلی الخيارات، وشاهدت من تبحّره وفقاهته وطول باعه في تنقيح قواعد المعاملات وتفريع الفروع عليها مع ابتلائه بتلك الرياسة العظمی واستغراق أوقاته بشؤونها ما لا يكاد ينقضي عجبي عنه مهما أتذكّره، وكان تهجّده ومناجاته بالأسحار وكثرة بكائه فيها يقلب القلوب القواسي ويزيل الجبال الرواسي» (1).

3- نجله أبوالمجد الشيخ محمّدرضا النجفي قال في ترجمة حياته: «ثمّ حضرتُ علی سيّدي الوالد والشيخ فتح الله المعروف بآقای شريعت کتاب الفصول ورسائل الشيخ المرتضی... وتفسير القرآن علی سيّدي الوالد» (2).

4- ابن أخيه الشيخ جلال الدّين (1281-1337) نجل آيةالله الشيخ محمّدتقي آقا النجفي الإصفهاني

5- أخو زوجته السيّد محمّدجواد (3) ابن السيّد محمّدعلي المعروف

ص: 21


1- . ترجمة المحقّق النائيني بخطّه الشريف الموجودة عند حفيده آيةالله الشيخ جعفر النائيني (دام ظله). وقد طبعتها في کتابي الآراء الفقهية: ج5/ ص407-405. ثمّ طبعت من دون الاستيذان مني ولا من حفيده في کتاب شيعه، العدد الثاني: ص113 و 114.
2- . طريق الوصول إلی أخبار آل الرسول: ص163 و 164.
3- . راجع ترجمته في کتاب تکملة أمل الآمل: ص129، طبعة المرعشي؛ وتاريخ إصفهان، مجلّد ابنيه وعمارات، فصل تکايا و مقابر: ص124 للأستاذ جلال الدّين الهمايي.

ب- «آقامجتهد» الصدر العاملي

6- الشيخ حسن التويسرکاني

وقد مرّ کلامه في أوّل هذه المقدّمة: «فلزمت ذلك المجلس السامي وواظبت عليه» (1).

7- الملّا زين العابدين النخعي الگوگدي الگلپايگاني

قال في رسالته مصباح الطالبين: «ومنهم: شيخي الأمجد وشقيقي الممجّد، ذو الفهم القويم، والذهن المستقيم، والتحقيق الرشيق، والتدقيق العميق، العارف بالمعارف الحقّانيّة، والفائز بالسعادات الخاصّة الربّانية، العالم الرّباني والفاضل الصمداني، الخالي عن الغشّ والمين، الشيخ محمّدحسين...، فإنّي قد حضرتُ مجلس المذاکرة معه في الکلام والتفسير والمعقول. وکنتُ أُصاحبه غالباً في خلواته ومنفرداته. أنتفع منه (قدس سره) علماً وعملاً کثيراً» (2).

8- الشيخ علي محمّد النجف آبادي

من تلاميذ الآخوند الملّا حسينقلي الهمداني والواقف لبعض کتب الخطيّة للحسينيّة التستريّة في النجف الأشرف وينقل الرواية عن المؤلّف کما

ص: 22


1- . راجع صفحة 9.
2- . دانشمندان گلپايگان: ج3/ ص284.

ورد في السبيل الجدد (1).

9- السيّد محمّد الموسوي الهرستاني الإصفهاني (2)

تصحيح

ذکر الشيخ الميرزا محمّدعلي المعلّم الحبيب آبادي (3) في ترجمة الميرزا علي محمّد خان نظام الدولة الإصفهاني، ابن عبدالله خان أمين الدولة، ابن الحاجي محمّدحسين خان صدرالأعظم الإصفهاني، أنّه تتلمذ علی المترجم له في النجف الأشرف وکتب تقرير دروسه وقد طبع ولده الشيخ بهاءالدين صدر الشريعة مباحث طهارة هذا التقرير مع تقريرات نفسه.

مع أنّ علي محمّد خان نظام الدولة توفّي إلی رحمة الله في يوم الخميس الثامن من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1276ﻫ، مع أنّ جدّي المترجم له ورد في النجف الأشرف حدود سنة 1280ﻫ، فکيف يمکن أن يستفيد نظام الدولة المتوفّی بأربع سنين قبل ورود جدّي بالنجف الأشرف من دروسه وکتب تقريرات بحوثه؟!

نعم، يمکن أن يستفيد ولده الشيخ بهاءالدين صدرالشريعة من

ص: 23


1- . السبيل الجدد للشيخ محمّدعلي الأردوبادي، مجلة علوم الحديث، العدد الثاني: ص205.
2- . شرح مجموعه گل: ص356 للشيخ رحيم القاسمي.
3- . مکارم الآثار: ج6/ ص2112/ ش1324.

المترجم له، لا والده علي محمّد خان نظام الدولة، والله العالم.

تأليفاته

1- مجدالبيان في تفسير القرآن

الظاهر أنّه کتبه في أيّام عبادته في النجف الأشرف ويشتمل علی المقدّمات الإثني عشر، وتفسير سورة الحمد مفصّلاً في مائة وخمسين صفحة وتفسير سورة البقرة في اثني وعشرين آية منها فقط في مجلدٍ کبيرٍ وفي أکثر من ستّمائة وخمسين صفحة.

وقد طبع لأوّل مرّة علی الحجر سنة 1313 بطهران في 313 صفحة مع أخطاء کثيرة. قام بطبعه وتحريره عن خط المؤلِّف (رحمة الله) السيّد محمّدتقي الموسوي الخوانساري.

وطبع ثانياً في سنة 1317 مع ترجمة المؤلّف بقلم شقيقه آيةالله الحاج آقا نورالله النجفي الإصفهاني (قدس سره).

وطبع ثالثاً بتحقيق حجّةالإسلام والمسلمين الشيخ محمّد پاکتچي من قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة سنة 1408 في طهران.

وطبع رابعاً بنفس التحقيق من مؤسسة شمس الضحی الثقافية سنة 1434 بطهران.

وطبعت ترجمته إلی الفارسية بقلم العلّامة المحقّق الأستاذ السيّد مهدي الحائري القزويني (دامت برکاته) سنة 1433 توسط منشورات دارالتفسير، قم المقدسة.

ص: 24

قال السيّد حسن الصدر: «وکان قدّس الله سرّه قد کتب في التفسير ما لو تمّ لکان الجامع لعلوم القرآن، لکنّه لم يخرج منه إلّا مجلّد في مقدّمات التفسير، وتفسير الفاتحة وأکثر (1) البقرة» (2).

وقال الشيخ علي کاشف الغطاء: «وفي أيّام عزلته فسّر سورة الحمد و 22 آية من سورة البقرة من القرآن المجيد، تفسيراً جامعاً بين العلوم الظاهريّة والعرفانيّة، قد طبع في إيران متداول بين النّاس، تفسير نافع محتوي علی فوائد حسنة» (3).

وقال الشيخ عبّاس القميّ ما نصّة بالفارسية: «از مصنّفات اوست يک مجلّد در تفسير که اگر تمام می گشت جامع بسياری از علوم قرآن می گشت» (4).

وقد وصف حفيده آيةالله الشيخ مجدالدين النجفي هذا التفسير بأنّه فريد في بابه وفائق علی أترابه وقال: «حتّی إنّي سمعتُ بعض الأعلام يقول: «لو تمّ تفسير الشّيخ محمّدحسين النّجفيّ الإصفهانيّ، لا نحتاج إلی تفسيرٍ آخر» وقد صدق في مقاله هذا...» (5).

ص: 25


1- . قد مرّ أنّه فسّر 22 آية من سورة البقرة فقط.
2- . تکملة أمل الآمل: ج5/ ص371.
3- . الحصون المنيعة، مخطوط.
4- . فوائد الرضوية: ج2/ ص529.
5- . ميراث حوزه إصفهان: ج5/ ص603.

أقول: نسخة خطّ المؤلّف موجودة عندي أتبرّك بها واستشفي بها لمرضانا إعتقاداً بعلوّ رتبة مؤلِّفه عند أئمّة أهل البيت: وتقرّبه إلی الله تعالی.

وهکذا توجد نسخة أخری استنسخت من خطّ المؤلِّف وعليها تملك نجله أبي المجد. (1)

وتوجد نسخة ثالثة استنسخها المحقّق النائيني بخطّه الشريف وهي موجودة عند حفيده العلّامة الحجّة الشيخ جعفر النائيني (دام ظله) وأرسل صورة منها إليَّ مشکوراً.

2- أصل البراءة، وهو کتابنا هذا

قال السيّد حسن الصدر: «ورأيت له بخطّه کراريس في أصل البراءة» (2).

وقال الشيخ آقابزرك الطهراني: «أصالة البراءة للشيخ محمّدحسين ابن الشيخ محمّدباقر ابن الشيخ محمّدتقي صاحب حاشية المعالم الإصفهاني النجفي المتوفی بها سنة 1308، والنسخة ناقصة توجد عند ولده أبي المجد

ص: 26


1- . راجع فهرست نسخه های خطی کتابخانه هادی نجفی (اصفهان)، المطبوعة في اوراق عتيق: ج2/ ص333 بقلم العلّامة السيّد أحمد الحسيني الإشکوري (دامت برکاته).
2- . تکملة أمل الآمل: ج5/ ص371.

الشيخ آقا رضا الإصفهاني» (1).

أقول: نسخة خطّ المؤلِّف لم تصل إلينا ولکن النسخة الناقصة الموجودة عند نجله الشيخ أبي المجد وصلت إلينا، لکن لا بواسطته، بل بالوسائط الأُخری.

3- رسالة في وجوه إعجاز القرآن

ذکرها نجله أبوالمجد للسيّد عبدالله ثقةالإسلام في کتابه لؤلؤة الصدف في تاريخ النجف (2).

وکما ذکرها الأنصاري في کتابه تاريخ اصفهان (3).

4- شرح شرايع الأحکام

ذکره نجله أبوالمجد للسيّد عبدالله ثقةالإسلام في کتابه لؤلؤة الصدف في تاريخ النجف (4).

وکما ذکره الأنصاري في تاريخ اصفهان (5).

ص: 27


1- . الذريعة إلی تصانيف الشيعة: ج2/ ص114/ بالرقم 454.
2- . لؤلؤة الصدف في تاريخ النجف: ص101 من النسخة المخطوطة بخطّ أبي المجد وص116 من المطبوعة.
3- . تاريخ اصفهان: ج3/ ص96.
4- . لؤلؤة الصدف في تاريخ النجف: ص101 من النسخة المخطوطة بخطّ أبي المجد وص116 من المطبوعة.
5- . تاريخ اصفهان: ج1/ ص109.

5- رسالة في أصول العقائد

قال السيّد الصدر: «وله ما أملاه علی بعض أفاضل تلامذته في المعارف وأصول العقائد» (1).

وذکرها السيّد المهدوي في کتاب بيان سبل الهداية في ذکر أعقاب صاحب الهداية يا تاريخ علمی و اجتماعی اصفهان در دو قرن اخير (2).

6- رسائل في الفقه والأصول

قال الشيخ علي کاشف الغطاء: «وله کتابات في الفقه والأصول لم تظهر من المسوّدة» (3).

وذکرها الطهراني في نقباء البشر (4).

تصحيح

- شرح الدرّة النجفية

قد انتسب في بعض الفهارس (5) هذا الکتاب إليه في مجلّديه الطهارة

ص: 28


1- . تکملة أمل الآمل: ج5/ ص371.
2- . بيان سبل الهداية في ذکر أعقاب صاحب الهداية يا تاريخ علمی و اجتماعی اصفهان در دو قرن اخير: ج3/ ص95.
3- . الحصون المنيعة، مخطوط.
4- . نقباء البشر: ج2/ ص539.
5- . فهرست 1500 نسخه خطّی کتابخانه آيةالله سيّد مصطفی صفائی خوانساری اهدائی به آستان قدس رضوی: ص342، مجموعه شماره 1117 تأليف الشيخ رضا الأستادي.

والصلاة، ولکنّ الصحيح أنّهما تأليف محمّدحسين بن محمّدباقر الآراني الکاشاني المولود حدود 1240ﻫ، واسم الکتاب الأصداف الحقفية في شرح الدرّة النجفيّة، وبالجملة هذا الانتساب غير تامٍّ. (1)

قالوا فيه

1- قال شقيقه الأکبر آيةالله الشيخ محمّدتقي آقا النجفي الإصفهاني (1262-1332) بالنسبة إلی بعض حالات أخيه المترجم له: «ومنها: أنّ أخي المرحوم، الشّيخ محمّدحسين طاب ثراه أخبرني - و عندنا جماعة - أنّه كان في وقت السّحر سائراً لزيارة أميرالمؤمنين (علیه السلام) ويجلو عند بصره نوراً يستغني به عن الضوء، و كان ذلك له في مدّة الرّياضة حال اشتغاله بقراءة آية النّور. (2)

ومنها: كنتُ مع أخي المرحوم المنزّه من كلّ شين، الشّيخ محمّدحسين طاب الله ثراه ذات يوم في مسجد السهلة مستغيثاً بمولاي صاحب الزّمان روحي له الفداه وكنتُ في الزّاويا وكان هو في وسط المسجد، إذا ناداني واستعجل، فلمّا قربتُ إليه قال لي: ما رأيتَ هذا الرّجل؟ قلتُ: لا والله،

ص: 29


1- . في هذا المجال راجع مقالة: «تصحيح انتساب يک کتاب»، للمحقّق الشيخ مهدي الباقري السياني (دامت برکاته).
2- . اشارات ايمانيه: ص336.

قال: أخبرني أنّ سيّدي العالم الأجلّ، الحاج سيّد علی التستريّ الفقيه الآن توفّي بالنّجف، فلمّا أصبحنا ورجعنا إلی النّجف كان الأمر كما أخبر. (1)

ومنها: أنّي كنت مع المرحوم المبرور ألبسه الله من حلل النّور في مسجد السهلة مشغولا بالرّياضات الشرعيّة، وكان معنا رجلاً عابداً صالحاً ساكناً في بعض الحجرات، فإذا كانت ليلة الأربعاء وقت السحر إذا طلع ذلك الرّجل من الحجرة ويقول: يا صاحب الزّمان أدركني وكان يركض برجله ويمشي سريعاً حافياً مستغيثاً حتّی خرج من المسجد وما رأيته بعد ذلك، إلّا أنّ أخي المرحوم أخبرني أنّه رآه ذات يوم في النّجف الأشرف مستغيثاً بحرم أميرالمؤمنين صلوات الله و سلامه عليه، ثمّ غاب عنه، وظنّ أنّه قد ألحق برجال الغيب. (2)

ومنها: مؤلّف فقير ]آقا النجفي الإصفهاني[ گويد: در سنه 1283 با برادرم مرحوم آقای حاج شيخ محمّدحسين؛ به زيارت سامره مشرّف شدم، بعد از اكتساب فيوضات علّيّه لدنيّه كه از ناحيه مقدّسه استفاضه شد، به قصد مراجعت به نجف اشرف از سامره حركت نموديم، چون قريب يك فرسخ از سامره دور شديم، راه را گم كرديم و از نجات مأيوس شديم، در اين اثنا شخصی به سنّ چهل ساله سوار ماديان عربی

ص: 30


1- . اشارات ايمانيه: ص337.
2- . المصدر: ص337.

بودند، داعيان را به اسم ندا و احضار نمودند، و در اثنای راه شمّه ای از مكنونات و از علم منايا و فصل الخطاب بيان می فرمود، ناگهان آن سوار بر تپّه خاكی بالا رفتند و اشاره نمودند و فرمودند: هذا الدّجيل، و چون از تل سرازير شدند از نظر غايب شدند؛ چون چند قدم راه رفتيم به منزل دجيل رسيديم، سجده شكر به جا آورديم. (1)

ومنها: وقد كنتُ وأخي المرحوم المنزّه عن كلِّ شينٍ، الشّيخ محمّدحسين طاب الله ثراه في سوابق الأيّام في النّجف الأشرف مشغولاً بالرّياضة الشّرعيّة، فسانح نظرنا إلی التشرّف إلی سرّ من رأی، فتشرّفنا في ذلك المكان الشريف مع جماعة من العلماء القلوب، فتشرّفت مع أخي في ليلة الجمعة في السّرداب المطهّرة مستغيثاً بمولانا صاحب العصر والزّمان صلوات الله عليه، فسمعنا تسبيح الجمادات و ذكر السّراج بكلمة «لا إله إلّا الله» فأخذني السّنة، فسمعتُ شخصاً يقول - ولم أره بالعين الظّاهرة -: «رزقتم ذوق العرفان»، ثمّ نشاهد بالعيان، ثمّ أخبرنا ببعض المغيّبات ونبذة من علوم المنايا والبلايا وفصل الخطاب، ثمّ عرفتُ أنّي مأمور بالرّجوع إلی هذه البلاد لبعض الخدمات الشرعيّة وبيان الأحكام النبويّة (صلی الله علیه و آله و سلم) وصار أخي مأموراً بالبقاء في تلك المشاهد المشرّفة لتكميل المقامات العالية» (2).

ص: 31


1- . المصدر: ص339.
2- . اشارات ايمانيه: ص345.

2- وقال شقيقه الأصغر وتلميذه الأکبر الحاج آقا نورالله النجفي في شأنه: «هو الشيخ البارع، والأيّد الجامع، والبحر المحيط، والحبر الوقيط، والعقل البسيط، والعدل الوسيط، سليل الأمجاد، العلم العالم العماد، الفقيه النبيه، السامي الوجيه، الزاهد العفيف، والعلم الغطريف، والعيلم العريف، والعنصر اللّطيف، خاتم المجتهدين، وأعلم المتقدّمين والمتأخّرين، ورئيس الحکماء المتألهين، وکهف العرفاء السّالکين، المهذّب من کلِّ دنسٍ وشينٍ، أخي وشقيقي وابن أمّي الشيخ محمّدحسين الإصفهاني مولداً، والغرويّ مدفناً أعلی الله في حظائر القدس مقامه، وحشره مع مواليه في يوم القيامة.... وبالجملة: کان رحمه الله تعالی عالماً کاملاً، فقيهاً محدّثاً، أصوليّاً حکيماً متبحّراً زاهداً، جامعاً ماهراً، عديم النظير في زمانه في الفقه والأصول والحديث والمعاني، وفقيد العديل في أوانه في الحکمة والکلام والتفسير والعرفان والرياضيّ، لم يبصر بمثله عين الزمان في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الإنسان، من أجلّاء علماء المعقول والمشروع، وأزکياء نبلاء الأصول والفروع، متقدّماً بشعلة ذهنه الوقّاد، وفهمه المتوقّد النقّاد علی کلِّ حبرٍ متبحّرٍ أستاد، ومتفنّن مرتاد؛ عظيم الهيبة، فخيم الهيئة، رفيع الهمّة، سريع الحمّة، جليل المنزلة والمقدار، جزيل الموهبة والإيثار، جامعاً للعلوم الدينيّة، عارفاً بالمعارف اليقينيّة، کاشفاً عن الأسرار العرفانيّة، واقفاً علی سرائر الأفنانية، معلّماً في مضامير الغرائب من العلوم، مسلّماً في فنون الفقه والأصول والتفسير والرّسوم، عادم العديل في إرشاد الخلائق بحسن

ص: 32

التفسير، وفاقد البديل في هداية الخلق إلی الحقّ والحقائق بلطف التقرير. فسبحان الّذي ورّثه غير الإمامة والعصمة ما أراد، وجعله حجّة علی قاطبة البشر في يوم الميعاد، ونصبه علماً يأتمّ به في کلِّ عصرٍ العلماء الأمجاد» (1).

3- وقال نجله أبوالمجد الشيخ محمّد الرضا: «واسطة هذا العقد المنضّد وجوهرة هذه البحر المرنَّد، نور هذه الخميلة العاطرة والبدر الساطع نوره بين هذه الأنجم الزاهرة، أعلاهم حسباً ومرتبة وأولاهم بكلِّ فضيلةٍ ومنقبةٍ، أوّلهم في العلم والمعرفة والعبادة وإن كان ثانيهم في الولادة بيت ذلك القصيد ودعام ذلك الصرح المشيد، درّة تاج مفاخرهم وفصّ خاتم مآثرهم يتيمة هذه القلادة وشمس هذه الكواكب الوقّادة الشيخ الإمام العلّامة الحبر التقي الزاهد العابد الورع الذكي المدقّق المحقّق الجامع المتكلّم الفقيه الأصوليّ المحدّث العارف صاحب المناقب الزاهرة والكرامات الباهرة أبوالرضا محمّد الحسين، شعر له:

أبي دونهم ذاك الذي ما تعلّقت *** بأثوابه الدنيا ولا تبعاتُها

تجنّبها هوجاء لا مستقيمة *** خُطاها ولا مأمونة عثراتُها

غدا راضياً بالنزر منها قناعةً *** ولو شاء قد كانت له حفناتُها

تلافظها من بعد ما ذاق طعمَها *** فكانت زُعافاً عنده طيباتُها

ص: 33


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن: ص10، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.

أری أن أقتصر في هذه الترجمة علی نقل بعض أحواله ومآثره دون ذكر فضائله وما رزقه الله من العلوم العقلّية والشرعيّة والظاهريّة والمعنويّة ومن محاسن الأخلاق وصفات وما بلغه من المقامات، فإنّه لا يناسب أزيد من ذلك، وقد ذكر تفصيل حالاته وشطراً من فضائله وكمالاته أخوه الأفضل الشيخ نورالله - الآتي ذكره إن شاء الله تعالی - في رسالة له صنّفها لخصوص ذلك، وهي مشهورة، فمن شاء ذلك فليطلب تلك الرسالة» (1).

4- قد مرّت (2) مقالة تلميذه المحقّق النائيني في شأنه.

5- وقال الشيخ علي کاشف الغطاء في کتابه الحصون المنيعة: «الشيخ محمّدحسين ابن الشيخ محمّدباقر ابن الشيخ محمّدتقي ابن عبدالرحيم ابن المرزا مهدي الرازي الأصل الأصفهاني المولد والمنشأ النجفي المسكن والمدفن، كان عالماً عاملاً فاضلاً كاملاً زاهداً عابداً ورعاً تقيّاً نقيّاً فقيهاً متكلّماً محدّثاً مفسّراً رياضيّاً مرتاضاً جامعاً للعلوم الظاهريّة والباطنيّة... كان زيادة علی القرابة معي في كمال المحبّة والموّدة وكان شريكاً في الدرس معي عند حضوري علی والده العلّامة، وكان في غاية من القدس والورع والعزلة عن الناس، دائم الصمت، ملازم الذكر، كثير الفكر وفي الغاية من

ص: 34


1- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، مخطوط مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.
2- . في عنوان تلاميذه/ ص17.

الذكاء والفهم، وفي نهاية مراتب الزهد والتقوی، كان لا يفتر لسانه من ذكر الله، خشناً في ذات الله، وكان أفضل إخوته وأتقاهم وأزهدهم وأورعهم، وكان أبوه يحبّه أزيد منهم وكان يعوّل عليه في المطالب العلميّة ويرجع إليه فيها حسن السليقة في كافّة فنون العلم وفي أيّام عزلته فسّر سورة الحمد و22 آية من سورة البقرة من القرآن المجيد تفسيراً جامعاً بين العلوم الظاهريّة والعرفانيّة، قد طبع في إيران متداول بين النّاس، تفسير نافع محتوي علی فوائد حسنة، وله كتابات في الفقه والأصول لم تظهر من المسوَّدة، وخلّف من الأولاد الذكور ولده الفاضل المترجِم وثلاث (1) بنات، ولعمري قد عاش حميداً ومات سعيداً» (2).

6- وقال نجله الشيخ محمّد الحسين کاشف الغطاء: «ولعمري لم يکن في عصر هذا الشيخ الهمام وما قاربه مصداق لهذه الأبيات (3) علی الحقيقة أحد سواه، ولا يکون أن يبلغه أتقی المتّقين في نسکه وتقواه، فقد أعرض(قدس سره) في أواخر عمره عن الدنيا الدنيئة بالکلّية، ولکنّه(قدس سره) بعد أن قرأ العلوم الشرعية علی والده، ثمَّ علی مشاهير علماء العراق في عصره الّذين تقدّمت أسماؤهم

ص: 35


1- . بل الصحيح: اثنتان ولكن إحداهما تزوجت مرّة أخری بعد وفاة زوجها الأوّل.
2- . الحصون المنيعة، المجلد الرابع، ص237-233، نسخة مخطوطة بخط المؤلّف. وأشکر الأستاذ الشيخ امير كاشف الغطاء مدير المکتبة العامّة للإمام محمّد الحسين آل كاشف الغطاء في النجف الأشرف.
3- . الأبيات الماضية من نجله أبي المجد آنفاً.

قريباً اجتهد في أوائل شبابه، ثمّ اشتغل في العلوم العقليّة، والرياضيّة، کالأسفار والمجسطي وما شاکلهما، حتّی أتقنهما وبرع فيهما وفي نظائرهما من العلوم، ثمّ مضی إلی أصفهان وهو يظنّ(قدس سره) أنّ أزمّة أمورها انقادت إليه، وعنان رياستها يکون طوع يديه، لشهادة علماء العراق وغيرهم بفراغه من المعقول والمنقول، واستغنائه عن الأساطين الفحول قال(قدس سره) - علی ما حدث به خلفه الرضا سلمه الله -: فلمّا دخلتُها لم أجد إقبالاً عليَّ حتّی من والدي مع ما أعهده من شدّة ميله إليّ فبقي مدّة علی ذلك، ثمّ خلوتُ يوماً بنفسي فقلتُ: أنّ الدنيا علی ما أری قد أعرضت عنّي ومن الحزم أن يترك الإنسان من هو تارکه، ويعرض عمّن أعرض عنه فعاهدت نفسي علی ترکها ولو طلبتني، وعلی ردّها ولو خطبتني؛ فلمّا کان الليل دخل عليَّ والدي وقال: إنّي عزمت علی السفر إلی العراق واُريد أن تقوم مقامي تصلي في المسجد الأعظم في محلّي في الأوقات الثلاثة، وأريد أن أرجع إليك الناس وأشير إلی فضيلتك وما أنت فيه من المراتب العالية واسلِّمك جميع أموالي وما عليَّ وما لي، وتکون بمنزلتي علی إخوتك وسائر أهلي وعيالي فقلت: يا سبحان الله لو کان هذا قبل اليوم لکان ما تحبّ ولکن الآن لا سبيل إلی شيء من ذلك، وأنا راجع معك إلی العراق ولا محالة بقي ثلاثة أيّام يراجعني القول في ذلك إلی أن أطّلع علی سرّي وعرف حقيقة أمري فقال: أنت وشأنك، ثمَّ سار بخدمة والده، ولمّا توفّي أبوه بعث بعياله مع أخيه الشيخ محمّدعلي الآتي ذکره، ثمّ اشتغل في السير والسلوك، وذاق من لذيذ المعارف ما قال فيه:

ص: 36

أين الملوك وأبناء الملوك، حتّیٰ عکفت عليه الألطاف الربّانية، وجذبته الجواذب الروحانيّة، فسار في تلك المنازل، والتقوی قائده، والتوکّل رائده، والخير جاذب زمامه، والوصل غاية مرامه، وعرف أنّه من أين وإلی أين، ونادته ألطاف الحبيب إليَّ إليَّ يا حسين، حتّی وصل إلی أقصی تلك الديار وألقی فيها عصا التيسار، فقرت عينه بذلك الوطن، وقال: الحمد لله الذي اذهب عنّا الحزن، ورد صافي المناهل، وانشد قول القائل:

ترکتُ هَوَی سُعدیٰ ولَيلیٰ بمعزلِ *** وعُدتُ إلی مصحوبِ أوّلِ مَنزِلِ

ولم يزل علی مثل ذلك من الرياضات والمجاهدات، والعزلة والخلوات حتّی عرجت روحانيّة البقاء بجسمانيّته وارتاحت جسمانيّته إلی الملأ الأعلی من روحانيته، فانتقل إلی رحمة الله عند رجوعه من زيارة عاشوراء أو عرفة سنة 1307ﻫ ودفن في بعض حجرات الصحن الشريف إلی جنب جدّه السيّد الصدر (رحمة الله)؛ هذا مجمل حاله(قدس سره)، وأمّا تفصيل ما وقع له بعد ذلك في إصفهان من شدّة ميل الناس إليه وإرادتهم له وإصرارهم علی خروجه لصلاة الجماعة، والموعظة، والتدريس، وامتناعه عن جميع ذلك ما اعتذاره عن ذلك بعدم الوثاقة من نفسه بخلوص القصد وما أشبه ذلك من العوارض المنافية للسير والسلوك العائقة عن الوصول إلی الفوز بقرب ملك الملوك وعدم قبوله لشتّی ممّا بذله المريدون له، والمعجبون به من الأعيان والخوانين وأولاد الملوك والسلاطين ولم يقبض مدّة عمره من أحد درهماً ولا ديناراً، ولم يقبل من ملك ضيعة ولا عقاراً، مقتصراً من جميع مال

ص: 37

الدنيا لمصارفه عل ما کان يصله من والده في حياته، وما عاد إليه من الإرث منه بعد وفاته إلی أن مضی طاهراً نقياً راضياً مرضيّاً، وکذا تفصيل سيره وسلوکه في النجف فممّا يحتاج إلی البسط الّذي لا يسعه المقام، ومن أراد أن يعرف مراتبه العالية ويطّلع علی معارفه وطول باعه في الحکمة المتعالية، وجامعيّته لنفائس العلوم الغريبة والمتعارفة وما فتح الله عليه من أبواب المکاشفه فلينظر إلی ما کتبه في تفسير سورة الحمد وآيات من البقرة الّذي طبع في هذه الأيّام، وإن کان طبع مغلوطاً جدّاً، ومع ذلك فنور الشمس لا يخفیٰ وإن سترها الغمام، وضوء البدر لا يطفی وإن اشتدَّ الظلام، وفي المقدار الّذي يحصل منه کفايه في التنبيه علی بلوغه الغاية لمن کان من أهله جعلنا الله منهم بمنّه وفضله» (1).

7- وقال السيّد حسن الصدر: «عالم ربّاني صمداني، وفاضل وحيد بلا ثانٍ، متبحّر في العلوم كلّها، جامع لكمالات النفس في العلم والعمل، عالم بالله، وعالم بأحكام الله، جامع بين العلمين، متقدّم في تحقيق الحقائق، متبحّر في علم المقالات، واحد في الحكمة الإلهيّة والرياضيّة، محدّث خبير،

ص: 38


1- . العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية، مخطوط؛ ونقلت عنها بواسطة مقالة «تراجم أعلام بيت الشيخ محمّدتقي» بتحقيق الأستاذ الشيخ محمّد الکرباسي، المطبوعة في مجموعه مقالات همايش ملی فقيه محقّق و اصولی مدقّق علّامه آيةالله العظمی محمّدتقی ايوان کی رازی نجفی اصفهانی: ص145-143.

فقيه بصير، أصولي ماهر، متكلّم باهر، مفسّر كامل، بحر في المعارف، شيخ المجاهدين، وأفضل السالكين، وأكمل الزاهدين، وواحد المكاشفين، لم يكن في زماننا أجمع وأكمل منه.

رأيته زهد في الدنيا حينما أقبلت بكلّها عليه، وترك الرئاسة حينما اتّفقت الكلمة في بلده عليه، لم تستوسق الأمور من كلّ الجهات لمثله، ولم تجتمع الأسباب لأحد مثل ما جُمعت له، فتركها ولم يحفل بشيءٍ منها، وترك الناس وأخذ في الانزواء عنهم، واشتغل بتكميل نفسه، وانقطع عن كلّ أحد حتّی أهله وولده، وصار لا يأنس إلّا بربّه، مشغولاً في الليل والنهار في المجاهدة والمراقبة وتكميل المعرفة، ووجّه همّته بكلّيتها إلی العالم القدسي، وقصر أمنيته علی نيل محلّ الروح والأنس، حتّی فتح الله , علی قلبه باب خزائن رحمته، ونوّره بنور الهداية ليشاهد الأسرار الملكوتيّة، والآثار الجبروتيّة، ويكشف في باطنه الحقائق الغيبيّة، والدقائق الفيضيّة، وهذا مقام لا يقوم به إلّا الرجل الفحل، ولا يناله إلّا ذو حظّ عظيم.

ولم أر في عصري من ناله إلّا هذا الشيخ وآخر أو اثنين، قدّس الله سرّهم.

... وبعد ما فرغ من كلِّ ذلك وكمل، رجع إلی أصفهان، فأكبّ عليه أهل العلم، وأخذ في التدريس والبحث. وكان بحّاثاً سلس الكلام، قويّ الجنان، حسن التقرير، جدليّاً في المناظرة لا يُجاری.

وأقبلت عليه الرئاسة بكلّها، فصار المرجع في الإمامة والجماعة والحكم والقضاء والوعظ علی المنبر، كما هي عادة كلّ رئيس من علماء إيران.

ص: 39

قال: فلمّا أخذتُ في الواعظ، وخضتُ في علم الأخلاق، وعلم تكميل النفس، رأيتُ أنّي ناقص، فلا ينبغي للناقص أن يتصدّی لتكميل الناقص، فتركت ما في يدي، وخرجت من أصفهان في طلب تكميل نفسي» (1).

8- وقال السيّد عبدالحسين شرف الدين العاملي: «كان هذا الشيخ أعلی الله مقامه نسيج وحده، وقريع وحده، قد أربی علی الأكفاء، وتميّز عن النظراء، منقطع النظير في كمال نفسه وتهذيبها، وفي إخلاصه لله (عزوجلّ) في أفعاله وأقواله، لا نظير له في مراقبة نفسه، ومحاسبتها بكلّ دقة، زاهداً في الدنيا، متجافياً عنها، مبرَّزاً في غوامض العلوم اللاهوتيّة، وأسرار المعارف الإلهيّة، فقيهاً أصولياً محدِّثاً متكلّماً، وله في التفسير قدحه المعلّی... وقد اصطفاه الله (عزوجلّ) أوّل السنة الثامنة بعد الثلاث مئة والألف» (2).

9- قال السيّد محسن الأمين العاملي: «الإمام الزاهد العارف... وكان مجدّاً مجتهداً في شأنه، ثمّ عاد إلی أصفهان، لكنّه مال إلی العزلة وانقطع إلی العبادة أكثر من غيرها وأعرض عن الرياسة... ولمّا خرج أبوه إلی العراق سنة 1301 خرج معه وجاور في النجف بعد وفاته تاركاً تلك الرياسة التي تهيّأت له بأصفهان إلی أخيه الآقانجفي مقبلاً في النجف علی الإملاء

ص: 40


1- . تکملة أمل الآمل: ج5/ ص369/ بالرقم 2310.
2- . بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدّين: ج1/ ص157.

والتدريس، ثمّ أعرض في آخر أمره حتّی عن الدرس واعتزل كلّ شيء غير العبادة. كان كثير الفكر، منقطعاً عن النّاس، يغلب عليه الصمت ولكنّه من الأفراد الذين في جودة الفهم وحدّة الفؤاد. وهو أفضل إخوته وأتقاهم...» (1).

10- قال ابن أخيه الأستاذ محمّدباقر ألفت (1301-1384) ما نصّه بالفارسية: «حاجی شيخ محمّدحسين پسر دوم حاج شيخ محمّدباقر يگانه مرديست كه جميع افراد چندين خانواده های ما به جلال قدرش افتخار و اعتراف و به وجود وی افتخار می نماييم. از نخست دارای ذهنی وقّاد بود. فوق العاده استعداد برای فراگرفتن علم و اتّصاف به اعلی مراتب طهارت و تقوا داشته، در سن سی سالگی از عمرش... طلّاب علوم او را از برادران بلكه از پدر عاليقدرش نيز اعلم و اتقی می شمرده اند و اگر خود به احراز مقام رياست و اشغال محراب و منبر تن در می داد از همگی برتر می شده و بيشتر بدست می آورده است، ليكن ميل به زهد و تقشف اقبال به تحصيل آخرت و اشتغال به عبادات، اصرار به عزلت و اعراض از جميع زخارف دنيا بر طبعش غلبه داشته يكباره بر جاه و مال و متاع دنيا پشت پا زده، كم تر توجهی به ارادت عوام و عقيدت خواص ننموده است.

ص: 41


1- . أعيان الشيعة: ج14/ ص5/ بالرقم 9426.

به اتفاق برادر بزرگش (پدر نگارنده) در نجف به تحصيل علم پرداخته و به سال 1299ق با همديگر به سفر حجاز رفته اند و پس از اداء مناسك حج و رجوع به اصفهان چند ماهی در كنج عزلت به سر برده و در اواخر سال 1300ق به اتفاق پدرش باز به نجف بازگشته، پس از وفات وی مدت هشت سال (بقيه عمر خود را) مجاورت آن مشهد مقدّس اختيار كرده، مدام به رياضت و عبادت های سخت و دشوار مشغول بوده تا بر اثر افراط در آن اعتدال مزاجش از دست رفته به سنّ چهل و دو سالگی در اوايل سال 1308ق وفات يافته، در حجره واقع در پهلوی درب سلطانی از صحن شريف مدفون گرديده.

تولّدش در دوّم محرّم سنه 1266ق بود، بالجمله راهی كه اين مرد به زندگانی خود پيش گرفته مبالغه در زهد و رياضتی كه بر خود هموار كرده، صرف نظری كه از مال و جاه و دنيا نموده، اقبال تام و تمامی كه به عروج بر مقامات قدس روحانی داشته و بالاخره پس از طی مراحل علمی و اشغال عالی كرسی افاده و تدريس....

اين قدر معلوم است كه درس خوانده های زمانش او را مردی عالم و به اصطلاح مجتهد زمان می شناخته اند. از آثار علمی او فقط كتابی در تفسير قرآن مجيد به طبع رسيده... به هر حال كتاب خوبی است.

اين مرد به تمام معنا يك نفر زاهد متّقی بود، نه عارف است نه حكيم و نه متصوّف، هرچند كه از اين امور هم بی اطلاع نيست.

ص: 42

همچنين معتقدانش كرامات و مكاشفاتی را به او نسبت می دهند كه بعضی از آنها به روايت صحيح از قول خودش منقول است.

اما تا آنجا كه نگارنده اطّلاع يافته ام سير و سلوكش بر طبق دستور و هدايت هيچ استادی نبوده، از حدود معرفت به ظواهر شرع تجاوز ننموده است...» (1).

وقال في الفصل الخامس من کتابه الآخر خاندان من: «بعد از پدر من، برادر ابوينی او شيخ محمّدحسين از ساير برادران بزرگ تر بود، امّا از حيث علم و عمل می توان گفت كه در اين خانواده نظيرش نيامده، مردم خيال می كردند كه او يگانه جانشين پدران خود خواهد گرديد، لكن اين خيال محض، توهمی بوده كه به تحقّق نرسيد، چون كه اين مرد پس از تكميل علوم شرعيّه و رسيدن به درجه اجتهاد و به حدّی كه مسند رياست مهمّی را اشغال كند، ناگهان بر حسب يك موجب غيرعادی حالش تغيير كرده، عزيمت بر ترك دنيا و رغبت به عبادت خدا چنان در دماغش قوّت گرفت كه از همه كار باز مانده، مدّت چند سال در كنج عزلت خزيد و جز به عبادت و رياضت نپرداخت.

در اين مدّت شرح غرايب احوال و عجايب اعمال او از گنجايش اين مقاله بيرون است، فقط برای كسی كه با معلومات اروپايی آشنا

ص: 43


1- . نسب نامه، مخطوط.

باشد، می توانم به حقيقت گفت كه حال اين مرد در ملّت شيعه نظير همان احوالی است كه از برای «پاسكال» در عالَم كاتوليك پيش آمده، اين مجتهد ايرانی را در سير و سلوكش نسبت به حال خود می توان همچنان آن فيلسوف فرانسوی بشماريم.

خلاصه در سال 1300 يكباره از اصفهان قطع علاقه كرده، به عزم مجاورت با پدر خود به جانب عتبات رهسپار گرديد. بعد از پدر، هشت سال مدّت مجاورت او در نجف طول كشيده، در تمام اين مدّت اطوار زندگانی اش كاملا زاهدانه، اوقاتش جمعاً صرف عبادت و همّت او به اعلا درجه مصروف پرهيزكاری بود. بالاخره، از فرطه زهد و رياضت، مزاجش به كلّی از دست رفته به سنّ چهل و دو سالگی در سال 1308 از اين زحمت فوق الطّاقة رخت خلاص به خلوت سرای گور كشيد. از آثار قلم او در اين مدّت، يك مجلّد تفسير اوايل قرآن به يادگار مانده. اين كتاب كمال فضيلت و اكمل مراتب پرهيزكاری او را كه می توان گفت به درجه وسواس رسيده است، مدلّل می دارد.

كسانی كه دقايق افكار عرفانی را اهميّت می دهند و به كشف و كرامات يا به خوارق عادات توجّه دارند، سزاوار است كه نام اين زاهد ما را در صف اوّل از صاحبان علم و عمل نوشته يك قدر و قيمت عالی بر وجودش بگذارند... خلاصه اين مرد را به اصطلاح اهل تاريخ بايد از

ص: 44

جمله صلحا و در زمره اتقيا، بلكه افتخار خانواده خود بشماريم» (1).

11- وقال الميرزا حسن خان الجابري الأنصاري مانصّه بالفارسية: «در زهد و عبادت سلمان و ابی ذر، و به فقاهت و علوم شرعيه از اَقران خويش برتر، جذبات الهيه آن حضرت را از دنيا و مافيها منصرف داشت...» (2).

12- وقال محمّدحسن خان إعتماد السلطنة مانصّه بالفارسية: «آقا شيخ محمّدحسين مجتهد خلف الصدق حاج شيخ محمّدباقر اصفهانی مجتهد (رحمة الله) فقاهتش مسلّم است و در نجف از علماء بزرگ به شمار می آيد» (3).

13- وقال الشيخ عباس القمي مانصّه بالفارسية: «عالم ربانی و فاضل صمدانی وحيد بلاثانی، جامع کمالات نفسانيه در علم و عمل، شيخ مجاهدين و افضل سالکين، زهد ورزيد در دنيا هنگامی که دنيا اقبال کرد بوی، و ترک کرد رياست را در وقتی که اتّفاق کلمه شد بر او، منزوی شد از مردم و مشغول گشت بتکميل نفس خويش و توجّه کرد به عالم

ص: 45


1- . خاندان من، مطبوع في ضمن کتاب گنج زری بود در اين خاكدان (مجموعة آثار الفت): ص91 و 92.
2- . تاريخ اصفهان: ج1/ ص109.
3- . المآثر والآثار: ص161، (علمای عهد ناصرالدين شاه قاجار باب دهم المآثر والآثار: ص107/ بالرقم156، تحقيق: ناصرالدين انصاری قمی، مؤسسه کتابشناسی شيعه، 1395، قم).

قدس، پس گشود حقّ تعالی بر او خزائن رحمت خود را... و آن جناب شديد البحث، قوی الجنان، سليس الکلام بوده نقل است که چون به اصفهان رفت و مرجعيّت پيدا کرد و در امامت و جماعت و متصدّی حکومت شرعيه گشت و مردم را در منبر موعظه می فرمود، فرموده وقتی شروع کردم در علم اخلاق و تکميل نفس ديدم من خودم ناقصم و شايسته نيست که ناقص تکميل ناقص ديگر کند (خفته را خفته کی کند بيدار)، پس دست از جميع رياست و مناصب خود برداشتم و از اصفهان بيرون شدم برای تکميل نفس خويش، و بالجمله اين بزرگوار جلالتش زياده از آن است که ذکر شود» (1).

14- وقال الشيخ محمّد حرزالدين النجفي: «کان عالماً محقّقاً متقناً» (2).

15- وقال الشيخ الطهراني: «من أجلّاء علماء عصره... مشتغلاً بتکميل النفس، منقطعاً عن کلِّ أحدٍ، لا يأنس بغير ربّه حتّی وصل إلی عالم القدس وشاهد أسرار الملکوت...» (3).

16- وقال الشيخ محمّدعلي المعلّم الحبيب آبادي مانصّه بالفارسية: «وی از اجلّه علماء محقّقين و افاضل فقهاء و اصوليين عصر خود بوده و در

ص: 46


1- . فوائد الرضويه: ج2/ ص529.
2- . معارف الرجال: ج2/ ص254.
3- . نقباء البشر: ج2/ ص539.

حکمت و کلام و هيئت و نجوم و ساير رياضيات به درجه قصوی نائل، و در زهد و تقوی و مراتب سير و سلوک و تهذيب اخلاق و تصفيه نفس امتيازی بيّن داشته» (1).

17- وقال حفيده الشيخ مجدالدين (مجدالعلماء) النجفي: «وبالجملة: کان المصنِّف عالماً عاملاً فقيهاً متکلِّماً أصوليّاً متبحّراً زاهداً جامعاً وماهراً من أجلَّة العلماء العامِلين، عديم النَّظير من الفقهاء الرّاشدين والحکماء والمتکلِّمين والعلماء الرِّياضيِّين... وکان يعيش فيها بلباسٍ خشنٍ وطعامٍ جشبٍ، وکان يقسِّم غذاءه وطعامه علی الفقراء والمساکين والأيتام.

وفي حوادث الدَّهر وبلاياه، کان صابراً وشاکراً وقوراً، ذا عظمةٍ وقامةٍ معتدلةٍ، وبدنه نحيفٌ، وکانت عيناه غائرتين؛ وکان في أواخر عمره يترنَّم بهذا الشِّعر الفارسيِّ:

آنکه دائم هوس سوختن ما می کرد *** کاش می آمد و از دور تماشا می کرد» (2)

18- قلتُ سابقاً في شأنه مانصّه بالفارسية: «البته در مورد سير و سلوك آن مرحوم بايد به دو نكته مهم توجه كرد:

ص: 47


1- . مکارم الآثار: ج5/ ص1807.
2- . رسالةٌ في ترجمة العلّامة الشّيخ محمّدحسين النجفي الإصفهاني (قدس سره) لحفيده العلّامة الفقيد آيةالله الشيخ مجدالدّين النجفي الإصفهاني (قدس سره)، ميراث حوزه اصفهان: ج5/ ص604 و 606.

أوّلاً: ايشان دست مريدی به مرادی نداد و در اين راه كسی را به عنوان مرشد و پير اختيار نكرد، و قطع اين مرحله بی همرهی خضر نموده است.

ثانياً: در عبادت و ذكر از حدود ظواهر شريعت كه نماز و روزه و ذكر خدا و قرائت قرآن و مانند آن باشد بيرون نرفت.

و اين دو نكته مهم است چون غالباً كسانی كه پای در اين وادی می گذارند يكی يا هر دو را فراموش می كنند.

در اين مدت كه حال او چنين بوده از سه امر نيز غافل نبوده و بدان اشتغال می ورزيده است:

1- تأليف را رها نكرده و بدان مشغول بوده است به گونه ای كه تفسير گرانقدرش در همين مرحله از عمرش نوشته است.

2- تدريس را نيز از ياد نبرده و برای فرزند و برادر و برادرزاده اش و شايد عدّه ای ديگر نيز به طور خصوصی تدريس می كرده است.

3- سفر به عتبات عاليات و زيارت ائمه هدی:، وی سفرهای متعددی به عراق به جهت زيارت رفته است، و همچنين در سال 1299ق نيز به همراه برادر مهترش مرحوم آيةالله آقای حاج شيخ محمّدتقی آقانجفی (قدس سره) جهت انجام فريضه حجّ به مكّه مكرّمه و زيارت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و فاطمه زهرا سلام الله عليها و ائمه علیهم السلام مدفون در قبرستان

ص: 48

بقيع مشرّف شده است» (1).

زوجته وأولاده

تزوّج بنت خاله العلويّة رباب بيگم بنت السيّد محمّدعلي الشهير بآقامجتهد ابن السيّد صدرالدين الصدر الکبير ورزق منها:

1- ولده أبوالمجد الشيخ محمّد الرضا النجفي الإصفهاني (1287-1362) صاحب نقد فلسفة دارون و وقاية الأذهان و ذخائر المجتهدين في شرح معالم الدين في فقه آل ياسين وغيرها.

2- بنت تزوّجت بابن خال أبيها - وابن عمّ أُمّها - السيّد نورالدين ابن السيّد أبوجعفر خادم الشريعة ابن السيّد صدرالدين الکبير.

توفّي الزوج (السيّد نورالدين) شاباً في سنة 1319 في النجف الأشرف ودفن في وادي السلام وتوفّيت الزوجة شابة في سنة 1322 کذلك في النجف الأشرف ودفنت بجوار زوجها في وادي السلام. من دون أن يرزقهما الله ولداً.

3- آغا بي بي تزوّجت بابن خال أبيها - وابن عمّ أُمّها - السيّد صدرالدين ابن السيّد أبوجعفر خادم الشريعة المذکور ورُزقت بنتاً (2) وتوفّي

ص: 49


1- . قبيله عالمان دين: ص68.
2- . تزوّجت بالسيّد نورالدين المقدّس البيدآبادي المتوفی في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1400 ودفن في مقبرة السيّد البروجردي من مقابر تخت فولاد بإصفهان.

زوجها في ربيع الآخر سنة 1322 في النجف الأشرف ودفن في الوادي.

ثمّ تزوّجت ثانية بابن خاله السيّد صدرالدين الصدر العاملي ابن السيّد محمّدجواد ابن السيّد محمّدعلي الشهير بآقامجتهد ورزقت منه أولاداً وتوفّي الزوج في حدود 1360 بإصفهان والزوجة في سنة 1388 بإصفهان أيضاً ودفنت في صحن مقبرة جدّه الشيخ محمّدتقي الرازي النجفي الإصفهاني (تکيه مادر شاهزاده).

هجرته الثالثة إلی النجف الأشرف مع والده

قد مرّ أنّه هاجر لأجل التحصيل إلی النجف الأشرف في حدود سنة 1280، ثمّ رجع إلی إصفهان في حدود سنة 1296.

ثمّ هاجر للمرّة الثانية إلی النجف الأشرف بعد حصول انقلابه الروحي بأمر والده ورجع بعد مدّة إلی إصفهان مجدّداً بأمر والده أيضاً.

ثمّ حجّ إلی البيت الحرام في سنة 1299 ورجع إلی إصفهان في سنة 1300.

ثمّ هاجر من إصفهان في اليوم الثاني من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 1300 إلی النّجف الأشرف للمرّة الثالثة مع والده الشيخ محمّدباقر ووصلا ليلة عاشورا سنة 1301 إلی کربلا المقدّسة وأقاما فيها ثلاثة الأيام وفي اليوم الرابع خرج إلی النّجف الأشرف، کما زارا الکاظمين ليلة واحدة فقط.

توفّي والده في هذه السفرة في ليلة الثامن من شهر صفر 1301 ودفن

ص: 50

عند رجل جدّه الشيخ الأکبر الشيخ جعفر کاشف الغطاء.

وبقي المترجم له في النّجف الأشرف إلی آخر حياته.

يحدّثنا ولده أبوالمجد عن مجاورته النجف الأشرف: «واختار المجاورة في النجف وتمّ له ما كان يرومه من العزلة التامّة وفوّض ما يتعلّق به من أمور الدنيا إلی أخيه المتقدّم ذكره [الشيخ محمّدعلي] وبقي علی ما كان يتمنّاه من الاشتغال التامّ للعبادات والطاعات والإعراض عن أمور الدنيا بالكليّة، وحجَّ في بعض السنين ورجع مواظباً علی ما وصفناه إلّا أمر التدريس مع عدم المواظبة عليه؛ والسرّ فيه أنه (رحمة الله) ما كان يقدم عليه إلّا مع الإطمينان وخلوص القصد والنية، ولهذا ربما كثر ازدحام الطلبة علی الاستفادة منه، فكان يغيّر مكان الدرس ويجعله في دار بعض الأصحاب. وربّما لم يُفِدْ ذلك، فترك الدّرس بالكليّة ولم يزل كذلك والدنيا مُشَرَّفَةٌ بأنواره حتّی أن وَفَتْ أثاره وعمره في أوان إنذاره» (1).

کراماته

يُنقل عنه کرامات عديدة وقضايا مختلفة لا يناسب أن أذکرها بواسطة نسبي إليه وأنّه جدّ جدّي، ولذا أغمضت عنها روماً للاختصار، ولکن أنقل مصادرها لمن أراد أن يراجعها، فعليه بالکتب التالية:

ص: 51


1- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، مخطوط مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.

- ترجمته بقلم شقيقه الحاج آقا نورالله.

- ترجمته بقلم نجله أبي المجد.

- رساله امجديه، ص72 بقلم نجله، الطبعة الرابعة.

- الأنهار: ص24/ کرامت 40، بقلم ابن أخيه الشيخ مهدي ابن الشيخ محمّدعلي ثقةالإسلام.

- أنهار: ص17/ کرامت 29، بقلم ابن أخيه المذکور.

- تکملة أمل الآمل: ج5/ ص369/ بالرقم 2310.

- تاريخ نجران يا آفتاب درخشان در مباهله نصاری نجران: ص103-100، للشيخ محمّد طبيب زاده الأحمدآبادي الإصفهاني.

- تاريخ علمی و اجتماعی اصفهان در دو قرن اخير: ج2/ ص210، للسيّد مصلح الدين المهدوي.

- قبيله عالمان دين: ص72-69، لهذا العبد الفقير.

- شوق وصال: ج1/ ص377-370 و ج2/ ص 579 و 690 و 812 و 899، دروس أخلاقيّة للشيخ حسن الصافي الإصفهاني.

- در محضر آيةالله بهجت: ج1/ ص215 و 235 و 265، و ساير مجلداته، للشيخ محمّدحسين رُخشاد.

- جرعه ای از دريا: ج1/ ص506، للسيّد موسی الشبيري الزنجاني.

- روزنه هايی از عالَم غيب: ص215 و 298 و 379 و 380، للسيّد

ص: 52

محسن الخرّازي الطهراني.

وفاته ومدفنه

وزار أبا عبدالله الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة سنة 1307 ورجع من کربلاء المقدسة مريضاً وکان ذلك مرضه الّذي انتقل فيه جوار ربّه وتوفّي (رحمة الله) أوّل يوم من شهر محرّم الحرام سنة 1308، واتّفق في أيّام مرضه أن هبّت رياح مخوفة ومطرت السماء وکان في الصيف.

«وکان ولادته في ثاني يوم من محرّم الحرام من سنة 1266، ووفاته قدس الله روحه في أوّل يوم من محرّم سنة 1308 في أوائل الظهر، فکان مدی عمره الشريف اثنين وأربعين سنة غير يوم واحد» (1).

ودفن في حجرة جدّه السيّد صدرالدين الصدر الکبير وهي أوّل حجرة عن يمين الداخل في الصحن الشريف من باب الفَرَج (السلطاني) حجرة رقم (3) حالياً. وقد ذکرتُ المدفونين فيها في بعض مؤلَّفاتي (2) فراجعها.

رؤيا

قال شقيقه: «وحدّثني من أثق بقوله وجلالته، عن بعض الأجلّاء

ص: 53


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن: ص16، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.
2- . سه سفرنامه - طور سينا: ص126 و127.

الکرام والثّقات العظام قال: رأيتُ في ما يری النائم وأنا في سامرّاء کأنّي قد وصلتُ إلی خدمة سيّد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، فقلتُ له (صلی الله علیه و آله و سلم) - بعد کلمات -: يا سيّدي، الشيخ مرتضی الأنصاري ناج؟

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): نعم، هو ناج بشفاعتنا.

فقلت له: يا سيّدي، الشيخ محمّدباقر الإصفهاني - يعني: والدي العلّامة - ناج؟

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): نعم، ناج بمحبّتنا.

فقلت له: الشيخ محمّدحسين الإصفهاني ناج؟

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): إنّه قد ورد علی الله، فأعطاه کلّ ما أراد. إنتهی.

والله العالم بالمبدء والمعاد» (1).

مراثيه ومادّة تاريخ وفاته

ورثاه العلماء والشعراء بقصائد بديعة:

1- لعلّ أحسنها ما قاله الأديب السيّد جعفر الحلّي (2) في مرثيته: (3)

ص: 54


1- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن: ص16، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.
2- . هو السيّد کمال الدين أبويحيی جعفر ابن أبي الحسين حَمَد - بفتح الميم وَتَفْخِيْمِها علیٰ لهجةِ أهل الحِلّة - ابن محمّدحسين الحُسَيْني آل کمالِ الدِّيْنِ الحِلّي (1277-1315ﻫ) ولد في قرية «السادة» من قری الحلّة، ونشأ في ظلّ والده، انتقل في شبابه إلی النجف الأشرف، فظهر ظهوراً عالياً لعبقريّته ونبوغه، حضر علی الشيخ محمّد طه نجف والميرزا حسين ابن الميرزا خليل الطهراني. توفّي في النجف ودفن في وادي السلام، ورثته الشعراء والأدباء. (أعيان الشيعة: ج4/ ص97؛ فهرس التراث: ج2/ ص222؛ مقدّمة ديوانه: ص27-7).
3- . قال الإمام الشيخ محمّد الحسين آل کاشف الغطاء (رحمة الله) في هامش ديوان السيّد جعفر الحلّيّ: «کانَ الشيخ محمّدحسين (قدس سره) آيةً في المعارف والتجافي عن الدنيا والزهد فيها، والوقوف علیٰ غوامض العلوم اللاهوتيّة، وأسرار المعارف، وله قطعة تفسير لمقدارٍ من القرآن المجيد تدلّ علیٰ عظيم حظّه من جميع العلوم، وقد تقدّم تاريخ وفاته، ولم يعقب سویٰ الشيخ آغا رضا أدام الله بقاه» إنتهیٰ.

کَمْ يا هِلالَ مُحَرَّمٍ تُشْجِينا *** مَازالَ قَوسُكَ نَبْلُهُ يَرْمِيْنَا (1)

ما أَنْتَ إلّا خِنْجَرٌ بِيَدِ الرَّدَیٰ *** بِالدين يُوْغِلُ حَدّكَ المَسْنُوْنَا

ولقد جَنَيْتُ ثِمارَ صُنْعِكَ مَرَّةً *** لَمَّا رأيتُكَ تُشْبِهُ العُرْجُوْنَا

فَلتُجْرِيَنَّ بِلُجِّ أُفْقِكَ زَوْرَقا *** لکن أرَاكَ مِنَ البَلا مَشْحُوْنَا

بَلْ أَنْتَ صَعدةُ جائرٍ مثنيّةٌ *** ممّا تُشِلّ بِنَصْلِها المَطْعُوْنَا

لو کُنْتَ في کَفِّ الغَضَنْفَرِ مِخْلَبَاً *** لَغَدَا بِلَحْمِ الطائِرَاتِ بَطِيْنَا

أَشْبَهْتَ نُوْنَ الخَطِّ لکنْ أبْيَضَاً *** کَيْ تَمْحُوَنَّ مِنَ السَوادِ عُيُوْنَا

أَ طلَعْتَ کَيْ تجلُو اللَّيَالي الجُوْنَ؟ فَلْ- *** -تُغْربْ فَمَا أبْهَیٰ اللَّيَالِي الجُوْنَا

کَلَحَتْ بِرُؤْيَتِكَ العُيُوْنُ جَمِيْعُهَا *** لو کُنْتَ طَيْراً لَمْ تکُنْ مَيْمُوْنَا

ص: 55


1- . مطلع هذه القصيدة والأبيات الثمانية الأخيرة منها من القصائد الحسينيّة المشهورة، ولم يزل الخطباء يقرؤونها علیٰ المنابر، خاصّة في أيّام المحرّم الحرام.

قد قَدَّرَتْكَ يَدُ الإلٰهِ مَنَازِلاً *** يَا لَيْتَ بُرْجَكَ لَمْ يَکُنْ مَسْکُوْنَا

تَأْتِي بِشَهْرِكَ کُلُّ بِکْرِ مُصِيْبَةٍ *** تَدَعُ المَصَائِبَ في سِوَاهُ عُوْنَا

فَبِفُلْکِكَ العَالي نَعُدُّكَ أشْيَباً *** وَتُعَدُّ في قُرْبِ الوُلُودِ جَنِيْنَا

أُکْفُفْ سِهَامَكَ يَا زَمَانُ عَنِ الوَرَی *** فَلَقَدْ صَرَعْتَ کَمَا اشْتَهَيْتَ الدِّيْنَا

لَوْ تَتْرُکَنَّ لَنَا الْإمَامَ أَبَا الرِّضَا *** لَتَرَکْتَ لِلشَّرْعِ الشَّرِيْفِ أَمِيْنَا

وَأَمَضُّ في أَحْشاءِنا مِنْ فَقْدِهِ *** آنَاً وَقَدْ عَزَمَ الرَحِيْلَ بَقِيْنَا

مَا جَفَّتِ الأَقْلامُ مِنْ إطْرَائهِ *** حَتَّیٰ خَطَطْنَ لِمَوْتِهِ التَأْبِيْنَا

سِبْطٌ لِجَعْفَرَ (1) حاطَ مِلّة جَعْفَرٍ *** وَأَعَزَّهَا وَأَبیٰ عَلَيْها الهُوْنَا

هُوَ بَضْعَةٌ مِنْ جَعْفرٍ وَهُوَ ابنُهُ *** وَبِهِ نُخَطّيْ مَنْ يَقُوْلُ: (بَنُوْنَا) (2)

وَلجدّهِ کُشِفَ الغِطَاءُ (3) وَإنْ يَکُنْ *** مَا زَادَ في کَشْفِ الغِطَاءِ (4) يَقِيْنَا

أَضْحَیٰ دَفِيناً فِيْ التُّرابِ وَبَعْدَهُ *** کَابَدْتُ دَاءً في حَشَايَ دَفِيْنَا

ص: 56


1- . جدّه من أمّهِ الشيخُ الأکبرُ الشيخ جعفر کاشفُ الغِطاء (قدس سره).
2- . نخطي: ترجع الهمزة إلی أصلها في «نُخَطِّئ»، وقوله: «بنونا» إشارة إلی تخطئة قول الشاعر الجاهلي: بَنُوْنَا بَنُو أبْنَائنَا وَبَنَاتُنَا *** بَنُوْهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ
3- . أشارة إلی قول أميرالمؤمنين (علیه السلام): «لو کشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً.
4- . المقصود کتاب کشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، للشيخ الأکبر الشيخ جعفر کاشف الغطاء (قدس سره).

فَلَأَبْکِيَنَّ لِفَقْدِهِ مُتَمَنِّيَاً *** کُلَّ الجَوارِحِ أَنْ تَکُوْنَ جُفُوْنَا

وَلَأَرْوِيَنَّ حَشَا الثَّرَیٰ بِمَدَامِعِيْ *** لِيُقالَ: إنَّ مِنَ العُيُونِ عُيُوْنَا (1)

لا يَمْنَعُ الماعُونَ مِنْ أفْضالِهِ *** فُقْدانُه مَنْ يَمْنَعُ الماعُوْنَا

يَسْهُو عَنِ الدُّنْيَا بِذِکْرِ صَلَاتِهِ *** وَالنَّاسُ عَنْ صَلَوٰاتِهِمْ سَاهُوْنَا

يُلْقِيْ عَلَیٰ المِحْرابِ نُوْرَ إمامةٍ *** إنْ قابَلَ المِحْرابَ مِنْهُ جَبِيْنَا

هُمْ مَعْشَرٌ نَهَضُوا بِدِيْنِ مُحَمَّدٍ *** فِي إِصْبَهَانَ وأَتْلَفُوا الْقَانُوْنَا

وَالمُقْتَفِي القَانُونَ فِيْ أَحْکَامِهِ *** أَوْلَی بِهِ إِنْ لَمْ يَکُنْ مَخْتُوْنَا

هَدَرُوا دَمَ القَوْمِ الَّذِيْنَ تَزَنْدَقُوا *** وَدَمُ الزَّنَادِقِ لَمْ يَکُنْ مَحْقُوْنَا

لَوْ أَنَّ بَابِيَّاً (2) تَعَلَّقَ بالسُّهَا (3) *** لِلْأَمْنِ مِنْهُمْ لَمْ يَکُنْ مَأْمُونَا

وَلَو أنَّهُ (4) مِنْ خَلْفِ سَبْعَةٍ أبْحُرٍ *** رَکبُوْا لهُ نَصْرَ الإلَهِ سَفِيْنَا

لَا أسْخَطَنَّ مِنَ الزَمانِ لِفِعْلِهِ *** وأرَی (الرِضا) (5) بِعُلَیٰ أبيه قَمِيْنَا (6)

ص: 57


1- . يعني: من العيون الباکية عيون جارية.
2- . البابيّة: من الفرق المنحرفة الضالّة.
3- . السُّهی: نجم في السماء لا يُری، ومن أمثال العرب: أرِيْهِ السُهی (السُها) ويُريني الثريّا.
4- . بفتح الواو من (لو)، وتخفيف الهمزة من (أنّه) ووصل الألف من (أنّه) فلا توجد همزة مخففة وإنّما موصوله ومقطوعة.
5- . المقصود من (الرضا) هو العلّامة الأکبر آيةالله العظمی الشيخ محمّد الرضا أبوالمجد النجفي الإصفهاني نجل المرثيّ.
6- . القمين: الجدير.

مَوْلیً تَحَمَّلَ عِلْمَ أَهْلِ البَيْتِ بالإ *** لْهامِ لا کَسْباً ولا تَلْقِيْنَا

يَرْنُو المُغَيَّبَ في فِرَاسَةِ مُؤْمِنٍ (1) *** فَبِحَدْسِهِ تجدُ الظُّنُونَ يَقِيْنَا

سِبْطُ اليَمِيْنِ فَلَوْ رَأَتْهَا ديمَةٌ *** حَلَفَتْ وَقَالتْ: مَا وَصَلْتُ يَمِيْنَا

وَلَأَنْشَدَتْهَا إذْ يُمَزّقُها الهَوَیٰ: *** (مَاذا لَقِيْت مِنَ الهَویٰ ولَقِيْنَا) (2)

وَإِذَا نَظَرْتَ لِحُسْنِهِ وَوَقَارِهِ *** فَلَقَدْ رَأَيْتَ البَدْرَ والرَاهُوْنَا (3)

لو تَنْظُرُ الحِرْباءُ (4) لَيْلاً وَجْهَهُ *** لَتَلَوَّنَتْ فَرَحاً بهِ تَلْوِيْنَا

خُذْها کَطَبْعِكَ فَهْيَ تَقْطُرُ رِقَّةً *** وَتَسِيْلُ مِثْلَ نَدیٰ يَدَيْكَ مَعِيْنَا

لَوْ کانَ في الشُعَراءِ مِثْلي سَابقٌ *** لَتَرَکْتُهُ بَادِي العِثَارِ حَرُوْنَا

کُلُّ المَصَائِبِ قَدْ تَهُونُ سِوَیٰ الّتِي *** تَرَکَتْ فُؤادَ محمّدٍ مَحْزُوْنَا

يَوْمٌ بِهِ ٱزْدَلَفَتْ طُغاةُ أُمَيّةٍ *** کيْ تَشْفِيَنَّ مِنَ الحُسَيْنِ ضُغُوْنَا

ص: 58


1- . إشارة إلیٰ الحديث المأثور: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله».
2- . إشارة إلیٰ قول جَرير: غَيَّضْنَ مِنْ عَبَرَاتِهِنَّ، وَقُلْنَ لي: *** مَاذَا لَقِيْتَ مِنَ الهَوَیٰ وَلَقِيْنَا
3- . الراهونُ: جبلٌ.
4- . الحِرْباء: حيوان ذو قوائم أربع، يدير عينه إلیٰ کلّ جهة، وكما يدير وجهه باتجاه الشمس دائماً. يصفاد الزبان، له القدرة علیٰ تغيير لونه إلیٰ لون آخر، قوّته العضلية في لسانه يخرجه ويدخله سرعة فائقة، يقال له بالفارسية: «آفتاب پرست». ينظر: لسان العرب: ج1/ ص307

نَادَیٰ: أَلا هَلْ من مُعِيْنٍ فَلَمْ يَجِدْ *** إلّا المُحَدَّدَةَ الرِقاق مُعِيْنَا

فَبَقي عَلَیٰ وَجْهِ الصَعِيْدِ مُجَرّداً *** مَا نالَ تَغْسِيْلاً وَلَا تَکْفِيْنَا

وَسَرَوْا بِنِسْوَتِهِ عَلَی عُجْفِ المَطَا *** تَطْوِيْ سُهُولاً بِالفَلا وَحُزُوْنَا

أَ وَمِثْلُ زَيْنَبَ وَهيَ بِنْتُ مُحَمَّدٍ *** بَرَزَتْ تُخاطِبُ شامِتاً مَلْعُوْنَا

وَغَدَا قُبَالَتُهَا يُقَلِّبُ مُبْسَمَاً *** کَانَ النَّبِيُّ بِرَشْفِهِ مَفْتُوْنَا

نَثَرَتْ عَقِيْقَ دُمُوْعِهَا لَمَّا غَدَا *** بِعَصَاهُ يَنْکُتُ لُؤْلُؤْاً مَکْنُوْنَا (1)

2- قد مرّ أنّه اتّفق في أيّام مرضه أن هبّت رياح مخوفة ومطرت السماء وکان في الصيف فقال السيّد جعفر الحلّي:

بَحْرُ علمٍ قَدْ فَقَدْنا *** هُ فما أَغْزَرَ عِلْمَهْ

قَدْ بَکَتْهُ السُحُبُ صَيْفاً *** وَاکْتَسیٰ العالَمُ ظُلْمَةْ

مُذْ تُوُفِّيْ أرّخُوهُ *** «ثَلُمَ الإسْلامُ ثَلْمَةْ» (2)

(1308ﻫ)

3- وقال شقيقه الشهيد الحاج آقا نورالله في قصيدة طويلة مطلعها:

ص: 59


1- . سحر بابل وسجع البلابل: ص419-417، طبعة صيدا، 1331، (452-450)؛ ونقل بعض هذه الأبيات آيةالله الشيخ مجدالدين النّجفي في کتابه المختار من القصائد والأشعار: ص116/ بالرقم87، تحقيق الأستاذ محمّدحسين الواعظ النجفي.
2- . حلي الزمن العاطل في من أدركتُهُ من الأفاضل، وهو مفقود. نقل عنه العلّامة الشيخ علي كاشف الغطاء؛ في كتابه الحصون المنيعة.

يا عينُ جُودي بِحُمْرِ الدَّمْعِ مِدْرَارَا *** واذکُرْ مَساکِنَ مَنْ تَهْوِيْهِ والدَِارَا

مَنازِلٌ عُطِّلَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَخَلَتْ *** وَاسْتَوحشَتْ بَعْدَ مَا کَانُوا لَها جَارَا

بِالله سَلْ مَدْمَعَ البَاکِي هَلِ ارْتَحَلُوْا *** أمْ هَلْ بَقِيْ عَنْهُمُ في الرَبْع آثَارَا؟

ومنها:

لَمْ أَنْسَ إِذْ زَارَنِي وَاللّيلُ مُعْتَکِرٌ *** أفْدِيْهِ مِنْ زائِرٍ جُنْحَ الدُّجَیٰ زَارَا

ثُمّ اسْتَهَلّ دُمُوعَ العَيْنِ مِنْ جَزَعٍ *** وظَلّ دَمْعاً علی الخَدّيْنِ مِدْرٰارٰا

کادَتْ تَأَجّجُ نِيْرَانُ الغَرامِ بِهِ *** ثَأْرا تَضَرَّمَ في الأَحْشاءِ سَعّارَا

وَظَلَّ يَنْثُرُ في وَرْدِ الخُدُودِ أَسَیً *** لَآلِئَ الدَّمْعِ مِقْلَالاً ومِکْثارَا

وَصَاحَ: صَبْراً، فإنّ القَوْمَ قَدْ ظَعَنُوا *** يَا بُعْدَها مَنْزِلاً سَارُوا وأَسْفارٰا

ومنها في الرثاء:

لَهْفِي عَلَی جِيْرَةٍ جَارَ الزَمانُ بِهِمْ *** وأَضْرَمُوا في الحَشَا مِنْ هَجْرِهِمْ نَارٰا

لَهْفِي عَلَی قَمَرٍ قَدْ غابَ عن نَظَرِيْ *** مِنْ قَبْلِ أنْ تَکْتَمِلْ لِلوَصْلْ مِضْمارٰا

کُنّا وکانُوا جميعاً في هَویً وتُقَیً *** عَوْناً علی الدَهْرِ إيْرٰاداً وإصْدٰارٰا

حَتّی رَمَتْنا صُرُوفُ الدَهْرِ من عَجَلٍ *** وفَرَّقَتْنَا بِدَوْحِ الأرْضِ أَشْطَارٰا

قَدْ کُنْتُ أَرْجُو -فَدَتْكَ النَفْسُ يَا أَمَليْ- *** أَنْ يستدان لَنا الأيّام أَعْصَارٰا

لَکِنْ قَضَايا قَضَاءِ الله غَالِبَةٌ *** وَلَيْسَ بَعْدَ قَضَاءِ الله إنْکَارٰا

ومنها:

قَدْ حَازَ من دَوْحَةِ العَلْياء أَزْهَرَهَا *** رَوْضَاً وأَرْفَعَهَا شَأْناً ومِقْدَارٰا

مَا کَانَ بَدْراً ولکنْ يُسْتَضَاءُ بِهِ *** ما کانَ بَحْراً ولکنْ کانَ زَخّارٰا

ص: 60

وکانَ أَوْسَعَنا حِلْماً وَأصْبَرنَا *** عَلَیٰ الحَوادِثِ إيْسَاراً وإعْسَارٰا

وَکُلُّ نَبْتٍ نَما مِنْ مَعْشَبٍ حَسَنٍ *** يَکُوْنُ أَقْصَرَهَا عَيْشاً وأعْمَارٰا

***

4- وقال [شقيقه]: رثيتُه أيضاً بقصيدة طويلة أخری أردتُ أنْ أثبتَ بعضَها في ذلك وإن کنت غير سالك في تلك المسالك. مطلعها:

هَلْ جَادَ صَبٌّ بِالهَویٰ فَأَجُوْدٰا *** أمْ ذَادَ عَنْ لَوم العِدَی فَأَذُوْدٰا

أمْ هَلْ أَفاقَ من الصَّبَابَةِ عاشِقٌ *** فَأفِيقُ أَمْ هَلْ أسْتَطَاعَ (1) جُحُوْدٰا

أمْ هَلْ سَمِعْتَ بِعَاشِقٍ ذَاقَ الهَوَیٰ *** فَأَطَاعَ عَاذِلَهُ وَخَانَ عُهُوْدٰا

أمْ هَلْ رأيتَ مُتَيّماً خافَ الرَدَیٰ *** في وَصْلِ مَنْ يَهْویٰ فرٰام صُدُوْدٰا

مَا کُنْتُ أوّلَ مَنْ تَصَدَّرَ لِلْهَوَیٰ *** ذَاقَ النَویٰ دَهْراً وَمَاتَ شَهِيْدٰا

تُبْدُو عَلَی کُلِّ الأمُورِ نقيصةٌ *** وَالحُبُّ يَوْماً بعدَ يَوْمٍ يَزُوْدٰا (2)

أَتَریٰ الصِّبَا عَيْبَ الفَتیٰ بِالله أَمْ *** ذمَّ الصَبابة في الوَرَیٰ مَحْمُوْدٰا

کَيْفَ التَسَتُّرُ والوُشَاةُ عَلَی الهَویٰ *** وَجْدِيْ وَکدِّيْ والسّقَامُ شُهُوْدٰا (3)

وغَزِيْرُ دَمْعٍ في الهَوَیٰ يُهَرِيْقُهَا *** نَارٌ تأجَّجَ في الکِلَی وسُهُودٰا (4)

ص: 61


1- . بقطع همزة الوصل للوزن الشعري.
2- . هو فعل مضارع «يزودُ» فهذا من الإقواء.
3- . حال نائبة عن الخبر وإلّا خبر مرفوع «شهودُ».
4- . مرفوعة معطوفة علی (نارٌ).

ومنها في الحماسة:

لله أيّامُ الصِّبَا إذْ کانَ لِيْ *** نَجْمُ المَسَرَّةِ بازِغاً مَسْعُودٰا

وَيَهُزُّنِي سُکْرُ الشَّبابِ کَأنّنيْ *** غُصْنٌ يَمِيْلُ بهِ الصَبا ويُعيدٰا (1)

يا دهرُ کُفَّ فإنّ مَنْ عادَيْتَهُ *** شَمْسَ العَداوةِ لا يَخَافُ عَنِيْدٰا

وَدَعِ التَحاوُلَ لَنْ تُذَلِّلَ مَنْ غَدا *** قَدْ نالَ عِزّاً ما عليه مَزِيْدٰا (2)

من مُبْلِغُ العَلياءِ عَنّيَ أنَّني *** أَحْمِي حِماهٰا قائِماً وقُعودٰا

وأَنا رَضِيْعُ لُبانِها وحَلِيفُها *** عندَ الهَزاهِزِ مَصْدَراً ووُرُوْدٰا

والمَجْدُ مَا رُفِعَتْ لِمَجْدٍ رايةٌ *** إِلّا أَخَذْتُ زِمَامَها المَعْقُودٰا

وَالعَيْنُ شاخِصَةٌ إلی عَلْيائِهِ *** شَزَرَاً إذَا مَا النّاسُ عَنْهُ رُقُوْدٰا

فَلَرُبَّ دَاهيةٍ رَفَعْتُ قِناعَهَا *** وَمَعَاضِلٍ کَشَّفْتُهَا وَعُقُوْدٰا

کَمْ طَارِقٍ غَرْثَیٰ کشفتُ کُرُوْبَهُ *** وبَذَلْتُ فيهِ طارفاً وتَلِيْدٰا

ومخوّفٍ صَرْفَ الزمانِ أَجَرْتُهُ *** وصَرَفْتُهُ رَطْبَ اللِّسانِ حَمِيْدٰا

وَبَدٰا غُصُونُ المجْدِ مِنّي مُوْرِقاً *** بِيَدٍ تُمَدُّ إلی الفَخَارِ مَدِيْدٰا (3)

لو أَخْلَدَ الشَّرَفُ الفَتَیٰ لَرَأَيْتَ لِي *** في الدَّهْرِ مَادٰامَ السَّمَاءُ خُلُوْدٰا

لَکِنَّ مِنْ غِيَرِ الزّمانِ وصَرْفِهِ *** لَمْ يَنْجُ مَذْمُوْمَاً وَلَا مَحْمُوْدٰا

ص: 62


1- . ويُعيدُ.
2- . مَزِيْدُ.
3- . لا يقال: مديداً وإنّما يقال: مدّاً.

کَرُّ الحَوادِثِ والشُهُورِ لحادثٍ *** لا وَالِدَاً يُبْقِي وَلَا مَوْلُوْدٰا

وَأَرَیٰ المَنايَا وَالمُنیٰ إثْرَ الفَتَی *** يَتَسابِقانِ وما لَهُنَّ مدُوْدٰا

ومنها في الرثاء:

يا صاحِبَيَّ أَری التَهاجُرَ قاتِليْ *** عُوْدا عَلَی وُدِّ الأَحِبَّةِ عُوْدٰا

عُوْدا اذْکُرا لي بعدَ تَذْکارِ الهَوی *** عَهْدَ الحَبِيْبِ وفَضْلَهُ المَشْهُوْدٰا

کُنّا جَميعاً في مَضامِيْرِ الهَوی *** في ظِلّ شاخِصَةِ العُلا مَمْدُودٰا

فَأبادَ تأرِيْبُ الزّمانِ وصَرْفُهُ *** يا ليتَ کَلْکَلَةَ الزّمانِ تَبِيْدٰا

مَهْلاً رُوَيْباتِ الزّمانِ وصَرْفُهُ *** أَمْهِلْ رُوَيْداً وامْهَلِنَّ رُوَيْدٰا

بِأَبِيْ أَخاً بَرَّاً کَرِيْماً مَاجِداً *** قَدْ عاشَ مَحْمُوداً وَمَاتَ سَعِيْدٰا

قد کانَ بَحْراً لِلفَضائِلِ والنُهَیٰ *** إنْ کانَ للبَحْرِ العَطا والجُوْدٰا

ما جادَ بَعْدَكَ وابِلٌ طَلّا ً ولا اخْ- *** -ضَرَّ بَعْدَك للمرُؤةِ عُوْدٰا

ولَقَدْ يَعُزُّ علی الزّمانِ وأَهْلِهِ *** إذْ ما يَرَوْنَكَ والفَخار فَقِيْدٰا

لَهْفِي لِأَيّامِ الوِصالِ وقد مَضَتْ *** يا لَيْتَ أيّامَ الوِصالِ تَعُوْدٰا (1)

هَيْهَات أَنْ يَلِدَ الزّمانُ بِمْثِلِهِ *** وإِنِ اسْتَکانَ وأَبْذَلَ المَجْهُودٰا

يَعزُزْ عَليَّ بِأَنْ أَریٰ غَوْثَ الوَرَیٰ *** ما بَيْنَ أَطْباقِ الثَرَیٰ مَلْحُودٰا

مَنْ لِلأرامِلِ واليتامَیٰ والتُقَیٰ *** والنائِباتِ إذا وَرَدَنَ وُرُوْدٰا (2)

ص: 63


1- . تَعُوْدُ.
2- . ترجمته بقلم شقيقه آيةالله الشهيد الحاج آقا نورالله النجفي. راجع: مجدالبيان في تفسير القرآن، ص20-17، طبعة مؤسسة البعثة بطهران.

***

5- ولمّا کانت وفاته (رحمة الله) في عشر العاشور أرّخَ بعضُ الشعراء وفاته بهذا المصرع:

«با حسين شهيد شد محشور»

(1308ﻫ)

***

6- قال الأستاذ المحقّق الحجّة السيّد عبدالسّتار الحسني:

«تاريخُ وَفاةِ شَيْخِ الفُقهاءِ والمجتهدين في عصرهِ آيةالله العُظْمیٰ الشيخ محمّد الحسين النجفي من آلِ صاحب الحاشية المُتَوفیٰ في سنة 1308ﻫ 1.

مُحَمَّدُ الْحُسَيْنُ مَنْ بِالتُّقیٰ *** وَعِلْمِهِ قَدْ فازَ بِالْحُسْنَيَيْنْ

قَدْ غادَرَ الدُّنْيا وَمازادُهُ *** بَعْدَ وَلاءِ المُرْتَضیٰ غَيْرُ ذَيْنْ

أنْعِمْ بِهِ زاداً لِأَهْلِ النُّهیٰ *** وَذُخْرَ مَنْ أَفْلَحَ في النَّشْأَتَيْنْ

لَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِيْنَ مِنْ عُمْرِهِ *** لکِنْ بِعَلْياهُ شَأیٰ الْفَرْقَدَيْنْ

فَهُوَ مِنَ الْعُلُوْمِ قامُوْسُها (1) الْ- ***

مُحِيْطُ، وَالْجِهْبِذُ مِنْ غَيْرِ مَيْنْ

ص: 64


1- . القاموس: البَحْر.

إذْ بَلغَ الذُِّرْوَةَ (1) في سَبْرِها *** مُسْتَنْبِطاً، وَلَمْ يَکُنْ بَيْنَ بَيْنْ

وَالآيَةُ العُظمیٰ بِفِقْهِ الْأُلیٰ *** قَدْ طُهِّرُوا مِنْ خَلَفِ الْخِيْرَتَيْنْ

عِتْرِةِ طهٰ الطُهْرِ خَيْرِ الْوَریٰ *** هُداتِنا الْأَئِمَّةِ المُصْطَفَيْنْ

أعْظِمْ بِهِ مِنْ عَلَمٍ شامِخٍ *** قَرَّتْ بِتَحْقِيْقاتِهِ کُلُّ عَيْنْ

مُوَطَّأِ الْأَکْنافِ بَرّ وَفِيْ *** تَفاقُمِ الْعُسْرَةِ سَمْحُ الْيَدَيْنْ

إذا جَریٰ في حَلْبَةِ الْفِقْهِ وَالْ- *** أُصُوْلِ حازَ السَّبْقِ في المَطْلَبَيْنْ

وَإِنْ يَکُنْ جاراهُ ذُوْهِمَّةٍ *** عادَ مُجارِيْهِ بخُفَّي حُنَيْنْ

فَيا لسانَ المَجْدِ إنْ رُمْتَ أَنْ *** تَنْعاهُ کَيْ تُوْفِيَ رَدّاً لِدَيْنْ

عُدَّ أُلِيْ الْأَمْرِ (2) وَقُلْ أَرِّخُوا *** (الدِّيْنُ أبْکاهُ غيابُ الْحُسَيْنْ)

(12)(95) (29) (1013) (159)

(سنة 1308ﻫ)

الأقل عبدالسّتار عفا عنه المليك الغفّار

قلتها ارتجالاً يوم أربعين سيّدالشهداء الحسين (علیه السلام) من سنة 1438ﻫ النجف الأشرف» 

ص: 65


1- . الذُِّرْوَةُ، بِضَمِّ الذّالِ المُعْجَمةِ وَکَسْرِها، والعَصْريُّوْنَ يَقْتَصِرُوْنَ - في الغالِب - علیٰ الکسر.
2- . المقصودُ بأُلي الْأَمْرِ: الأَئِمَّةُ الِاثْناعَشَرَ المعصومُوْنَ علیهم السلام وهي تَکْتُبُ في الرَّسْمِ المُتعارفِ عليه: أُوْلي، لکِنْ، رَسَمْتُها بِحَذْفِ الْواوِ لِئلّا يُخْطِئَ الشُراةُ بِقِراءَتِها.

أمّا المؤلَّف

أصل البراءة

فقد مرّ ذکره في مؤلَّفات المترجم له وقد رأیٰ السيّد الصدر (1) نسخة خطّ المؤلِّف من هذا الکتاب.

وعرّف الشيخ الطهراني (2) نسخة ناقصة من الکتاب عند نجل المؤلِّف الشيخ أبي المجد.

وقد وصلت هذه النسخة الناقصة إلينا وهي بمفردها مدار عملنا في تصحيح هذا الکتاب الشريف.

ومن مختصّات هذا الکتاب نقل آراء المحقّق الميرزا حبيب الله الرشتي (قدس سره) من مجلس درسه، لأنّ المؤلِّف کان من تلاميذه.

ومنها: دفاع المؤلِّف عن جدّه صاحب هداية المسترشدين وعمّه صاحب الفصول في قبال اعتراضات الشيخ الأعظم الأنصاري وغيره عليهما قدس سرهم.

ومنها: استيفاء البحث حول جريان أصل البراءة في الشبهات الوجوبيّة التي هي محلّ وفاق بين الأصوليّين والأخباريّين، إلّا المحدّث محمّدأمين الأسترآبادي صاحب کتاب الفوائد المدنيّة، إذ ذهب إلی وجوب

ص: 66


1- . تکملة أمل الآمل: ج5/ ص371.
2- . الذريعة: ج2/ ص114/ بالرقم 454.

الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة.

ومنها: إسقاط المطلب الأوّل من الکتاب أو نسختنا هذه، وهي البحث حول جريان أصل البراءة في الشبهات التحريميّة الّتي هي محلّ خلاف بين الأصوليّين والإخباريّين.

ولا أدري هل المؤلِّف کتب هذا البحث، أو ترکها اعتماداً علی تأليفات الآخرين.

ومنها: نسخة الکتاب کما کانت ناقصة الأوّل، کذلك کانت ناقصة الآخر. وبقيت بحوث لم يتعرّض المؤلِّف حولها.

ومنها: ومع ذلك کلّه الکتاب يدلّ علی طول باع مؤلِّفه في علم أصول الفقه وتبحّره فيه، ولا ضير؛ لأنّه تتلمذ علی أساطين هذا الفنّ قريباً من عقدين من حياته.

ومنها: أنّ نسختنا هذه کتبت علی يد ناسخ غير عربي؛ ولذا وردت فيها عدّة أخطاء صحّحناها بقدر طاقتنا ووسعنا العلمي.

ومنها: النسخة کتبت بعد أربع عشرة سنة مضت علی وفاة المؤلِّف.

ومنها: أمور تظهر للقارئ الفطن حين قراءة الکتاب بالتأمّل والدقّة.

شکر وتقدير

وفي ختام هذا التمهيد أشکر کلّ مَنْ ساهم في إنجاز هذا الکتاب بهذه الحلّة القشيبة:

1- ابن عمّنا المرحوم آيةالله الشيخ محمّدتقي (1295-1375ش)، ابن آيةالله الميرزا عبدالحسين (ح1312-1348ﻫ)، ابن آيةالله الشيخ

ص: 67

جلال الدين (1281-1337)، ابن آيةالله الشيخ محمّدتقي آقا النجفي الإصفهاني، حيث تفضّل عليَّ بإرسال النسخة المخطوطة من الکتاب إليَّ، فتمکنت من أخذ صورة من النسخة الوحيدة الّتي هي مدار هذا الکتاب.

2- المحقّق حجةالإسلام الحاج الشيخ الدکتور محمود النعمتي (دامت برکاته) حيث صحّح الکتاب وحقّقه وقابله عدّة مرّات مع نسختنا المخطوطة وبذل في هذا السبيل کلّ وسعه وأخرج الکتاب بهذا الشکل الرائع.

3- العلّامة المحقّق الحجّة الأستاذ السيّد عبدالسّتارالحسني (دامت برکاته) إذ صحّح الکتاب من أوّله إلی آخره وراجع الکتاب علميّاً.

4- المحقّق المدقّق حجّةالإسلام السيّد محمّدرضا الشفتي (دامت برکاته) لتخريجه بعض مصادر الکتاب ومراجعة الکتاب العلمية.

5- السيّدة تهمينه نصرآزاداني المنضدة لتصفيف حروف الکتاب بهذا الشکل الجميل.

إلی هنا تمّت هذه المقدمة علی يد العبد الفاني هادي ابن الشيخ مهدي غياث الدين ابن الشيخ مجدالدين ابن أبي المجد الشيخ محمّد الرضا ابن الشيخ محمّدحسين النجفي الإصفهاني مؤلِّف الکتاب، في يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر صفر الخير سنة 1438 في مدينة إصفهان صانها الله تعالی عن الحدثان.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلّی الله علی سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين. 

ص: 68

بعض مصادر ترجمة المؤلّف

- ترجمته بقلم نجله أبي المجد في حلي الزمن العاطل

- وقاية الأذهان.

- ترجمته بقلم شقيقه الحاج آقا نورالله

- رسالةٌ في ترجمة العلّامة الشّيخ محمّدحسين النجفي الإصفهاني لحفيده الشيخ مجدالدين النجفي الإصفهاني

- قبيله عالمان دين: ص 84-63.

- مقدمه مجدالبيان در تفسير قرآن.

- احوال و آثار شيخ محمّدتقی رازی نجفی اصفهانی و خاندانش: ص 502-469.

- گلشن اهل سلوک: ص215، الطبعة الثانية.

- نقباء البشر: ج2/ ص539.

- الذريعة: ج2/ ص114 و ج4/ ص271.

- هديّة الرازي إلی المجدد الشيرازي: ص92.

- أعيان الشيعة: ج14/ ص5/ بالرقم 9426.

- تاريخ اصفهان، جابری انصاری، ج1، ص109 و ج3، ص96 (ص337 تصحيح جمشيد مظاهری).

- المآثر والآثار: ص161 (علمای عهد ناصرالدين شاه قاجار: ص107/ بالرقم156).

- فوائد الرضوية: ج2/ ص529.

- منتهی الآمال: ج2/ ص256.

- نسبنامه الفت، نسخه خطّی.

- أعلاط در انساب: ص12.

- معارف الرجال: ج2/ ص254.

- بغية الراغبين: ج1/ ص157.

- طبقات مفسران شيعة: ص803، بالرقم 685.

- مکارم الآثار: ج5/ ص1807.

- تاريخ علمی و اجتماعی اصفهان در دو قرن اخير: ج/ ص199 و ج3/ ص88.

- تکملة أمل الآمل: ج5/ ص369/ بالرقم2310.

- الحصون المنيعة: ج4، مخطوط.

- دانشمندان و بزرگان اصفهان: ج2/ ص623.

- رجال اصفهان، دکتر کتابی: ج1/ ص142.

- دانشنامه قرآن و قرآن پژوهی، تأليف بهاءالدين خرمشاهی: ج1/ ص749.

- ريشه ها و جلوه های تشيع و حوزه علميه اصفهان در طول تاريخ: ج1/ ص506.

- تاريخ اصفهان، جلال الدين همائی، مجلد ابنيه و عمارات، فصل تکايا و مقابر: ص102 و 103.

- موسوعة طبقات الفقهاء، جزء دوم: ج14/ ص688.

- لؤلؤة الصدف في تاريخ النجف، تأليف: السيّد عبدالله ثقةالإسلام: ص116.

- نجف کانون تشيع: ص156، طبع آستان قدس رضوی، 1383ش (ص337 طبع سال 1378ش).

- مرآة الشرق: ج1/ ص627/ بالرقم 265.

- فرهنگ اعلام تاريخ اسلام: ج1/ ص502.

- مشاهير المدفونين في الصحن العلوي الشريف: ص286/ بالرقم 371، تأليف: کاظم عبود الفتلاوي.

- وارسته پيوسته، للسيّد أبوالحسن المهدوي.

ص: 69

عکس

الصفحة الأولی من مخطوطة الکتاب

ص: 70

عکس

الصفحة الأخيرة من مخطوطة الکتاب

ص: 71

ص: 72

أصل البراءة

ص: 73

ص: 74

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله الذي فضّل مداد العلماء علی دماء الشهداء حمداً یقضي حق النعماء ویقتضي الزیادة في الجزاء، حمداً یَشْفَعُ الشّكر بالثناء ویجمع بیننا وبین النّعماء، والصّلاة والسّلام علی مَنِ انْهَلَّ منه غیوث الخیرات علی أرض البركات وعلی آله الكرام أولي المساعي العالیات صلاةً یتهلّل بها وجه الدین وینشرح منها صدر الیقین أبد الآبدین ودهر الدّاهرین.

أمّا بعد، فهذا الكتاب المستطاب ممّا الّفه نقطة دائرة التحقیق وقطب رحی التدقیق، الوحید في عصره والفرید في دهره، سالك مسالك الحقّ والإیقان، ناهج مناهج الصّدق والعرفان، البدر الزّاهر والبحر الزّاخِرِ الذي ضنّ الزمان بإتیان مثله في الأوائل والأواخر، ولا یسع علی احتواء فضائله

ص: 75

الصّحف والدّفاتر، المطّهر من كلّ نقص وشین، الحاج الشیخ (1) محمّدحسین ابن العلّامة في الدوران، سلمان الزمان الحاج الشیخ (2) محمّدباقر ابن خاتم العلماء وخاتمهم أعني مولانا الشیخ محمّدتقي صاحب الحاشیة المعروفة المعلِّقة علی كتاب معالم الأصول تغمّدهم الله جمیعاً في بحار رحمته وأسكنهم في بحبوحة جنانه بمحمّدٍ وآله صلوات الله علیهم إلی یوم لقائه في عدة مسائل من البراءة وترك جمیع أصحاب الفنّ وراءه، ولعمری لقد أجاد في المقال وأحسن في ما قال فشمّر ذراعه وقال:

ص: 76


1- . في المخطوطة: «شيخ».
2- . في المخطوطة: «شيخ».

بسم الله الرحمن الرحیم

نحمده الذي دعانا إلی الخيرات وَکَفانا الشّرور والسَّيئات وهدانا إلی الفوز والنجاة حمداً يفي (1) مجهودُه إلی الاعتراف بالعجز وإن بلغ به اللسانُ بعضَ وسعه وطوقه وانتهی الخيال إلی أنَّك لا تَرْتَقي (2) له من فوقه. حمداً يواطيء في ذکره القول والخاطر (3) ولَمْ یزل يتقلّب في استيفائه (4) القلبُ والناظر حمداً يقضي حقَّ النعماء ويقتضي الزيادة في [الآلاء] (5) حمداً يشفع

ص: 77


1- . «بقي» وکذا يقرأ.
2- . «الخيالُ إلی آمالٍ لا تُرتَقیٰ» وکذا يقرأ. قلت: «وانتهی الجنان إلی أمد لا یرتقی له من فوقه».
3- . مكتوب فوقه: «الخواطر».
4- . في المخطوطة «استيفائها».
5- . کذا في الأصل بياض وأضفنا هذه الزيادة «الآلاء» کما يقتضيه السياقُ ولزومُ جادَّةِ السَّجْعِ.

الشکرَ بالثناء ويجمع بيننا وبين النُّعماء.

ونصلّي علی من انهلَّ منه أمطار الخيرات علی أرض البرکات وعلی آله الکرام أولي المساعي العاليات صلاة يتهلّل بها وجه الدين وينشرح منها صدر اليقين أبد الآبدين ودهر الداهرين. (1)

ص: 78


1- . وجدنا هذه الخطبة بخطّ المؤلّف العلّامة (رحمة الله) في آخر النسخة فجعلناها في محلّها ونشکُرُ المحقّقَ الجليل الحجّة الشيخ مجيد هادي زاده (دامت برکاته) حيث قرأها لنا من خطّ المؤلّف بجهودٍ مُضاعَفِةِ.

المطلب الثاني: في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه مسائل

اشارة

المطلب الثاني (1)

ص: 79


1- . الظاهر أنّ المؤلِّف لم يکتب البحث في الشبهة التحريميّة من مباحث البراءة، ولربّما کتب ذلك لکنه فُقد فيما بعد، وعلی کلّ حال فمن الشبهة الوجوبيّة يبدأ البحث الذي عثرنا عليه في «أصل البراءة» المرقومة بقلمه الشريف.

ص: 80

[المسألة] الأولی

اشارة

في ما اشتبه حكمه الشرعي الكلّي من جهة فقدان النصّ المعتبر كما إذا ورد خبر ضعيف أو أفتی جماعة بوجوب فعل.

وميزانه: استناد الشكّ إلی نفس عدم الدليل لا إلی سبب موجب له من إجمال نصّ أو تعارض في النصوص.

والمعروف من الأخباريين موافقة المجتهدين في الحكم بالبراءة وعدم وجوب الِاحتياط (1)، فعن المحدّث الحرّ العاملي (2) طاب ثراه التصريح بنفي الخلاف في نفي الوجوب عند الشكّ إلاّ إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة

ص: 81


1- . انظر: الفرائد (مع حواشي أوثق الوسائل): ج3/ ص229 و الفرائد، (للمجمع): ج2/ ص142.
2- . وهو معدودٌ من أجلّاء عُلَماء الأخباريّة.

معيّنة وحصل الشكّ بين الفردين كالقصر والإتمام والظهر والجمعة (1).

وقال المحدّث البحراني في كتابه المسمّی ب- «الدرر النجفيّة» بعد تقسيم البراءة الأصلية علی قسمين:

أحدهما إنّها عبارة عن نفي الوجوب في فعل وجودي إلی أن يثبت دليل، بمعنی أنّ الأصل عدم الوجوب حتّی يقوم عليه دليل (2).

وهذا القسم مما لا خلاف في صحّة الاستدلال به والعمل عليه؛ إذ لم يذهب (3) أحد إلی انّ الأصل الوجوب حتّی يثبت عدمه؛ لاستلزام ذلك تكليف ما لايطاق.

ثمّ ذكر القسم الثاني في الشبهة التحريمية وحرّر النزاع فيها وقال في موضع آخر: إنّه إن كان الحكم المشكوك دليله (4) هو الوجوب، فلا خلاف ولا إشكال في انتفاءه حتّی يظهر دليله؛ لاستلزام التكليف به بدون الدليل

ص: 82


1- . انظر: الفرائد (مع حواشي أوثق الوسائل): ج3/ ص229 و 230 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص142. أمّا إن شئت النظر إلی قول المحدّث الحرّ العاملي فراجع: الوسائل، ج18، ص119 و 120.
2- . انظر: الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص230 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص142 و 143.
3- . في النسخة «إذا لم يذهب» والأولی ما اثبتناه في المتن.
4- . قال المؤلف في الهامش بعد أن نقل عنه المطلق دليله: «کذا في النسخة والظاهر إنّه محرف المقلوب المطلوب دليله وحکی بعضهم عنه: المشکوك دليله». قال المحقّق: وهذا الأخير هو الصحيح فلذا جعلته في المتن.

الحرج وتكليف ما لايطاق (1).

إلی أن قال: وإن كان هو التحريم المستلزم نفيه للإباحة الذي هو محلّ الخلاف بين الأصحاب، والمعركة العظمی في هذا الباب (2)... إلی آخر ما ذكره.

وعنه أيضاً في مقدمات كتابه (3) ما يقرب من الكلام الأوّل.

وهذه العبارات ظاهرة الدلالة علی بناءه علی البراءة هنا، بل عدم مخالفة أحد من الأخباريين فيه؛ فما ربما يستظهر منه في بعض كلماته الأخر مما يخالف ذلك محمول علی خلاف ظاهره - لو سلّم ظهوره فيه - أو علی الغفلة عما أسّسه.

وأما احتمال عدوله بعد هذه الكلمات فبعيد وهو قوله (قدس سره) في موضع آخر من الكتاب المذكور - بعد أن ذكر رجحان الاحتياط - [قاطعا]: ومنه ما يكون واجباً ومنه ما يكون مستحبّاً (4).

فالأوّل: كما إذا تردّد المكلّف في الحكم [الوجوبي أو التحريمي] إما لتعارض أدلّته [بأن يدلّ أحدها علی الوجوب أو الحرمة والآخر علی

ص: 83


1- . انظر: «الدرر النجفية في الملتقطات اليوسفية»: ج1/ ص166، الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص230 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص143.
2- . انظر: الدرر النجفية: ج1/ ص166.
3- . انظر: الحدائق: ج1/ ص68.
4- . في هامش المخطوطة: استحباباً.

الاستحباب أو الکراهَةِ]، أو لتشابهها [=إجمالها] وعدم وضوح دلالتها، أو لعدم الدليل [وفقد النصّ المعتبر] بالكلية بناء علی نفي البراءة الأصلية (1) أو لحصول الشكّ في اندراج بعض الأفراد تحت بعض الكلّيات المعلومة الحكم ونحو ذلك (2).

والثاني: كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي احتمالاً مستنداً إلی بعض الأسباب المجوّزة كما إذا كان مقتضی الدليل إباحة شيء وحلّيته لكن يحتمل قريباً بسبب بعض الأسباب إنّه مما حرّمه الشارع وإن لم يعلم به المكلّف، ثمّ مثّل له بجملة من الموارد (3). ثمّ ذكر إنّه إذا لم يحصل له ما يوجب الشكّ والريب في ذلك فانّه يعمل علی ما ظهر له من الدليل وإن احتمل النقيض بحسب الواقع ولا يستحبّ

ص: 84


1- . فانّ منهم من يقول ببطلان استصحاب الجواز الواقعي العقلي الثابت قبل الشرع لإثبات الجواز الواقعي بعد الشرع، لانّ جميع الوقائع قد ورد فيه خطاب من الشرع، ومنهم من يقول بصحته؛ لانّ الأصل موافقة ما ورد في الشرع للبراءة الأصلية.
2- . انظر: الحدائق الناضرة: ج1/ ص68؛ الدرر النجفية: ج2/ ص117؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص230 و 231 وفرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص143.
3- . إليك نصّ الامثلة: ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك انها ارتضعت معك الرضاع المحرم إلّا انه لم يثبت ذلك شرعاً، ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه. انظر: الحدائق الناضرة: ج1/ ص68 و 69؛ الفرائد (للجمع): ج2/ ص144 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص230 و 231.

الاحتياط هنا، بل ربما كان مرجوحاً. (1)

ثمّ استدل عليه ببعض الوجوه.

ثمّ إنّه قسّمه مرة أخری إلی ما يكون الاحتياط بالفعل وإلی ما يكون بالترك متعلّقا بنفس الحكم الشرعي وإلی ما يكون متعلّقا بأفراد موضوعه وإلی ما يكون بالجمع بين أفراد المشكوك فيها إلی أن قال: فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلّق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل بأن تردّد بين احتمالي الوجوب والاستحباب (2).

إلی أن قال:

وفي هذا القسم أيضاً ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام التي لا تعمّ بها االبلوی عند من لم يعتمد علی البراءة الأصلية؛ فانّ الحكم فيه ما ذكر كما سلف بيانه في مسألة البراءة الأصلية» (3) انتهی موضع الحاجة.

وفي كلامه مواضع تدلّ علی خلاف ما ذكر، والعجب أنّه أحال الكلام إلی الدرة المذكورة، والمذكور فيها هو العبارتان المذكورتان أوّلاً، الناصَّتانِ علی إجراء الأصل هنا ونفي الخلاف عنه وما شابههما لجوابه عن

ص: 85


1- . انظر: الحدائق الناصرة: ج1/ ص69.
2- . انظر: نفس المصدر.
3- . انظر: نفس المصدر: ص70؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص 231 و 232 والفرائد (للجمع): ج2/ ص 143 و 144.

بعض أخبار البراءة بحمله علی الشبهة الوجوبية دون التحريمية، وحينئذ فإن أمكن حمل هذا الكلام علی ما يجتمع معه فهو، وإلاّ فالظاهر إنه ناشئ عن غفلته (قدس سره) عما أسّسه هناك، وربما يحتمل عكس ذلك بحمل الكلمات الأولی علی الأخير بأن يدّعي أنّ الأصل الأوّلي هو البراءة كما ذكر أوّلا، لكن أخبار الاحتياط والشكّ أوْجَبَتِ الِاحتياطَ فصار مشكوك الحكم، معلوم الوجوب بهذه الأخبار، وفيه ما لا يخفی!

ويمكن أن يقال: إنّ الكلام في البراءة والاحتياط يقع:

أوّلاً: مع قطع النظر عن الشرع بمعنی البحث عن الحكم بما هو مشكوك فيه.

وثانياً: بملاحظة الشرع وإكمال الدين وعدم خلوّ الواقعة عن الأحكام وأمثال ذلك.

وثالثاً: إنّه هل ورد من الشارع رخصة في ترك الاحتياط في شيءٍ من الموارد أو لا؟ فلعلّهم يوافقون المجتهدين في أنّ الحكم هو البراءة من الجهة الأولی ويدّعون انقلابَ الأصل إلی الاحتياط الكلي من الجهة الثانية خلافا للمجتهدين، وحينئذ يتّجه الكلام في ورود الرخصة في الشبهة الوجوبية المستندة إلی فقدان النصّ لقوله (علیه السلام): «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (1) فلعلّ كلام المحدّث المذكور في ما نقلناه أخيراً في الجهة

ص: 86


1- . انظر: الكافي: ج1/ ص164؛ التوحيد (للصدوق): ص401/ ح9؛ ووسائل الشيعة: ج18/ ص119/ ح28.

الثانية، والكلمات المذكورة في درة البراءة ناظرة إلی الجهة الثالثة أيضاً.

وهذا الوجه وإن ذكره بعض مشايخنا (دام ظله) ظاهرا لكنّه لايلائم بعض كلماته كما لا يخفی علی من راجعها.

نعم، هو قريب الانطباق علی كلام المحدّث الاسترآبادي حسب ما نسب إليه في «الفوائد المدنية» - [حيث] إنّه بعد ما شدّد النکير علی المتمسکين بالبراءة الأصلية وإنّه إنّما يجوز قبل إكمال الدين، وأمّا بعده وبعد تواتر الأخبار بعدم خلوّ الواقعة عن الحكم، فلا يجوز قطعاً والاستشهاد عليه بتواتر الأخبار بوجوب التوقّف في ما لم يعلم حكمه وإنّه إنّما يجوز عند الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح (1) أو عند من ينكر كَوْنَهُما ذاتيين وأمثال تلك المقالات - قال:

ص: 87


1- . قال الشيخ مصطفی الاعتمادي (ت 1437ﻫ) في شرحه علی الفرائد: ج3/ ص124: مذهب الأشاعرة هو إنّ العقل لا يحکم بحسن الفعل المشتمل علی المصلحة ولا بقبح الفعل المشتمل علی المفسدة، بل الحسن والقبيح عنده هو ما حسّنه أو قبّحه الشرع وحينئذ يمکن التمسّك بالبراءة الأصلية؛ لأنّ العقل إذا لم يحتمل قبحاً في شرب التتن مثلاً فيحصل الظنّ بانتفاء حرمته واقعا لانتفائها سابقاً. ومذهب المعتزلة هو إنّ العقل يُحَسّن الفعل ذا المصلحة ويُقَبِّحُ الفعل ذا المفسدة وحينئذ لا يَصِحُّ التمسّكُ بالبراءة الأصلية؛ لانّ العقل إذا احتمل قبح شرب التتن المستلزم لحرمته شرعاً فکيف يظنّ بانتفاء حَرَّمَتْهُ واقعاً؟!

«ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين - يعني محتمل الوجوب ومحتمل الحرمة - لعلمنا بأن أكمل لنا ديننا وعلمنا بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها [الأمة] ورد فيها خطاب قطعي من الله تعالی خالٍ عن المعارض، وبانّ كلّ ما جاء به نبينا (صلی الله علیه و آله و سلم) مخزون عند العترة الطاهرة: ولم يرخّصوا لنا في التمسّك بالبراءة الأصلية، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم يعلم حكمه وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين وسنحقّقه (1) إن شاء الله تعالی» (2).

وحکي (3) عنه إنّه ذكر هناك ما حاصله: وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالی الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب، ولو كان ظاهراً في الندب بنی علی جواز الترك، وكذا لو ورد رواية ضعيفة بوجوب شيءٍ وتمسّك في ذلك بحديث «ما حجب الله تعالی علمه عن العباد» وحديث رفع التسعة، وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجودي لم يقطع بجوازه بحديث التثليث (4) انتهی.

والعجب من العلّامة الأنصاري طاب ثراه أنّه استظهر من الكلمات

ص: 88


1- . انظر: الفوائد المَدَنِيّة: ص280.
2- . انظر: الفوائد المَدَنِيّة: ص280.
3- . الحاکي هو الشيخ الأعظم الأنصاري انظر: الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص232 و 233 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص147-144.
4- . انظر: الفوائد المدنية: ص332 و 334.

المذكورة وجوب الاحتياط (1) في ما نحن فيه، والحال أنّ حكمه بعدم وجوب الاحتياط في مورد الرواية الضعيفة نصّ في موافقة المجتهدين في ما لا نصّ فيه الّذي هو مفروض البحث في المقام، مع أنّ عدم وجوبه فيه دالّ علی عدمه في ما لم يرد فيه الرواية رأساً بطريق أولی، فكيف يستظهر منه المخالفة هنا؟!

نعم، يستظهر منه المخالفة من حيث القاعدة مع قطع النظر عن الترخيص، فلم يبق في ذلك إلّا بعض ظواهر كلمات المحدّث البحراني ولا يعبأ به بعد تلك التصريحات منه علی ما سبق.

وما نسب إلی غير واحد من العلماء من نسبة الخلاف إلی جماعة وهو أيضاً لا يعلم كونهم من أصحابنا أو من المخالفين، وما يظهر من جماعة من التمسّك به أحياناً مع مخالفتهم له في كثير من المسائل كما نسب إليهم.

فالظاهر إنّه ليس في المسألة خلافٌ يعتدّ بشأنه وتفصيل الأدلّة موكول إلی الشبهة التحريمية لو احتجنا هنا في الحكم بالبراءة إلی تفصيل الأدلّة، وإلّا فالظاهر تحقّق الإجماع هنا لشذوذ المخالف لو كان كما مرّ بضميمة ما قرّر في إثبات الإجماع هناك.

ص: 89


1- . حيث قال: وممن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا، المحدّث الأسترآبادي حيث حکي عنه في الفوائد المدنية أنّه قال:... انظر: فرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص144 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص232.

وينبغي التنبيه علی أمور

أحدها

إنّه لا ريب في رجحان الاحتياط بفعل ما يحتمل وجوبه عقلاً ونقلاً، للأخبار المستفيضة الظاهرة في رجحانه، والظاهر شموله لصورة قيام احتمال الكراهة أيضاً من حيث العقل والنقل؛ وفي ترتّب الثواب عليه إذا أتي به لأجل رجحانه واتّفق عدم مطلوبية الفعل واقعاً وجهان.

استظهر بعض الأساطين الأول لأنّه انقياد وإطاعة حكمية (1).

وربما يستشكل فيه بالمنع من ترتّب الثواب علی الانقياد وإنما اللازم فيه كون الفاعل ممدوحاً، لا الثواب الذي هو عبارة عن جزاء العمل.

وربما يبنی المسألة علی مَسْأَلَةِ التجرّي بدعوی اتِّحادِ المناط فيهما؛ فإنّ اسْتِحْقاق العقاب علی مخالفة ما اعتقد لزومه أو احتمله في مورد الاحتياط

ص: 90


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص150 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص251-238.

اللازم عند عدم المصادفة كاستحقاق الثواب علی فعل ما اعتقد لزومه أو احتمل عند المخالفة والمناط فيهما واحد.

وربّما يدّعی أولوية الحكم بالعقاب هناك وهو غير ظاهر.

وربّما يستدلّ علی المقام بقوله (علیه السلام) في المرسل «دع ما يريبك إلی ما لا يريبك فانّك لن تجد فقد شيء تركته لله (عزوجلّ) » (1).

وهل یجري الِاحْتِیاطُ في العبادات عند دوران الأمر بین الوجوب وغیر الاستحباب بأن یحتمل منها عدم المطلوبیّة، سواء احتمل الندب أیضاً، أو لا یجري فیها؟ وجهان (2)، بل قولان ومنشأ الوجهین شمول أدلة الاحتیاط للصورة المفروضة.

أما العقل، فوجه الإشكال في جریانه هنا أحد أمرین:

أحدهما: إنّ العقل إنّما یحكم بالاحتیاط إذا لم یقم (3) هناك إحتمال الحرمة، وأمّا معه فلا، واحتمال الحرمة في المقام من جهة التشریع قائم، كما نسب إلی الحِلّي وحكي عن بعض الأفاضل تبعاً لشیخه البهائي طاب ثراهما

ص: 91


1- . انظر: السنن الكبری: ج5/ ص335؛ عوالي اللآلي: ج1/ ص394/ ح 40 و 41، و ج3/ ص330؛ تفسير جوامع الجامع: ج1/، ص63؛ والوسائل: ج18/ ص122/ ح38.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص 150 و 151 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص251.
3- . في المخطوطة: «لم يكن» وتحته «يقم» ولكن «لم يقم» صحيح.

ظاهراً. (1)

وبیان ذلك إنّ التشریع عبارة عن إدخال ما لم یعلم دخوله في الشرع في الدین والإتیان بما یحتمل الوجوب بعنوان العبادة إدخال له في الدین، فلا یجوز إلّا أن یثبت من الخارج رجحان ذلك شرعاً في مرحلة الظاهر، فیخرج من موضوع التشریع لمكان الأمر الظاهري، ولا یكفي في ذلك رجحان الاحتیاط؛ لتوقّف تحقّق موضوعه علی الوجه المعتبر في الحكم علی انتفاء احتمال الحرمة، فلو توقّف نفيها علی الحكم بالرجحان المتوقّف علی تحقّق الموضوع كان دوراً، مضافاً إلی أنّ حسن الاحتیاط إرشاديّ صرف (2) لا یستتبع أمراً شرعیّا كما صرّح به بعض الأساطین (3)، فلا یكفي في دفع موضوع التشریع.

والجواب عنه: إنّ موضوع التشریع وموضوع الاحتیاط متبائنان عند

ص: 92


1- . انظر: شرح اصول الکافي المازندراني: ج8/ 276؛ مفاتيح الأصول: ص346 (نقلاً عن الفاضل البهائي)؛ وهداية المسترشدين: ج3/ ص480.
2- . قال الشيخ الأنصاري: ودعوی أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الِاتْيان ثبت بحکم الملازمة الأمر به شرعا مدفوعة... من أنّ الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد کأمره بالانقياد الحقيقي والإطاعة الواقعية في معلوم التکليف إرشادي محض... انظر: فرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص151.
3- . انظر: رسائل فقهية، للشيخ الأنصاري (رحمة الله): ص140 و 141؛ والنور الساطع في الفقه النافع، للشيخ علي کاشف الغطاء: ج1/ ص54.

التحلیل، فَإنَّ الأوّل كما عرفت عبارة عن إدخال أمر غیر معلوم الدخول في الشرع فیه علی أنّه منه، والثاني عبارة عن إتیان ما لم یعلم دخوله فيه برجاء دخوله فیه، فإن ادّعی أنّ هذا القدر غير كافٍ في صحّة العبادة ما لم یأت بها بعنوان كونها مأموراً بها - كما ربما یستظهر ذلك من كلام غیر واحدٍ من المحققین - رجع إلی الوجه الآتي وإلّا فدعوی صدق التشریع بإتیان الفعل علی الوجه المذكور ممنوع جدّاً هذا.

واعلم إنّ بعض مشایخنا (دام ظله) وجّه الدعوی المذكورة بتوجیه آخر وبیانه بعد التتبّع والتوضیح: إنّ مبنی التشریع علی الافتراء الّذي هو عبارة عن نسبة أمر غیر معلوم الانتساب إلی الشارع، وهذه النسبة قد تكون صریحة بأن یخبر بها صریحاً وقد تكون ضمنیة بأن یعمل عملاً یدلّ علیها، نظیر دلالة الصّلاةِ خلف إمام [بناء] علی كونه عادلاً الّتي هي بمنزلة إخبار المصلّي بعدالته، فالإتیان بالعمل غیر المشروع أو غیر المعلوم الشرعیة علی أنّه مشروع، بمنزلة الإخبار بكونه أمراً ثابتاً في الشریعة في دلالته علیه، فملاك الأمر في التشریع هو تحقّق الدلالة المفروضة، وحینئذ فیتوجّه أن یقال: إنّه كما لا عبرة في تحقّق التشریع القولي بین كونه بانیاً ملتزما بالشرعیة وبین كونه متردداً، كذا یتحقّق التشریع الضمني بنفس الإتیان بالفعل علی وجه العبادة من غیر فرق بین ابتناءه علی الالتزام بالمشروعیة أو علی احتمال المشروعیة لتحقّق الدلالة بحسب ظاهر الفعل بنسبته إلی الشارع.

وجوابه إنّ المدار في دلالة اللفظ علی المعنی علی الأوضاع اللغویة وما

ص: 93

شابهها، فیتحقّق النسبة بمجرد إظهارها من دون حاجة إلی انضمام حال المتكلم به، بخلاف الأفعال فانّها لا كشف فیها من حیث هي أصلاً وإنّما ینكشف بها بعض الأمور بضمیمة غیرها إلیه كما في مسألة التأسّي، ولذا یقال: إنّ الفعل مجمل دون اللفظ؛ لأنّ الثاني كاشف بنفسه بخلاف الأوّل، فیتّبع مدلول الأوّل علی حسب دلالته علیه دون الثاني، فالإتیان بالفعل علی وجه العبادة لدورانه بین الوجهین المفروضین لا دلالة فیه علی نسبة الحكم إلی الشارع لو لم یدلّ علی نفي نسبته إلیه.

مع أنّه لو سلّم تحقّق ظهور للفعل فیه، كان اعتباره موقوفاً علی قیام دلیل علی حجّیة ظواهر الأفعال كظواهر الألفاظ، فإنّ الأمارة لو لم تكن معتبرة كانت وجودها كعدمها فلا یتحقّق الدلالة المعتبرة.

هذا كلّه بعد تسلیم المبنی؛ فانّه بعدُ غیر ظاهر وإن جزم به شیخنا (دام ظله) في ظاهر كلامه.

وثانیهما: إنّ العبادة لابدّ فیها من نیّة القربة المتوقّفة علی العلم بأمر الشارع تفصیلاً أو إجمالاً، كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة فیكون النیّة فیها باعتبار الواجب المشتبه بینها بأن یتقرّب به ویأتي بالجمیع لاشتماله علیه علی التفصیل المقرّر في محلّه.

ودعوی: ثبوت الأمر بالعبادة المفروضة بحكم العقل برجحان الاحتیاط بضمیمة قاعدة الملازمة فیثبت فیه الرجحان الظاهري وهو كافٍ في تصحیح قصد التقرّب به كما یظهر من غیر واحد من المحققین في المسألة

ص: 94

أو ماشابهها.

مدفوعة - بعد تسلیم حكم العقل بعد الملاحظة المذكورة - بأنّ حكم العقل في ذلك إرشاديُّ صِرْفٌ كحكمه بوجوب الأطاعة الواقعیة؛ فانّ موضوع الإطاعة وكیفیتها وما یتعلّق بها متأخّر عن الأحكام الشرعیة مرتبة، بل هي كلّها عقلیة صرفة لا تجري في شيءٍ منها قاعدة الملازمة؛ لعدم قابلیة المورد للحكم الشرعي علی ما حقّقه بعض الأساطین (1) وتحقیقه موكول إلی محلّه.

ویمكن الجواب عنه: بالمنع من اعتبار الجزم بالرجحان في نیّة العبادة لقربة، بل یكفي في ذلك كون الداعي إلی الفعل رجاء كونه مطلوباً، أو تركه مبغوضا خصوصاً بعد تحقّق الفحص عن كونه مطلوباً وحصول الیأس عنه كما هو المفروض في المقام ولم یثبت من أدلّة اعتبار قصد القربة أزید من ذلك لصدق الإطاعة حینئذٍ عرفاً وكونه عند العقلاء مطیعاً لو انكشف كونه في الواقع مأموراً به، بل هو ممدوح عندهم قبل انكشافه أیضاً من جهة تحقّق الانقیاد منه، بل الظاهر أنّه عند عدم التمكّن من تحصیل العلم بالواقع كما هو عمدة محل البحث في المقام وإن عمّ البحث، أمّا بعد الفحص المعتبر وقبل حصول الجزم بعد التمكن من الدلیل ممّا لا ینبغي الإشكال فیه فَإنَّ

ص: 95


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص151 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص251.

الإتیان بالفعل علی الوجه المذكور غایة ما یتمكّن منه العبد في مقام الإطاعة، ولو سلّمنا قصور الدلیل علی إثبات الاكتفاء بهذا المقدار وفرضنا كون المسألة مورداً لأصالة الاشتغال وأنّه لا یجري، لا یكفي الأصل في دفع الزائد علیه، فلا أقلّ مِنْ قِیامِ احْتِمالِ الِاكْتِفاءِ بهذا المقدار من الداعي في العبادة ولو في خصوص صورة عدم التمكّن من الوصول إلی الواقع، فمقتضی الاحتیاط الإتیان به؛ لأنّ العقل علی الوجه المذكور یحتمل وجوبه في الواقع، فمقتضی الاحتیاط الإتیان به لعدم التمكّن ممّا یزید علیه حین الجهل.

وتوهّم احتمال التشریع مدفوع بما عرفت سابقاً، كما یشهد به استقلال العقل بحسن الفعل علی الوجه المذكور مع استقلاله بقبح التشریع كما ذكروه، بل لعلّه عمدة المنشأ في إثبات حرمته.

وربما یقرّر الوجه الأخیر بنحو آخر وهو: إنّ [حُکْمَ] العبادة المفروضة دائرة بین وجوه ثلاثة: إمّا أن لا یكون راجحاً أصلاً، أو یكون راجحاً مشروطاً بقصد القربة الجزمیة أو راجحاً بشرط القربة في الجملة، والثاني راجع إلی الأوّل بعد فرض عدم التمكّن من الفعل علی الوجه المذكور مع الجهل ومن تحصیل العلم بالواقع فیسقط التكلیف حینئذ في حقّه لاشتراطه بالقدرة المنتفیة، فیدور أمره بین الأوّل والأخیر، ومقتضی الاحتیاط العمل علی الوجه الأخیر قطعاً، فیكون الاحتیاط المفروض من المكلّف محرزاً للواقع في حقّه علی سبیل الجزم ولا حاجة إلی جعل الاحتیاط

ص: 96

حینئذٍ نسبیاً وإن كان الظاهر عدم الفرق في حكم العقل بين الاحتیاط المحصّل للقطع بالبراءة وبین الاحتیاط الذي یكون إحتمال البراءة معه أقوی عند عدم التمكّن بما یزید علیه فتدبّر.

وأمّا الادلّة الشرعیة الدالّة علی رجحان الاحتیاط، فربما یستشكل في جریانها في المقام:

أولاً بأنّها أوامر إرشادية لا تدلّ علی كون الفعل راجحاً شرعاً، كما حقّقه بعض الأساطین ومرّت الإشارة إلیه.

وثانیاً بأنّ موضوع الاحتیاط الذي یتوقّف علیه هذه الأوامر لا یتحقّق الا بعد إتیان محتمل العبادة علی وجه یجتمع فیه جمیع ما یعتبر في العبادة حتی نیّة التقرب وإلّا لم یكن احتیاطاً، فلا یجوز أن تَكُوْنَ تلك الأوامر منشأ للقربة المنویّة فیها.

ویمكن الجواب عن الأوّل بعد تسلیم المساعدة علی ذلك وعدم حملها علی الاستحباب الشرعي ولو كان في موردهما حكم إرشادي عقلي أنّ المقصود في المقام إثبات رجحان الاحتیاط في العبادة علی نحو رجحانه في غیرها لا أزید من ذلك، فإذا فرض كون رجحانه في سایر الموارد ظاهریّاً عقلیّاً وإرشادیّاً محضاً كان هذا المقدار هنا كافیاً في المُدَّعیٰ، فان كان الخصوصیة من جهة أنّه لا یحصل نیّة القربة منها فلا یكون احتیاطاً، [وي-]رجع إلی الوجه الثاني.

و [يمکن الجواب] عن الثاني بما مرّ في الدلیل العقلي من منع التوقّف

ص: 97

علی الجزم وحصول الاكتفاء مع عدمه أوّلاً وكفایة احتمال الكفایة ولو اقتضی الأصل خلافه في كون الإتیان به علی الوجه المفروض احتیاطاً نسبیاً أو حقیقیاً ثانیاً كما سبق بیانه.

وذكر بعض الأساطین (1) بعد فرض عدم كفایة احتمال المطلوبیة في صحّة العبادة في ما لا یعلم مطلوبیتها - ولو إجمالاً (2) - في دفع الوجه الثاني بعد النقض بورود هذا الإیراد في الأوامر الواقعیة بالعباده مثل قوله [تعالی] ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (3) (4) وحیث أنّ قصد القربة ممّا یعتبر في موضوع العبادة شطراً أو شرطاً والمفروض ثبوت مشروعیتها بهذا الأمر الوارد فیها إنّ المراد في الاحتیاط في هذه الأوامر هو مجرّد الفعل المطابق للعبادة من جمیع الجهات عدا نیّة القربة، فمعنی الاحتیاط بالصّلاة الإتیان بجمیع ما یعتبر فیها عدا قصد القربة، فأوامر الاحتیاط یتعلّق بهذا الفعل وحینئذ فیقصد المكلف فیه التقرّب بإطاعة هذا الأمر.

ومن هنا یتّجه الفتوی باستحباب هذا الفعل وإن لم یعلم كونه من حیث احتمال العبادیة فیه ولم یأت به بداعي احتمال المطلوبیة ولو كان المراد

ص: 98


1- . هو الشيخ الأنصاري.
2- . انظر: الفرائد (للجمع): ج2/ ص152.
3- . سورة البقرة، الآيات 43 و 83 و 110.
4- . في المخطوطة هکذا: بپا داريد نماز را و بدهيد زکات را، بدل ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ولكن جعلنا نصّ الآية مكانه.

منها هو الاحتیاط الحقیقي وهو إتیان الفعل بداعي احتمال المطلوبیة لم یجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلّا مع التعبّد (1) بإتیانه بداعي الاحتمال حتّی یصدق علیه عنوان الاحتیاط مع استقرار سیرة أهل الفتوی علی خلافه نعلم أنّ المقصود إتیان الفعل بجمیع ما یعتبر فیه عدا نیّة القربة. (2)

ویمكن الاعتراض علیه بعد تسلیم ما ذكره في الأوامر الأولیة بأنّ إلغاء شرط النیّة وإخراج لفظ الاحتیاط عن معناه الأصلي بحمله علی الفعل الّذي من شأنه تحقّق الاحتیاط به بأن یكون علی وجه لو نوی به القربة كان احتیاطاً، بل مقتضی القواعد اللفظیة إبقاء اللفظ علی معناه الظاهر منه.

غایة الأمر إنّه یلزم منه تخصیصه بغیر العبادة لخروجها عنه موضوعاً ولا غائلة فیه ولا یلزم منه ارتكاب خلاف ظاهر في اللفظ أصلاً، لأنّ التخصیص لیس مجازاً لغویّاً، بل ولا أصولیّاً ظاهراً، فلابدّ في إثبات الأمر من إحراز الموضوع وهو كونه احتیاطا، ثمّ الحكم علیه بالرجحان.

نعم لو اختصّ مورد الأمر بالعبادة اتّجه حمل الكلام علی الوجه الّذي ذكره حذراً من بقاء الأمر بلا مورد وإن أمكن، ومع المحذور بغیره أیضاً كان جعله علی الوجه المذكور أقربَ من غیره ظاهراً، ومن هنا یظهر إشكال

ص: 99


1- . أو «التقييد»، كذا في الفرائد.
2- . انظر: فرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص152 و 153.

في النقض بالعبادات أیضاً، فتدبّر جیداً.

ثمّ إنّ هذا كلّه إذا لم یكن منشأ الاحتمال (1) خبراً ضعیفاً، وإلّا فلا حاجة إلی شيء ممّا ذكر لإثبات الاستحباب بناء علی قاعدة التسامح في أدلّة السنن، ولا بأس بشرح حال القاعدة المذكورة هنا في الجملة تبعاً لبعض الأساطین (2)، فانّها من القواعد المهمّة النافعة في كثیر من المسائل الفقهیة،

فنقول: - وبالله التوفیق - إنّه اختلف علماؤنا رضوان الله علیهم في جواز الاكتفاء بالخبر الضعیف مع عدم انجباره بما یفید حجّیته في السنن والآداب، فالمعروف بین المتأخّرین جواز التسامح في أدلّتها والاكْتِفاء بذلك (3)، بل نسب إلی بعضهم الاكتفاء بفتوی الفقیه (4) أیضاً.

وربّما یستشكل [و] یستظهر من بعضهم الاكتفاء بالقیاس وشبهه (5)، بل ربما یسري الحكم إلی مطلق الاحتمال في بعض الموارد وخالف في ذلك

ص: 100


1- . أي احتمال الوجوب.
2- . هو الشيخ الأنصاري. انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص153.
3- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص464.
4- . انظر: المعتبر في شرح المختصر: ج2/ ص116؛ الفصول الغروية: ص306؛ خلاصة الفصول: ج2/ ص17 وبحرالفوائد في شرح الفرائد: ج4/ ص143، ج5/ ص42 وج2/ ص70.
5- . انظر: المدارك: ج3/ ص238 والفصول الغروية: ص306.

جماعة كالمحدّث البحراني (1) والفاضل الجزائري (2) ونسب إلی السيّد في المدارك (3) أیضاً، فقالوا بعدم الفرق بین الأحكام وإنّه لابدّ في جمیعها من قیام الحجّة المعتبرة علی ثبوتها (4).

ویمكن الاحتجاج للقاعدة المذكورة بوجوه
أحدها

الإجماع والاتفاق المنقولان في ظاهر كلام جماعة، فعن «عدّة الداعي» بعد ذكر عدّة من أخبار الباب: فصار هذا المعنی مجمعا علیه بین الفریقین (5)؛ وعن شیخنا البهائي طاب ثراه أنّه قال بعد الإشارة إلی بعض أخبار الباب: هذا هو سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن (6).

وعنه أیضاً إنّه قال في موضع آخر: قد شاع العمل بالضعاف في أدلة

ص: 101


1- . انظر: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: ج4/ ص198 و ج7/ ص392.
2- . حکاه عنه في هداية المسترشدين: ج3/ ص464.
3- . انظر: مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: ج1/ ص13.
4- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص464.
5- . انظر: عدة الداعي: ص13؛ أنيس المجتهدين: ج1/ ص261؛ مفاتيح الأصول: ص346؛ هداية المسترشدين: ج3/ ص466 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص262.
6- . انظر: الأربعون: ص182 وهداية المسترشدين: ج3/ ص466 نقلاً عن الأربعين ومفاتيح الأصول: ص346.

السنن وإن اشتدّ ضعفها ولم ینجبر. ثمّ قال: وأمّا نحن معاشر الخاصّة، فالعمل عندنا لیس بها في الحقیقة، بل بحسنه مع «من سمع» (1) إلی آخر الحدیث، وهي ممّا تفرّدنا بروایته (2).

وعن الشیخ الحرّ بعد ذكر جملة من الأخبار، هذه الأحادیث سبب تسامح الأصحاب وغیرهم في الاستدلال علی الاستحباب والكراهة بعد ثبوت أصل المشروعیة (3).

وعن الشهید (رحمة الله) قال: جوّز الاكثر العمل بالخبر الضعیف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال لا في نحو صفات الله تعالی وأحكام الحلال والحرام وهو حسن حیث لا یبلغ الضعیف حدّ الوضع والاختلاف لما اشتهر بین العلماء المحقّقین من التساهل في أدلة السنن ولیس في المواعظ والقصص غیر محض الخبر (4) انتهی.

ص: 102


1- . الوجيزة في علم الدراية، للشيخ البهائي، المطبوعة ضمن رسائل في دراية الحديث: ج1/ ص541؛ انظر: الحبل المتين: ص5، الطبعة الحجرية؛ الأربعون: ص182 وهداية المسترشدين: ج3/ ص466 نقلاً عنه.
2- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص466.
3- . الفصول المهمّة في أصول الأئمة، للشيخ الحرّ العاملي: ج1/ ص617؛ نقلا عنه في هداية المسترشدين: ج3/ ص466 و 467 ومفاتيح الأٌصول: ص346.
4- . انظر: الرعاية في علم الدراية (منشورات مكتبة آيةالله المرعشي): ص29؛ الدراية (مطبعة النعمان): ص60؛ هداية المسترشدين: ج3/ ص467؛ مفاتيح الأصول: ص346.

ومنهم المحقّق الخوانساري (1) والظاهر إنّ مراد الشهیدين من التسامح في أحادیث الفضائل والقصص والمواعظ هو استحباب نقل الخبر الضعیف المشتمل علیها، لٰكِنْ في تسمیته عملاً بالحدیث كما في عبارة الشهید الثاني (رحمة الله علیه) تسامح، لكن لا مسرح منه ظاهراً لعدم إمكان حمله علی نسبة مدلول الكلام إلی المعصوم (علیه السلام) علی وجه لا یظهر منه الجزم لدخوله تحت القول بما لا یعلم خصوصاً بالنسبة إلیه (علیه السلام) ولا علی نسبته إلیه احتمالاً أو معلّقا علی الروایة، لأنّه من الظهور بمكان لا یحتاج إلی البیان ولا دخل له بالتسامح في السنن ولیس لها تَعَلُّقٌ بعمل المكلّف حتّی یكون المراد العمل علی حسبه.

وبالجملة، فالإجماع والاتّفاق المنقولان المعتضدان بالشهرة المطلقة المحكیّة مع ظهور شهرة المتأخرین وندرة المخالف الظاهر، كاف في الاستدلال خصوصاً مع أنّه ربما یستظهر من طریقة القدماء أیضاً ذلك حیث یكتفون في الدعوات الواردة والزیارات والصلوات المندوبة وغیرها من المستحبات ممادلّ علیها من الروایات مع أنّ الغالب ضعف الأخبار الواردة في تلك المقامات.

وفي هذا الاستظهار نظر؛ لأنّ محلّ الكلام هو الحكم بالاستحباب

ص: 103


1- . انظر: مشارق الشموس: ص34؛ مفاتيح الأصول: ص346 وهداية المسترشدين: ج3/ ص467.

شرعاً وإثبات رجحان الإتیان بالفعل بعنوان كونه مطلوباً ولو ظاهراً، وهو غیر حسن الإتیان ببعض المستحبّات لاحتمال الخصوصیة فیه؛ فانّه لا إشكال في حسن الإتیان ببعض المستحبّات رجاء لتأكّد رجحانه أو زیادة في ثوابه عند قیام الاحتمال، سواء اسْتَنَدَ إلی الخبر الضعیف أو لا، ولم یثبت منهم أزید ممّا ذكر في الأمثلة المذكورة.

ومنه ینقدح الإشكال في جملة من العبارات المنقولة وفي بعض آخر بما سنذكره في الدلیل الثاني من أعمّیة ترتّب الثواب من الاستحباب الشرعي وشبهه، بل ربّما یوهن بذلك دعوی الإجماع مطلقاً لقوّة احتمال استناد الناقل إلی العمل المذكور؛ لوقوع الخلط بین الأمرین بضمیمة استبعاد تصریحهم بالمدعی مع عدم نقله منهم ولا معهودیته منهم.

مع أنّه ربّما یستظهر من عبارة الصدوق ذهابه إلی المنع من ذلك كشیخه ابن الولید قال - في ما حكي عنه في كتاب الصوم من «الفقیه»-: وأمّا خَبَرُ صَلاةِ غدیرخُمّ والثواب المذكور لمن صامه، [فَقَدْ] قال شیخنا محمّد بن الحسن بن الولید لا یصحّحه ویقول إنّه من طریق محمّد بن موسی الهمداني وكان غَیْرَ ثَقِةٍ؛ وكلّ ما لم یصحّحه (1) ذلك الشیخ ولم یحكم بصحّته من الأخبار فهو عندنا متروك غیرُ صَحیحٍ (2) انتهی. هذا كلّه مع ما في أصل

ص: 104


1- . انظر: إيضاح الفرائد: ج2/ ص158 والفصول الغروية: ص305.
2- . انظر: کتاب من لا يحضره الفقيه: ج2/ ص90/ ح1819.

التمسّك، فالإجماعُ المنقولُ من الإشكالِ المذكورِ في محله.

وثانیها

الأخبار المستفیضة:

منها صحیحةُ هِشامِ بْنِ سالِمِ المَحْكِیَّةُ عن المحاسن عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: من بلغه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) شيء من الثوابِ علی عمل، فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لم یقله (1).

ومنها روایة محمّد بن مروان عنه (علیه السلام) قال: من بلغه عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) شيء من الثواب ففعل [ذلك طلب قول النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) کان له ذلك وإن کان النبيّ لم يقله]. (2)

[ومنها] صحیحة هشام بن سالم عنه (علیه السلام) المحكیة عن الكافي قال: من سمع شیئاً من الثواب علی شيءٍ، فصنعه كان له وإن لم یكن علی ما بلغه. (3)

وعن ابن طاوس (رحمة الله علیه) في الإقبال أنّه رواه عن كتاب هشام المذكور الّذي هو من جملة الأصول عنه (علیه السلام).

ومنها: ما حكي عن السیّد في الكتاب المذكور عنه (علیه السلام) قال: من بلغه شيء من الثواب علی شيءٍ من الخیر فعمل به، كان له ذلك وإن كان رسول

ص: 105


1- . انظر: المحاسن (تحقيق الارموي 1371): ص25.
2- . انظر: المحاسن: ج1/ ص93/ ح2 والوسائل: ج1/ ص81/ ح3، من طبعة آل البيت.
3- . انظر: الكافي (طبعة الإسلامية): ج2/ ص87 والكافي (طبعة دارالحديث): ج3/ ص225.

الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لم یقله (1).

ومنها: ما رواه الكلیني عن محمّد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) یقول: من بلغه ثواب من الله علی عمل، فعمل ذلك العمل بالتماس ذلك الثواب أوتیه وإن لم یكن [الحدیث کما بلغه]. (2)

ومنها: ما عن عدّة الداعي أنّه قال فیه: روی الصدوق عن محمّد بن یعقوب بطرقه إلی الأئمة علیهم السلام: من بلغه شيء من الخیر، فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم یكن الأمر كما نقل إلیه. (3)

ومنها: ما رواه عبدالرحمن [الحلواني] بن [أبي الفتح] من طريق العامّة إلی جابر بن عبدالله [الأنصاري] قال، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من بلغه من الله فضيلة، فأخذ بها وعمل بها إيماناً بالله ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك. (4)

ص: 106


1- . انظر: الإقبال بالأعمال الحسنة في ما يعمل في السنة (الطبعة الجديدة): ج3/ ص170 والطبعة القديمة: ج2/ ص627، ونقل عنه في وسائل الشيعة: ج1/ ص82/ ح9.
2- . انظر: الوسائل: ج1/ ص82/ ح7.
3- . انظر: عدّة الداعي: ص12؛ الکافي: ج2/ ص87/ ح1 والوسائل: ج1/ ص82/ ح8.
4- . انظر: الوافي بالوفيات: ج17/ ص250، بالرقم 299؛ موسوعة طبقات الفقهاء (للشيخ جعفر السبحاني): ج6/ ص144، بالرقم 2188؛ وأيضاً جامع أحاديث الشيعة: ج1/ ص341 و 342/ ح653؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص154؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق)، ج3، ص265 و 266 ومفاتيح الأصول، ص348. لكن هذه المرفوعة في هامش المخطوطة كذا: ومنها ما رواه عبدالرحمن بن... من طريق العامّة إلی جابر بن عبدالله قال قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من بلغه... فعمل بها عمل لها... ورجاء ثوابه... وإن لم يكن.

وهذه جملة ما وصلنا إلیه من الأخبار، وقد ذكر في الوسائل (1) روایات أخر أيضاً في «باب استحباب الإتیان بكلّ عمل مشروع روي له ثواب منهم:» فیها دلالة علی المطلب، فلعلّ مدّعاه أعمّ ممّا نحن بصدده.

وعن «البحار» بعد نقل صحیحة هِشامٍ المَرْوِیَّةِ في «المحاسن»: «هذا الخبر من المشهورات رواه الخاصّة والعامّة بأسانید» (2).

وذكر بعضهم أنّ الأخبار الواردة في هذا الباب اثنا عشر خبراً (3)، وعن بعضهم أنّه لا یبعد عدّها من المتواترات (4) وإن كان فیه تأمّل ظاهر!

وهذه الأخبار مع استفاضتها وصحّة طریق جملة منها - كما صرّح به غیر واحد منهم واشتهارها بین المتأخّرین عملاً واعتضادها بما مرّ في الوجه الأوّل - ممّا لا ینبغي الإشكال في اعتبارها في المقام وإن سلّم كون المسألة

ص: 107


1- . انظر: الوسائل (مكتبة الإسلامية): ج1/ ص 61-59 و ج1/ ص80 من طبعة آل البيت.
2- . انظر: بحارالأنوار (دار إحياء التراث العربي): ج2/ ص256 وجامع أحاديث الشيعة: ج1/ الباب 9/ ص 341 و 342.
3- . انظر: إيضاح الفرائد: ج2/ ص158.
4- . نفس المصدر.

أصولیة لعدم ظهور وجه لعدم جواز التمسّك بالظنون المعتبرة في مسائل أصول الفقه بوجوه، وربّما یورد علیه بوجوه:

الأوّل إنّ مُفادَ الأخبار المذكورة أخصّ من المدّعی لاختصاصها بالخبر المشتمل علی ذكر ثواب علی عمل، فلا یتناول الأخبار الدالّة علی رجحان الفعل الخالیة عن ذكر الثواب كما هو الغالب (1)؛ وقد یجاب عنه بوجوه:

منها: ما ذكره بعضهم من أنّ بلوغ الثواب أعمّ من الصریح وغیره والخبر المفید للرجحان مفید لترتّب الثواب فتشمله الروایة (2).

وفیه: إنّ بلوغ الثواب ظاهر في الصریح، منصرف إليه، فلا یشمل الدلالة الالتزامیة، فلا یندرج بها في الأخبار المذكورة، خصوصاً في بعضها الظاهر في بلوغ ثواب خاصّ للعمل. (3)

ومنها: إنّ القطع بالمناط كافٍ في تعمیم المدّعی، إذ لیس لخصوص التصریح بالثواب مدخل فیه بعد كونه مفهوماً من الكلام ولو بالالتزام، مضافاً إلی عدم القول بالفصل كما یظهر من الطریقة الجاریة في العمل. (4)

ص: 108


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص469 وأيضاً إيضاح الفرائد: ج2/ ص162.
2- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص306 وخلاصة الفصول في علم الأصول: ج2/ ص17.
3- . انظر: إيضاح الفرائد: ج2/ ص162 وهداية المسترشدين: ج3/ ص469.
4- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص469.

ومنها: إنّ روایة المحاسن شاملة لَهُ؛ لأنّ الظاهر من لفظ «الثواب» فیه هو العمل الباعث علی الثواب من قبیل إطلاق المسبّب علی السبب بقرینة نسبة العمل إلی الضمیر العائد إليه وإضافة الأجر إليه في قوله: «كان أجر ذلك له» (1) واحتمال الاستخدام فیها أو التوسّع في النسبة وغیرهما مرجوح بالإضافة إلی الأوّل وكذا مرسلة ابْنِ طاوس (2) لظهور لفظ الخیر في ما یكون راجحاً في الشرع، لكن لابدّ حینئذ من تصرّف في ظاهر قوله (علیه السلام) في جواب الشرط: «كان له ذلك» بحذف مضاف وشبهه إلّا أن یرجع الإشارة إلی العمل ویحمل علی بقاء العمل له نظیر قوله تعالی: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (3)، أو یحمل علی أنّ العمل نافع له، كما یشعر به اللام وما أشبهها وكذا مرسلة العدّة كما احتمله بعضهم، لكن لایلائمه قوله (علیه السلام) في الجزاء: «كان له من الثواب ما بلغه»، فلابدّ من ارتكاب خلاف الظاهر فیه أو تقیید إطلاق الشرط بصورة اشتماله علی ذكر الثواب.

وربما یستشكل فیه: بأنّ الظاهر اتّحاد روایة المحاسن المتقدّمة مع روایة الكافي بقرینة إتحاد الراوي والمرويّ عنه والمضمون، فیكون الاختلاف في نقل الروایة، فیسقط التمسّك بما ینفرد أحدهما بالدلالة علیه

ص: 109


1- . نفس المصدر.
2- . نفس المصدر.
3- . سورة الزلزلة، الآية 7. و كسی كه عمل كند مثقال ذرّه[ای نيکی] می بیند آن را.

مع عدم المرجّح لو لم یرجّح روایة الكافي بأنّه أوثق من المحاسن وإلّا فالاشكال أوضح، ومرسلة ابْنِ طاوس لا حجّیة فیه منفرداً مع أنّ الظاهر إتّحاده مع أحد الروایات المتقدّمة وجبر الشهرة المتأخّرة الفتوائیة لها غیر ظاهرة، ومنه یظهر الحال في مرسلة العُدّة مضافاً إلی ما سبق فتدبّر.

الثاني: ما ذكره جماعة كما نسب إلیهم وهو أنّ غایة ما یستفاد من الأخبار ترتّب الثواب علی العمل وهو لا یقتضي تعلّق الطلب به شرعاً حتّی یحكم باستحبابه (1) ورجحانه كما هو المدّعی. (2)

وربما یجاب عنه بوجوه:

أحدها: إنّه لا معنی للاستحباب إلّا كونه بحیث یثاب فاعله وربّما یشعر به كلام جدّي (قدس سره) في ردّ منكر مساوقة الرجحان لترتّب الثواب إنّه لیس معنی الراجح في الشرع الا ما تّرتب الثواب علی فعله (3).

وفیه نظر: فإن أرید إنّ معنی الاستحباب والرجحان الشرعي هو ذلك نظراً إلی حدّه من أنّ المستحبّ ما یثاب فاعله ولا یعاقب تاركه، ففیه إنّ الاستحباب عبارة عن طلب الفعل مع عدم المنع من النقیض وترتّب الثواب لازم أعمّ له؛

ص: 110


1- . انظر: إيضاح الفوائد: ج2/ ص162.
2- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص469.
3- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص470.

وإن ارید به الرجحان العقلي في موارد الأحكام الشرعیة، ففیه مع كونه ممنوعاً لا یدلّ علی المدّعی، لأنّ محلّ الكلام [هو] إثبات الاستحباب شرعا.

وثانیها: إنّ حكم الشارع بترتّب الثواب علی عمل ملازم للحكم برجحانه ولیس المستحبّ شرعاً إلّا ما یكون فعله راجحاً شرعاً مع عدم المنع من الترك؛ لأنّه لا ثواب إلّا علی الواجب أو المستحبّ.

والظاهر أنّ المراد من ذلك أنّ ما یتفضّل الله تعالی به علی عباده لیس ثواباً ما لم یكن بأزاء إتیانه منه بما طلبه منه إیجابا أو ندباً وإلا فلا مانع من أن یكون بعض الأفعال غیر المطلوبة كبعض الأمور الخارجة عن تحت القدرة سبباً لشمول تفضّل منه سبحانه للعبد في الآخرة، كما ورد في حَقّ الحجّامِ الّذي حجم النبيَّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فابتلع ما مصّه من الدم أنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) نهاه عن ذلك وأخبره بأنّه قد حرّم بذلك جسده علی النار (1)؛ وحینئذٍ فیحتاج إتمام الجواب إلی إثبات كون إعطائِهِ ما بلغه بعنوان الثوابیة والأجریة، وهو لا يخلو عن إشكال؛ لاحتمال أن یكون إطلاق الثواب والأجر علیه باعتبار كون التبلیغ بذلك العنوان، فیكون محصّل الكلام: إنّ الثواب والأجر الّذي بلغه كائن

ص: 111


1- . انظر: الكافي (طبعة غفاري): ج5/ ص116؛ من لا يحضره الفقيه (طبعة غفاره): ج3/ ص160/ ح3585؛ التهذيب (طبعة خرسان): ج6/ ص355/ ح131 وطبّ الأئمة (طبعة الشريف الرضيّ): ص 56 و 57.

له علی تقدیر كون الخبر كذباً ولو تفضّلا، فلا یدلّ علی ثبوته علی تقدیره بعنوان الثوابیة والأجر.

ومناط ذلك، دعوی عدم ظهور الكلام في إثبات الأجر والثواب الواقعي علی تقدیر الصدق والكذب علی أنّ في توقف تحقق الثواب والأجر الواقعي علی الحكم برجحان الفعل كلاما یأتي ان شاء الله تعالی.

وثالثها

إنّ مساق تلك الأخبار ینادي بالترغیب إلی ذلك العمل كما لا یخفی علی من كان له خبر بالمحاورات ولهذا یفهم استحباب كثیر من الأفعال بالأخبار الدالّة علی ما یترتّب علیه من الأجر والثواب (1)، فإذا كان حكم الشارع بترتّبه علی العمل الخاصّ دالّا علیه، لزم دلالة حكمه هنا علی سبیل الكلّیة علی ذلك.

ویرد علیه: ما حقّقه العلّامة الأنصاري طاب ثراه في توجیه الاعتراض المذكور، وهو أنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعاً علی البلوغ وكونه الداعي علی العمل، ویؤیّده تقیید العمل في غیر واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وَالتماس الثواب الموعود، ومن المعلوم أنّ العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل المَدْحَ والثوابَ؛ وحینئذٍ فإن كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب كانت مؤكّدة لحكم العقل

ص: 112


1- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص306 وخلاصة الفصول: ج2/ ص17.

بالاستحقاق، وأما طلب الشارع لهذا الفعل، فإن كان علی وجه الإرشاد لأجل تحصیل هذا الثواب الموعود، فهو [لازم] للاستحقاق المذكور وهو عین الأمر بالاحتیاط وإن كان علی وجه الطلب الشرعي المعبّر عنه بالاستحباب، فهو غیر لازم للحكم بتنجّز الثواب؛ لأنّ هذا الحكم تصدیق لحكم العقل بتنجّزه فیشبه قوله تعالی: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ (1) إلّا أنّ هذا وعد علی الإطاعة الحقیقیة وما نحن فیه وعد علی الإطاعة الحكمیة، وهوالفعل الذي یعدّ معه العبد في حكم المطیع، فهو من باب وعد الثواب علی نیّة الخیر التي یعدّ معها العبد في حكم المطیع من حیث الانقیاد (2).

ثمّ دفع توهّم القیاس المتقدّم بما حاصله: إنّ الاستفادة (3) هناك باعتبارات ترتّب الثواب لا یكون إلّا مع الإطاعة - حقیقة أو حكماً - فمرجعها إلی بیان الثواب علی إطاعة الله سبحانه بالفعل المفروض، فیكشف عن تعلّق الأمر به، كدلالة ما اقتصر فیه علی العقاب الترك، أو الفعل بالوجوب والحرمة.

ص: 113


1- . سورة النساء، الآية 13. في المخطوطة هكذا: و كسی كه اطاعت كند [خدا] و رسول او را، داخل می كند او را [در] بهشتی كه جاری [است در زير درختان آن جوی ها]، بدل الآية ولكن جعلنا الآية مكانه.
2- . انظر: فرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص156.
3- . في المخطوطة كتب فوقها: الاستعارة وليس بصحيح.

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار، فهو باعتبار الإطاعة الحكمیة، فهو لازم لنفس عمله المتفرّع علی السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلا، فلا یدلّ علی طلب شرعي آخر [له] وإنما یلزم الطلب الإرشادي المتقدّم (1).

ثمّ قال: والغرض من هذه الأوامر كأوامر الاحتیاط تأیید حكم العقل والترغیب في تحصیل ما وعد الله سبحانه عباده المنقادین المعدودین بمنزلة المطیعین وإن كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ، كما هو ظاهر بعضها، فهو وإن كان مغايراً لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب علی هذا العمل، بناء علی أنّ العقل لا یحكم باستحقاق ذلك الثواب المسموع الداعي إلی الفعل، بل قد یناقش في تسمیة ما یستحقّه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر ثواباً وإن كان نوعاً من الجزاء والعوض إلّا أنّ مدلول هذه الأخبار إخبار عن تفضّل الله سبحانه علی العامل بهذا الثواب المسموع، وهو أيضاً لیس لازماً لأمرٍ شرعي هو الموجب لهذا الثواب، بل هو نظیر قوله تعالی: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (2) ملزوم لإمر

ص: 114


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص 156 و 157.
2- . سورة الأنعام، الآية 160. في المخطوطة هكذا: كسی كه بیاورد حسنه[ای] پس از برای [او خواهد بود] ده مثل [و ده برابر] آن، بدل الآية ولكن جعلنا الآية مكانه.

إرشادي یستقلّ به العقل بتحصیل ذلك الثواب المضاعف (1) إنتهی.

وأورد علیه أوّلاً: الظاهر إنّ الإطاعة الحكمیة كالمخالفة الحكمیة في عدم حكم العقل باستحقاق الثواب علی نفس الفعل، كما لا یحكم بترتّب العقاب علیه في مسألة التجرّي، فمدلول الأخبار الذي هو ترتّبه علی نفس الفعل خارج عمّا حكم به العقل، فیكون حاله كسائر الموارد التي رتّب الثواب فیها علی الأفعال الخاصّة، كتسریح اللحیة ونحوه مما یحكم العقل بترتّب الثواب علیه.

وثانیاً: إنّه لو سلّم استقلال العقل بترتّبه علی الفعل هنا باعتبار العنوان الثانوي بخلاف التجرّي - كما ربما یستفاد من كلامه طاب ثراه في صدر المسألة - اتّجه حینئذٍ أن یستدلّ للمدّعي بنفس الحكم العقلي المفروض بضمیمة قاعدة الملازمة بین حكمي العقل والشرع، فیثبت به استحباب الفعل شرعاً؛ لأنّ حسن الفعل باعتبار عنوان الإطاعة الحكمیة لیس نظیر الإطاعة الحقیقیة في عدم قابلیته لعروض الحكم الشرعي علیه، وربما یرشد إليه ذهاب المشهور إلی استحباب الاحتیاط شرعاً كما نسب إلیهم.

وبالجملة فالعقل إن كان مستقلّا بترتّب الثواب علی الفعل، ثبت الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة، وإلّا فما المانع من استفادة الاستحباب الشرعي من الأخبار إذا دلّت علی ترتّب الثواب علی نفس العمل ولو مقیّداً

ص: 115


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص 157 و 158.

بكونه طلباً لقول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو طمعاً للثواب؟! فهي حینئذٍ لیست واردة علی طبق حكم العقل حتّی یجوّز حملها علی الإرشاد، لتحقّق المخالفة بینهما من تلك الجهة.

ودعوی المنع من دلالتها علی كونه مترتّباً علی الفعل وَاحتمال كونه مترتّباً علی نفس الانقیاد والجدّ في تحصیل مطلوب الشارع، یمكن دفعها بظهور الجملة الشرطیة وخصوص بعض الكلمات الواقعة فیها كالتعبیر بالثواب والأجر في خلاف ذلك.

ویمكن الجواب عن الأوّل: وهو منع حكم العقل قیاساً له بمسألة التجرّي بدعوی ثبوت الفارق بین المقامین، فانّ الفعل هنا قد أُتي به بداعي الإطاعة جزماً أو رجاءً، بخلاف التجرّي، فانّ الفعل فیه لم یؤتَ بداعي المخالفة إلّا في بعض الصور الّتي ینبغي إخراجها عن العنوان المعروف كالإتیان به عناداً للمولی وبغضاً له وإنما هو في الغالب مستند إلی الدواعي الخارجیة من الشهوات النفسیة وأمثالها، فالفعل هنا قد أتی به المكلف للمولی جزماً أو رجاء، فعلیه في حكم العقل والعقلاء جزاءه ولو لم یصادف، بخلاف التجرّي لعدم اشتماله علی داعي المخالفة حتّی یستحقّ به العقاب.

وبعبارة أخری: كما یحكم العقل بحسن الإطاعة الواقعیة وقبح المعصیة الواقعیة وترتّب الثواب والعقاب علیهما، كذا یحكم بحسن الفعل المأتي به لأجل الإطاعة مع عدم المطلوبیة واقعاً وقبح الفعل المأتيّ به لأجل العصیان مع عدم المصادفة وترتّب الثواب والعقاب علیهما؛ لأنّهما في حكم

ص: 116

الإطاعة والمعصیة وما نحن فیه من قبیل الأوّل والتجرّي لیس من قبیل الثاني إلّا فرداً نادراً ینبغي الالتزام بصحّته، بل إنما هو مستند إلی الأمور الخارجة من الشهوات النفسیة والتحریكات الشیطانیة وأمثالها.

ویشكل ذلك أنّه كما لا یعتبر في المعصیة الواقعیة كون الداعي إلی الفعل هو العصیان، كذا لا یعتبر في المعصیة الحكمیة ذلك، بل یكفي فیهما تحقّق الفعل الكاشف عن قصور دواعي الإطاعة ولو باعتبار غلبة غیرهما علیها في مقابل الإطاعة الكاشفة عن قوّتها بحیث یؤثّر في الفعل بنفسه، فیتحقّق في الأوّل عنوان هتك حرمة المولی والجرأة علیه وعدم الاعتناء به مطلقا، كما یتحقق في الثاني عنوان الانقیاد لآمره، كما یظهر ذلك من ملاحظة الحال في نیّة المعصیة وقبحها كحسن نیّة الإطاعة إلّا أن یقال بعد المناقشة في قبح الفعل لأجل العناوین المذكورة بما قرّر في محلّه أنّ نفس وقوع الفعل لأجل المولی بعد كون العبد معذوراً في تركه الاصابة، له خصوصیة في حكم العقل بأنّ له عوضا من المولی بازاءه باعتبار المشقّة الواردة علیه لأجله وسعیه في امتثاله، بخلاف الترك في التجرّي؛ ولعلّ هذا هو منشأ استظهار المحقّق المذكور أولویة المقام من المسألة المذكورة في صدر التنبیه فتأمّل.

وعن الثاني: وهو دعوی جریان قاعدة الملازمة هنا حینئذ بمنع قابلیة المورد في الجهة التي حكم العقل بحسنه، لورود الحكم الشرعي علیه، كالإطاعة الواقعیة، لاتّحاد المانع منه في المقامین، وهو علی ما صرّح به

ص: 117

المحقّق المذكور أنّه لا یترتّب علی الأمر والنهي بالإطاعة والمعصیة إلّا ما یترتّب علی ذات المأمور به والمنهيّ عنه، أعني نفس الإطاعة والمعصیة، كما يشهد به أنّه لا يحسن من الحكیم عقاب آخر أو ثواب آخر غير ما یترتّب علی المأمور به والمنهيّ عنه فعلاً أو تركاً من الثواب والعقاب، فحال الأمر والنهي الوارد علیهما كحال أوامر الطبیب إرشادي صرف وهو بعینه جارٍ في الإطاعة الحكمیة، فانّ المفروض استقلال العقل باستحقاق فاعلها الثواب مع قطع النظر عن ورود أمر من الشارع علیها، لتحقّق جهة الإطاعة فیها بدون الأمر، فورود الأمر الشرعي علیه لا یترتّب عليه إلّا ما یترتّب علی نفسها؛ ویشهد له أنّه لا یحسن من الحكیم هنا ثواب آخر غیر ما حكم به العقل مع قطع النظر من الأمر الشرعي، فحاله أيضاً كحال أوامر الطبیب.

ولعلّ منشأ دعوی التفرقة ملاحظة خلوّ الفعل عن الحكم هنا وجواز عروض الحكم علیه كسائر الأفعال من دون إلتفات إلی إختلاف الجهة، فانّ الفعل المفروض بما هو هو قابل لعروض كلّ من الأحكام الخمسة علیه بلا شبهة، لكنّ العقل لم یحكم بحسنه وإنّما حكم به من حیث العنوان الثانوي، فیرجع إلی الحكم علی العنوان المنطبق علی الفعل الواقع علی الوجه المفروض، وهو لا یقبل الحكم الشرعي علی ما سبق، وقاعدة الملازمة إنّما تجري إذا كان موضوع الحكم العقلي علی الوجه الذي صار موضوعاً له، قابلا للحكم الشرعي، فتدبّر.

ص: 118

فظهر ممّا ذكر قوّة الإشكال المذكور خصوصاً علی القول بحرمة التجرّي، كما لعلّه الظاهر بعد التأمل، بل ربّما یدّعی عدم ابْتِناء المسألَةِ علی إثبات استحقاق الثواب عقلاً، بل یكفي إثبات كون الفاعل أهلاً للتفضّل واستقلال العقل بحسن التفضّل علیه، فانّ هذا القدر كافٍ في إثبات وقوعه من الله جلّ شأنه بعد عدم ما یزاحمه، فیكون الإخبار محتملاً لإرادة هذا النحو من الثواب الثابت بغیرها، بل ولو نوقش في هذا المقدار أيضاً فلا شكّ في احتمال أن یكون عمله المفروض سبباً لحصول الثواب علیه في حقّه من باب التفضّل العام والرحمة الواسعة، فیكشف هذه الأخبار من تحقّق هذا الاحتمال في الواقع وإنّ الأمر كذلك في نفس الأمر.

وظهورها في الترغیب إلی الفعل حسب ما ذكر في الجواب لا ینافي الإرشاد، وهذا المقدار أيضاً كافٍ في حصول التفرقة بین المقام وسائر الموارد حیث أنّ تسریح اللحیة وأمثالها لیست بأنفسها ممّا یحتمل فیها كونها سبباً للتفضّل احتمالاً ظاهراً بخلاف المقام.

وبما ذكرنا في المقام یمكن المناقشة في الجوابین المتقدمین أيضاً، إلّا أن یناقش في كون هذا الجزاء ثواباً وأجراً بدعوی ظهورهما في غیره فتدبّر.

ورابعها

ما ذكره عمّي العلّامة طاب ثراه وهو إنّه إذا ثبت بهذه الأخبار ترتّب الثواب علی العمل، تناوله عموم الخطابات الدالّة علی الأمر بالاستباق إلی الخیرات والمسارعة إلی المغفرة والجنّة؛ إذ لا ریب في أنّ ما یترتّب علیه الثواب مندرج في الخیرات، والثواب الذي یتضمّن الخبر ترتّبه

ص: 119

علی العمل قد یكون مغفرته تعالی أو دخول الجنة أو ما یستلزم دخولها من نیل ما فیها مِنْ حُوْرٍ وَقُصُوْر فیتناوله الأمر بالمسارعة مع أنّ عموم قوله تعالی [في] الآية: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (1) یقتضي تحقّق المغفرة ولو في الجملة في جمیع الطاعات (2).

ویرد علیه: - مضافاً إلی المنع من صدق الخیر علیه مع احتمال عدم رجحانه شرعاً بمجرّد ترتّب الثواب ولو تفضّلاً علیه وإنّ المسارعة إلی المغفرة بعد تحقّق العصیان واجبة عقلاً، فلا ربط له باستحباب ما اشتمل علیه الخبر الضعیف ومع عدم تحقّقه لا تدلّ الآیة علی الأمر به؛ لعدم تحقق موضوع المغفرة بدون الذنب، سواء كان ترتّب المغفرة علی العمل مرویّاً بالخصوص، أو باعتبار العموم المذكور، وانّ دخول الجنّة وما یستلزمها لیس هو الثواب علی العمل في جمیع الموارد؛ لانّ هذا العموم غیر بیّن ولا مبیّن إلّا أن یتّم بعدم القول بالفصل، وإمكان المناقشة في إطلاق الآیة كما بیّن في محلّه - أنّ الآیة مسوقة لبیان رجحان المسارعة والاستباق، وحینئذٍ فإمّا أن یجعل في مقابله التأخیر كما هو مقتضی إستدلالهم بهما في مسألة الفور

ص: 120


1- . سورة هود، الآية 114. في المخطوطة هكذا: به درستی كه حسنات می برند سیئات را، بدل الآية لكن جعلناها مكانه.
2- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص306؛ خلاصة الفصول: ج2/ ص17 وتعليقة علی معالم الأصول: ج6/ ص49.

والتراخي، أو یجعل في مقابله الإهمال والتضییع، وعلی الأوّل یكون مدلول الآیتین بعد حملهما علی مطلق الرجحان ودفع بعض الإشكالات رجحان المبادرة إلی فعل الطاعات، أو فعل كلّ ما یترتّب علیه الثواب حسب ما رامه المستدلّ، فهما لیستا مسوقتین لبیان رجحان أنفسها، بل لرجحان المسارعة إلیها، فهما ساكتان عن بیان حكم نفس الأفعال.

ودعوی الملازمة بین رجحان المسارعة ورجحان نفس الفعل إنّما تنفع لو ثبت الإطلاق في الكلام ولم یكن فیه إهمال من تلك الجهة، وإلّا فالإهمال من حیث كون الفعل راجحاً بنفسه أو مترتباً علیه الثواب من دون رجحان، یسري إلی نفس الأمرین، فیسقط الاستدلال خصوصاً بملاحظة ندرة الفرض المذكور بالنسبة إلی الطاعات الواقعیة.

وبالجملة، فرجحان المسارعة لمّا كان متفرّعاً علی رجحان نفس الفعل، متأخّراً عنه رتبة وكان الكلام مسوقاً لبیان الأوّل كما هو المفروض، لم یكن له ظهور في ترتیب الحكم علی كلّ ما یترتّب علیه الثواب بحیث یستكشف منه كون نفس الفعل راجحاً، خصوصاً بملاحظة التلازم غالباً بین ترتّب الثواب والرجحان عند المعترض ودائماً ولو بحسب القاعدة عند المجیب، فیحتمل أن یكون الكلام مسوقاً لبیان رجحان المسارعة بعد تحقّق الرجحان، فتأمّل.

وعلی الثاني: فالظاهر حمل الأمرین علی الإرشاد لموافقته لحكم العقل وعدم قابلیة الموضوع للأمر الشرعي كأوامر الإطاعة كما سَبَقَتِ الإشارة

ص: 121

إلیه فیها، فانّ الثواب لا تترتّب إلّا علی الإطاعة الحقیقیة أو الحكمیة ولیس شيء منهما قابلاً لعروض الأمر علیه كما سبق، بل لعلّه الظاهر من سياق الآیتین الشریفتین ولو حُمِلَتا علی الوجه الأوّل أيضاً فتأمّل.

ویقرب من هذا الجواب دعوی أنّ ترتّب الثواب علی الفعل أيضاً مصلحة موجبة لحسنه وكما یحكم العقل بقبح الإقدام علی ما فیه المفسدة، كذا یحكم بحسن الإتیان بما اشتمل علی المصلحة الراجحة وكما یثبت بالأوّل حكم الشارع بالحرمة، كذا یثبت في الثاني الاستحباب.

وفیه: ما لا یخفی؛ لأنّ المصالح والمفاسد الأخرویة وَإنِ استقلّ العقل بإحراز الأوّل ودفع الثاني، لكنّه لا یتبع حكمه الخطاب الشرعي كما قُرّر في محلّه وأشرنا إليه في ما سبق، بل ربما یستشكل في استقلال العقل بحسن ذوي المصلحة هنا بالمعنی الذي هو مورد قاعدة الملازمة وإنما هو بمعنی ملائم الطبع الذي له بالقاعدة المذكورة وإن كان فیه نظر ظاهر في المصالح الأخرویة وإن كان له في الدنیویة وجه وجیه وتفصیله موكول إلی محلّ آخر.

ومثله الاعتراض علیه بالمنع من ترتّب الثواب علی الفعل واحتمال ترتّبه علی عنوان الانقیاد، فلا یتبعه حكم الشرع؛ فانّه لا یبعد دعوی ظهور الأخبار في تفرّع الثواب علی الفعل الواقع علی الوجه المذكور.

فتحصّل ممّا ذكرنا كلّه قوّة الإشكال المذكور وعدم سلامة الأجوبة المذكورة مِنَ المناقشة؛ لفساد دعوی ترادف الِاستحباب وترتّب الثواب وعدم ثبوت الملازمة بینهما وأعمیّة الترغیب الظاهر من المساقِ لو لم یناقش

ص: 122

فیه أيضاً من الترغیب الإرشادي والشرعي الاستحبابي وعدم كفایة الآیتین في تتمیم المدّعی بالتفصیل المتقدّم.

نعم، لو قلنا بكون الشهرة جابرة لضعف الدلالة مطلقاً أو الاستناد منها وحقّقنا الشهرة في الجملة أو خصوص الاستناد، ارتفع الإشكال من أصله بعد حصول ما یعتبر في مقام جبر الدّلالة.

الثالث من وجوه الاعتراض علی الأخبار: ما ربّما یستظهر من كلام المحدّث البحراني طاب ثراه، قال في مقام توجیه كلام بعض الأفاضل (1) المعترض علی الِاستقلال بها: «إنّ غایة ما تضمّنته تلك الأخبار هو ترتّب الثواب علی العمل، ومجرّد هذا لا یستلزم أمر الشارع وطلبه لذلك العمل، فلابدّ أن یكون هناك دلیل آخر دالّ علی طلب الفعل والأمر به لیترتّب علیه الثواب بهذه الأخبار (2) وإن لم یكن موافقاً للواقع ونفس الأمر. وهذا كلام جيّد وجیه كما لا یخفی علی الفطن النبیه، وحینئذ فقول شیخنا المذكور في الجواب: «إنّ ترتب الثواب علی عمل یساوق رجحانه إلخ» كلام شعريّ وإلزام جدليّ لا معنی له عند التأمّل؛ فانّ العبادات توقیفیّة من الشارع - واجبة كانت أو مستحبة - لابدّ لها من دلیل صریح ونصّ فصیح یدلّ علی

ص: 123


1- . هو الشيخ سليمان الماحوزي، انظر: رسائله: ص451.
2- . انظر: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: ج4/ ص201؛ وهداية المسترشدين: ج3/ ص470.

مشروعیّتها، وهذه الأخبار لا دلالة فیها علی الثبوت والأمر بذلك وإنّما غایتها ما ذكرناه (1)، علی أنّ ترتّب الثواب وإن ساوق الرجحان - كما ذكره - لكن هذا القائل یمنع من ترتّب الثواب وما يساوقه حتّی يثبت دلیل الأمر به، فهذه الأخبار - الدالّة علی أنّ من بلغه ثواب علی عمل فعمله ابتغاء لذلك الثواب كان له وإن لم یكن كما بلغه - مقیّدة عنده بوجود دلیل علی المشروعیة ولا خبر یدلّ علی الأمر به كما عرفت من كلامه» (2)، إنتهی كلامه رفع مقامه.

والظاهر أنَّ محصّل كلامه لیس هو منع الملازمة - كما استظهر بعض المحقّقین عن كلامه - بل المراد - والله سبحانه أعلم - إنّ هذه الأخبار مسوقة لبیان معاملة الله سبحانه للعبد الآتي بفعل رجاء الثواب الّذي وصله عن رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو مطلقاً وإنّه لا یضیع سعی عبده وإن كان الخبر كاذباً ولیست مسوقة لبیان حكم العمل بعد بلوغ الخبر وإنّه راجح في الشریعة بسبب بلوغ الخبر مطلقاً أو في بعض الموارد، فهي من هذه الجهة مهملة، لا إطلاق فیها، فمن المحتمل قویّاً - بحسب ظاهر الكلام - إحالة ذلك إلی ما

ص: 124


1- . انظر: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: ج4/ ص201؛ هداية المسترشدين: ج3/ ص470 وطبعتها الحجرية: ص424.
2- . الدرر النجفيّة من الملتقطات اليوسفيّة، للمحدّث البحراني: ج3/ ص174، دارالمصطفی لإحياء التراث، بيروت، 1423.

هو المعهود في الشرع من توقیفیة الأحكام وعدم جواز الأخذ فیها بغیر الیقین وما نزّل منزلته شرعاً، وحینئذٍ فمفادها إنّ من بلغه الثواب علی العمل فعمله علی الوجه الذي ینبغي أن یعمله ترتّب علیه الثواب وإلّا فلا ثواب ولا عمل، فیختصّ مُفادُها بالفعل الثابت الشرعیّة من الخارج وما إذا استجمع الخبر شرائط الحجیّة.

وحاصل الكلام حینئذ هو المناقشة في إطلاق الجملة الشرطیة ومنع كونها مسوقة لبیان الإطلاق بحسب الكیفیّة؛ وهذا بناء علی اشتراط إحراز مقام البیان في حجّیة المطلقات جیّد متین، وأمّا بناء علی الِاكتِفاء بعدم الظهور في الإهمال، فلقائل أن یدّعي أنّه أيضاً كذلك؛ نظراً إلی مساق الروایات ومعهودیة الاشتراط في الخارج وإباء سوقها من أن یكون في مقام جعل الطریق للمستحبّات، أو حكایتها، أو جعل حكم استحبابي علی وجه الموضوعیة، ویؤیّده تعلیق الحكم في بعضها علی بلوغ شيءٍ من الثواب علی شيءٍ من الخیر وهذا الوجه هو الظاهر عندي من مجموع كلام المحدّث المذكور وجه ینطبق صدره وذیله وذلك مما یقوّي الأشكال المذكور لمهارته في فهم الأخبار كما لا یخفی علی الخبیر.

ثمّ إنّ بعض المحقّقین (1) بعد أن حمل كلامه علی الوجه السابق وَاعترض علیه بجملة كلمات احتمل أخیراً وجهاً آخر قریباً ممّا ذكرناه

ص: 125


1- . هو الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي أعلی الله مقامه [صاحب الهداية جدّ المؤلِّف].

وحاصله: انّ مفاد الأخبار [أعني] انّ من بلغه ثواب علی عمل من أعمال الخیر فعمل ذلك لذلك (1) أعطاه الله تعالی ولیس المقصود الحكم بالرجحان وترتّبه علیه مطلقاً، بل لابدّ من ثبوت كونه خیراً والخارج (2) حتّی یترتّب علیه الثواب بها، فلیس المقصود بیان المشروعیة بمجرّد البلوغ، بل ترتّب الثواب الخاصّ علی العمل المشروع من جهة ورود الخبر، كما إذا ورد ثواب خاصّ لصلاة اللیل، فمشروعیّة العمل موقوفة علی طریقها المقرّر، لا ترتّب الثّواب الخاصّ بعد ثبوتها وكون ما یأتي به خیراً وعملاً شرعیاً حسب ما یستفاد منها حیث علّق الحكم علی ذلك. (3)

أولاً: بأنّه وإن لم یدلّ ذلك علی ثبوت استحباب أصل الفعل بالخبر المفروض، لكنّه یفید استحباب الخصوصیة ورجحانها في ما إذا ذكر الأجر علی الخصوصیة وهو أيضاً حكم شرعي، كما إذا ورد صلاة ركعتین في لیلة مخصوصة وذكر له فضیلة عظيمة، أو قراءة سورة معیّنة في لیلة، فانّها مندرجة فیها، فیثبت بها مشروعیة الخصوصیة واستحبابها فیثبت بها المدّعی في الجملة. (4)

ص: 126


1- . أي طلباً لنيل ذلك الثواب کما في الهداية.
2- . أي أو راجحاً من الأدلّة الخارجية کما في الهداية.
3- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص471.
4- . نفس المصدر.

وثانیاً: إنّه لم یعتبر في تلك الأخبار كون الثواب علی الخیر إلّا في روایة الصدوق (1)، وما عداها خالیة عنها، فبعضها مطلق كصحیحة المحاسن (2) وبعضها أضاف الثواب إلی العمل والشيء الشّامِلَیْنِ لكلّ الأعمال والبناء علی حمل المطلق علی المقیّد ممّا لا وجه له هنا؛ إذ لا معارضة بین الحكمین، غایة الأمر اختصاص ما ثبت ببعضها ببعض ما یثبت بالباقي (3) إنتهی کلامه رفع مقامه.

أقول: لا یخفی عدم توجّه الوجه الثاني علی المحدّث المذكور علی الوجه الذي حرّرنا كلامه وإن أمكن إجراء الوجه الأوّل علیه أيضاً بأن یقال في مثل المثالین المتقدّمین: إمّا أن یحكم بعدم ترتّب الثواب، فهو مخالف للأخبار لوقوع العمل علی الوجه المعتبر أو یحكم بترتّبه من دون الحكم باستحباب الخصوصیة، فهو تفكیك بینهما ومنع الملازمة فیرجع إلی الوجه المتقدم.

ویمكن دفعه: بأنّ الثواب إما أن یكون مترتّباً علی الشيء الخاصّ، كما في المثالین، أو علی نفس الخصوصیة، فعلی الأوّل فلا إشكال في استحبابه بأن یتقرّب به المكلّف ویترتّب علیه الثواب بمقتضی هذه الأخبار وزیادة

ص: 127


1- . ثواب الأعمال: ص132.
2- . المحاسن: ج1/ ص25.
3- . هداية المسترشدين: ج3/ ص471.

ثوابه علی ما لم یشتمل علی تلك الخصوصیة لاستلزم استحباب تلك الخصوصیة، فمن الجائز أن یكون للآتي بفعل خاصّ رجاء مرتبة خاصّة من الثواب، أو بداعي مرتبة خاصّة من الرجحان مثلاً ما لیس لغیره من الثواب مع تساویهما بحسب الواقع، فانّ مقدار الثواب لم یثبت كونه معیّناً في الواقع بحیث یكون الزیادة مفتقراً إلی تأكّد رجحان الفعل، فمن المحتمل أن یكون كیفیّات الأفعال بحسب عظم مقصود فاعلها وعدمه مختلفا بحسب الواقع، كما أنّ الظاهر اختلاف ثوابها بحسب مراتب نیّة الفاعل الّتي أدناها ظاهراً رجاء نعمة دنیویة وخوف زوالها وأعلاها ظاهراً (1) كونه سبحانه أهلاً للعبادة.

وأمّا جواز الإتیان بالفعل حینئذٍ بعنوان التقرّب به من حیث الخصوصیّة، فهو ممنوع علی ما ذكرنا من منع إطلاق الكلام.

وعلی الثاني: فالمتّجه علی ما قدّمنا هو المنع من الثواب والرجحان، نظراً إلی عدم ثبوت رجحان الخصوصیة في الشریعة، فلعلّه یدّعی أنّ الإتیان بها علی وجه التقرّب بها خارج عن الطریق المعهود من عدم جواز العمل من دون علم، فهو حینئذٍ كترتّب الثواب علی الأفعال الّتي لم یثبت رجحانها رأساً فتأمّل جيّداً.

ومنه یظهر وجه النظر فیه علی الوجه الذي حرّره أيضاً، فَإنَّ

ص: 128


1- . في المخطوطة: طاهر والصحيح «ظاهراً».

الخصوصیة لم تُثْبِتْ شرعیّته ولا كونه خیراً، فإن كان الثواب مترتّباً علیها فهو كسائر الموارد التي لم تُثْبِتْ رجحانها علی ما سبق نظیره، وإلّا فالملازمة غیر ظاهرة علی ما سبق نظیره. (1)

وأمّا الوجه الثاني فربّما یستشكل فیه:

أوّلاً: إنّ المذكور في روایة «ثواب الأعمال» و«عدّة الداعي» والسیّد في «الإقبال» لفظ «الخیر» وفي الروایة العامّیة لفظ «الفضیلة»، وفي روایة هشام المحكیة عن المحاسن وروایة محمّد بن مروان لفظ «الثواب»، لكن لا یبعد حمله علی إرادة العمل المشتمل علی الثواب بقرینة ضمیر «فعمله» في الأوّل وغیره ممّا مرّ كما استظهره (قدس سره) أيضاً في الأوّل، وحینئذٍ فیمكن أن یدّعی أنّه لابدّ من إحراز كون العمل الذي بلغه المبلّغ مشتملاً علی الثواب في الجملة حتّی یندرج في هذه الأخبار، فیبقی حینئذٍ روایتا (2) الكافي عنهما علیهما السلام وروایة الإقبال، لكنّ الظاهر اتّحادهما مع الروایتین المتقدّمتین وإنّ الإختلاف في النقل وان كان في روایة محمّد بن مروان اختلافاً في المنقول عنه، فأنّ في روایة الكلیني نسبتهما إلی أبي جعفر (علیه السلام) وفي الآخر نسبته إلی أبي عبدالله (علیه السلام) والظاهر أنّها لا یخلو عن ضعف أيضاً فیشكل الاعتماد علی روایته وحدها.

ص: 129


1- . تکرّر «وإلّا، فالملازمة غير ظاهرة علی ما سبق نظيره» في المخطوطة مرّتين ولکن حذفناه.
2- . في المخطوطة: «روايتي».

وفیه: إنّ الثواب المذكور في الروایتین - لو حمل علی العمل الموجب للثواب - فالظاهر إرادة الثواب بحسب التبلیغ لا الثواب الواقعي بقرینة الجزاء الواقع فیهما خصوصاً قوله في الثاني «كان له ذلك الثواب» فلا یختصّ مدلولهما بما ثبت رجحانه كما أنّه ربما یحمل لفظ الخیر الواقع في غیرهما علی ما كان ضمیراً بحسب التبلیغ أيضاً.

نعم، ربما یستشكل في المقام بدعوی ظهورِ اتّحادِ روایاتِ هِشامٍ المنقولةِ في «الكافي» و«المحاسن» و«ثواب الأعمال» و«الإقبال»، كدعوی ظهور اتحاد روایتي محمّد بن مروان كما سبق مع روایة الإقبال الأخری، ورجوع روایة «عدّة الداعي» إلی إحْداهُما، فترجِعُ الروایات المنقولة سابقاً إلی ثلاثة: روایتي هشام ومحمّد بن مروان والروایة العامّیة، فبعد ملاحظة ضعف الأخیر وعدم معلومیّة صحّة الثاني یشكل الاعتماد علی روایة هشام في مورد اختلاف النقل عنه.

لكنّ الإنصاف أنّ اختلاف نقل هشام فیها في كونه بتوسّط صفوان كما في روایة «ثواب الأعمال»، وبدون الواسطة كما في ظاهر نقلها مع اختلاف المتن واختلاف المرويّ عنه في الثاني، یوهن احتمال الاتّحاد ویقوّي تعدّد الوقوع علی أنّ الظاهر رجحان روایة الكلیني في الكافي علی روایة الصدوق في «ثواب الأعمال» خصوصاً مع موافقته بالنسبة إلی المدّعی مع روایة السید عن أصل هشام مع اعتضاده في خصوص المدّعی بروایة «المحاسن»، مضافاً إلی أنّه ربّما یدّعی جبر سند روایة محمّد بن مروان بما بعد

ص: 130

روایة الكلیني وغیره إیّاها بالعمل لو كانت ساقطة عن الاعتبار بنفسها.

وربما یجاب عنه أيضاً: بأنّه لو سُلِّم اتّحاد المتن، فلابدّ أن یكون الاختلاف فیه من جهة نقله بالمعنی، فیتعیّن حینئذٍ أن یكون الروایة العامّیة إما حكایة لقوله (علیه السلام) أو مطابقاً لمعناه الخاصّ وإلّا كان النقل خَطَأً، لِامتناع نقل الخاصّ بطریق العموم، بخلاف العكس حیث یكون العام نصّاً في شمول الخاصّ ولا ریب أنّ نقل الثقة یُحْمَلُ علی الصحیح مع الإمكان، وهو حَسَنٌ أيضاً إن بقي معه الوثوق بصدق الحدیث، أو قلنا بعدم اعتباره في الخبر الصحیح فتدبّر.

وثانیاً: إنّ هذا المقامَ وإنْ لم یَكُنْ مَحَلَّ حَمْلِ المطلق علی المقید، كما ذكره من جهة الإطلاق والتقیید إلّا أنّ مفهوم المقیّد یقید إطلاق المطلق بناء علی ما قرّر في محلّه مِن جواز تقیید المنطوق بالمفهوم، كجواز تخصیص العام به عند المشهور ظاهراً، فَإِنَّ الكلام مشتملة علی الجملة الشرطیة، فلو منع من اعتبار مفهوم الوصف لكان في مفهوم الشرط في المقام كفایة علی أنّ مفهوم القید في أمثال المقام من الکلام المسوق لبیان الموازین والقواعد الكلیة والحدود وأمثالها لا یبعد اعتباره وإن لم یعتبر في غیرهما.

ویمكن دفعه: بالمنع من ظهور القید في نفي الحكم في غیر مورده بحیث یعتدّ به والشرط المفروض هنا لا مفهوم له بحسب القواعد، بل لعلّ الظاهر مَسُوْقُهُ لبیان الموضوع، كما ربّما یُفْصِحُ عنه امتناع تحقّق الجزاء بدونه نظراً إلی اختصاص متعلّق الجزاء بالثواب الذي بلغ علی الوجه المفروض في

ص: 131

الشرط وبمن عمل الخیر المفروض فیه.

وبالجملة: فحاله نظیر آیة النبأ من حیث المفهوم، بل الظاهر أنّ نفي المفهوم هنا أظهر.

هذا تمام الكلام في الإیراد الرابع وهو اختصاص الأخبار بما ثبت رجحانه نوعاً، فلا دخل لها بالتسامح في الحكم، بل التسامح في إعطاء الثواب الذي بلغه مع ما یتعلّق به صحّة وسقماً.

الخامس

ما ذكره بعض الأفاضل وهو أنّه لَوِ اقتضی ترتّب الثواب علی العمل طلب الشارع له لَاستندوا في وجوب ما تضمّنه الخبر الضعیف وجوبه إلی هذه الأخبار كاستنادهم إلیها في استحباب ما تضمّن الخبر الضعیف استحبابه (1).

وذكر المحدّث البحراني في بیانه: أنّ مراده إنّه لو اقتضی ترتّب الثواب في هذه الأخبار طلب الشارع لذلك الفعل وجوباً أو استحباباً، لكان الواجب علیهم واللازم لهم الِاسْتِناد إلی هذه الأخبار في وجوب ما تضمّن الخبر الضعیف وجوبه، كما جروا علیه بالنسبة إلی ما تضمّن الخبر الضعیف استحبابه، مع أنّهم لم یجروا هذا الكلام في الواجب. (2)

ص: 132


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص473 وطبعته الحجرية: ص425 وأيضا مفاتيح الأصول: ص347.
2- . انظر: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: ج4/ ص201 والدررالنجفية من الملتقطات اليوسفية: ج3/ ص175.

وحاصل الكلام الإلزام بأنّه لا یخلو إمّا أن یقولوا إنّ ترتّب الثواب في هذه الأخبار یَقْتَضِيْ الطلب والأمر بالفعل، أم لا:

فعلی الأوّل یلزمهم ذلك في جانب الوجوب، كما فرضوه في الاستحباب مع أنّهم لا یقولون به.

وعلی الثاني فلابدّ من دلیل آخر یقتضي ذلك ویدلّ علیه (1) ثمّ استجود الكلام المذكور.

وجوابه: بظاهره ظاهر فإنّ ترتّب الثواب ملازم للطلب في الجملة لا للطلب الذي أثبته الخبر الضعیف بخصوصه، فإذا بلغ الخبر الضعیف بوجوب شيء فلا یمكن الحكم بوجوبه له لضعفه لا (2) لهذه الأخبار؛ لعدم إثباته سوی مطلق الطلب، فیتحصّل من ذلك الحكم برجحان الفعل لأجلها لا العقاب علی الترك لعدم ما یقتضیه.

نعم لو كان مدلولها لزوم العمل بمقتضی الخبر الضعیف مطلقاً لتمّ الاعتراض.

وربما یجاب عنه أيضاً بأنّ سیاق الأخبار صریح في إرادة خصوص

ص: 133


1- . انظر: الحدائق الناضرة: ج4/ ص201؛ الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية: ج3/ ص175 وهداية المسترشدين: ج3/ ص473.
2- . في المخطوطة: «ولا».

الاستحباب مع عدم ثبوت الوجوب من الخارج، فكیف یمكن إجراؤها في وجوب ما تضمّن الخبر المفروض وجوبه، فإنّ مفادَها بملاحظة السیاق كون تلك الجهة مرجّحة للفعل ترجیحاً غیر مانع من النقیض.

وفیه إشكال: ظهر ممّا تقدّم ذكره في الكلام في قیاسها بالاستحباب المستفاد من نفس ترتیب الثواب علی الأفعال الخاصّة ویمكن تقریر الإشكال بوجوه أخر:

أحدها: إنّ مفادَ هذه الأخبار هو ترتّب الثواب وهو لا یدلّ إلّا علی الطلب، فمن أین یحكم بخصوص الِاسْتِحْباب إذ كما أنّ تعیینه في ضمن الوجوب محتاج إلی الدلیل، كذا تعیینه في ضمن الندب محتاج إليه، فلِمَ یحكمون بخصوص الاستحباب وأصالة البراءة من الإلزام لا یثبت الاستحباب الذي هو عبارة عن الطلب غیر الإلزامي سواء كان مدلول الخبر الضعیف وجوبه أو استحبابه، فمقتضی القاعدة هو التوقّف في التعیین إلّا أن یقوم دلیل معتبر علی أحدهما فان كان هو الخبر الضعیف في الِاستحباب لزم تعیین الوجوب في صورة قیامه علی الوجوب أيضاً، فلم لا یلتزمون به؟!

ویمكن الذبّ عنه: أوّلاً: بحمل كلام القوم علی الِاستحباب الظاهري بمعنی الحكم برجحان الفعل للأخبار وعدم لزومه بحیث یترتّب العقاب علی تركه لأصالة البراءة لا الحكم بكون الفعل معروضاً للأمر الندبي من قبل الشارع.

ص: 134

وثانیاً: بدعوی ظهور الأخبار في خصوص الأستحباب كما أشرنا إليه وهو غیر بعید بناء علی الموضوعیة الصرفة.

وثالثاً: بدعوی تعیین الجنس بالأصل هنا نظراً إلی أنّ فصل أحد النوعین نفس عدم فصل الآخر، فإذا حكم به من جهة الأصل، ثبت النوع وفیه تأمّل.

وثانیها: إنّه إذا قام خبر ضعیف علی وجوب شيء ولم یحتمل الِاستحباب وكان حكمه مردّداً بین الوجوب وغیر الاستحباب كأن اختلف الأمة علی قولین الوجوب والإباحة أو الكراهة والحرمة وغیرهما كموارد الحكومة المعیّنة وَالصّلاةِ في أیام استظهار الحیض في وجه وسائر موارد دوران الأمر بین المحذورین وغیرهما فإمّا أن یحكم فیه بالوجوب أو بالاستحباب، أو یطرح الخبر الضعیف رأساً.

فعلی ما قرّره القائلون بالتسامح من دلالتها علی الطلب الشرعي لزم الحكم بالوجوب هنا مع أنّهم لا یلتزمون به لعدم جواز التسامح في الواجبات عندهم؛ وذلك لأنّ الحكم بالِاستحباب مُخالِفٌ للإجماع أو غیره كما هو المفروض وطرحه منافٍ لإطلاق الأخبار لشمولها للخبر الوارد في الوجوب والاستحباب معاً، فلابدّ من تعیین الوجوب وهذا السؤال متّجه لابدّ من التفصيّ عنه بدعوی خروجه بالإجماع بناء علی الطریقیة بأن لا یكون لنفس بلوغ الثواب خصوصیة یترجّح بسببها الفعل واقعاً وإلّا فالسؤال ساقط؛ لأنّ عدم احتمال الاستحباب في نفس الفعل من حیث هو

ص: 135

هو لا یمنع من عروض الجهة الِاستحبابیة علیه، إلّا أن یفرض كون الفعل غیر قابل لذلك أيضاً، فیكون ذلك نظیر التخصیص في الأخبار المذكورة (1) لفرض عدم قابلیة المحلّ لعروض الحكم الذي علیها تلك الأخبار كسائر العناوین المستحبّة الّتی لا تجري في بعض الموارد لوجود ما یمنع جریانها.

نعم، لو قلنا بكون مدلولها خصوص الاستحباب لم یتّجه السؤال رأساً ولو علی الطریقیة، لكن استفادته علی الطریقیة بعیدة.

وقد یقال بناء علیها أيضاً: إنّه إنّما نقول بحجّیته في أصل رجحان الفعل دون خصوصیّة من الندب أو الوجوب، فانّ الواجب فیها التوقّف والرجوع إلی الأصول العملیّة كأصالة البراءة، وكم من حجّة شرعیة یتبعّض في مضمونها من حیث الأخذ والطرح ولو مع التلازم بحسب الواقع.

وثالثها: إنّ مقتضی الروایات المذكورة ترتّب الثواب الواجب في ما إذا روي وجوبه وثواب المندوب في ما إذا روي ندبه، فكما یقال بدلالة الحكم بترتّب ثواب المندوب في ما روي ندبه علی الندب، فكذا ینبغي القول بدلیلیّته بالنسبة إلی ما روي وجوبه.

وردّه بعضهم:

أوّلاً: بأنّ الفرق بین الواجب والمندوب إنّما هو في ترتّب العقاب علی

ص: 136


1- . في المخطوطة: المذکور.

الترك لا في مقدار الثواب؛ إذ قد یكون المترتّب علی المندوب أكثر من الواجب حسب ما قیل في ثواب الابتداء بالسلام وثواب ردّه (1).

وثانیاً: إنّه لا مانع في القول بالْتِزامِ ترتّب ثواب الواجب في المقام من باب التفضّل نظراً إلی الجهة المذكورة وإن قلنا بنقصان ثواب المندوب من الواجب من أصله. (2)

ویمكن الإشكال في الأوّل بدعوی أنّ الشيء الواحد لابدّ وأن یكون ثوابه علی تقدیر وجوبه أكثر منه علی تقدیر استحبابه، لأنّه إمّا تابع بحسب المقدار لنفس الطلب من حیث تأكّده وعدمه أو للجهات الباعثة علی الأمر من المصالح والمفاسد أو للجهات المتأخرّة عنه في الإطاعة والعصیان وهي بأسرها تختلف في الواجب والمندوب في الماهیّة الواحدة إذا أخذت مستجمعة للشرائط والأجزاء.

امّا الأوّل فواضح؛

وامّا الثاني، فلأنّ الوصف الموجب للوجوب یكفي بعضه للِاستحباب أمّا المصلحة فظاهر فیها ذلك وأمّا المفسدة فعلی تقدیر الِاكتِفاء بها وحدها یكفي جزء منها أيضاً للاستحباب إن لم یتأكّد بما یقوّیها.

ص: 137


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص474 و 475 وأيضاً طبعته الحجرية: ص425.
2- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص475.

وأمّا الثالث، فهو أيضاً كذلك؛ لأنّ الإطاعة في الواجب أتمّ وأكمل من المندوب ولیس ذلك من قبیل المثال المذكور؛ لاختلاف الموضوع فیه باعتبار الوصف ولا من قبیل كون ثواب مثل ثواب زیارة الحسین (علیه السلام) أو الحجّ المندوب مثلاً أكثر من ردّ السلام لاختلاف الماهِیَّةِ هناك الموجب لاختلاف الجهات المتأخّرة عن الأمر كسهولة الإطاعة وصعوبتها والجهات المتقدّمة عنه من الإطاعة والعصیان، وهي بأسرها تختلف في الواجب والمندوب في الماهیة الواحدة إذا أخذت مستجمعة للشرائط والأجزاء؛ لإمكان كون مصلحة الماهیة المندوبة أكثر من المفسدة في تركها.

وبالجملة، فوجوب الشيء یستدعي أمراً زائداً علی ما یستدعیه ندبیّته من الجهات الّتي یتّبعه كثرة الثواب وقلّته، فافترق الحال في الواجب المندوب في الشيء الواحد الذي منه المقام، فالسؤال باق علی حاله.

وفي الثاني بأنّ التزام كون إعطاء الثواب هنا من باب التفضّل موجب لحمل الكلام علی أصل إعطاء الثواب أعمّ من كونه تفضّلاً أو استحقاقاً وهو هدم لأصل الاستدلال؛ لعدم دلالة الكلام حینئذٍ علی الاستحباب أيضاً مطلقاً إلّا أن یثبت في إثبات أصل المدّعی بالدلالة العرفیة بعد فرض تعمیم الثواب أيضاً أو بالوجه الأخیر وكلاهما محلّا نظر ومنع.

ویمكن دفع الأوّل: بأنّه لا مانع من ترتّب ثواب الواجب علی المندوب مع اتّحاد الماهیة إذا كان الإتیان به رجاء الثواب الواجب أو ما شابهه هذه الجهة، لما أشرنا إليه من إمكان منع تعین ثواب الأعمال بحسب

ص: 138

الواقع بحیث لا یختلف بالجهات الطاریة.

والثاني: بأنّ التفضّل في مقدار الثواب غیر التفضّل في نفس إعطاء الثواب؛ لأنّ مرجع الثاني إلی عدم كونه ثواباً وأجراً حقیقة بخلاف الأوّل كما یظهر بملاحظة حال إعطاء المال الكثیر بأزاء العمل القلیل وبدونه، فإنّ الأوّل أجر وثواب دونه ومبنی الاستدلال علی نفي الثاني دون الأوّل.

السادس

إنّها معارضة لآیة النبأ حیث دلّت علی ردّ خبر الفاسق معارضة العامّ للخاصّ، كما ذهب إليه غیر واحد، فیجب تخصیص الأخبار بها ولو فرض المنع من ذلك وكون النسبة بینهما عموماً من وجه، فالترجیح للآیة لقطعیة سندها وموافقتها لِأَصالة حرمة العمل بالظنّ وغیرها.

قال المُحَدِّثُ البَحْرانيُّ طاب ثراه في تقریر الوجه الأوّل: «إنّ الأخبار دلّت علی ترتّب الثواب علی العمل الوارد بطریق عن المعصوم سواء كان المخبر عدلاً أم لا، طابق خبره الواقع أم لا، من الواجبات كانت أم من المستحبّات ومورد الآیة خبر الفاسق تعلّق بالسنن أو غیرها ولا ریب انّ هذا العموم أخصّ من ذلك العموم مطلقاً لا من وجه» (1).

وضعّفه بعض المحقّقین طاب ثراه بما حاصله: اختصاص هذه الأخبار بالخبر المشتمل علی ترتّب الثواب وعموم الآیة له ولغیره ممّا لا یشتمل علیه

ص: 139


1- . انظر: الدرر النجفية: ج3/ ص171 و 172 و 174 و 176؛ هداية المسترشدين: ج3/ ص475 وطبعته الحجرية: ص425.

فهي أخصّ من الأخبار من تلك الجهة كیف؟ ولو أخبر فاسق بترتّب عقاب علی عمل وغیر ذلك من الأمور التي لا یقتضي ترتّب الثواب علی العمل، كان مندرجاً في الآیة قطعاً ولا إشعار في هذه الأخبار بقبوله. (1)

ویمكن تصحیح ما ذكره بعد تعمیم الأخبار للدلالة الِالْتِزامِیَّة والأفعال والتروك كما هو ظاهر مقتضی قولهم التسامح في أدلّة السنن والكراهة مطلقاً إنّ كلّ ما دلّ علی رجحان فعل أو ترك - مطابقة أو التزاماً - فقد دلّ علی الثواب ولو التزاماً، فیشمل كلّ مادلّ من الأخبار علی أحد الأحكام الأربعة الاقتضائیّة حتّی ما مثّل به المحقّق المعترض لدلالته أيضاً علی رجحان تركه وترتّب الثواب علیه ولو بشرط نیّة القربة وغیرها.

وأمّا الخبر النافي لها أو المثبت للإباحة، فیمكن إخراجُهُ عن تحت الآیة أيضاً باعتبار أنّ الأمر بالتبیّن إنّما یَصِحّ في الخبر المخالف للأصل ولو بضمیمة تعلیل الآیة الشریفة علی أنّ إخراج ما عدا الخبر الدالّ علی الإباحة ونفي الحكم عن تحت الآیة ممّا لا تَتَحْمَّلُهُ الآیةُ الشریفةُ لفظاً، فلو نوقش في خروجه عن تحت الآیة كان بمنزلة العموم المطلق نظراً إلی عدم إمكان التخصیص؛ ومنه یظهر الكلام في ما دلّ علی الأحكام الوضعیّة إن لم نقل برجوعها إلی التكلیفیّة، فانّها ملازمة لها أيضاً وإلّا فلا ربط لها بالعمل حتّی یتكلّم في اعتباره.

ص: 140


1- . انظر: هداية المسترشدين، ج3، ص 475 و 476.

ویمكن إخراج الخبر النافي للحكم أو المثبت للإباحة بما ذهب إليه بعض مشایخنا (دام ظله) من عدم حجّیته واعتباره رأساً، وحینئذٍ فمدلول الأخبار قبول الخبر في إثبات الرجحان في الخبر المثبت للحكم ومدلول الآیة ردّه إذا كان فاسقاً.

ودعوی كون النسبة عموماً من وجه من جهة كون ردّ الخبر مطلقاً باعتبار مدلوله في مقابل العمل به في إثبات الرجحان فقط، أو مع إثبات العقاب وغیره، فالردّ أعمّ من ردّ جمیع مدلوله أو بعضه وإن كان ظاهراً في الإطلاق عند عدم التعارف؛ یمكن دفعها بأنّ الردّ عبارة عن عدم الإعتناء بخبره رأساً، فهو مفهوم واحد في مقابل الاعتناء بجمیع مدلول الكلام وبعضه، فحمل الردّ علی عدم الإعتناء به في غیر الرجحان مثلاً لهذه الأخبار أشبه شيءٍ بالمجاز لا بالتخصیص علی أنّ هذا الوجه خلاف ظاهر الاعتراض المذكور فتأمّل هذا.

والتحقیق إنّ النسبة عموم من وجه بعد فرض التوجیه المذكور أيضاً، لشمول الآیة للموضوعات والأحكام كلاهما، بل لعلّها في الأوّل أظهر والأخبار منها ما هو صریح في خصوص الأحكام، كالواردة في بلوغ الثواب عن النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم).

ومنها: ما هو ظاهر في الاختصاص ولو فرض شمول الأوّل لبلوغ الموضوع عنه (صلی الله علیه و آله و سلم)، كان في خروج غیره من أخبار الموضوعات كفایة في كون النسبة عموماً من وجه؛ وأجابوا عنه بوجوه:

ص: 141

الأوّل: إنّ مدلول الآیة هو عدم جواز العمل من دون تثبّت والعمل هنا لیس كذلك لورود المعتبرة بجواز العمل بها، فیكون ذلك تثبّتاً فیه وعملاً به بعده. (1)

وفیه: إنّ الظاهر من التبیّن، هو التبیّن عن حال المخبر أو الخبر دون ما ذکر.

الثاني: إنّ دلالة هذه الأخبار أوضح في جواز العمل بخبر الفاسق في دلالة الآیة علی المنع، سِیَّما بملاحظة إجراء الحكم فیها علی تقدیر الكذب أيضاً، فیقدم علیها (2) وقد یقرّر ذلك باعتبار وقوع المطلق في سیاق ألفاظ العموم، فیسري العموم إلی المطلق، فیكون شموله للفاسق أقوی من شمول إطلاق الآیة للثواب لعدم وقوعه في سیاقه به وقوعه في حَیّز أداة الإهمال.

الثالث: ما ذكره بعض المحقّقین (3) طاب ثراه من عدم التعارض بینهما رأساً، ومحصّل بیانة إنّ مدلول الأخبار أنّ الشارع طلب منّا الإتیان بما بلغنا فیه ثواب وحكم بترتّبه علیه وإن كان كاذباً، فبلوغ الثواب سبب لترتّب الثواب علیه ورجحانه لا كاشف عن حصوله في الواقع ومبیّن له كما هو

ص: 142


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص476.
2- . نفس المصدر.
3- . هو الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الإصفهاني.

شأن الدلیل لیكون الاعتماد علی خبر الفاسق، فهو محصّل للموضوع لا مثبت له. (1)

ویشكل ذلك ما ذكره بعض الأساطین (2) من أنّ استحباب كلّ فعل دلّ علی استحبابه خبر ضعیف عبارة أخری عن حجیّة الخبر الضعیف في المستحبّات، ویجوز مثل هذا التعبیر في حجّیة الخبر الصحیح بأن یقال الكلام فیه في وجوب كلّ فعل دلّ الخبر الصحیح علی وجوبه واستحباب كلّ مادلّ الخبر علی استحبابه وكذا الحرمة والكراهة والإباحة والأحكام الوضعیّة، بناء علی كونها أحكاماً مستقلّة، كما استدلّوا علی حجّیة الخبر الواحد بأنّ في ترك الفعل الذي أخبر بوجوبه مظنّة الضرر وهكذا.

وحاصل هذا یرجع إلی أنّه یجب عقلاً كلّ فعل أخبر بوجوبه ویحرم كلّ فعل أخبر بحرمته، بل إذا تأمّلت في سائر أدّلة وجوب العمل بالخبر لا تجدها إلّا إنشاء الأحكام الظاهریة المطابقة لمدلول الخبر لموضوعاتها ولا محصّل لجعل الخبر حجّة ومتّبعا إلّا هذا، فانّ المراد في تصدیق العادل في [ما] یخبره أو العمل بخبره لیس عقد القلب علی صدقه وكونه متّبعاً، بل تطبیق المكلّف عمله، أعني حركاته وسكناته علی مدلول الخبر وهذا المعنی

ص: 143


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص477.
2- . هو الشيخ مرتضی الأنصاري.

بنفسه مجعول في الخبر الضعیف بالنسبة إلی الاستحباب. (1)

مضافاً إلی أنّ معنی طرح خبر الفاسق جعل احتمال صدقه كالعدم وظاهر هذه الأخبار الاعتناء باحتمال صدقه وعدم جعله كالعدم ولهذا لو وقع نظیر هذا في خبر الفاسق الدالّ علی الوجوب، لكانت أدلّة طرح خبر الفاسق معارضة له قطعاً، فتأمّل جیّداً.

الرابع: ما ذكره بعض الأساطین من أنّ الآیة الشریفة بشهادة تعلیلها مختصّة بالوجوب والتحریم، فلابدّ في التعدّي عنها من دلیل مفقود في المقام. (2)

وفیه نظر؛ فانّ خوف الوقوع في الندم ومخالفة الواقع في الوجوب والتحریم إن كان هو المخالفة الالتزامیة والندم علی البناء علی ما لا ینبغي البناء علیه، فهو ثابت هنا أيضاً، لأنّ البناء علی الاستحباب كالبناء علی الوجوب.

وإن كان هو المخالفة العملیة لكون ما أخبر بوجوبه محرّماً مثلاً وبالعكس، فهو جار هنا لشمول المدّعی لمحتمل التحریم أيضاً كما هو مختاره ظاهراً بناء علی ثبوت المدّعی بالأخبار.

ص: 144


1- . انظر: الرسائل الفقهية: ص144.
2- . انظر: الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص273؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص40 و ج4/ ص139 و ج2/ ص69.

إلّا أن یقال إنّ هذا كلام في ذلك الفرع فلا دخل له بأصل المدّعی لارتفاع التعارض في غیره وكان مراده تخصیص الآیة بغیر الخبر الوارد علی طبق الاحتیاط في مقام العمل لكون التعلیل حینئذ موافقاً للعمل لا للترك، فتدبّر.

ثمّ إنّه ربّما یقرّر التعارض بین الأخبار المذكورة وغیر الآیة المتقدّمة ممّا دلّ علی طرح الفاسق والحال فیه غیر محتاج إلی الإطالة بعد ما بیّناه.

السابع

إنّ المسألَةَ أصولیة فلا یكتفی فیه بالظنّ. (1)

وجوابه: المنع من ذلك، فانّ الظنّ المعتبر حجّة فیهما كما أنّ غیره لا یعتبر فیهما كما قرّر في محلّه.

وقد یجاب عنه بمنع كون المسألَةِ أصولیةً لعدم كون المدّعی علی إثبات حجّیة الخبر، بل استحباب الفعل الذي بلغ فیه الثواب كما سبق بیانه.

وفیه نظر: أوّلاً: لِما سبق من رجوعه إلی الحجّیة عند التحلیل علی ما مرّ.

وثانیاً: بأن حاله علی ذلك حال الأصول العملیّة في كونها من مسائل الأصول.

الوجه الثالث: قاعدة الاحتیاط وقد سبق الكلام فیه.

وفیه: إنّها لا تفي بإثبات (2) الاستحباب الشرعي كما هو ظاهرهم

ص: 145


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص467.
2- . في المخطوطة «لا نفی بإثبات».

فتدبّر.

فتحصّل ممّا قرّرنا كلّه أنّ الحكم باستحباب الفعل شرعاً من جهة الخبر الضعیف في غایة الإشكال خصوصاً في مقابلة حسن الإتیان به رجاء للمطلوبیة عقلاً واحتمال تنزیل الأخبار علیه كما سبق بیانه، اللهمّ إلّا أن یدّعی ظهور الأخبار غیر المقیّدة لكون الفعل رجاء للثواب في ترتّب الثواب علی نفس العمل، فتدلّ علی طلب الشارع لمحتمل المطلوبیة علی الوجه الخاصّ، فیكون هذا الثواب المخبر به بأزاء موافقة الاستحباب الّذي كشف عنه ببیان الثواب ویمنع من دلالة الفاء علی سببیته البلوغ للفعل وتأثیره فيه بجعلها عاطفة علی نحو قوله «من سمع الأذان فبادر إلی المسجد كان كذا وكذا» ویؤیّد ذلك بفهم الأصحاب القائلین بالتسامح، فتأمّل جیداً.

ص: 146

التنبیه الثاني

إنّ محلّ الكلام في المسألَةِ المتقدّمة إنّما هو في الوجوب هو احتمال الوجوب النفسي المستقلّ - سواء كان تعیینیاً أو تخییريّاً وسواء كان عینیّاً أو كفاییّاً - إذا وقع الشكّ في أصل تحقّق التكلیف رأساً، كما إذا شكّ في وجوب الكفّارة لبعض الأسباب أو في وجوب حفظ أموال النّاس عند عدم حضور صاحبه علی سبیل الكفایة، فالظاهر عدم فرق (1) الجريان فيه وفي لازمه وهو سقوط التکليف بالآخر إذا شكّ في سقوطه بفعله

واستشكل في الأوّل نظراً إلی وحدة التكلیف وتردّده بین الكلّي والفرد، فتعیّن هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتیقّن الوجوب.

واعترض علیه بعض مشایخنا (دام ظله) ظاهراً بأَنّ تعیین الرجوع إلی أصالة عدم السقوط مناقض لما اختاره في مسألة الشكّ في الشرط من إجراء أصالة البراءة؛ فانّ تردّد الواجب بین الكلّي والفرد یرجع إلی الشكّ في

ص: 147


1- . في المخطوطة: الفرق.

اشتراط الكلّي بالخصوصیّة وعدمه وهو مجری أصالة البراءة عنده، فكیف حكم بتعیین أصالة عدم السقوط؟!

ویمكن الجواب عنه بأنّ مفروض كلامه لیس في التخییر العقلي الذي یرجع إلی الشكّ في الشرطیة؛ لاختصاصه بما إذا شكّ في اعتبار الخصوصیّة في الماهیّة بعد فرض العلم بوجوبها في الجملة وما نحن فیه لیس ذلك، بل هو الكلام في ما لو علم وجوب شيءٍ في الجملة وشكّ في وجوب شيءٍ آخر أيضاً علی سبیل التخییر، لوجود قدر مشترك بینهما وعدمه؛ والفرق بینهما أنّ القدر المشترك بین الأمرین معروض للأمر في الأوّل معلوم الوجوب تفصیلاً، والشكّ إنّما هو في اشتراطه وإطلاقه، وفی الثاني لم یعلم عروض الأمر له ولا علم بوجوبه من حیث هو هو وإن علم وجوب الفرد المعلوم الوجوب وأمكن انتزاع القدر المشترك منه، فلابدّ حینئذ في الحكم من ملاحظة العنوان، فإن كان الكلّي المشترك من حیث هو هو معروضاً للأمر قطعاً إمّا بشرط شيءٍ أو لا بشرطه كان الكلام فیه في المسألةِ المعروفة وإن كان القدر المشترك غیر معلوم الوجوب من حیث عنوانه وإنّما المعلوم وجوب شيءٍ یصدق علیه من غیر أن یعلم كون صدقه ملحوظاً للأمر أصلاً - فضلاً عن تعلّق الأمر به - فهو المبحوث عنه هنا، ولعلّ من هذا القبیل صورة الشكّ في وجوب الجمعة تخییراً مع فرض العلم بوجوب الظهر في الجملة فافهم.

وبالجملة، فلا إشكال في عدم جریان أصالة العدم في التخییر العقلي

ص: 148

الراجع إلی الشكّ في الشرط رأساً بالنسبة إلی الفرد المشكوك، فانّه لیس واجباً حقیقة وإنّما الواجب هو الماهیة الموجودة في ضمنها المعلوم وجوبها بأحد الإعتبارین، أعني اعتبارها بشرط الخصوصیة المحتملة أو لا بشرط شيءٍ، وفی جریان أصالة عدم الاشتراط وجه یأتي إن شاء الله تعالی في محلّها.

وأمّا الصورة المتقدّمة، فالظاهر أيضاً عدم الجریان في الفرد المشكوك لما سبق [من] أنّ عدم وجوب الفرد حقیقة من حیث هو وأصالة عدم وجوب القدر المشترك معارض بأصالة عدم وجوب الطرف المقابل، فإجراء الأصل تعیین للحادث بالأصل لاتّحاد الوجوب والشكّ في متعلّقه الحقیقي، فلا یجري في رفع الخصوصیة هنا أيضاً بخلاف سابقه.

وأمّا الصورة الأخیرة فأصالة العدم جاریة في المشكوك علی القول بوجوب كلا الطرفين في الواجب التخييري؛ لأنّه حكم شرعيّ مشكوك فيه ابتداء، أمّا علی القول الآخر فلا یخلو عن إشكال نظراً إلی وحدة التكلیف حینئذٍ، فیرجع إلی الشكّ في متعلّقه من أنّه الواحد المعیّن أو المخیّر.

وعلی كلّ حال فلا إشكال في جریان أصالة عدم سقوط التكلیف بالآخر بفعله إذا شكّ في سقوطه في الصورتین معاً لو لم نقل بحكومة أصالة البراءة عن كلفة التعیین علیها، ولو علم سقوط التكلیف به وشكّ في كونه مسقطاً أو واجباً علی التخییر انحصر مجری أصالة العدم في نفس الطلب.

هذا كلّه إذا لم یعرض ما یوجب تعیّن الوجوب بالفرض لتعذّر ذلك الطرف المعلوم الوجوب، وإلّا جری أصالة البراءة عن الوجوب التعییني

ص: 149

في كلا الصورتین علی ما صرّح بعض الأساطین (1)، والظاهر اختصاص مراده بغیر ما إذا عرض التعذّر بعد تنجّز التكلیف وإلّا ففیه إشكال، كما أنّ أصله لا یخلو من خفاء لو قلنا بجریان أصالة البراءة عن التعیین في أصل المسألة في الشبهة الحكمیة وحكمنا بالتخییر من جهتها فتدبّر.

ثمّ إنّه ربّما تَتَفَرَّعُ علی ما ذكرنا مسألَةُ الشكّ في وجوب الإئتمام علی من عجز عن القراءة وتعلّمها، بناء علی رجوع المسألةِ إلی أنّ الایتمام مستحب مسقط أو واجب مخيّر بینه وبین الصّلاة مع القراءة، فیدفع وجوبه بالأصل.

وردّ هذا التمثیل بعض الأساطین بأنّ صلاةَ الجماعة فرد من الصَّلَواتِ الواجبة فَتتَّصَفَ بالوجوب لا محالة، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل الأفراد الواجب التخییريّ، فیختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غیره، فإذا عجز تعیّن، كما إذا منعه مانع آخر عن الصّلاة منفرداً یمكن منع تحقّق العجز في ما نحن فیه، فانّه متمكّن من الصّلاة منفرداً بلا قراءة لسقوطها عنه بالتعذّر كسقوطها بالایتمام، فتعیّن أحد المسقطین یحتاج إلی دلیل. (2)

وظاهر هذا الكلام ابتناء المسألةِ علی كون تعذّر القراءة سبباً لسقوطها

ص: 150


1- . هو الشيخ مرتضی الأنصاري.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص160 و 161.

مطلقاً أو بشرط تعذّر مطلق الصّلاة الاختیاريّ، فالمرجع في حكم المسألة هو الدلیل الدالّ علی السقوط بالتعذّر والإكتفاء بما یحسن منها وغیره من إبدال القراءة، كما اختاره بعض مشایخنا (دام ظله) ظاهراً من مبنی المسألةِ علی إثبات بدلیّة ما یحسن منها أو مطلق الذكر وغیرهما ممّا ذكر في محلّه عند التمكّن من الجماعة، فإن ثبت إطلاق البدلیة والاكتفاء، فهو وإلّا فلا وهو جیّد جدّاً.

فالمرجع إطلاق الأدلّة لما نحن فیه المؤیّد بندرة فرض عدم التمكّن من الجماعة في بلاد الإسلام، فعدم التعرّض لتقیید المدلول بالعجز عنها أيضاً مؤیّد لشموله لغیره، فإن ثبت الإطلاق المذكور جاز ترك الایتمام - سواء كان قراءة الامام بدلاً أو مسقطاً من دون فرق بینهما - لدخول الصَّلاةِ الفاقدة للقراءة تحت مطلق الصَّلَواتِ المأمور بها وإلّا كان اللازم التوقّف والرجوع إلی الأصول.

فما یظهر من فخر المحقّقین في الإیضاح من أنّ المَنْشَأَ في المسألَةِ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط (1)، محلّ نظر وما ذكره من «أنّ كلّ بدل اختیاري یجب عیناً عند تعذّر مبدله» إنّما یتمّ إذا لم یقم دلیل علی إثبات بدل آخر عند تعذّر المبدل والإكتفاء بغیره وإلّا فترجیح البدل علی المقیّد وما اكتفی

ص: 151


1- . انظر: إيضاح الفوائد: ج1/ ص154 ونقل عنه في الفرائد (للمجمع): ج2/ ص161.

الشارع به غیر بیّن ولا مبیّن، فتأمّل.

الرابع لو شكّ في الوجوب الكفائي، فإن كان الشكّ في ثبوته رأساً وفي الشرع وعدمه، فالظاهر أنّه لا إشكال في جریان أدلّة البراءة فیه كما أشرنا إليه، وإن كان الشك في ثبوته كفایة بعد تحقّق التكلیف في الجمله فإمّا أن یكون الأمر دائراً بین وجوبه علی بعض معیّن عیناً وبین كونه علی الكلّ كفایة؛ وإمّا أن یكون دائراً بین وجوبه علی الكلّ عیناً أو كفایة، فإن كان الأوّل وهو المقصود بالبیان هنا ابتداء لدوران الأمر فیه في حقّ الباقین بین الوجوب الكفائي والإباحة، فالّذي ذكره بعض الأساطین (1) إحالته علی ما سبق منه في التخییري وإنّ حاله یظهر ممّا ذكره هناك ومثّل له بوجوب ردّ السلام علی المصلّي إذا سلّم علی جماعة هو أحدهم.

والظاهر أنّ مراده (قدس سره) التفصیل بین صورة قیام غیر الشّاكِّ بالمكلّف به وعدمه فیجري في الثاني أصالة البراءة لصیرورته عینیّاً بالعرض، فانّ الواجب الكفائي مع عدم من یقوم به ینقلب عینیّاً، كما یكشف عنه ترتّب العقاب علی الجمیع بخلاف الأوّل لظهور أدلّة البراءة في نفي التكلیف المجهول بحیث یلتزم به ویعاقب علیه وهنا لا التزام ولا عقاب لقیام غیره به علی تقدیر كونه واجباً عینیّاً أيضاً، فالعقاب هنا مقطوع العدم ولا یلزمه التكلیف لو كان ثابتاً في الواقع، فمراده (قدس سره) ظهور حال الصورتین نفياً

ص: 152


1- . هو الشيخ الأعظم الأنصاري في فرائد الاصول: ج2/ ص161.

وإثباتاً ممّا ذكره في التخییري من التفصیل بین صورة عروض الیقین للفرد المشكوك الوجوب وعدمه، فاختار الجریان في الأوّل واستشكل في الثاني لما مرّ.

ولا یتوهّم أنّ مراده نفي الجریان هنا مطلقاً مع عدم الانحصار، كما هو المحكيّ عن بعض المُحَشِّین ظاهراً نظراً إلی تعذّر الطرف الآخر في التخییري لیس نظیراً لنفس ترك المكلف الآخر هنا، بل هو نظیر انحصار المكلّف هنا ولو باعتبار عدم تمكّن الغیر من القیام به؛ وذلك لظهور الفرق بین المقامین؛ فانّ بترك الآخر هنا یترتّب العقاب علی التكلیف المشكوك فیه لو تنجّز قطعاً، فما المانع من جریان أدلّة البراءة هنا مع كون ترك الآخر خارجاً من اختیار المكلّف؟ فالعقاب الثابت هنا علی تقدیر التنجّز عقاب نفس تكلیفه الكفائي بخلاف التخییري، فإنّ ترك الطرف المقابل مقدور للمكلّف وفعله مأمور به قطعاً، والظاهر أنّ ترتّب العقاب هناك علی ترك الجمیع، لا خصوص الطرف المشكوك.

وحاصل الفرق: إنّ مقتضی العقاب هنا مشكوك فیه وهناك مقطوع به وإنّما الشكّ في متعلّقه.

وكیف كان فالّذي یظهر في المقام هو ما ذكرنا من التفصیل، فإن كان مراده ذلك، فهو وإلّا فللتأمّل فیه مجال كما بیّنا.

هذا بناء علی ما ذکره من اختصاص البراءة بما فیه إلزام علی المكلّف ویترتّب العقاب علی تركه وإلّا فالمتّجه ما ذكره بعض مشایخنا (دام ظله) ظاهراً

ص: 153

هنا من جریان البراءة مطلقاً.

ثمّ إنّه ربما یسري الإشكال إلی الصورة السابقة أيضاً علی تقدیر قیام الغیر به كما هو لعلّه مقتضی ترك المحقّق المذكور التفصیل هنا، فیتّجه إخراجه عن المسألَةِ الِاتّفاقیّة وتخصیص محلّ الكلام فیها بالشكّ في الوجوب العیني ولو بالفرض، كما أنّه یمكن إجراء ذلك في التخییري أيضاً نظراً إلی وجوب أحدهما عیناً، فیختصّ محلّ الكلام هناك بالعیني أيضاً وفیه تأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلی من شكّ في وجوبه علیه وأمّا بالنسبة إلی من علم وجوبه علیه وشكّ في كونه عینیّاً علیه أو كفائیّاً، فسیأتي الكلام فیه في الصورة الثانیة إن شاء الله تعالی.

وأمّا الصورة الثانیة وهو تردّد التكلیف بین العیني علی الكلّ والكفائي، كتردّد الإجتهاد بین كونه عینیّاً أو كفائیّاً لو كان التكلیف نفسیّاً كما ذهب إليه بعضهم في مسألَةِ وجوب التعلّم نفساً، فالّذي یحتمله كلام بعض المحقّقین هو الأخذ بالأوّل نظراً إلی أنّه لا یقین بالبراءة إلّا معه (1)؛ ویحتمل إرادته الصورة المتقدّمة ولم أجد مَنْ تَعرّضَ لهذه الصورة حتّی نَعْرِضَها، مع أنّه لا یبعد عدّها من مشكلات مجاري الأصول، بل كان ینبغي أن یجعل عنواناً مستقلاً لها ولما تقدّم وسیجيء إن شاء الله تعالی وهو

ص: 154


1- . انظر: مفاتيح الاصول، ص519.

عنوان الشكّ في کیفیّة التكلیف لا بأس ببیان ما يخطر بالبال في حكمها.

فنقول وبالله تعالی التوفیق إنّ المسألَةَ مبنیة علی الأقوال المذكورة في حقیقة الواجب الكفائي من أنّه واجب علی الكلّ علی نحو الوجوب العیني ویسقط بفعل البعض، كسقوط الصّلاة بالحیض كما ربّما یظهر من بعضهم، أو یسقط به لانتفاء الموضوع كسقوط أداء الدین بتبرّع الغیر كما عن جماعة منهم، أو أنّه واجب علی الكلّ علی نحو یتأدّی المطلوب بفعل البعض ویتحقّق تمام الامتثال به، أو أنّه واجب علی البعض، أو أنّه واجب علی المجموع، فیصدق مع إتیان البعض به حصول الفعل من المجموع في الجملة، أو أنّه مشتمل علی واجبین كفائي متعلّق بالبعض غیر المعیّن وعیني مشروط متعلّق بالجمیع واستحقاق الكل علی الترك لأجل الثاني.

فإن قلنا بالأوّل، فالظاهر عدم جریان أصالة البراءة وأنّ الأصل فیه الاشتغال كما ذكره المحقّق المتقدّم في محتمل كلامه، فإنّ التكلیف قد تعلّق بالجمیع قطعاً، وإنّما الشكّ في إسقاط فعل البعض له لزوال علّة الوجوب كما ذكره بعضهم، ومن المقرّر في محلّه أنّ الشغل الیقیني یقتضي البراءة الیقینیة، لكنّ الظاهر وهن الوجه المذكور بحیث ینبغي حمل كلام من ربّما یظهر منه ذلك علی غیره كما قرّر في محلّه.

وإن قلنا بالثاني، فربّما یترائی جریان ما ذكرنا في سابقه هنا، لكنّ التحقیق إنّ الشكّ حینئذ في كیفیّة التكلیف، أو أنّ المطلوب هو تحقّق الفعل في الخارج الثابت بالفعل الواحد، أو أنّ المطلوب هو الأفعال المتعدّدة

ص: 155

بحسب تعدّد المكلّفین إن أرید بانتفاء الموضوع بفعل البعض كون الماهیّة مأخوذة لا بشرط شيءٍ بحیث تتحقّق بفعل واحد منهم، فتغسیل المیّت مثلاً أو الصّلاة علیه في الجملة واجبة علی المكلّفین بمعنی أنّ قیام كلّ واحد منهم علی الاستغراق بالماهیّة الملحوظة علی الوجه المذكور مطلوب للآمر، فیلزمه سقوطه من الباقین بفعل البعض.

وإن أرید بانتفاء الموضوع في موارد الوجوب الكفائي تقیید ذات الموضوع بما لم یتحقّق فیه متعلّق الأمر في ما یحتاج إلی التقیید كالمیّت غیر المغسول وغیر المصلّی علیه، فینبغي وصف الموضوع بصدوره من واحد منهم، فینتفي المشروط بانتفاء شرطه كانتفاء ذاته في مثل النهي عن المنكر وإرشاد الجاهل، فمرجع الشكّ حینئذٍ إلی الشكّ في اشتراط الوجوب بالقید المعتبر في الموضوع علی تقدیر وجوبه كفایة وعدمه علی التقدیر الآخر؛ لأنّ قیود الموضوع شرائط للوجوب.

لكن هذا الوجه أيضاً لا یجري في مثل وجوب الاجتهاد كفایة مثلاً بظاهره، ولعلّ الظاهر في مثله جعل نفس الحكم مشروطاً بما إذا لم یتحقّق موضوع الحكم، ككونه واجباً لو لم یكن مجتهد في الإسلام ولعلّ مراد الجماعة هو الوجه الثاني من دون التفاتهم إلی المثال المذكور وماشابهه، وأمّا الوجه الأوّل فهو بعید عن ظاهر التعبیر جدّاً إلّا بإرجاعه إلی الوجه الثالث.

وبالجملة، فعلی الاحتمال الأوّل قد یقال بجریان البراءة في نفي العیني نظراً إلی إحالة البراءة عن التكرار ولو من الجمیع؛ فانّ وجوب مازاد علی

ص: 156

المرّة الواحدة علیهم تكلیف مشكوك الثبوت، فیشمله أدلّة البراءة؛ مضافاً إلی أنّ العینیة ضیق وإلزام علیهم، فیدفعه الأدلّة المقرّرة نظیر ما قیل في الوجوب التخییري ودفع التعییني بأصالة البراءة.

وبالجملة وكیفیة التكلیف مشكوك وإحدی الكیفیتین مشتمل علی ضیق وكلفة لیس في الأخری، فهو موضوعة عنهم وهم في سعة منه.

وقد یقال بالثاني نظراً إلی أنّ ذمّة كلّ منهم قد اشتغلت بالفعل قطعاً كما هو المفروض، فلابدّ من تحصیل العلم بالبراءة ولا یعقل اشتغال ذمة كلّ منهم بفعل الآخر حتّی یؤخذ بالمتيقّن (1) ویدفع الزائد بالبراءة، بل كلّ منهم مشغول ذمّته بفعل نفسه، فلابدّ من یقین البراءة بالفعل أو إحراز المسقط.

وما ذكر من جریان البراءة في ما زاد علی المرّة لو سلّم جریان الأصل في أصل التكلیف مع قطع النظر عن المكلّف الخاصّ، فإثباته سقوط التكلیف الثابت في حقّ كلّ واحد منهم ممنوع، فلا مسرح عن أصالة الاشتغال واستصحابه.

وما ذكر من أنّ العینیة ضیق وكلفة، ففیه: أنّ العینیّة لا كلفة فیها (2) زیادة علی اقتضاء التكلیف تحصیل الامتثال مع عدم المسقط، ومجرد كون

ص: 157


1- . في المخطوطة كتب فوقه «بالمتعين».
2- . في المخطوطة فوقها، «بها».

الوجوب الكفائي بحیث يسقط بفعل الغیر لا یضرّ في جعل ذلك الاقتضاء ضیقاً زائداً علی القدر المعلوم، علی أنّ دفع مطلق الضیق والكلفة بأدلّة البراءة غیر ظاهر.

وأمّا علی الاحتمال الثاني، فالظاهر أنّه لا مانع من جریان أصالة البراءة من حیث المقتضي؛ لأنّ المرجع في الشكّ في شرط الوجوب إلی أصالة البراءة عن الوجوب في صورة فقدان الشرط، وقد عرفت رجوع الشكّ حینئذ إلی ذلك، إنّما الإشكال هنا من جهة سبق الاشتغال لوجود الموضوع بوصفه أوّلاً وثبوت التكلیف علی كلّ منهم، فالشكّ في ارتفاع الموضوع بعد حصوله، لكن استصحاب الحكم غیر جار هنا لعدم ثبوت بقاء موضوعه واستصحاب الموضوع غیر معقول البقاء ذاته قطعاً وارتفاع وصفه المشكوك اعتبار كذلك، إلّا أن یستصحب موضوعیّته وهو في معنی استصحاب حكمه؛ لأنّه منتزع من ترتّب الحكم علیه علی أن الشكّ هنا منشأه الجهل بالمقتضي لتردّده بین المشروط والمطلق.

بقي هنا إجراء أصالة الاشتغال، لكنّ الظاهر أنّ الاشتغال هنا إنّما ثبت مادام وصف الموضوع باقیاً، فما عداه مدفوع بأصالة البراءة، مضافاً إلی أنّه أصل مثبت لا یعوّل علیه عندهم؛ لأنّ الاتیان بغیر مورد الوصف لم یثبت مطلوبیّته ولا الاشتغال به، فلا یثبت بها ذلك، فإنّ غسل المیت المغسول مرّة لم یثبت مطلوبیته ولا یثبته الأصل المفروض؛ لأنّ مقتضاها بقاء الاشتغال بعین ما اشتغلت الذمّة به أوّلاً، لا بما یحتمل فیه ذلك وإثبات

ص: 158

شرعیّة غسل المغسول بأصالة اشتغال الذمّة بما یحتمل تقیّده بعدم كونه مغسولاً مشكل، فالظاهر جریان البراءة هنا من دون معارض.

لكن في مثل مسألَةِ الأجتهاد لو قلنا بكونه شكّا في اشتراط الوجوب ابتداء - كما أشرنا إليه - ربّما یقوّي أصالة الأشتغال لبقاء الموضوع، بل واستصحاب الشغل بناء علی اعتبار الاستصحاب في الشكّ في المقتضي، ولعلّ ابتناء المسألة علی ذلك القول لا یخلو عن وجه؛ لإمكان منع أصالة الاشتغال بعدم ثبوت الشغل إلّا مادام الشرط موجوداً، فیدفع الباقي بأصالة البراءة فتدبّر.

وإن قلنا بالوجه الثالث، فمرجع الشكّ إلی كیفیة التكلیف باعتبار المكلَّف وأنّه مأخوذ علی وجه بدلیّة كلّ واحد من أبعاض المكلّفین عن الآخر أو لا، بل وجه العینیة، وحینئذٍ فیحتمل إجراء أصالة البراءة لما تقدّم في الاحتمال الأوّل علی القول بالثاني، بل هو هنا أولی؛ لأنّ ما ذكر في دفع أصالة البراءة من كلفة التعیین بأنّ ذلك لیس زائداً علی ما یستدعیه نفس التكلیف غیر جارٍ هنا لو تمّ هنالك؛ لأنّ التكلیف البدلي علی الوجه المفروض لا یستدعي إلّا امتثالاً واحداً من الكلّ، فتعیین التكلیف هنا كلفة زائدة علی أصله، بل لعلّ هذا أظهر في ما نحن فیه منه في الواجب التخییري، ولا یجري استصحاب الاشتغال بناء علی اختصاص الحجّیة بالشكّ في المانع؛ لكون منشأ الشكّ تردّد المقتضي أعني التكلیف بین الوجهین، وأصالة الِاشتغال أيضاً لا یخلو عن إشكال لتردّده من أوّل الأمر

ص: 159

بین الكیفیّتين المختلفتین في استدعاء الامتثال، فیمكن منع الاشتغال بما زاد علی مقتضی التكلیف البدلي بحكم أصالة البراءة واعتبار أصالة الاشتغال حینئذٍ ممنوع رأساً لعدم ظهور دلیل علی اعتبارها عند التردّد بین كون الاشتغال بما یبقی وبین كونه بما یرتفع بفعل الغیر.

وما أشرنا إليه من المناقشة في جریان البراءة في غیر حقّ خصوص المكلّفین یمكن دفعها:

أوّلاً بإطلاق أدلّة البراءة خصوصاً في الشبهة الحكمیّة التي یدفع بأصالة البراءة الحكم الكلّي المعلّق علی الموضوع الكلّي.

وثانیاً بإجراء الأصل هنا في المكلّف الخاصّ باعتبار التكلیف الإلزامي المترتّب علیه العقاب الناشي من جعل التكلیف، فانّ ما ألزم به المكلّف هنا بحیث یعاقب علی تركه مردّد بین المطلق والمقیّد بترك الآخرین خصوصاً علی ما ذكره بعض الأساطین ومرّت الإشارة إلیه من أنَّ المدفوع بها هو التكلیف الإلزامي الّذي یترتّب علیه العقاب ومن البیّن إنّ هذا المعنی هنا مردّد بین المطلق والمشروط بتروك سایر المكلّفین الذي هو التكلیف علی وجه البدلیّة.

وممّا ذكر یظهر جواب ما ذكر هناك من أنّ إثبات الأصل سقوط التكلیف ممنوع، فانّه هنا لیس سقوطاً، بل تحقّق مقتضی التكلیف بفعل الغیر علی تقدیر كونه كفائیاً، فإجراء البراءة هنا لا یخلو عن قوّة وإن كان لإجراء الاشتغال أيضاً وجه قد ظهر ممّا قرّرنا، فتأمّل فانّ المسألة بعد محلّ

ص: 160

إشكال.

وإن قلنا بالوجه الرابع فإجراء البراءة أيضاً لا یخلو مِن قوّة، بل لعلّه هنا أولی كما لا یخفی وجهه ممّا سبق، كما أنّه علی القول بالخامس أيضاً كذلك، بل لعلّه أولی منهما معاً.

وإن قلنا بالسادس فالمتّجه إجراء البراءة بالنسبة إلی التكلیف العیني عند قیام البعض وبالنسبة إلی الكفائي كالرابع ولعلّه هنا أولی؛ لأنّ الظاهر إنّه لا یلتزم بترتّب عقاب آخر غیر العقاب المترتّب علی ترك الواجب المشروط لأجله علی تقدیر ترك الكلّ فتدبّر.

وممّا ذكرنا كلّه یظهر بعض الكلام في تردّد الواجب بین العیني علی البعض والكفائي بالنسبة إلی ذلك البعض علی تقدیر إتیان غیره بالواجب، وأمّا علی تقدیر ترك غیره القیام به، فتعیينه علیه وترتّب العقاب علی تركه معلوم تفصیلاً وإن حصل الشكّ في الجهة.

والظاهر جریان الاشتغال فیه علی الأوّل لما سبق بعینه، وأمّا علی الثاني فعلی الاحتمال الأوّل أصالة البراءة أشكل هنا منها في المسألة المتقدّمة؛ لعدم تردّد الواجب علی الجمیع هنا بین الواحد والمتعدّد، بل هو معلوم الوحدة، لكنّ الشكّ في المكلّف وأنّه البعض المعیّن أو الكلّ، فتغسیل المیّت یجب مرّة واحدة قطعاً، لكنّ الشكّ في اختصاص التكلیف به فأولی النّاس بمیراثه عیناً أو علی الكلّ كفایة، فلا یظهر هنا وجه لإجراء البراءة أصلاً سوی دعوی كون العینیّة كلفة زائدة مدفوعة بها كما تقدّم، لكنّه أيضاً لو

ص: 161

سلّم هناك یمكن منع صحّته هنا نظراً إلی الشكّ في عروض فعل الغیر للأمر رأساً فإجراء البراءة عن كلفة العینیّة وإثبات تعمیم الوجوب للفرد المفروض بعید جداً، والتفكیك بینهما بدفع العینیّة وعدم إثبات وجوب فعل الغیر أيضاً وإثبات براءة ذمّة المكلّف القطعي بغیر ما ثبت مطلوبیّته أيضاً بعید، فلعلّ إجراء أصالة الاشتغال هنا هو المتّجه.

وعلی الاحتمال الثاني، فجریان البراءة من حیث هي كسابقه متّجه ولا یعارضه أصالة البراءة عن وجوبه في حقّ سایر المكلّفین لو قلنا بجریانه في حقّهم؛ لتعدّد المكلّف القاضي بجواز المخالفة القطعیة الإجمالیة كواجدَي المني في الثوب المشترك علی أنّه لا یلزم منه ذلك؛ لأنّ المفروض قیام الآخرین به وإلّا لوجب علیه قطعاً كما سبق.

وأمّا بالنسبة إلی معارضته باستصحاب الشغل وأصالة الاشتغال، فحاله یظهر ممّا سبق، لكن یمكن هنا دعوی إثبات إحراز الوصف بأصالة عدم مشروعیّة فعل الآخر وأخذ الوصف مقیّداً بالمشروعیة، ففي مثال التغسیل یقال: إنّ تغسیل ما عدا الوليّ له غیر مشروع ظاهراً لأصالة عدم وجوبه، فبعد وجوده، فالمیّت غیرمغسول غسلاً صحیحاً شرعیّاً في الظاهر، فالموضوع باق شرعاً، فیتفرّع علیه التكلیف، فلا مجری لأصالة البراءة فتأمّل.

وأمّا الصورة الأخیرة، فلا یبعد جریان المتقدّم بعینه.

وأمّا علی القول بالرابع فإجراء أصالة الاشتغال لا یخلو مِن قوّة

ص: 162

بعكس الصورة المتقدّمة؛ لعدم جریان كثیر ممّا ذكر هنالك، فانّ ما ذكر من عدم استدعاء التكلیف البدلي إلّا امتثالاً واحداً حقّ، لكن تحقّق الامتثال الواحد غیر معلوم؛ لأنّ فعل الغیر علی تقدیر العینیّة لیس امتثالاً رأساً، فهو لَغْوٌ مَحْضٌ حینئذٍ خصوصاً لو انضمّ إليه أصالة عدم وجوبه فیدّعی حینئذٍ كونه غیر صحیح شرعاً، فكیف یكتفی به في الخروج عن عهدة التكلیف المعلوم وما ذكر من عدم جریان استصحاب الشغل لتردّد المقتضي یمكن منعه هنا نظراً إلی ما ذكر من عدم كون فعل الغیر امتثالاً علی تقدیر كونه كفائیاً، فمرجع الشكّ حینئذٍ في بقاء التكلیف إلی كونه امتثالاً له أو لا؛ لأنّ المفروض العلم بعدم إرادة مازاد علی المرّة الواحدة، ومنه یتّجه إجراء أصالة الإشتغال، وتردّد التكلیف بین تحصيل امتثاله بفعل الغیر غیر ضائر؛ لأنّ احتمال كون الفرد امتثالاً كالشكّ في أصل الِامتثال مجری القاعدة ظاهراً، وما ذكر في جریان أصالة البراءة بالنسبة إلی مجموع المكلّفین غیر آتٍ هنا لعدم الشكّ في ما زاد علی المرّة.

نعم ما ذكر من إجرائها في خصوص المكلّف نظراً إلی تردّد الإلزام الفعلي بین المطلق والمقیّد آتٍ هنا، فربّما یتّجه به إجراء البراءة، لكنّه هنا محلّ إشكال یظهر وجهه ممّا قرّرناه، وبملاحظة ما ذكرنا یمكن استخراج علی القول بأحد الأقوال الأخیرة.

هذا ما سنح بالبال في تحقیق إجراء الأصول في الشكّ في الوجوب الكفائي بأقسامه وأقواله واحتمالاته ولم أر من تعرّض له بالتفصیل وهو

ص: 163

بعدُ غیر منقّح بأطرافه، فلابدّ فیه من زیادة تأمّل لا یسعنا المجال والله تعالی أعلم بحقیقة الحال.

الخامس لو دارالأمر بین الندب والإباحة، فحكمه سیجي إن شاء الله تعالی في آخر الموضع الأول الذي نحن بصدده تبعاً لبعض الأساطین (1) حیث أنّه المتّبع في ترتیب هذا الكتاب.

السادس لو دارالأمر بین الوجوب والِاستحباب، فلا إشكال في الحكم بالرّجحان؛ لكونه معلوماً إجمالاً ولا في نفي العقاب نظراً إلی شمول أدلّة البراءة له، وإنّما الكلام في أنّه هل یثبت به خصوص الإستحباب الشرعي، فیحكم بكونه مستحبّاً أو لا؟

وتظهر الثَّمَرَةُ بینهما في نیّة الوجه وفي الآثار الوضعیّة كإجراء الأحكام المترتّبة علی النافلة علیه والنذر وما أشبهه؛ صرّح بعضهم بالأوّل وهو الظاهر أنّه طریقة جلّ الأصحاب، لكن إثباته مشكل خصوصاً إذا قلنا بأنّ مفاد أدلّة البراءة هو نفي العقاب، فانّ مجرّد نفي العقاب لا یثبت كون الرجحان غیر إلزامي، فإنّ الندب عبارة عن طلب الفعل من دون إلزام به وإنّما ترتّب العقاب علیه من لوازمه المتفرّعة علیه بشرط العلم، فالحكم بكون الفعل مندوباً لا یمكن بنفي العقاب عنه مع الرجحان.

وأمّا لو استنبطنا منها الحكم بعدم الوجوب في الظاهر، فإن كان

ص: 164


1- . هو الشيخ مرتضی الأنصاري.

بمعنی عدم ترتّب آثار الوجوب علیه، فهو غیر كافٍ في إثبات الندبیّة بالمعنی المتقدّم وإن كان بمعنی ترتّب آثار عدم الوجوب علی الفعل - كما هو الحال في استصحاب عدم الوجوب - أمكن الحكم بتحقّق فصل الندب هنا بترتیب آثار الرجحان الثابت وعدم الإلزام الثابت بحكم الشارع علیه، لكن يشكل ذلك أيضاً أنّ ترتیب آثار عدم الإلزام غیر ترتیب آثار الطلب غیر الإلزامي وإن ضمّ الفصل الثابت بالأصل إلی الجنس والحكم بثبوت النوع أصل مثبت، فلا ینفع في حسم مادّة الإشكال التمسّك باستصحاب البراءة أيضاً.

نعم لو قلنا باعتبار أصالة البراءة من باب الظنّ وما ضاهاها بحیث صار مثبتاً للواقع شرعاً، ارتفع الإشكال ظاهراً.

ویحتمل التفصیل في المقام علی التقدیر الأوّل بین الأحكام المترتّبة علی الندب الواقعي كأحكام النافلة وبین ما یتفرّع علی كونه ندباً ولو في الظاهر بحیث كان موضوعه واقعاً أعمّ من الأمرین ویدّعی أنّ نیة الندب بناء علی اعتبار نیّة الوجه لزوماً شرعیاً وعلی غیره جوازاً من هذا القبیل، فانّها لحال الفعل، فإذا كان الفعل مندوباً ظاهراً أعني راجحاً دون إلزام في مرحلة الظاهر لزم أو جاز نیّة الندب الظاهري، فتأمّل.

ص: 165

المسألة الثانیة والثالثة

ما إذا دارالأمر بین الوجوب وغیر الحرمة لإجمال النصّ أو تعارض بعضه مع بعض والمعروف ظاهراً فیهما أيضاً عدم وجوب الاحتیاط.

وذهب المحدّث الأسترآبادي في ما حكي عنه فیهما إلی الاحتیاط (1)، وكذا المحدّث البحراني في ظاهر جملة من كلامه (2) وإن كان ظاهر بعضها خلافه في الأولی كما تقدّم (ذِکْرُ) جُمْلَةٍ منها.

قال - بعد أن عدّ تعارض النصّ من أقسام المتشابه مع تساوي الترجیح وأوجب فیه الإحتیاط مستدلّا علیه بأخبار التخییر والإرجاء من أقسام المتشابه ما ورد النصّ به ولكنّه غیر صریح في المراد ومعناه غیر ظاهر

ص: 166


1- . انظر: الفوائد المدنية: ص163 وفرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص162.
2- . انظر: الحدائق الناضرة: ج1/ ص69 و 70 وفرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص162 و 163.

ولا سالم من الإیراد وحكمه أنّه یجب الردّ فیه إلی أهل الذكر: إن أمكن والّا فالتوقّف عن الحكم والعمل بالِاحتیاط - قال: ویدلّ علی هذا الرّدّ قوله تعالی: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ (1)، ثمّ حكی من المحدّث الكاشاني إنّ أوّل من أثبت المتشابه في الحكم الشرعي هو الله سبحانه (2) ثمّ ذكر الآیة. انتهی.

ولعلّه أراد بإثبات المتشابه بالآیة إثبات وجوده في الواقع، لا إثبات وجوب الاحتیاط فیه، فانّ الآیة بظاهرها لیست مسوقة لبیان الحكم العملي وما ینبغي البناء علیه في مرحلة الظاهر وإن أمكن استفادة التوقّف في المراد من الكلام وعدم الحكم بتعیینه.

وقال المحدّث المذكور في «الدرر النجفیّة» - بعد تقسیم الاحتیاط إلی أقسام -: فمن الاحتیاط الواجب في الحكم الشرعي المتعلّق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدلیل بأنّ تردّد بین احتمالي الوجوب والاستحباب، فالواجب هو التوقّف في الحكم والاحتیاط بالإتیان بذلك الفعل ومن یعتمد علی أصالة البراءة جعلها هنا مرجّحة للاستحباب (3) وفیه:

ص: 167


1- . سورة آل عمران، الآية 7. او است آن چنان كسی كه فرو فرستاد بر شما كتاب را، بعضی از آن، آیاتی است محكمات.
2- . انظر: سفينة النجاة (للفيض): ص53 والدرر النجفية: ج1/ ص184.
3- . انظر: الدّرر النجفية من الملتقطات اليوسفية: ج2/ ص118؛ الحدائق الناضرة: ج1/ ص69 وفرائد الأصول: ج2/ ص162 وكتباً أخر كدرر الفوائد في شرح الفرائد و....

أوّلاً ما عرفت من عدم الاعتماد علی البراءة الأصلیة في الأحكام الشرعیّة، كما تقدّم في الدرّة الّتي في المسألة. (1)

وثانیاً إنّ ما ذكروه یرجع إلی أنّ الله تعالی حكم بالاستحباب لموافقة المصلحة البراءة الأصلیة ومن المعلوم أنّ أحكامه تعالی تابعة للحِكَمِ والمصالح المنظورة له تعالی وهو أعلم بها ولا یمكن أن يقال مقتضی المصلحة البراءة الأصلیة، فانّه رجم بالغیب وجرأة بلا ریب (2)، انتهی.

وقریب منه ما حكي عنه في حدائقه وفیه نظر لا یخفی علی الخبیر.

وبالجملة، فمدرك إجراء البراءة في المسألة الأولی ما تقرّر في سائر المسائل وكذا الثانیة من حیث الأصل الأوّلي، كما هو المبحوث عنه في المقام وأمّا بالنسبة إلی ملاحظة تعارض النصّ، فمجمل.

نعم ربّما یفرّق بینه وبین المسألة الأولی، بناء علی كون اعتبار الأصل من جهة كون عدم الدلیل دلیل العدم وبأنّه لا یجري هنا لوجود ما یصلح للبیانیّة واقعاً ولو سقط للإجمال جواز التمسّك به في المسألة الأولی، فانّ عموم البلوی هنا لا یقضي بوجود غیره لو كان ثابتاً واقعاً حتّی یقال: إنّه لو كان لبان ووجود النصّ في المسألة الثالثة ولو لم یتعیّن العمل به للتعارض.

ص: 168


1- . انظر: الدّرر النجفية من الملتقطات اليوسفية: ج2/ ص118الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: ج1/ ص69 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص163.
2- . انظر: الحدائق: ج1/ ص69 و 70 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص163.

ویمكن دفعه في الأولی منهما بما ذكره بعض الأساطین من أنّ عموم البلوی هنا یوجب الظنّ بعدم قرینة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور وإلّا لنقل مع توفّر الدواعي علی نقله، بخلاف الاستحباب لعدم توفّر الدواعي علی نقله (1) وهو لا یجري في الثانیة منهما بظاهره.

ص: 169


1- . انظر: فرائد الأصول (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص399 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص163؛ بحر الفوائد: ج5/ ص67؛ التنقيح: ج3/ ص264؛ درر الفوائد في شرح الفوائد: ج3/ ص123 و334؛ دروس في الرسائل: ج3/ ص77 وفرائد الأصول (مع حواشي الاوثق): ج3/ ص304.

المسألة الرابعة

في دوران الأمر بین الوجوب وغیره من جهة الاشتباه في موضوع الحكم.

قال بعض الأساطین: ویدلّ علیه علی إجراء الأصل هنا جمیع ما تقدّم في الشبهة الموضوعیة التحریمیّة من أدلّة البراءة عند الشكّ في التكلیف (1)، والّذي ذكره هناك من الأدلّة عدّة أخبار مختصّة في الحلّیة والحرمة وما ذكره في الشبهة الحكمیة منها من أدلّة البراءة، ولا یخفی عدم شمول الأخبار المذكورة فیها لما نحن فیه لعدم تعلّق الشك بالحلّیة والحرمة، وكذا كثیر من الآیات والأخبار بالشبهة التحریمیّة كقوله تعالی: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ (2). وقوله تعالی: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ (3).

ص: 170


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص169.
2- . سورة الأنعام، الآية 145. بگو نمی یابم در آن چیزی كه وحی شده است به سوی [من] محرّمی. الآية.
3- . سورة الأنعام، الآية 119. و چه شده است شما را كه نمی خورید از آن چیزی كه ذكر شده است اسم [خدا] بر او.

وقوله (علیه السلام) في الخبر: أیّما إمرء ركب أمراً بجهالة فلا شيءٍ علیه (1)، وقوله: كلّ شيءٍ مطلق حتّی یرد فيه نهي، (2) وخبر عبدالرحمن بن الحجاج الوارد في من تزوّج إمرأة في عدّتها. (3)

ودعوی شمولها لما نحن فیه باعتبار حرمة الترك بعید عن منصرف تلك الآیات والأخبار ظاهراً، كما أنّه یشكل التمسّك لما نحن فیه من الآیات بقوله تعالی: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ (4) وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (5)، وقوله تعالی: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ (6)، نظراً إلی أنّ الظاهر من سياقها - لو تمّت دلالتها - هو خصوص الشبهة الحكمیة التي بیانها وظیفة الشارع ومبيّنها هو الله سبحانه

ص: 171


1- . انظر: الوسائل: ج5/ ص344/ ح1.
2- . انظر: الوسائل: ج4/ ص917/ ح3 والفقيه: ج1/ ص317/ ح937.
3- . انظر: الوسائل: ج14/ ص345/ ح4.
4- . سورة الطلاق، الآية 7. [خداوند] تکليف نمی کند نفسی را مگر [به قدر آن چه به او داده است]. الآية.
5- . سورة الإسراء، الآية 15. و نبوديم ما عذاب کننده تا اين که بعث رسول کنيم.
6- . سورة التوبة، الآية 115. و نبوده است که گمراه کند قومی را بعد از آن که هدايت کردم آنها را. الآية.

بتوسّط الرسول وبیانها المقصود من بعث الرسول.

وأمّا الشبهة الموضوعیة، فلیس البیان فیها منه سبحانه في الظاهر ولا مقصوداً من بعث الرسول ولا من شأنه سبحانه باعتبار التكلیف بیانه وإن كان جمیع الهدایات والعلوم في جمیع المقامات منه سبحانه كما ربّما یظهر من بعض، فإنّه لا دخل لهذا الحديث بما نحن بصدده من تشخیص الظواهر العرفیة، فلم یبق في الآیات ما یمكن التمسّك بها بناء علی ما ذكر سوی قوله تعالی: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (1) مع ما في دلالته من التأمّل الظاهر.

وقوله: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ (2) لو سلّم دلالته علی أصالة البراءة، وشموله أيضاً لما نحن بصدده من الشبهة الموضوعیة لا یخلو عن خدشة كما في سوابقه خصوصاً بالنظر إلی مورده.

وبالجملة فالظاهر أنّه لا شيء من الآیات یمكن الاعتماد علی دلالتها في الحكم بالبراءة هنا.

وأمّا سائر الأخبار المستدلّ بها هناك فقوله (علیه السلام) «ما حجب الله علمه

ص: 172


1- . سورة البقرة، الآية 286. تکليف نمی کند [خداوند] نفس- [ی] را مگر به قدر وُسعِ آن.
2- . سورة الأنفال، الآية 42. تا اين که هلاک شود کسی که هلاک شود از بيّنه. الآية.

عن العباد (1) [فهو موضوع عنهم]؛ وقوله (علیه السلام): «إنّ الله یحتجّ علی العباد بما آتاهم وعرّفهم» (2) وماشابهما، فشمولها للشبهة في الموضوع غیر ظاهِرٍ كالآیات الأخیرة من جهة انصرافها إلی بیان الأحكام وحجبها، لا تعریف الموضوعات وحجب العلم بها وإن أمكن التعمیم هنا وفی بعض الآیات نظراً إلی استناد كلّ معرفته إليه إمّا ابتداء كما ربّما یظهر من لفظ بعض، أو بتوسّط المقدمات، لكنّ الحكم بظهورهما في العموم عرفاً مشكلٌ جداً، بل الظاهر حصول التشكیك المسقط للظهور لو سلّم العموم علی أنّ في تعمیمها للمقامین إشكالاً آخر سنبینّه إن شاء الله تعالی، فلم یبق من الأخبار المذكورة بناء علی ذلك سوی النبويّ الوارد في رفع التسعة (3) ومرفوعة النَّهْدِيّ (4) الواردة في وضع التسعة، وقوله (علیه السلام): أیّما امْرِئٍ ركب أمراً بجهالة، فلا شيء علیه، وقوله: النّاس في سَعَةٍ ما لا یعلمون (5)، وروایة عبد الأعلی عن الصادق (علیه السلام) قال: سألته عمّن لم یعرف شیئاً هل علیه شيء؟ قال: لا. (6)

ص: 173


1- . انظر: الوسائل: ج18/ ص119/ ح28.
2- . انظر: الكافي: ج1/ ص162/ ح1.
3- . انظر: الكافي: ج2/ ص463/ ح2 والوسائل: ج11/ ص295/ ح3.
4- . الكافي: ج2/ ص463؛ والوسائل: ج11/ ص295/ ح3؛ جامع أحاديث الشيعة: ج1/ ص325.
5- . انظر: عوالي اللآلي: ج1/ ص424 والمستدرك: ج18/ ص20/ ح4.
6- . انظر: الكافي: ج1/ ص164/ ح2.

وربّما یستشكل في تعمیمها للشبهة الحكمیة والموضوعیة كلیهما، نظراً إلی المراد من الموصول في النبويّ مثلاً؛ أمّا الموضوع المجهول فیكون رفعه عبارة عن عدم المؤاخذة علیه وأمّا الحكم المجهول فیمكن رفعه عبارة عن عدم المؤاخذة علی مخالفته، فنسبة الرفع إلی الموصول مختلفة في الاعتبارين فإرادتهما نظیر استعمال المشترك في ما زاد علی المعنی الواحد، ولو جعل المراد من الموصول الموضوع - كما لعلّه الظاهر بقرینة أخواته - كان اختلاف الاعتبارین أظهر، نظراً إلی أنّ الموضوع غیر معلوم بنفسه في الوضعیة وغیر معلوم الحكم في الحكمیة، فالصفة في الأوّل متعلّقة بحال الموصوف وفي الثاني بحال متعلّق الموصوف.

ومنه یظهر الإشكال في المرفوعة والخبر الثالث، فإنّ الأمر فیه عبارة عن نفس الفعل الخارجي، فنسبة الجهالة قد تلاحظ بالنسبة إلی نفسه باعتبار مجهولیّة عنوانه و[باعتبار] أنّه [هل هو] خمر أو خلّ مثلاً، وتارة تلاحظ بالنظر إلی حكمه.

ومنه یظهر الحال في الرابع إذا جعلنا الكلمة موصولة وإن جعلناها ظرفیة، فجهة الإشكال ظاهر بالمقایسة وكذا الخامس، لكنّ الانصاف أنّه لو سلّم تمامیّة الإشكال، فانّما هو متّجه في صحّة التمسّك بالنبويّ والمرفوعة في المسألة الأولی، فانّ الظاهر إنّه علی تقدیر عدم إمكان التعمیم یختصّان بظاهرهما بالشبهة الموضوعیة، لكونهما خصوصاً بقرینة غیر الجهل من سائر المرفوعات والموضوعات أظهر في الشبهة الحكمیة الموضوعیة من الحكمیة،

ص: 174

فالمتّجه حینئذ صحّة التمسّك بها في ما نحن فیه وكذا الخبر الأخیر ولعلّ الحال في ما عداها أيضاً كذلك.

وبالجملة، فالظاهر أنّ في النبويّ كفایة في إثبات المطلوب خصوصاً بضمیمة غیره، مع أنّ الظاهر إنّه لا خلاف في أصل الحكم من المجتهدین والأخباريین یعتدّ بشأنه كجریان الدلیل هنا.

وممّا ذكر هنا تعرف عدم جریان ما ذكر من الاحتیاط هناك في المقام بالمقایسة، فلا نطیل الكلام بعد ما عرفت، خصوصاً مع أنّ سلامة الشبهات الموضوعیة نوعاً من الأصول الحاكمة هنا نادرة (1)، بل أنكره بعض مشایخنا (دام ظله) رأساً، كما حكي عنه ظاهراً بخلاف الشبهة التحریمیة الموضوعیة، فانّها سالمة في كثیر من الموارد من الأصول الحاكمة؛ ولعلّ التفرقة بین المقامین من جهة أنّ المقصود في التحریمیّة من الأصل هو ترخیص الفعل وأصالة عدم تحقّق عنوان الموضوع المحرّم لا یثبت كون الفعل خالیاً عنه، فلا یمكن ترخیص الفعل به وأصالة عدم كون العنوان المحرّم غیر مسبوق بالعدم مع معارضته بأصالة عدم غیره مثلاً أصالة عدم وجود الخمر لا یثبت حلیّة شرب الإناء المردّد بینه وبین الماء وأصالة عدم خمر مع معارضته بأصالة عدم كونه ماء غیر مسبوقة بالعدم.

والحاصل: إنّ العدم الأوّل غیر كافٍ والعدم المضاف معارض غیر

ص: 175


1- . في المخطوطة: «نادر».

مسبوق بالعدم، بخلاف الشبهة الوجوبیّة، فإنّ المقصود فیها ترخیص الترك ودفع الإلزام بالفعل، وهو حاصل بمجرّد الحكم بعدم تحقّق عنوان الموضوع في الخارج، فیكفي عند الشكّ في نجاسة شيء ذاتا إذا وقع في المسجد مثلاً نفس الحكم بعدم وقوع النجاسة فیه من دون حاجة إلی إثبات عدم كون الشيء المفروض طاهراً بخلاف استعماله، ولمّا كانت الشبهة هنا مسبّبة من وجود عنوان الموضوع في الخارج دائماً، كان أصالة عدم تحقّق العنوان كافیة لإثبات البراءة، بل مانعة من جریان الأصل ولو كان موافقاً له، بناء علی ما ذهب إليه بعض الأساطین (1) ومن تبعه من المنع من جریان الأصل المحكوم مع الحاكم، سواء خالفه أو وافقه.

ودعوی معارضتها بأصالة عدم تحقّق العنوان الخارج مدفوعة بأنّها لا تمنع من جریانها إذا لم یكن في العمل بهما مخالفة عملیة قطعیة، بل ربّما یمنع من جریانها إذا لم یكن لعدمه حكماً شرعیاً كما هو الغالب، ولو فرض حصول المخالفة العملیة خرج عمّا نحن فیه من الشبهة البدویّة ودخل في مسائل الشكّ في المكلّف به مع العلم الإجمالي؛ لأنّ المفروض تحقّق التكلیف في العنوان الآخر أيضاً هذا.

ولا یخفی علیك أنّ ذلك كلّه علی تقدیر تمامیّته لا ینفع في إنكار الموضوع رأساً، لجواز عروض الطواري المسقطة للأصول الموضوعیة من

ص: 176


1- . انظر: فرائد الأصول: ج2/ ص243.

قبیل توارد الحالین علی العمل مع الشكّ في التقدّم والتأخّر كمن تیقنّ الطهارة والحدث، وشكّ في المتقدّم والمتأخّر لو قلنا بوجوب الطهارات نفساً مطلقاً أو في بعضها ولو في خصوص الغسل للصوم نظراً إلی الإشكال المعروف، فانّ الظاهر سقوط الأصول الموضوعیة فیها رأساً مطلقاً أو إذا لم یعلم التاریخ أو إذا لم یعلم الحالة السابقة علی الحالتین بالتفصیل المقرّر في محلّه، فلابدّ حینئذ من التمسّك بأصالة البراءة عن الوجوب فیها.

ویمكن منع التفرقة المذكورة بین المقامین رأساً، فإنّ ما ذكر من عدم كفایة نفي العنوان الكلّي في التحریمیّة لجواز الفعل الخاصّ یمكن إجراءه في الوجوبیة بأنّ نفي الكلّي لا یكفي في إثبات جواز الترك الخاصّ، كما أنّه یمكن إجراء ما ذكر فیها من الاكتفاء بنفي الكلّي وعدم صدور التكلیف في التحریمیّة أيضاً.

والحاصل أنّ الفعل كما یمكن اعتباره مع الخصوصیة، كذا الترك قد یلاحظ مع الخصوصیة وكما أنّه یمكن ملاحظته كلیّة باعتبار متعلّقه، یمكن ملاحظة الفعل أيضاً علی سبیل الكلّیة ونفي العنوان الكلّي یثبت جواز الترك والفعل الملحوظین علی الوجه الثاني فیهما معاً، كما أنّه یشكل إثباته لهما إذا لوحظت علی الوجه الأوّل، فاختیار الفعل علی الأوّل والترك علی الثاني غیر متعيّن في المقام وغایة ما ربّما یوجّه في التفرقة تشخص الكلّي بالوجود دون العدم، فلا یمكن الوجود بدون التشخّص بخلاف العدم، فانّه لا یتشخّص الكلّي به، بل هو باقٍ علی كلیّته حتّی یوجد، لكن اعتبار

ص: 177

الخصوصیة في المضاف إليه وعدمه ثابت في العدم والوجود كلیهما وهو مناط المسألة دون التّشخّص الحقیقي، فإن كان مورد الفعل الخاص متوقّفا علی إحراز جوازه ولو بالأصل، فلیكن حصول العدم المضاف إلی الموضوع أيضاً كذلك، فتدبّر هذا.

وتحقیق الحال في أصل المسألة أنّها تتصوّر علی وجوه:

الأوّل ما إذا اشتبه حصل الشبهة في تعلّق الحكم الوجوبي بالمكلّف للشكّ في تحقّق الموضوع مع احتمال عدم تعلّق الحكم بالمكلّف رأساً بأن یكون الشكّ في اندراج المكلّف تحت الخطاب رأساً أولا، كما إذا شكّ في وجوب الحجّ للشكّ في الإستطاعة مع توارد الحالین علی المكلّف بحیث سقط به الأصل الموضوعي، والكلام فیه ما عرفت.

الثاني ما إذا حصل الشكّ مع القطع بدخول المكلّف تحت التكلیف باعتبار وجود الأفراد المتیقّنة، كما إذا وجب إكرام العادل مطلقاً وشكّ في وجوب إكرام من یشكّ في عدالته مع توارد الحالین علی الموضوع أو غیره ممّا یمنع من جریان الأصل الموضوعيّ، والظاهر أنّه كالأوّل.

وربّما یتخیّل أنّ اشتغال الذمّة بإكرام العادل یقتضي البراءة الیقینیة منه المتوقّفة علی إكرام المشكوك، وفیه نظر موكول بیانه إلی الشبهة التحريمیة.

الثالث ما إذا تعلّق الأمر بالمكلّف قطعاً وشكّ في مقدار المأمور به من حیث المرّة والتكرار من جهة الشكّ في مقدار تحقّق الموضوع، أو من حیث كمّیة المأمور به باعتبار الشكّ في كمّیّة مقدار الموضوع مع عدم ارتباط

ص: 178

صحّة بعض الأجزاء ببعض، كمن یعلم باشتغال ذمّته بدین مردّد بین الأقلّ والأكثر وبفوائت متعدّدة مشكوك العدد، والفرق بینه وبین سابقه هو ملاحظة نوع اتّحاد في المكلّف به هنا دونه، والظاهر أنّه أيضاً كسابقیه لانحلال العلم الإجمالي إلی العلم (1) التفصیلي وشبهة بدویة، فلا مؤثّر في إثبات الشغل.

ومن هنا یعلم أنّه لو لم یعلم المكلّف كمّیة مافات منه من الصلوات جَرَتْ أصالة البراءة بالنسبة إلی الزائد علی القدر المعلوم بناء علی ما سبق، لكنّ الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم أنّ المشهور لزوم القضاء علیه حتّی یظنّ الفراغ وهو علی القاعدة مشكل.

وربّما یوجّه ذلك بأمور:

أحدها ما عن بعض المحقّقین (2): من أنّ المكلّف حین علم بالفوائت صار مكلّفا [ب-] قضاء هذه الفائتة قطعاً وكذلك [الحال في الفائتة] الثانیة والثالثة وهكذا، ومجرّد عروض النسیان كیف یرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب، بل الإجماع أيضاً؟ وأيّ شخص یحصل منه التأمّل في أنّه إلی ما قبل صدور النسیان كان مكلّفاً، وبمجرّد عروض النسیان یرتفع التكلیف الثابت [إجماعاً ونصوصاً...]؟ وإن أنكر حجّیة

ص: 179


1- . في المخطوطة: «علم».
2- . هو العلّامة المجدّد المولی محمّدباقر الوحيد البهبهاني المتوفی 1205ق.

الاستصحاب، فهو مسلّم إنّ الشغل الیقیني یستدعي البراءة الیقینیة.

إلی أن قال: نعم في الصورة التي یحصل للمكلّف [دفعةً] علم إجمالي باشتغال ذمّته بفوائت متعدّدة یعلم قطعاً تعدّدها، لكن لا یعلم مقدارها، فانّه یمكن حینئذٍ أن یقال: لا نسلّم تحقّق العلم (1) بأزید من المقدار الذي تیقّنه.

إلی أن قال: والحاصل إنّ المكلّف إذا حصل [له] القطع باشتغال ذمّته بمتعدّد والتبس علیه ذلك كمّاً وأمكنه الخروج عن عهدته، فالأمر كما أفتی به الأصحاب، وإن لم یحصل ذلك بأن یكون ما علم به خصوص اثنين أو ثلاث مثلاً، وأمّا أزید من ذلك فلا، بل احتمال احتمله [وأمره وحاله علی حدة]، فالأمر كما ذكره في الذخیرة (2) (3). إنتهی محلّ الحاجة.

وبیانه علی ما یظهر لي من كلامه أنّ مراده إنّ تحقّق العلم بالتكلیف

ص: 180


1- . في المخطوطة: «الشغل».
2- . ذخيرة المعاد: ص384.
3- . انظر: مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع، للوحيد البهبهاني: ج9/ ص447 و 448 و 450؛ وانظر: مفتاح الكرامة: ج9/ ص686 وطبعته القديمة: ج3 (القسم الأوّل)/ ص409؛ فرائد الأصول (مؤسسّة النشر الإسلامي): ص392؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص172؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص85؛ تمهيد الوسائل في شرح الرسائل: ج5/ ص357؛ التنقيح: ج3/ ص277؛ درر الفوائد في شرح الفرائد: ج3/ ص351؛ فرائد الأصول (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص314؛ شرح الرسائل: ج2/ ص224 ودروس في الرسائل: ج3/ ص93 وکتباً أخر.

منجّز له علی المكلّف بحیث یلزمه الخروج عن عهدته وطروّ النسیان علیه لا یرفع تنجزّه مادام المكلّف ملتفتاً ولم یغفل عنه بالمرّة، وحینئذ فإنّ تعلّق العلم أوّلاً بالمردّد بین الأقل والأكثر من دون سبق العلم التفصیلي علیه اتّجه ما في الذخیرة وإجراء أصالة البراءة وإن تعلّق العلم بها شیئاً فشیئاً، ثمّ تردّد المقدار المعلوم سابقاً تفصیلا بین الأقلّ والأكثر اقتضی الشغل الیقیني بما تعلّق العلم به سابقاً تحصیل البراءة الیقینیة ومثله الإستصحاب، فالإكتفاء بما یردّون العلم رخصة من جهة الدلیل من عسر وغیره لعلّه مبني علی عدم شمول أدلّة البراءة لصورة طروّ الشكّ بعد الیقین لتنجّز التكلیف به، فلا یرفعه الجهل الطاري، فدخوله تحت ما لا یعلمون غیر ظاهر لسبق العلم به ولظهور تعلّق السلب هنا بالمطلق معنی المقتضي لنفي جمیع أفراده وأزمانه، فالرفع متعلّق بما لا یعلم رأساً، لا ما علم سابقاً وحصل الشكّ بعده، فإنّه معلوم ولو باعتبار الزمان الأوّل؛ ومثله الحال في غیره من أدلّة البراءة، فلعلّه یرید أنّ أدلّة البراءة لا یشمل هذه الصورة، أو ینصرف إلی غیرها، كما أنّ غایة ما یسلّم من حكم العقل اشتراط تنجّز التكلیف بالعلم في الجملة وعدم المؤاخذة بدونه، لا دفع التكلیف المنجّز به بعد ارتفاع العلم وتحقّق التنجّز كاختصاص الإجماع بغیر ما نحن فیه.

وربّما یؤیّد ذلك بعدم معذوریّة الجاهل المقصّر ولو حصل الغفلة بعد الالتفات رأساً ككثیر من العوام؛ غایة الأمر ارتفاع التكلیف في صورة عدم الالتفات رأساً مطلقاً، أو في خصوص صورة عدم استناده إلی تقصیره.

ص: 181

هذا غایة توجیه الكلام وفیه:

أوّلاً بالنقض بالشبهة البَدْوِیّة، فإنّه لو شكّ في فوت صلاة واحدة عمداً بحیث علم بفواته بعده علی تقدیر الفوت، فلا أظنّه یلتزم بوجوب قضاءه، فإن كان لأجل تحقّق ومضيّ محلّه جری من المقام، ولو نوقش في هذا الردّ، فكیف یناقش في جریان الأصل في جمیع موارد الشبهة إذا كانت بحیث علم به علی تقدیر وجود التكلیف، كمن شكّ في خمرية إناء بعد كون حاله معلوماً للمكلّف.

وثانیاً إنّه لا یتوقّف صدق المجهول والمشكوك وغیر المعلوم إلی عدم تعلّق العلم به في زمان ما، بل في كلّ زمان لم یتعلّق العلم به، فهو غیر معلوم ومجهول، ودعوی الانصراف إلی عدم سبق العلم لا شاهد له، كما أنّ تنجیز العلم للتكلیف إنّما هو مادام باقیاً وإطلاقه ممنوع ومؤاخذة الجاهل المفروض یصحّحه التقصیر في ترك التعلّم حین الالتفات فتأمّل.

ثمّ إنّ بعض مشایخنا (دام ظله) احتمل في كلامه توجیها آخر وهو كون الحكم بوجوب القضاء معلّقاً علی عنوان الصّلاة المنسیّة، فلابدّ من إحراز تحقّق العنوان بالإتیان بالمشكوك فوته أيضاً، كما سیجيء نظیره في الوجه الثاني إن شاء الله تعالی وهو بعید عن العبارة ومبناه منظور فیه جداً كما لا یخفی.

وثانیها ما ذكره بعض مشایخنا (دام ظله) وهو إنّ الحكم بوجوب القضاء متعلّق بعنوان الفائت، فإذا علم المكلّف تحقّق الموضوع عنده، لزم علیه إحراز عنوان الفوائت في ما قضاه بحیث یحصل العلم بأنّه قضی الفائت منه

ص: 182

كوجوب صوم شهر رمضان المردّد بین الثلاثین والكامل والناقص، فإن حصل فإنّه ینبغي الحكم بوجوب تحصیل القطع بالفراغ بالإتیان بالمشكوك فیه أيضاً.

ویرد علیه أوّلاً إنّه القَدَرُ المُسَلَّمُ من جریان أصالة الأشتغال في نظائر المقام هو ما إذا كان الحكم معلّقاً علی عنوان مردّد حصوله في الأقلّ والأكثر، كما إذا أمر المولی عبده بشرب مسهّل، فإنّ الشكّ في مدخلیة شيءٍ في السهالة شرطاً أو شطراً ممّا لا یمكن دفعه بأصالة البراءة وفرض ذلك في غیر الارتباطي مثلاً، وأمّا في غیره بأن لم یكن هناك عنوان مردّد بین الأمرین مطلوب الحصول، فلا نسلّم جریان قاعدة الاشتغال والأقلّ المعلوم في ما نحن فیه فائت قطعاً وإنّما الشكّ في تحقّق الفائت الآخر، فلا دخل له بالعنوان المتقدّم.

وثانیاً إنّا لا نسلّم تعلّق الحكم هنا بعنوان الفائت، بل من المحتمل أن یكون مأخوذاً علی وجه الطریقیة للأفراد الخارجیة، فینحلّ قوله «اقْضِ مافاتَ» إلی طلب نفس تلك الأفراد الفائتة في الخارج من دون أن یكون لعنوان الفوت مدخلیة في مطلوبیّتها من حیث هو.

وثالثاً إنّ أصالة عدم فوت الأكثر هنا قاضیة بحصول البراءة بالأقلّ وانحصار المطلوب فیه وكونه هو الفائت، فلا مجری لأصالة الاشتغال.

فإن قلت: إنّه أصل مثبت لا نقول بحجّیته.

قلت: لو سلّم ذلك، فالواسطة خفیّة یلتزم باعتبارها؛ وذلك لأنّ كلّ

ص: 183

مورد یكون سلبیاً خفیة، فأصالة عدمه مثبتة للحكم، كإثبات وحدة البنت في المیراث بأصالة عدم الزائد والاستحباب بأصالة عدم الإلزام عند ثبوت الرجحان وغیر ذلك فتأمّل.

وثالثها الأصل عدم الإتیان بالصّلاة المشكوك إتیانها في الوقت، فیترتّب علیه وجوب الإتیان بها بعد الوقت.

ودعوی ترتّب القضاء علی صدق [الفوت] غیر الثابت بالأصل لا مجرّد عدم الإتیان الثابت بالأصل، ممنوعة لما یظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب من أنّ المراد بالفوت مجرّد الترك كما بیّن في محلّه.

وأمّا مادلّ علی أنّ الشكّ في إتیان الصَّلاة بعد وقتها لا یعتدّ بها، [ف-] لا یشمل ما نحن فیه. (1)

ویرد علیه بعد تسلیم المبنیٰ: أنّ منع شمول الدلیل المذكور للمقام خالٍ عن السند، سیّما مع اعتضاده ببعض الإطلاقات وبظاهر حال المسلم في بعض المقامات.

ورابعها إنّ القضاء وإن كان بأمرٍ جدید، لكنّه یكشف عن استمرار مطلوبیة الفعل من أوّل وقتها إلی آخر زمان تمكّن المكلّف منه؛ غایة الأمر إنّ هذا علی سبیل تعدّد المطلوب بأن یكون الكلّي المشترك بین ما في الوقت

ص: 184


1- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص392 و 393؛ والفرائد (للمجمع): ج2/ ص174.

وخارجه مطلوباً وكون إتیانه في الوقت مطلوباً آخر، كما أنّ أداء الدین وردّ السلام واجب في أوّل أوقات الإمكان ولو لم یفعل، ففي الثاني وهكذا، وحینئذٍ فإذا دخل الوقت وجب إبراء الذّمّة عن كلّي الصّلاة، فإذا شكّ في حصوله في الوقت بعده، فمقتضی حكم العقل وجوب تحصیل البراءة الیقینیة بعد الشغل الیقیني، كما لو شكّ في البراءة مع بقاء الوقت وكما لو شكّ في أداء الدّین الفوري وردّ السلام في الزمان السابق، فالاستصحاب وقاعدة الاشتغال هنا جاریان في المطلق، فلا تجري هنا أصالة البراءة. (1)

واعترض علیه بأنّ من المحتمل - بل الظاهر علی القول بكون القضاء بأمرٍ جدید - كون كلّ من القضاء والأداء تكلیفاً مغایراً للآخر، فهو من قبیل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته، كما یكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل وأمر القضاء به بوصف الفوت، ویؤیّده بعض مادلّ علی أنّ لكلّ من الفرائض بدل وهو قضاءه عدا الولایة، لا من باب الأمر بالكلّي والأمر بفرد خاصّ منه أو بتعجیله كما في المثالین المتقدّمین، فلا مجری لقاعدة الاشتغال واستصحابه.

ص: 185


1- . انظر: فرائد الاصول (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص393 وج2/ ص174 و 175؛ بحرالفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص86؛ تمهيد الوسائل في شرح الرسائل: ج5/ ص365 والتنقيح: ج3/ ص281.

هذا محصّل ما ذكره بعض الأساطین (1) ویمكن الجواب عنه:

أوّلاً بما ذكره بعض مشایخنا (دام ظله) وبیانه بعد التنقیح: إنّ النزاع بين القائلین بكون القضاء بالأمر الأوّل وعدمه إنّما هو في توقّف الحكم بثبوت القضاء علی الأمر الجدید، وأمّا بعد وروده، فلا ینبغي التأمّل في ظهور بقاء المطلوبیة بعد انقضاء الوقت من ذلك الأمر، لا إثبات مطلوبیّته مستقلّة للفعل بعدها یغاير (2) مطلوبیته في الزمان الأوّل، كما یكشف عنه ما مرّ جوابه في مسألة النیّة من عدم لزوم تعیین الأداء والقضاء فیها خلافاً لكثیر من المتقدّمین والمتوسّطین، فانّه یكشف من كون الماهیة المأتي بها في الوقت وخارجه واحدة، ولو كانت متغايرة (3) لوجب الحكم بلزوم التعیین كما یلزم تعیین كون المأتّي به ظهراً أو عصراً ولا یكتفی بمجرد الإتیان بأربع ركعات من دون تعیین عنوان المأمور به، وبعد وحدة الماهیة بحسب اعتبار الأمر [ف-] كیف ینكر تعدّد المطلوب فیه.

وما ذکر من أنّ تعلّق القضاء بالفعل بوصف الفوت یكشف عن تغاير (4) التكلیفین كإطلاق البدل علیه، [ف-] مدفوع بأنّ المراد بالفوت نفس

ص: 186


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص175؛ الفرائد (نشر المؤسّسة الإسلامي): ص394.
2- . في المخطوطة: «يغائر».
3- . في المخطوطة: «متغائرة».
4- . في المخطوطة: «تغائر».

عدم الإتیان بالفعل، فما الفارق عرفاً بین أن یقول الآمر: «افْعَل في الزمان الأوّل وإن لم تفعل ففي الثاني»، وبین أن یقول: «افْعَل وَاجعَلْه في الزمان الأوّل»، فانّا لا نری بین التعبیرین فرقاً في العرف.

وأمّا إطلاق البدل علیه فلعلّه باعتبار الأمر بالخاصّ وفوات الخصوصیّة واشتمال القضاء علی الكلّي الموجود فیها.

هذا غایة تحرير الجواب وهو بعد لا یخلو عن إشكال يضیق عن شرحه المجال.

وثانیاً إنّ الأمر الجدید كاشف عن بقاء المصلحة الموجودة في الأمر الأوّل إلی الثاني بناء علی قاعدة تبعیّة الأحكام للصفات، فالصّلاة بعد خروج الوقت مشتملة علی المصلحة الموجبة، وهذه المصلحة إمّا أن یكون في ماهیة الصّلاة بما هي صلاة، أو فیه بقید كونه بعد الوقت والأوّل مثبت للمدّعی بقاعدة الملازمة، فانّ المصلحة الموجبة للفعل موجودة في الكلّي مع قطع النظر من الخصوصیة، فلابدّ أن یكون واجباً كذلك، وهو المطلوب، والثاني باطل؛ لأنّ مرجعه إلی مدخلیّة خروج الوقت في حدوث المصلحة والمفروض إنّ لبقاءه مدخلیة في المصلحة إلّا ماهیة قطعاً، فیلزم أن یكون نفس الوقت وانقضاءه مؤثّراً في اشتمال الفعل علی المصلحة، فیكون وجود الشيء وعدمه كلاهما مؤثّرین في أثر واحد، وهو محال لاستحالة تأثیر النقیضین أثراً واحداً ولو بالنوع.

ص: 187

والمضايقة (1) عن ذلك بدعوی كون الانقضاء أيضاً وجودیّاً كالبقاء لا یضرّ بما نحن بصدده؛ لأنّ الضّدین أيضاً من حیث هما یمتنع اشتراكهما في التأثیر، إلّا أن یرجع إلی جهة جامعة یكون التأثیر باعتبارها وهو هیهنا غیر متصوّر، فانّهما یشبهان النقیضين (2)، فكیف یكون التأثیر لهما من غیر جهة الضدّیة؟ بل قد یقال باستحالة تعدّد العلل الحقیقیة للمعلول الواحد حقیقة مطلقاً.

وبالجملة: فالإنصاف أنّ احتمال كون نفس خروج الوقت مؤثّراً في حدوث مصلحة جدیدة ممّا لا ینبغي الاعتناء بمثله في المقام بعد كون نفس الوقت مؤثّراً في المصلحة قطعاً، كیف؟ ولو كان كذلك لزم وجوبه مع الإتیان بالأداء أيضاً، إلاّ أن یتوهّم جعل الترك شرطاً لحدوث المصلحة بانقضاء الوقت وبعده جدّاً غیر خفيّ علی الذهن السلیم، فلم یبق الّا الالتزام بوجود المصلحة المشتركة بین الزمانین بحیث یكفي في إیجاب الفعل والمصلحة في خصوص إیقاعه في الزمان الأوّل، فمقتضی قاعدة الملازمة الحكم بتعدّد المطلوب كذلك وهو المطلوب.

ودعوی اختلاف متعلّق التكلیفین، أعني الأدائي والقضائي، إن أرید بها اختلاف زمانهما، فهو ظاهر، لكن لا یجدي كما عرفت؛ وإن [أريد] بها

ص: 188


1- . في المخطوطة: «المضائقة».
2- . في المخطوطة: «النقيضان».

اختلافهما من غیر جهة الزمان، فهو غیر ظاهر، وتسمیته تداركاً وبدلاً لا یوجب اختلاف الموضوع واقعاً الّذي هو مناط الجواب، فتأمل.

ویمكن إجراء نظیره في إتمام الجواب الأوّل بأن يقال: إنّ مطلوبیة الصّلاة بعد الوقت إمّا أن یكون باعتبار كونها مطلوبة كلیّة، أو باعتبار الخصوصیّة، والأوّل هو المطلوب؛ لأنّه یلزم منه مطلوبیة القید تبعاً والتقیید ذاتاً في ضمن المقیّد لدخول التقیید في المطلوب المقیّد، فیلزم أن یكون إيقاعه في خارج الوقت مطلوباً من حیث كونه خارج الوقت والمفروض مطلوبیّة الفعل في الوقت أيضاً بالخصوص، فلزم كون نفس وقوعه في الوقت، ونفس خروجه عن الوقت ولو بشرط عدم الأوّل كلاهما مطلوباً (1) للأمر وهو غیر متصوّر، فانّه كمطلوبیة النقیضین أوالضدّین الّذین لا ثالث لهما ولو كان أحدهما مترتباً علی ترك الآخر والمسألة بعد محلّ إشكال، فتأمل.

ثمّ إنّ بعض الأساطین اعترض علی هذا التوجیه وسابقه حیث جعلهما ترجیهاً واحداً، مضافاً إلی ما ذكر اعتراضاً ثانیاً وهو النقض بصورة شكّ الولد في المقدار الفائت عن الأبوین، فانّه لو تمّ لجری فیه، مع أنّه لا یظنّ بهم التزام ذلك في المقام وافٍ إذا وجب علی المیّت لجهله بما فات منه

ص: 189


1- . في المخطوطة: «مطلوبان». والأوجه إفراد الخبر بعد کلا وکلتا. کما قال تعالی: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا﴾ (سورة الکهف، الآیة 33) ولم یقل: أتتا.

مقدار معیّن يظنّ معه البراءة (1) أو یعلم، یجب علی الولد قضاء ذلك المقدار لوجوبه علی المیّت ظاهراً بخلاف ما لم یعلم وجوبه علیه. (2)

وأنت خبیر بأنّ هذا الإشكال لا مسرح له في هذا الوجه؛ ضرورة عدم كون التكلیفین هنا من قبیل تعدّد المطلوب الّذي هو مبنی هذا الوجه، لتعدّد المكلّف هنا بخلاف المسألة، فلعلّه أراد به النقض علی الوجه السابق، لكنّه لم یتعرّض لمنعه إلّا بعموم مادلّ علی أنّ الشك في الإتیان بعد خروج الوقت لا یعتدّ به، فلعلّه جعل ذلك شاهداً لعمومه لما نحن فیه ولا یمكن إجراء ذلك العموم لهذا المثال ظاهراً؛ لأنّ الظاهر اختصاصه بصورة شكّ المكلّف نفسه، لا شكّ الغیر في حقّه؛ وحینئذ فالإشكال فیه متّجه مطلقاً، فلابدّ إمّا من التزام الاشتغال، أو دعوی خروجه عن القاعدة بالدلیل، فلا یتمّ النقض، فتدبرّ.

ومن هنا یظهر الاعتراض علی التوجیه المذكور وهو كفایة العموم المذكور في الخروج عن القاعدة، إلّا أن یتمسّك ببعض الأخبار الواردة في النافلة والمطلقة المذكورة في الفقه.

ص: 190


1- . في المخطوطة: «بالبراءة».
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص176 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص321.

المطلب الثالث: في ما دار الأمر فیه بین الوجوب والحرمة

اشارة

وفيه أيضاً مسائل:

المسألة الأولی

اشارة

في حكم دوران الأمر بین المحذورین لعدم الدلیل علی تعیین أحدهما (1).

إعلم أنّه لا إشكال في نفي الآثار الوضعیة المتعلّقة بكلّ من الواجب والحرام بالخصوص إذا لم یحصل مخالفة قطعیة عملیة بأصالة عدم كلّ منهما، أو بأصالة عدم نفس تلك الآثار؛ وإنّما الكلام في حكم نفس الواقعة من حیث هي، فانّ في المسألة وجوهاً (2) أربعة:

ص: 191


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص178 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص325-329.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص178. قال الميرزا موسی التبريزي: بل ستّة:... انظر: الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص330 و 331.

[أوّلا] الإباحة ظاهراً.

[ثانياً] والتوقّف ظاهراً وواقعاً بمعنی إلغاء الشارع لكلا الاحتمالین والتخییر في الأخذ بأحدهما وتعیین الأخذ بالحرمة.

ومجمل هذه الوجوه (1) ما إذا كان كلّ منهما توصّلیاً أو أحدهما لا بعینه توصّلیا وأمّا إذا كانا تعبدیین، أو أحدهما المعیّن تعبّدیاً، سقط الوجهان الأوّلان وهو الإباحة والإلغاء، للزوم المخالفة العملیة، فانّ العمل بموجب التكلیف التعبدي بعنوان الإباحة أو إلغاء الِاحتمالین مخالفة قطعیة عملیة؛ لأنّ المطلوب من المكلّف في التعبدیّین أحد المقیّدین بعنوان التعبّد في الواقع، ففي ترك القیدین معاً وارتكاب أحدهما المعرّی عن القید مخالفة عملیة لحكم الشارع، بل یرجع الأمر حینئذٍ إلی الشكّ في المكلّف به بالنظر إلی نفس القیدین؛ لأنّ التعبّد بأحدهما مطلوب من المكلّف قطعاً وإنّما الشكّ في متعلّقه، غایة الأمر عدم إمكان الاحتیاط، فلابدّ من الأخذ بأحدهما علی التخییر، أو بخصوص الحرمة علی الوجهین الآتیین إن شاء الله تعالی.

وربّما یمثّل لذلك بالِارتِماسِ في الصوم إذا لم یمكن إتیان الغسل بغیر الارتماس، فانّ الارتماس محتمل الوجوب بعنوان التعبّد به لكونه غسلاً

ص: 192


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص179 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص330 و 331.

واجباً والحرمة كذلك لكون (1) تركه من جملة التروك التي یتحقّق الصوم بمجموعها.

لكنّ فیه إنّ الصوم - وإن كان عبادة - لكن لیس عبادیّته علی نحو سائر العبادات، للاكتفاء في صحّته بالتروك غیر المقرونة بقصد القربة، بل من دون شعور قطعاً، كالتروك الحاصلة في حال النوم والغفلة، فلا یلزم من وقوع الترك معرّی عن قصد القربة مخالفة عملیة.

ومثله الكلام في ما كان أحدهما المعیّن تعبّدیاً، كصلاة المحبوس في المكان الغصبي بالأركان، وكالعبادات عند الشك المتساوي في ترتّب الضرر البدني علیه، فانّ الترخیص في الإتیان بالتعبّدي مع عدم قصد القربة اللازم للإباحة والتوقّف المطلق مخالفة عملیة.

هذا ولا یخفی علیك أنّ هذا القید وإن ذكره بعض الأساطین وتبعه بعض مشایخنا (دام ظله)، إلّا أنّه علی إطلاقه ممّا یمكن المناقشة فیه.

وذلك إنّه قد یكون بحیث لا یمكن الإتیان بالتعبدّي إلّا دفعة واحدة لفقدان المحلّ بعده، أو یكون الترك لازماً علی تقدیر الوجوب في غیر المقدار الواجب، كما لو فرض الشكّ في وجوب الحدّ بقصد القربة، فیكون غیر صورة التعبّد حراماً قطعیاً ومعه یدور الأمر بین الوجوب والحرمة وهو الحال في التكالیف الوجوبیة المزاحمة مع المحرّمات الیقینیة عند حصول

ص: 193


1- . في المخطوطة: «لكونه».

الشكّ لأجل المزاحمة، وأمّا في غیره كالأمثلة المذكورة التي یشكّ في أصل ثبوت التحریم فیها، فربّما یناقش في التقیید في الصورة الثانیة بأنّ المخالفة التفصیلیّة غیر لازمة هنا، فإنّ غسل الأعضاء في الوضوء مثلاً عند الشكّ في كونه مضرّاً غیر معلوم الحرمة ولزوم المخالفة قطعاً من المكلّف لو ترك الإتیان بغیره مقروناً بالقصد بترك المقیّد، أو بالفعل، یمكن منع حرمته علی القول بجواز المخالفة الإجمالیة إذا لم یندرج تحت خطاب خاصّ واحد أو مطلقاً، لكنّ الظاهر الإلتزام بحرمته مطلقاً ووجوب الموافقة الاحتمالیة عند تعذّر الموافقة القطعیة، فلا إشكال في صحّة ما ذكروه.

ثمّ إنّه یعتبر في مورد الوجوه المتقدّمة مضافاً إلی ذلك أمور أخر:

منها: أن یكون الحكم المردّد بین الوجوب والحرمة واقعیاً مقطوعاً به إجمالا بحيث یلزم من طرحه طرح قول الإمام (علیه السلام)، ولو كان ذلك ثابتاً بالأصول والأمارات الظنیّة لم یجر الوجوه المتقدّمة بتفاصیلها فیه، كذا ذكره بعض مشایخنا (دام ظله)، ولعلّه لأجل أنّ الأمارات والأصول إنّما تعتبر لأجل العمل علی طبقها، فلو لم یكن يترتّب علیه العمل كما في ما نحن فیه، لم یكن لاعتبارها معنی محصّل كما قرّره في محلّه، وذلك لأنّ التكلیف بأحد الأمرین من الفعل والترك لا تَتَرَتَّبُ علیه ثمرة في العمل؛ لأنّ وقوع أحدهما ضروریّة والمفروض إنّ الأصل والأمارة لم یفدا أزید من ذلك، فتأمّل.

ومنها: أن لا یكون الشكّ في أحدهما سبباً عن عدم الآخر وإلّا كان أصالة عدمه كافیاً في ثبوت المسبّب، بناء علی حكومة الوارد علی المورود في

ص: 194

الأصول وذلك كما إذا التزم المكلّف بنذر وشبهه، أو بشرط في ضمن عقد لازم، أو أمرین یجب إطاعته كالسیّد والولد بما یشكّ في جوازه ذاتاً كشرب وغیره، فإنّ أصالة عدم الحرمة كافیة في إثبات الوجوب بضمیمة الأدلّة الدالّة علی حصول الوجوب بها، وكما إذا طرء علی المصلّي أمر یشكّ في وجوبه ذاتاً بحیث یجب قطع الصّلاة له علی تقدیر الوجوب، كحفظ نفس مشكوك الاحتراز ونحوه، ومثله الحال في قطع سائر العبادات، فأصالة عدم وجوب الحادث هنا كافیة في الحكم بالحرمة عكس الصورة السابقة، ومیزان المسألة كون عدم أحدهما موضوعاً للآخر، أو جزء الموضوع، أو شرطاً له، فیكون عدمه كافیاً في وجود الآخر، فهو من قبیل ما أشرنا إلیه من نفي الآثار الوضعیة المترتّبة علی الحكمین بأصالة عدم الحكم.

ومنه جمیع صور تزاحم مشكوك الوجوب أو الحرمة مع المعلوم الآخر بحیث یكون علی تقدیر وجوده مقدّماً علی المعلوم في الاجتماع الأمري؛ وأما المأموري، فإنّ قلنا بجوازه خرج عن عنوان المسألة لحصول الیقین بوجوب الطرف المعلوم، وإلّا فلو قلنا بتعیین الحرمة في موارده مطلقاً لكونها استغراقیاً بخلاف الوجوب، فلا إشكال في خروجه أيضاً لو كان الوجوب هو المشكوك فیه ولو لم نقل به، فهو من هذا القسم الّذي أخرجناه عن مورد الوجوه المتقدّمة كما لا یخفی.

ومنها: أن لا ینحلّ العلم الإجمالي إلی علم تفصیلي وشكّ بدوي، ذكره بعض مشایخنا (دام ظله) ومثّل له بعبادة مشكوكة المطلوبیة علی سبیل

ص: 195

الإلزام، فانّ الشكّ في الوجوب كاف في المنع من التعبّد به، فالتعبّد به حرام قطعاً فعلاً وإن احتمل وجوبه واقعاً في نفسه ولا یخرجه عن عنوان المسألة إمكان الِاحتیاط فیه بالإتیان به لا سبیل الجزم بمطلوبیته والتعبّد به؛ لأنّ إمكان التخلّص عن الحكمین وعدمه لا دخل له في حكم المسألة.

أقول: وفیه عندي إشكالٌ؛ لِأنّ المتّصف بالحرمة هنا هو نفس التعبّد بالفعل الذي یتحقّق به التشریع وهو لیس واجباً بنفسه، بل الواجب هو العمل الخارجي وهذا إن قلنا بكون قصد الامتثال غرضاً للأمر لا قیداً للمأمور به ظاهر، وإن قلنا بكونه قیداً للمأمور به فلما ذكره وجه باعتبار أنّ التشریع یتحقّق بالإتیان بالفعل مقروناً بعنوان كونه من الشرع، فیتّحد موضوع الحرمة مع الوجوب في الخارج وإن اختلفا ماهیةً ومفهوماً ولذا قد یحكم بفساد العبادة الواقعة حین الشكّ مع التقصیر باعتبار التشریع.

لكنّ الظاهر إنّه لایتمّ أيضاً إلی أنّ الواجب لیس هو خصوص الإتیان علی وجه التعبّد الجزمي وإلّا لم یعقل الاحتیاط فیه عند الشك، بل الأعمّ منه ومن إيقاعه احتیاطاً، وحینئذ فوجوب الأوّل لكونه أحد أفراد الواجب، فیدور أمره بین الوجوب التخییري العقلي والحرمة، وسنبیّن خروجه وعنوان المسألة وفاقا له إن شاء الله تعالی.

والمناقشة في ذلك بدعوی اختصاص الوجوب بالقسم الأوّل وعدم جواز الاحتیاط عند الإمكان ولو جاز عند التعذّر، فیدور التكلیف الأول بین المحذورین لا ینفع في إتمام الكلام؛ لعدم احتمال الوجوب فیه بالاعتبار

ص: 196

الأوّل فعلاً، نظراً إلی عدم التمكّن من العلم في مفروض المسألة؛ لأنّ الكلام في الشبهة الحكمیة بعد الفحص، وأمّا قبله فالأصول ساقطة، فلم یبق إلّا صورة حصول الیأس واحتمال حصول العلم لو زاد علی الفحص، فافهم.

ثمّ إنّه هل یجري الكلام في دوران الأمر بین الوجوب التخییري والحرمة أو لا؟ فیه وجهان:

إن كان التخییر شرعیاً وإلّا فالظاهر خروجه عن المسألة؛ لأنّ التخییر العقلي لیس تخییراً في الحكم وانّما هو تخییر في الامتثال، لوجود الطبیعة في ضمنه أو كونه طبیعة خارجیة، فیتحقّق الامتثال به لذلك، فلیس الخصوصیّة معروضة للأمر حتّی یجري أصالة البراءة فیها والقدر المشترك الّذي هو معروض الوجوب إن كان معلوماً، فهو وإلّا جری فیه أصالة البراءة من غیر إشكال.

ومنه یظهر عدم جریان أصالة العدم فیه لعدم الشكّ في عدم وجوبه من حیث الخصوصیة والشكّ في وجوبه من حيث الانطباق والفردیّة یرجع إلی الشكّ في وجوب الكلّي أو في كونه فرداً له، والأوّل یجری فیه أصالة البراءة إلی الكلّي كأصالة العدم فیه من دون معارض له؛ لأنّ أصالة البراءة عن الحرمة كأصالة عدمها لا یقتضي بالنسبة إلی الكلّي، كأصالة العدم فیه وجوب الكلّي المفروض ولو بضمیمة العلم الإجمالي أيضاً أنّ فرض عدم كون هذا المقدار من العلم منجّزاً للتكلیف وإلّا تعیّن الاحتیاط بترك الفرد

ص: 197

والإتیان بغیره ممّا لا شكّ في حرمته، نظراً إلی تحصیل البراءة من التكلیف المردّد بین حرمة الموضوع المفروض ووجوب الكلّي.

والحاصل إنّه داخل تحت عنوان دوران الأمر بین وجوب شيءٍ وحرمة آخر، والثاني یجري فیه الأصول الموضوعیّة إثباتاً ونفياً ومحلّ الكلام الشبهة الحكمیة.

ثمّ إنّ منشأ الوجهین في الشرعي هو الإشكال في جریان البراءة فیه وجریان أصالة العدم فیه في الجملة قطعاً، فذكر بعض مشایخنا أنّ أصالة العدم فیه كافٍ في معارضة أصالة عدم الحرمة وأصالة البراءة عنها ولو لم یجر أصالة البراءة في نفي الوجوب؛ لأنّ تعدّد الأصول في بعض أطراف الشبهة ووحدتها في الآخر غیر مؤثّرة شیئاً.

وتفصیل المقام إنّه لو قلنا بجریان البراءة في دفع الوجوب التخییري، فلإلحاقها بالمسألة وجهٌ، وإلّا فإنْ قلنا باعتبار أصالة العدم هنا من حیث كونها أمارة وقع التعارض بینها وبین أصالة عدم الحرمة كونهما أمارتین، فیرجع إلی تعارض الأمارات، فإن قلنا بالتساقط والرجوع إلی الأصل كانت أصالة البراءة عن الحرمة جاریةً من دون مُعارِضٍ، كما هو الحال لو رجعنا إلی الأصل الموافق لأحدها، وإلّا فالأصول ساقطة أصلاً، لكنّ المبنی وإن اختاره بعض مشایخنا (دام ظله) ظاهراً یؤدّي إلی إنكار الأصول العملیة نوعا إلّا في موارد قلیلة.

وإن قلنا بجریانها من حیث كونها أصلاً عملیّاً ولم نمنع من جریانها

ص: 198

في الأحكام نظراً إلی عدم ترتّب الأثر علی مورده من حیث هو هو لتفرّع الإشكال علی خصوص التكلیف المعلوم، كان الظاهر وقوع التعارض في الأصل باعتبار التكلیفین.

فإن قلنا بكون الحكم حينئذ هو التساقط، بَقِیَتْ أصالة البراءة في طرف الحرمة سلیمةً عن المعارض؛ وذلك لتقدّم أصالة العدم علیها إن رجع إلی الاستصحاب، بل مطلقاً، فهي متأخّرة عنه مرتبة، فإذا سقط في الطرفین كان الحكم معها إلّا أن یمنع من تقدیم أصالة عدم الحكم علی أصالة البراءة، فتدبّر.

إذا عرفت ذلك، فلنشرع في بیان منشأ الوجوه المذكورة، أمّا منشأ الوجه الأوّل وهو الإباحة، فثبوت المقتضی وعدم المانع.

أمّا الأوّل، فعموم أدلّة البَراءةِ والإباحةِ من العقل والنقل، فینبغي بهما كلّ من الاحتمالین، فالجهل بالوجوب سبب لرفعه ظاهراً بالعقل والنقل، وكذا الجهل بالحرمة من دون أن یكون لاحتمال الآخر مدخلیة في ذلك، كما لا ینبغي الإشكال في الحكم بالإباحة والبراءة عند احتمال الإباحة بالمعنی الأعمّ المنضمّ إليهما، كما لو دار الأمر بین الأحكام الخمسة، فحكم العقل بأنّه لا تكلیف إلّا بعد البیان یشمل كلیهما هنا، لعدم بيّنة (1)، فعدم العلم بالوجوب علّة لقبح المؤاخذة علیه، ككون عدم العلم بالآخر علّة لقبح

ص: 199


1- . في المخطوطة فوقه: «تنبيه».

العقاب علیه كالمثال المفروض وكذا الأدلّة الشرعیة، فانّ كلّا منهما غیر معلوم، فهو مرفوع وموضوع عن الأمّة وعلمه محجوب عن العباد، فهو موضوع عنهم.

وكذا ما یدلّ علی إباحة المشكوك فیه حتّی مثل قوله (علیه السلام): «كلّ شيءٍ مطلق حتّی یرد فیه نهي أو أمر» علی الروایة المنسوبة إلی الشیخ. (1)

وأمّا الثاني، فلأنّ ما یصلح للمانعیة إمّا وجوب الالتزام بالحكم الواقعي المنافي للإباحة، أو استلزام الرجوع إلی الأصل طرح قول الإمام (علیه السلام)، أو فحوی أخبار التخییر في الخبرین المتعارضین، أو دعوی الإجماع علی عدم الرجوع إلی الإباحة في مسألة اختلاف الأمّة علی قولین إذا لم یكن مع أحدهما دلیل وفي مسألة دوران الأمر بین الوجوب والحرمة حیث أنّ ظاهرهم - كما صرّح به بعض الأساطین - الاتّفاق علی عدم الرجوع إلی الإباحة فیه (2) أو عدم إمكان جعل الإباحة الظاهریة مع العلم بعدم كون الحكم هو الإباحة، وشيء منها لا یصلح للمانعیة.

أمّا الثلاثة الأُوَلُ، فلما سنبیّنه في أدلّة الخصم ان شاء الله تعالی.

ص: 200


1- . هو الشيخ الطوسي في أماليه: ص669/ ح 1405/12، قال: الأشياء مطلقة ما لم يَرِدْ عليك أمر أو نهي، وکلّ شيء فيه حلال وحرام أبداً ما لم تعرف الحرام منه فتدعه. انظر: الأمالي (انتشارات انديشه هادی)، ج2، ص642، ح1405.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج1/ ص91 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج1/ ص199.

وأمّا الرابع، فأوّلاً لما ذكره بعض الأساطین من منع الإجماع تارة؛ لأنّه لا یعلم شموله لما نحن فیه وكان الرجوع إلی الثالث غیر مخالف من حیث العمل لقول الإمام (علیه السلام)، لظهور إرادته من عدم جواز طرحه الطرح في مقام العلم.

وأخری لأنّ عدم الرجوع إلی الثالث لیس اتّفاقیا، لأنّ الشیخ نقل فیه إنّ لأصحابنا فیه مذهبین وحاصل أحدهما سقوطهما والتمسّك بمقتضی العقل من حظر أو إباحة علی اختلاف مذاهبهم (1)، علی أنّ ظاهر الشیخ هو التخییر الواقعي الذي هو مخالف لحكم الإمام (2) (علیه السلام) أيضاً.

وثانیاً إنّ كلامهم هناك ناظر إلی جواز الطرح وعدمه بالرجوع إلی الأصل الموافق للتخییر أو الإباحة الواقعیة، كما لا یخفی علی من تأمّل كلام الشیخ هناك، والنفي والإثبات هناك لا ینفع في ما نحن فیه من جواز طرحه بالرجوع إلی الإباحة الظاهریّة. هذا بالنسبة إلی العنوان الأوّل.

وأمّا الكلام في المسألة المذكورة ثانیاً، فَاستنباط الإجماع منه لما نحن فیه غیر ظاهر، لعدم معروفیّة عنوانها في غیر مسألة اجتماع الأمر والنهي وقد أشرنا إلی خروج ما كان منه عن هذا العنوان في المأموري لكون الوجوب تخییریا عقلیا، بل وكذا الأمري إن رجع إلی إلزام في وجه؛ لأنّ الظاهر إنّ

ص: 201


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص183.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص184.

الحكم فیه التخییر إن لم یكن أحدهما أعمّ من الآخر بحكم العقل، فلا شكّ فیه حتّی یندرج في المقام علی التقدیرین وعند الشكّ في الأهمیة، فهو من مسألة الدوران بین التعیین والتخییر في وجه ومحلّ الكلام هنا هو الشكّ في تعیین أحدهما واقعا بعد العلم بأنّ الحكم هو خصوص أحدهما واقعاً بحسب جعل الشارع، فافهم، ولم یعلم في غیر صورة التزاحم اتّفاق علی نفي الرجوع إلی الإباحة.

وأمّا الخامسُ وَهُوَ دَعْویٰ عدم جواز جعل الحكم الظاهري مع العلم بالمخالفة، فیدفعه عدم المانع منه عقلا، عدا توهّم التناقص بینهما وهو عند التأمّل مدفوع باختلاف الموضوعین، فموضوع أحد الشيء الواقعي من حیث هو هو والآخر الشيء بعنوان كونه مشكوك الحكم؛ كیف؟ ولو كان هناك تناقض لما جاز المخالفة مع الجهل به أيضاً وتحقیقه في محلّه وإطلاق الأدلّة هنا قاضیة بثبوته والعلم الإجمالي بأحد الحكمین إذا لم یترتّب علیه المخالفة لا یؤثّر شیئا.

ویؤیّد ذلك في المقام وقوع المخالفة بین الأحكام الظاهریّة والواقعیّة مع العلم بالمخالفة في الشبهات الحكمیّة والموضوعیّة في كثیر من الموارد، فمن الأوّل ما لو سافر المكلّف إلی أربَعَةِ فَراسِخَ، فدخل شهر رمضان، فمقتضی الاستصحاب هو إتمام الصّلاة ومقتضی أصالة البراءة من التكلیف بالصوم واستصحاب عدمه هو جواز الإفطار، مع أنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً، للقطع بأنّه إمّا مسافر شرعاً [ف-] یجب علیه قصر الصّلاة

ص: 202

ویجوز له الإفطار، أو حالاً (1) فیتمّ ویصوم.

ومنها مسألة المرتضعة بعشر رضعات حیث یفرق فیه بحكم الأصول بین ما لحق عقد النكاح للِارتِضاعِ فیحكم بحرمة المرأة المفروضة، وما لحق الارتضاع العقد فیحكم ببقاء علقة الزوجیة، فیحكم علی من ابتلی بكلیهما بالتفكیك في الأحكام المترتبة كلّا فیهما مع اتّحاد الحكم فیهما واقعاً إلی غیر ذلك.

ومن الطائفة الثانیة الحكم بصحّة الوضوء بالماء القلیل الملاقي لأحد الثوبین المشتبهین مع المنع من الصّلاة فیه عند العلم بنجاسة أحدهما مع القطع باتّحاد الحكمین في الواقع.

ومنها ما لوادّعی أحد الزوجین الزوجیة وأنكر الآخر حیث یفرّق في الأحكام، فیجري علی المقرّ ما علیه كلّاً بخلاف ما كان له، فیظهر لذلك اختلافات كثیرة في الأحكام مع العلم بمخالفة التفكیك في الواقع.

إلی غیر ذلك من الموارد الكثیرة وإنْ كان بین الأصول الجاریة في الشبهة الموضوعیّة وبین غیرها الّذي منه هذه المسألة فرقٌ كما سنبیّنه إن شاء الله تعالی.

ثمّ إنّه یشهد لما ذكر من جواز المخالفة في الشبهات الحكمیّة كلام جماعة:

منهم من قال في ردّ من اعترض (2) علی الشیخ في قوله بالتخییر في

ص: 203


1- . أي مقيماً.
2- . هو المحقّق في المعارج: ص133.

مسألة اختلاف الأمّة علی قولین بأنّ التخییر أيضاً طرح لقول الإمام (1): إنّ التخییر بین الحكمین ظاهراً وأخذ أحدهما هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام (2). وهو كما تری ظاهر في الالتزام بالتخییر الظاهري الّذي هو مخالف للحكم الواقعي، كذا قیل.

ومنهم السلطان في «حاشیة المعالم» في جملة كلام له، قال: لو كان الدلیلان متساویین من الطرفین أو لایظهر للطرفین دلیل أصلاً یتّجه التخییر في العمل (3).

ومنهم صاحب «الفصول» حیث صرّح بالحكم بالاستحباب والكراهة عند دوران الأمر بین الوجوب والإباحة وبینها والحرمة (4)، مع أنّه مخالف قطعاً للحكم الواقعي بالفرض، وحیث صرّح بجواز خرق الإجماع المركّب بالأصول، بل مطلق الحكم الثابت بالأدلّة العلمیّة إذا كان مردّداً بین شیئین ولم یقم دلیل علی المنع من التفصیل.

هذا غایة ما یمكن في توجیه الحكم بالإباحة، ویمكن الاعتراض

ص: 204


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص183.
2- . نفس المصدر.
3- . معالم الأصول (وبهاشمه حاشية سلطان العلماء): ص181 وقوانين الأصول (الطبعة الحجرية): ج1/ ص383.
4- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص 255 و 256.

علیه بوجوه:

أحدها

منع المقتضي، لما ذكره بعض الأساطین أنّ أدلّة الإباحة في محتمل الحرمة ینصرف إلی غیر محتمل الحرمة وغیر الوجوب، وأدلّة نفي التكلیف لا یفید أزید من عدم المؤاخذة علی خصوص الفعل والترك (1) وهو یجتمع مع التوقّف في ما یثبت الإباحة ویجامع وجوب الأخذ بأحدهما مخیّراً كما یدّعیه الخصم.

وأجاب عنه بعض مشایخنا (دام ظله) بأنّ دعوی الانصراف غیر مسموعة بعد إطلاق الأخبار وانتفاء ما یوجب الانصراف فیها، وهو ظاهر في روایة الشیخ المتقدّمة حیث جعل الأمر أيضاً غایة للحكم بكون الشيء مطلقاً أيضاً، وأمّا في غیره فلعلّ ترك ذلك موهن لشمول الإطلاق للشبهة الوجوبیة.

وربّما یتّجه الإشكال في التمسّك بالروایة المذكورة باعتبار العلم بتحقّق أحد الغایتین من الأمر والنهي في الواقع، فهو داخل في الغایة، فیكون التمسّك بمفهوم الغایة لنفي الإباحة أولی من العكس.

ویمكن دفعه بأنّ المفروض عدم ورود شيء منهما تفصیلاً الذي هو

ص: 205


1- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص255 و 256؛ فرائد الأصول (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص398؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص185؛ بحرالفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص106 وكتباً أُخری.

الغایة بحسب ظاهر الكلام في مفروض المسألة وهو ما لا نصّ فیه رأساً وإن كان له وجه في ما كان النصّ مجملاً أو تعارض فیه النصّان، لكنّ الثاني منهما محلّ التخییر بالأخبار والأوّل منهما ممنوع، صدق الغایة فیه أيضاً باعتبار كون ورود النهی والأمر عبارة عن بیان الأمرین اللبّیين لا اللفظیّین وبیان الخصوصیة غیر مُتَحَقِّقٍ فیه أيضاً، فالظاهر إنّها دالّة علی المدّعی لو سَلِمَ سندها ممّا یوجب الوهن فیها.

وثانیها

إنّ ما ذكر من منع مانعیّة الوجوه الثلاثة غیر ظاهرة وتحقیقه سیأتي إن شاء الله تعالی.

وثالثها

إنّ ما ذكر من منع دعوی الإجماع بالوجوه المتقدّمة غیر مُسَلَّمةٍ:

أمّا الأوّل، فلأنّ نظرهم هناك لیس إلّا في مخالفة الأصل لنفس قول الإمام (علیه السلام) وعدم جواز طرحه بنفسه وإن لم یكن مستلزماً للمخالفة العلمیّة، فجعلها مناطاً للإجماع هناك في غایة البعد عن مساق كلامهم.

وأمّا الثاني، فلأنّ منع الوفاق هناك بحیث یكون نافعاً في المقام موقوف علی أن یكون المراد من الإباحة المنقولة عن بعض الأصحاب هو الإباحة الظاهریّة، وإلّا بأن كان المراد هو الإباحة الواقعیّة - كما هو الواقع في كلامهم - لم یكن ذلك القول رافعاً لدعوی الإجماع علی نفي الإباحة الظاهریة، كما أنّ التخییر الذي ذهب إليه الشیخ لو كان واقعیّا - كما هو الظاهر من بعض كلماته - لا یبطل دعوی الإجماع المذكور.

ص: 206

وأمّا الثالث، فبالمنع من اختصاص البحث هنا بالرجوع إلی الإباحة والتخییر الواقعیین، كیف؟ وقد ألزم جماعة هناك بالتخییر الظاهري، فلو انحصر محطّ البحث في البحث عن الحكم الواقعي، لم یكن لجعله قولاً وجيهاً، فضلاً أيضاً عن ابْتِناءِ (1) المسألة علیه.

والجواب عنه: إنّ تحصیل الإجماع القطعي في المسألة بهذه الكلمات غیر ظاهر بعد شدّة الاختلاف الواقع بینهم، لما ذكر في محلّه من أنّ كشف الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل عن الواقع مشروط برجوعه إلی الإجماع البسیط علی النفي مع قطع النظر عن خصوص الأقوال، وهو هنا ممنوع جدّا؛ فانّ تجویز الرجوع إلی حكم العقل أبعد من الرجوع إلی البراءة والإباحة الشرعیین من حیث لزوم إلغاء الحكم المعلوم؛ علی أنّ حمل الإباحة علی الإباحة الواقعیة - وإن ذهب إليه بعض مشایخنا في ردّ المحقّق المذكور - لیس ظاهراً كحمل الأصل علی الأصل العقلي الراجع إلی الإباحة العقلیة.

هذا كلّه مضافاً إلی أنّ كشف الإجماع في أمثال المقام الذي لیست من الأحكام التوقیفیّة بحیث یكون محلّا لوصول الأدلّة الخاصة، محلّ اشكال، إذ أنّ الظاهر أنّ ملاك الأقوال هو الأمور العقلیّة والوجوهات غیر التوقیفیّة بحیث لا یظهر وصول القوم إلی منشأ خاصّ من الشرع لم نصل

ص: 207


1- . في المخطوطة: «بناء» وكُتب فوقه «ابتناء».

إليه، فدعوی الإجماع الكاشف هنا ممنوعة لو سلّمنا إطلاق كلامهم من حیث الطرح العملي والالتزامي ومن حیث الواقعیّة والظاهریّة في الأصل بحیث یسكن النفس بعدم الاختصاص، وإلّا فبمجرّد الإطلاق لا یكشف عن الواقع.

ورابعها

إنّ ما ذكر في دفع عدم إمكان جعل الأحكام الظاهریة مع العلم بانتفائها في الواقع غیر سدید، وقیاسه بالمخالفة في الحكمیّة وبالمخالفة في الموضوعیة فاسد كالاستشهاد بالكلمات الصادرة عن القوم.

أمّا الأوّل وهو رفع التناقض بتعدّد الموضوع، ففیه أنّ موضوع الحكم الواقعي إمّا أن یقیّد بالعلم بالحكم وعدم الشكّ فیه، أو یبقی علی إطلاقه.

فعلی الأوّل یلزم التصویب والتزام اختصاص الحكم بالعالم حقیقة، فیكون الجاهل والعالم نوعین كالقادر والعاجز، وهو خلاف الصواب عند الإمامیة القائلین بالتخطئة.

وعلی الثاني یعود المحذور؛ لِأَنَّ الفعل عند الشكّ معروض الحكم الإلزامي قطعاً إجمالاً ومعروض الإباحة لأجل كونه مشكوكاً أيضاً، فغایة ما هناك كون موضوع الواقعي أعمّ من موضوع الحكم الظاهري، فیجتمع الضدّان في محلّ الخصوصیّة، بل النقیضان في وجه؛ وتعدّد الجهة هنا غیر مجدٍ قطعاً؛ لعدم رجوعه إلی تكثیر الموضوع، فانّ الواقعة المشكوكة فیها الّذي معروض الحكم الظاهري مشتمل علی الواقعة من حیث هي هي أيضاً، أعني الماهیة لا بشرط شيءٍ الّتي تجتمع مع ألف شرط؛ وقیاسه علی ما

ص: 208

اتّفق المخالفة، واقعاً مع عدم العلم فاسد؛ لأنّ معنی الحكم الظاهري هو الحكم بالبناء علی أحد محتملات الواقع وإلغاء ماعداه من المحتملات، فلو انكشفت (1) المخالفة كان عذریّاً صرفاً، لا حكماً مجعولاً، فلا یعقل ذلك في البناء علی ما یعلم بعدمه واقعاً.

وأجاب عنه بعض مشایخنا (دام ظله) بانّ الحكم الواقعي الذي هو الإلزام، مختصّ بالعالم حقیقة؛ لأنّه لا تكلیف من دون بیان، وإنّما الّذي یشترك فیه العالم والجاهل - بناء علی التخطئة - هو مناط التكلیف المعبّر عنه بالتكلیف الثاني، وأمّا تحقّق الإلزام من الشارع للجاهل بالتكلیف فعلاً فلا، وحینئذٍ فتبقی الواقعة في حقّ الجاهل فعلاً خالیة عن الحكم الفعلي، فیجوز إنشاء الحكم بالإباحة فیها كما یقتضیه الإطلاقات.

وتحقيق المسألة مبتنیة علی الوجوه المقرّرة في حقیقة الحكم الظاهري والواقعي من كون الظاهریة واقعیات ثانویة، أو عذریة محضة، أو غیر ذلك، كجعلها صوریا محضا عند المخالفة للواقع، وبیانها تفصیلا موكول إلی محلّه.

وأمّا الثاني، فجهة الفساد ظاهرة ممّا ذكر من الفرق بین العلم بالعدم تفصیلاً والشكّ كإمكان دفعه بما ذكر.

وأمّا قیاس المسألة بالشبهات الموضوعیة ففاسد من جهة أخری؛ لما

ص: 209


1- . في المخطوطة: «انكشف».

ذكره بعض الأساطین من أنّ الأصول في الموضوعات حاكمة علی أدلّة التكلیف، فإنّ البناء علی عدم تحریم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل علی عدم تعلّق الحلف بترك وطیها في ما علم وقوع الحلف علی ترکه، أو فعله إجمالا، فهي خارجة عن موضوع الحکم بتحريم وطي من حلف علی ترك وطيها؛ وكذا الحكم بعدم وجوب وطیها، لأجل البناء علی عدم الحلف علی وطیها، فهي خارجة من موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف علی وطیها، وهذا بخلاف الشبهة الحكمیة، فإنّ الأصل فیها معارض لنفس الحكم المعلوم بالإجمال ولیس مخرجا لمجراه من موضوعه حتّی لا ینافیه بجعل الشارع. (1)

وربّما یعترض علیه - مضافاً إلی أنّه لیس بِمُطّرِدٍ في جمیع الموارد لعدم جریان الأصول الموضوعیّة في بعض الشبهات الموضوعیة، كالموجود المردّد بین العنوانین من أوّل الأمر، كالمائع المردّد بین البول والدواء الواجب الاستعمال - إنّه مرجع (2) مآل المطلب إلی المخالفة القطعیة للحكم المعلوم - سواء كان بعنوان الحكومة أو التعارض - فانّ إباحة الوطي مخالف لحكم

ص: 210


1- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص32؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج1/ ص226؛ درر الفوائد في شرح الفرائد: ج1/ ص176؛ فرائد الأصول (مع حواشي الأوثق): ج1/ ص198؛ دروس في الرسائل: ج1/ ص141 والوصائل إلي الرسائل: ج1/ ص306 وج3/ ص345 و....
2- . في المخطوطة: «يرجع» وكتِبَ فوقه «مر» يعنی انّ مراده «مرجع».

الشارع قطعا كما هو المفروض، فلا یعارضه أمر آخر بالحكومة بطریق الحكومة وغیرها، فإن كان العلم مانعاً في الحكمیة منع في الموضوعیة أيضاً، وإلّا فلا یمنع في الحكمیة أيضاً، هذا.

والظاهر أنّ مراده (قدس سره) عدم حصول المخالفة الالتزامیة في الموضوعیة بخلاف الحكمیة؛ لأنّ المعتبر في الالتزام بالحكم هو الالتزام بأحكام الله سبحانه علی ما هو علیه في الواقع المرتّبة علی الموضوعات الكلیّة، وهو لا ینافي الالتزام بعدم الحكمین في ما نحن فیه إذا استند إلی البناء علی عدم كونه مندرجاً تحت عنوان التكلیف، فالإلتزام بعدم الوجوب لأجل البناء علی عدم الحلف علی الفعل لا ینافي الالتزام بوجوب وطي عنوان إلی المحلوف علی وَطّئِها، بل یؤكّده، وكذا الطرف الآخر، فالالتزام بالحكم الكلّي علی ما هو علیه في الواقع موجود هنا مع إجراء الأصلین أيضاً، بخلاف الشبهة الحكمیة؛ لأنّ الالتزام بالإلزام الشرعي لا یعقل مع البناء علی الإباحة.

ولعلّ هذا مراد بعض مشایخنا (دام ظله) من إثبات الفرق بین المقامین باعتبار أنّ أحكام الله مترتّبة علی الماهیّات الكلیّة دون الأفراد، فإجراء الأصل فیها لا یلزم منه طرح الأحكام الواقعیّة.

ویمكن التفرقة بینهما بجواز تقیید موضوع الأحكام بمقتضی أدلّة الأصول في الشبهات الموضوعیّة بعد حكومتها علی مادلّ علیها، بخلاف الحكمیة لعدم الحكومة فیها ولزوم التصویب في الأحكام الكلیّة الّتي هي

ص: 211

محلّ النزاع المعروف بین المخطّئة والمصوّبة.

وأمّا في الاستشهاد بالكلمات المذكورة، فلأنّ التخییر في الأخذ بأحد القولین لیس مخالفاً للحكم الواقعي، بل هو لیس حكماً للواقعة، ضرورة انحصار الأحكام في الخمسة، بل تخییر في الإلزام بأحد الحكمین، ولعلّه مراد السلطان من التخییر في العمل.

وأمّا كلام التزام صاحب «الفصول» بالاستحباب والكراهة (1)، فالظاهر إنّه باعتبار رجحان الاحتیاط وهو عنوان ثانوي یجتمع مع إباحة الفعل بعنوانه الأوّلي؛ وبالجملة فلا نسلّم أنّ أحداً منهم صرّح بجواز الرجوع إلی الأصل المعلوم مخالفته للحكم الواقعي تفصیلاً، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في منشأ القول بالإباحة وفي ما یمكن أن یقال فيها، والعمدة في ذلك إثبات الإطلاق المعتبر وجواز المخالفة التفصیلیّة بین الحكمین كما أشرنا إليه.

ومن ذلك كلّه یظهر منشأ الوجه الثاني وهو التوقّف وعدم الحكم علیه بشيء في الظاهر (2) وإلغاء كلا الاحتمالین، كما مال إليه بعض

ص: 212


1- . حيث قال:... فانّه يجوز الحکم في الأول بالکراهة وفي الثاني بالاستحباب للاحتياط مع القطع بمخالفته للحکم الواقعي. انظر: الفصول: ص256.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص179.

الأساطین (1) وهو إجراء أدلّة البراءة العقلیة والنقلیة في المحتملین كلیهما بعد منع شمول أدلّة الإباحة الظاهریة لما نحن فیه بما تقدّم ومنع الدلیل علی وجوب الِالْتِزامِ بأحد الأمرین وإن لم یدفعه الأصلان المذكوران.

وأمّا منشأ الوجه الثالث وهو التخییر في الأخذ بأحد المحتملین، فأمور:

أحدها: الإجماع علی فساد الرجوع إلی الأصل المخالف وامتناع إبقاء الواقعة بلا حُكْمٍ فعلي، فیتردّد الأمر بین التخییر وتعیین أحدهما، والثاني باطل لما سنذكره في ردّ تعیین الحرمة وعدم قائل ظاهر بتعیین الوجوب، فتعیَّن الأوّل وهو المدّعی؛ والكلام في الإجماع قد تقدّم، وامتناع بقاء الواقعة من دون حكم ظاهري ممنوع إذا لم یحتج إليه المكلّف في العمل كما أشار إليه بعضهم.

وثانیها: إنّ العلم الإجمالي بأحد الحكمین مانع من جریان الأصل، ولمّا لم یكن الاحتیاط هنا ولم یكن لأحدهما معیّن، تعیّن بحكم العقل التخییر بینهما كسائر موارد العلم الإجمالي مع تعذّر الاحتیاط؛ وغایة الفرق بینهما دعوی لزوم المخالفة العملیة في إجراء الأصل هناك بخلاف المقام وهو علی فرض تسليم اشتراط سقوط الأصول بحصولها إنّما لا تحصل في المقام دفعة عن علم وقصد.

ص: 213


1- . نفس المصدر.

وأمّا المخالفة تدریجاً في واقعتین، فهي لازمة البتة، والعقل كما یحكم بقبح المخالفة دفعة، كذا یحكم بحرمة المخالفة في واقعتین تدریجاً عن قصد من غیر تقیید بحكم ظاهري عند كلّ واقعة، فیجب الالتزام بأحد المحتملین هنا، إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوض للشارع قطعاً عن قصد، وتعدّد الواقعة إنّما یجدي مع الإذن من الشارع عند كلّ واقعة، كما في تخییر الشارع للمقلّد بین قولي المجتهدین تخییراً مستمرّاً يجوز معه الرجوع عن أحدهما إلی الآخر، وأمّا مع عدمه، فالمُقدم علی ما هو مبغوض للشارع یستحقّ عقلاً العقاب علی ارتكاب ذلك المبغوض، أمّا لو التزم بأحد الاحتمالین قبح عقابه علی مخالفة الواقع لو اتّفقت.

واعترض علیه بعض مشایخنا (دام ظله) خلافاً لبعض الأساطین بأنّ عموم أدلّة الإباحة كافیة في إثبات الإذن من دون حاجة إلی ورود دلیل خاصّ؛ ضرورة عدم الفرق بین الإذن الخاصّ والعامّ الثابت بالعموم المعتبر، وتوهّم معارضته بالشبهة المحصورة حیث لا یكتفی فیه بالإذن العامّ مدفوع بأنّه إنّما لا یكتفی به لأنّ مدلول الأصل نفي التكلیف عن كلیهما المؤدّي إلی المخالفة القطعیة للتكلیف المنجّز بحكم العقل، فلا یمكن الأخذ بالأصل فیهما، وإجراؤه في أحدهما المعیّن ترجیح بلا مرجّح وأحدهما المخیّر لیس فرداً آخر داخلاً تحت الخطاب بالتفصیل المقرّر في محلّه، بخلاف المقام فانّه لا یلزم منه مخالفة التكلیف المنجّز في الواقعة الواحدة ولزوم المخالفة للواقع في واقعتین جائز مع إذن الشارع كما اعترف به، فما المخصص لعموم

ص: 214

دلیل الاباحة؟! هذا.

ولا یخفی علیك أنّ الإشكال غیر متوجّه إلی المحقّق المذكور علی بیانه من منع شمول أدلّة الإباحة وانصرافها إلی غیر ما نحن فیه، فإنّ أدلّة البراءة غیر كافیة هنا ما لم یثبت الإذن الشرعي.

وتحقیق المسألة من هذه الجهة أنّ دوران الأمر بین المحذورین الّذي هو محلّ الكلام قد تكون في ما لا یوجد في حقّ المكلّف إلّا دفعة واحدة وقد یعلم تعدّد الواقعة مع تعلّق التكلیف بالآخر حین وقوع الأوّل علی المكلّف، وقد یكون معلوم التجدّد من دون تعلّقه به وقت الأوّل، وقد یشكّ في أصل التجدّد أو كیفیّته.

فإن كان الأوّل فلا إشكال من حیث لزوم المخالفة العملیّة وإن كان فرض هذا القسم في الشبهة الحكمیّة الّتي هي محلّ الكلام لا یخلو من بعد إلّا باعتبار فرض عدم تحقّق موضوعه في حقّ بعض المكلّفین إلّا مرّة واحدة، وإلّا فالأحكام الواقعیّة مترتّبة علی الموضوعات الكلیّة الّتي هي في معرض تكرّر الوقوع نوعاً، وملاحظة خصوص آحاد المكلّفین من حیث ابتلاؤه مرّة واحدة مثلاً في إجراء الأصول في الأحكام الكلیّة لا یخلو عن كلام.

ویمكن فرضه في التكالیف الّتي لا یجب علی المكلّفین إلّا مرّة واحدة، كالحج إذا شكّ في وجوبه وحرمته عند كونه مضرّاً ضرراً بدنیاً مع استناده من أوّل الأمر إلی سوء اختیار المكلّف، أو مضرّاً بالمال المعتدّ به وغير ذلك،

ص: 215

وإن كان الثاني كما لو ابتلی بفردین من محلّ المسألة دفعة واحدة وكما لو كانا تدریجیین مع كون التكلیف معلّقا علی الوقت المفروض لا مشروطاً به، فلا إشكال في حصول المخالفة العملیّة بالعمل بمقتضی أحد الاحتمالین في أحدهما وبالآخر في الآخر، والظاهر عدم جوازه عقلا من دون إذن شرعي وتحقیقه موكول إلی محلّه.

وهل تَكْفِيْ أصالة الإباحة ولو سلّمت عمّا مرّ من المناقشة في إثبات الإذن، كما صرّح المحقّق المتقدّم، نظراً إلی اعتبار العام كالخاص، أو لا؟

وجهان، أظهرهما الأوّل، وإن كان ربّما یناقش فیه بعدم معهودیة مثل ذلك في الشرع إلّا في الخبرین المتعارضین قولاً عند المشهور علی ظاهر ما ینسب إلیهم ولم یظهر منهم العمل بالتخییر الاستمراري في الفقه مع المخالفة القطعية العملیّة إلّا نادراً لو كان، وأمّا التقلید الذي مثّل لذلك بعض الأساطین كما ذكرنا فظاهره خلاف ما علیه بناؤه ظاهراً والمفتی به عند كثیر من المتأخّرین من عدم جواز العدول عن المجتهد بعد تقلیده. وحمله علی موارد لزوم العدول - كالعدول عن رأي المیّت إلی الحيّ وعن غیر الأعلم إلی الأعلم - فهو أجنبي عمّا نحن فیه، بل هو أشبه شيء بتجدّد رأي المجتهد، ومثله ما لو تخیّر في العدول والبقاء.

وإن كان الثالث، فلا مانع من جهة المخالفة العملیة فیه، بناء علی جواز ذلك في الشبهة المحصورة التدریجیة التي یأتي الكلام فیه إن شاء الله تعالی، كما اختاره بعض الأساطین وإلّا فالظاهر اتّحاده مع سابقه.

ص: 216

وإن كان الرابع، فالظاهر كونه كالقسم الأوّل.

وممّا ذكرنا یظهر إنّ ما استقواه بعض الأساطین من لزوم أخذ المحتملین مطلقاً نظراً إلی الجهة المذكورة، محلّ حظر ومنع، بل غایة الأمر التفصیل في الموارد.

وثالثها: إنّه یجب الالتزام بحكم الله سبحانه، فیكون المسألة من قبیل اشتباه الواجب بغیره مع تعذّر الاحتیاط، فلابدّ هنا من الحكم بالتخییر عند عدم المعیّن، كما لو اشتبهت القبلة مع ضیق الوقت.

وربّما یستدلّ للأوّل بعموم دلیل وجوب الانقیاد للشرع وأدلّة وجوب إطاعة الله سبحانه والرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمّة علیهم السلام وأدلّة وجوب الإیمان والإقرار بما أنزل الله سبحانه وما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) أو أخبر به الأئمّة علیهم السلام.

وتفصیل المقام إنّ هاهنا أموراً أربعة:

أحدها: الاعتقاد بالأحكام الشرعیة.

وثانیها: الالتزام بها والتدیّن بها قلبا.

وثالثها: الإقرار بها لسانا.

ورابعها: العمل بها، والأخیر لا ینفع في المقام، لعدم تفرّع العمل علیه هنا بعد فرض كون الحكمین توصّلیین، وكذا الأوّل مع وضوح عدم وجوبه تفصیلاً في غیر الضروریات إلّا بقدر ما یتعلّق بالعمل ولا ربط له بالمقام؛ فإنّ الكلام بعد الفراغ عن الفحص اللازم، فشيء منهما لا دخل له

ص: 217

بالمقام، وأمّا الوسطان فإنّ فرض ثبوت وجوب أحدهما تفصیلاً مع عدم كونه مشروطاً بالعلم، فلسقوط الأصل هنا ووجوب التخییر في الأخذ بأحدهما وجه وجیه، فلابدّ من إثبات وجوب الالتزام قلباً أو لساناً بخصوص كلّ واحد من الأحكام من دون اشتراطه بتعلّق العلم بخصوصه وجوباً نفسیاً، مع قطع النظر عن العمل، إمّا لو كان لأجل العمل، أو كان مشروطاً بالعلم به بخصوصه، أو بمقدار العلم وعلی حسبه، أو إجمالیّاً من دون حاجة إلی التفصیل بنفسه وإن استلزمه في بعض الموارد، فلا یتمّ سقوط أصالة البراءة به.

أمّا الأوّل فلأنّ المفروض هنا عدم ترتّب ثمرة عملیة علیه.

وأمّا الثاني، فلأنّ المفروض عدم العلم بخصوص الحكم، والالتزام بالواقع المردّد بینهما علی ما هو علیه في الواقع لا ینافي البناء علی الاباحة الظاهریة في الظاهر بعد تسلیم كون المخالفة هنا ممكنة كما سبق؛ لأنّ الالتزام بکلّ منهما حینئذٍ علی حسبه، فیكون الالتزام بالواقع المردّد علی سبیل الشأنیة وبالإباحة الظاهریّة علی الفعلیة، فما یرفع به التناقض بین جعل الأمرین من اختلاف الموضوع ونحوه یسوّغ به الالتزام بالواقع مع البناء علی الإباحة في الظاهر.

وممّا ذكرنا یظهر الحال في الثالث، فإنّ الالتزامَ بالأحكام الواقعیة إجمالا لاینفع في ما نحن فیه، وحینئذٍ فالجواب عن الوجه المذكور إنّه لم یقم

ص: 218

دلیل علی ثبوت هذا التكلیف بالنحو المذكور، والوجوه التي (1) أشرنا إليها قاصرة عن إفادة ذلك جدّاً، علی أنّه یمكن دعوی القطع بعدمه، نظراً إلی أنّ وجوب الالتزام اللساني بالكیفیة المذكورة علی المجتهد والعامي مطلقاً خلاف الإجماع، بل لعلّ الضرورة علی نفي كلّیته قائمةٌ والالتزام القلبي مع قطع النظر عن العمل والاعتقاد غیر محصّل المفهوم؛ فإنّا لا نتعقّل في الخارج غیر العلم والإظهار والعمل في مرتبته من العزم وغیره أمراً آخر حتّی نحكم علیه بالوجوب، كما صرّح به بعض مشایخنا (دام ظله)، لكنّ الظاهر أنّ الالتزام القلبي والإذعان النفسي أمر آخر غیرهما يسمّی تشریعاً بنفسه إذا تعلّق بخلاف حكم الله سبحانه محرّما عندهم بنفسه أو سبباً لحرمة الفعل الواقع بحسبه وصدق التشریع علیه، وتحقیقه موكول إلی تلك المسألة.

وعلیه فدفعه منحصر من هذه الجهة بعدم الدلیل، أو دعوی الإجماع علی نفيه، فانّا لم نر أحداً منهم حكم بوجوب تعلّم جمیع الأحكام تفصیلا ممّا یتعلّق بعمله وغیره حتّی ما لا یحصل ابتلاؤه بها علی كلّ أحد مع توقّف الالتزام بها علی الوجه المذكور علیه، والسیرة علی خلافه قائمة، وتخصیص الوجوب بصورة العلم الإجمالي أيضاً غیر نافعة لحصوله في حق كلّ أحد

ص: 219


1- . في المخطوطة:«الذي».

منهم؛ لأنّ لله سبحانه علی العباد أحكاماً كثیرة إلّا أن یحصّص (1) بما لا یتعلّق بعمل نفسه ولكن لا لأجل العمل هنا.

ویمكن بناء الاستدلال علی وجوب الالتزام قلباً علی حسب العلم في الإجمال والتفصیل، فیقال في المقام إنّه یجب الالتزام بإلزام واقعي، بحیث لو ترتّب علیه عمل لفعله المكلّف وهو ینافي الالتزام بالإباحة وبناء العمل علیها؛ لأنّ انقیاد المكلّف للحكم الإلزامي علی الوجه المذكور ینافي البناء علی الإباحة؛ لأنّه في معنی البناء علی عدم الإلزام علی وجه الإباحة، والالتزام بالإلزام لا یجتمع مع البناء علی عدمه، وعدم تنافي الحكمین لا یؤثّر في عدم تنافي الإلزامین، فلابدّ في دفعه من منع وجوب الالتزام علی الوجه المذكور والاكتفاء بالإقرار بوجوده قلباً أو لِساناً ومنع دلالة الوجوه المشار إلیها علی الكیفیّة المذكورة، فتأمّل.

ثمّ إنّه ربما یجاب عن الوجه المذكور بأمورٍ أُخَرَ:

أحدها: إنّ المسألة لو كانت كما ذكر يكون داخلاً في عنوان اشتباه الواجب بالحرام لا الواجب بغیر الحرام؛ لأنّ الالتزام بخلاف حكم الله سبحانه أيضاً حرام ولعلّ الخصم لا یسلّم التخییر هنا.

وفیه إشكال؛ فانّ الظاهر أنّه لابدّ من الالتزام بالتخییر هناك كما سیأتي الكلام فیه إن شاء الله تعالی، علی أنّ ورود الإشكال علی التقریر الأخیر

ص: 220


1- . في المخطوطة: «يختص» وفوقه «يحصص».

غیر ظاهر.

وثانیاً: إنّه لو كان الأمر كما ذكر في الاستدلال لزم سقوط الأصول في جمیع المقامات؛ لانقلاب الشكّ في التكلیف فیها إلی الشكّ في المكلّف نظراً إلی وجوب الالتزام، فیكون الأصل في جمیعها التخییر؛ لعدم إمكان الالتزام بكلیهما معاً، مثلاً إذا دار الأمر بین الوجوب والإباحة، فبملاحظة وجوب الالتزام بأحدهما یكون الشكّ في المكلّف به، فلابدّ فیه من الحكم بالتخییر.

والثاني: ظاهر الفساد بالإجماع، بل لعلّ التخییر في جمیع الشكوك ضروري البطلان.

وهذا الوجه كسابقه ذكره بعض مشایخنا (دام ظله) في ما یخطر ببالي، وفيه نظر ظاهر؛ فإنّ الأصول جاریة بملاحظة التكلیف الأولي المتعلّق بنفس الفعل، فیتعیّن به حكم الله سبحانه في الظاهر، فلا تردّد في الظاهر في موضوع هذا الحكم - أعني وجوب الالتزام بحكم الله سبحانه حینئذٍ - فالفرق بین ما نحن فیه وسائر موارد الشكّ في التكلیف إنّ الأصل هناك معیّن لأحد الاحتمالین فیحرز به موضوع هذا التكلیف الثانوي بخلاف المقام فانّه مخالف لطرفی المعلوم بالإجمال.

وثالثها: ما ذكره أيضاً من اعتبار العلم بالموضوعات شرطاً لنفس التكلیف لا لتنجّزه في الجملة أو مطلقاً علی ما ذكره المحقّق القمي طاب ثراه

ص: 221

في آیة النبأ (1) وغیره أيضاً، فلو كان الأمر كذلك كان الالتزام هنا مشروطاً بالموضوع المنتفي هنا؛ فانّ العلم الإجمالي لیس علماً بنفس الموضوع، وفیه أيضاً نظر موكول إلی محلّه، أعني مبنی الإشكال المذكور.

هذا تمام الكلام في الوجه المتقدّم.

ورابعها

إنّه لو سلّم عدم وجوب الالتزام بحكم الله سبحانه، لكن طرحه والالتزام بخلاف حكم الله سبحانه حرام قطعاً وطرح لقول الإمام (علیه السلام).

ویمكن دفعه بأنّ الطرح في مقام العمل غیر لازم والأخذ بالإباحة الظاهریّة أَخْذٌ بقول الإمام (علیه السلام) والتزام بحكم الله سبحانه الظّاهري الّذي دلّ علیه العموم المفروض، لما أشرنا إليه في جواز مخالفة الحكم الظاهري للواقعي، لا من حیث العمل ویظهر من بعض التفصیل في هذا الوجه مما سبق.

ثمّ لا یخفی علیك أنّ هذا الوجه وسابقه علی التقریر الثاني لو تمّتا (2) لم ینهضا بدفع القول بالتوقّف في الظاهر وإنّما غایتهما نفي القول بالإباحة؛ لأنّ الالتزام الإجمالي وترك طرح الحكم الواقعي لا ینافیان التوقّف.

ثمّ إنّ هذا الوجه مستفاد من كلام الشیخ (قدس سره) في مسألة اختلاف الأمة

ص: 222


1- . القوانين: ج2/ ص290.
2- . يمكن أن يقرأ في المخطوطة: خاتمتا.

علی قولین حیث قال - بعد نقل القول بالتساقط والتمسّك بمقتضی العقل -: وهذا القول لیس بقويّ، وعلّله باطِّراحِ قَوْلِ الإمامِ (علیه السلام) [و] قال: ولو جاز ذلك لجاز مع تعیین قول الإمام (علیه السلام) بتركه والعمل بما في العقل، ثمّ نقل القول الآخر بالتخییر. (1)

أقول ظاهر كلامه (قدس سره) بملاحظة ما فرّع علیه هو التخییر الواقعي كما أشرنا إليه في محلّه، وحینئذٍ لا ربط له بمحلّ الكلام، فانّ الظاهر إنّه علی هذا یجعل الإجماع المركّب دلیلاً علی كون الحكم هو التخییر، فیرتفع موضوع المسألة وهو الشكّ في الوجوب والحرمة.

علی أنّه لا یبعد اختصاص موضع التخییر الذي ذكره بالشكّ في المكلّف به كالظهر والجمعة؛ لأنّ التخییر الواقعي في كثیر من الموارد غیر معقول بظاهره كالوجوب والإباحة، أو مع الاستحباب.

نعم یعقل التخییر في خصوص ما نحن فیه برجوعه إلی الإباحة الواقعیة، لكنه أيضاً تخییر حقیقة كما لا یخفی.

وخامسها

اشارة

إنّ هذه المسألة مُلْحَقَةٌ بالمسألة الثالثة وهو صورة تعارض

ص: 223


1- . انظر: عدّة الأصول: ص250؛ القوانين المحكمة في الأصول المتقنة: ج2/ ص290؛ الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص398 و (للمجمع): ج2/ ص184؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص340 والتنقيح: ج3/ ص301 وكتباً أخر.

الخبرین المعتبرین الدالّ أحدهما علی الأمر والآخر علی النهي كما هو مورد بعض الأخبار، فانّ المستفاد منه بتنقیح المناط وجوب الأخذ بأحد الحكمین وإن لم یكن علی كلّ واحد منهما دلیل معتبر.

وجوابه إنّه قیاس مع الفارق، فانّ غایة ما یمكن فیه إلغاء الفارق هو سائر موارد تعارض أدلّة الأحكام، فیكون القاعدة في تعارض مطلق الأدلّة المتعارضة بالنهي والأمر هو التخییر كتعارض القرائتین ولو كان التعارض في أدلّة الأدلّة كقول اللغوي أو مع أمارات الموضوعات أيضاً.

وأمّا إلحاق صورة فقدان الطریق رأساً بالخبرین المتعارضین، فقیاس فاسد، كما لا یلحق ما لانصّ فیه من الشبهة التحریمیة والوجوبیة بالتخییر في الخبرین مطلقاً كما في بعض الأخبار.

وربّما یجاب عنه باحتمال أن یكون التخییر هناك لأجل تزاحم التكلیفین الأصولیین المتعلّق بالأخذ بالخبر المعتبر، وهو مفقود في المقام، فلا یصحّ القیاس.

وأمّا منشأ الوجه الرابع وهو تعیین الحرمة، فعلی بطلال القول بالإباحة والتوقّف وإثبات وجوب الأخذ بأحدهما في الجملة ما تقدم، وعلی تعیین ترجیح الحرمة في الأخذ علی الوجوب وجوه:

منها: قاعدة الاحتیاط، لدوران الأمر بین تعیین الحرمة والتخییر بینهما وبین الوجوب؛ إذ لا یحتمل هنا تعیین الوجوب وتحقیق أصل المسألة أعني الأصل في دوران الأمر بین مطلق التعیین والتخییر والتعیین وإنّ مقتضاه

ص: 224

الأوّل أو الثاني أنّ التخییر المحتمل قد یكون شرعیاً ظاهریاً وقد یكون عقلیاً في الحكم الشرعي الواقعي مع عدم العلم بمطلوبیة القدر المشترك إلّا في ضمن المعلوم أو مع ذلك وقد یكون عقلیا في الحكم الشرعي الظاهري وقد یكون عَقْلِیّاً في الحكم العقلي، فجملة الوجوه (1) المتصورة هنا سِتّةٌ:

أمّا الأوّل

وهو الشكّ في التخییر الشرعي الواقعي والتعیین كذلك كالشكّ في تعیین العتق في كثیر من الموارد من بین خصال الكفارة، ففي جریان البراءة أو الاحتیاط وجهان أو قولان یأتیان في أواخر الشكّ في المكلّف به ان شاء الله تعالی.

وأمّا الثاني

وهو التخییر الشرعي الظاهري، كدوران الأمر في التقلید بین تعیین الأعلم والتخییر بینه وبین غیره وتعیین الرّاجح من الخبرین المتعارضین، أو التخییر بینه وبين المرجوح إذا جعلنا مقتضی العقل فیهما التوقف أو التساقط وكان التخییر بجعل الشارع، كما لعلّه الأظهر في المثال الثاني، فهي مجری قاعدة الاشتغال كحصول الشكّ في طریقیة الطرف المقابل مع العلم بطریقية ذلك، فأصالة عدم حجّیة الظنّ هي المرجع، وتفصیله موكول إلی مسألة التعادل والترجیح والأولی تبدیل هذا العنوان بالتخییر الشرعي في طریق الحكم وما قبله بالتخییر في نفس الحكم.

وأمّا الثالث

فمثاله الشكّ في اعتبار إیمان العبد في الكفّارة وعدمه

ص: 225


1- . وفي الأصل: «الصور» بدلناها بالوجوه لتصحیح تذکیر الأعداد الآتیة.

وكلّ ما شكّ في شرطیّته أو جزئیّته أو مانعیّته وتحقیقه یأتي في أواخر هذا المبحث إن شاء الله تعالی.

وأمّا الرابع

فمثاله الشكّ في تعیین العالم والعادل عند الدوران بین تعیّن إنقاذهما، أو التخییر عند عدم إمكان الجمع وجمیع مسائل الالتزام عند الشكّ في أهمیّة أحدهما، أو تعیین الأهمّ، وفیه وجوه ثلاثة: إلحاقه بالتخییر والتعیین الشرعیین الواقعیّین، وإجراء قاعدة الاحتیاط هنا - ولو لم یجر في تلك المسألة - وإجراء البراءة مطلقاً علی عکس ما قبله.

ووجه الأوّل ظاهر؛ لرجوع الشكّ إلی كون المأمور به شرعاً هو المعیّن، أو كلّ منهما علی التخییر؛ غایة الأمر إنّ الكاشف عن أصل الحكم هنا هو العقل بناء علی خروج المتزاحمین عن تحت الخطاب، أو عن انقلابه إلی التخییر، أو التعیین لأجل التزاحم بناء علی دخوله.

ومنشأ الثاني إنّ هذا التخییر المحتمل إنّما أتي من جهة العقل علی جهة الحكومة، لا أنّه كاشف عن كونه مجعولاً علی وجه التخییر، فانّ الأمر إنّما أنشأ الحكم في المطلق الشامل لكلا الفردین علی سبیل التعیین، وإنّما حكم العقل بالاكتفاء بأحدهما نظراً إلی عدم إمكان الجمع والتزاحم، وغایة ما علم معذوریّة المكلّف هنا هو صورة الإتیان بالطّرف المتیقّن ولا یعلم الاكتفاء في مقام الامتثال في غیرها، وأدلّة البراءة إنّما تنفي التكلیف الشرعي المشكوك ولا تدلّ علی الاكتفاء في مقام الامتثال بالمشكوك.

ومنشأ الثالث أنّ مطلوبیة كلّ منهما معلومة في الجملة ولذا یكون

ص: 226

الآتي بالطّرف المقابل للمتیقّن ممتثلاً من حیث الإتیان بالمكلّف به وإنّما الشكّ في وجوب ترجیح الأهمّ، أو المحتمل الأهمیّة علی غیره حتّی یكون الفاعل لغیره ممتثلاً من جهة وعاصیاً من [جهة] أخری وعدمه، فینقلب الشكّ إلی علم تفصیلي بمطلوبیة كلّ منهما وشكّ بدوي في وجوب جعله في ضمن الأهمّ ولا شكّ في شمول أدلّة البراءة في التكلیف المشكوك. وهذا الوجه اختاره بعض مشایخنا (دام ظله) وهو مبنيّ بظاهره علی جواز تعلّق التكلیف بكلّ منهما مع كون أحدهما واجِباً مُعَیَّناً علی سبیل الترتّب لقاعدة الترتّب المقرّرة في محلّه أو لغیرها، ووقوعه إمّا بإطلاق الدلیل أو بغیره، وعدم اقتضاء الأمر التعییني بالأهمّ النهي عن الآخر، أو عدم اقتضاء النهي المذكور فساده، لجواز اجتماع الأمر والنهي مطلقا، أو مع كونه غیرياً، أو لترتّب أحدهما علی الآخر.

ویمكن تقریر البراءة هنا بوجه آخر لا یبتنی علیها بأن یقال: إنّه إذا علمنا بحصول مقتضي التكلیف ومناطه من المصلحة المُلزِمة أو المحبوبیة الواقعیة في كلّ من المتزاحمین - كما هو المفروض في المقام - وشككنا في زیادة المقتضي في أحدهما وفوته بحیث لا یرضی الآمر بتفویت تلك الزّيادة، كان أصالة عدم ذلك المانع محتملاً دلیلاً علی تحقّق الوجوب، ففي كلّ منهما ولو لم یكن علی وجه التعیین، فیكون الآتي بكلّ منهما ممتثلاً في الظاهر.

أو یقال: إنّ القدر المعلوم في مقام اللزوم هو الإتیان بماهیّة المأمور به بما هي هي، وأمّا الخصوصیة المفروضة، فهي غیر معلومة الوجوب،

ص: 227

فالأصل البراءة عنه؛ مثلاً إذا قال: «أنقذ الغریق»، ودار الأمر في الْإنقاذِ بین العالم والجاهل، فالقدر المعلوم علی المكلّف هو الإتیان بماهیّة إنقاذ الغریق، بما هي إنقاذ الغريق وهو یتحقّق في ضمن كلّ منهما، وأمّا وجوب تحصیل خصوصیّة إنقاذ العالم بما هو عالم، فهو غیر معلوم الوجوب علی المكلّف، فالأصل البراءة عنه، وتفصیل المسألة موكول إلی محلّ آخر.

وأمّا الخامس

وهو التخییر العقلي في الحكم الشرعي الظاهر، فمثاله ما إذا شككنا في اشتراط شيء في جواز تقلید المجتهد وعدمه، ككونه مهذّب الأخلاق، أو كونه بصیراً لا أعمی، أو قادراً علی الكتابة لا أمیّا، أو كونه ذكراً لا أنثی إلی غیر ذلك، أو ما إذا شككنا في اعتبار شيء في جواز التحاكم إلی الحاكم والقاضي، وحكمه الأخذ بالمتیقّن لما عرفت في القسم الثاني من أنّ أصالة عدم اعتبار الظنّ كافٍ في دفع التخییر في الطرق، فالشّك في الطریقیة كاف في الحكم بعدمه، فیتعیّن الطرف الآخر.

وبعبارة أخری مرجع الشكّ إلی الشكّ في الاكتفاء في مقام امتثال التكلیف الواقعي بكلّ منهما، أو بخصوص أحدهما والشّكّ في تحقّق الامتثال حقیقة، أو بحكم الشارع مجری الاشتغال دائماً؛ وتفصیله موكول إلی مسألة أصالة عدم اعتبار الظنّ.

وربّما یمثّل لذلك بما إذا شككنا في اعتبار شرط أو قید في طرق الأحكام مطلقاً، كما شكّ في اعتبار العدالة أو الضبط أو غیرهما في الرّاوي وهو منظور فیه؛ لأنّ الأمر دائر فیه بین الاستغراق والاختصاص لا التخییر

ص: 228

والتعیین.

ثمّ إنّ لهذا القسم نوعاً (1) آخر وهو ما إذا تردّد الظنّ أو الأمارة المجعولة بین أمور مع عدم إمكان ترك العمل بما اعتبره الشارع واقعاً، كما في دلیل الانسداد علی تقدیر الكشف، فانّه عند وجود بعض ما یمكن كونه مرجّحاً لتعیین القضیة المهملة التي انتجتها مقدمات الدلیل، فهل یحكم بالتعیین أو بالتخییر بینه وبین غیره؟ والفرق بین هذا النوع وبین سابقه كون التخییر هناك واقعیاً بمعنی كون دخول الفردین تحت متعلّق الحكم علی تقدیر كون الواقع هو احتمال التخییر دون التعیین قطعیا ثابتا في الواقع لشمول متعلّق الحكم لهما معا وهنا ما اعتبر في الواقع مردّد بین أمرین، لكن رجحان أحد المحتملین علی الآخر أوجب احتمال التعیین في قبال التخییر الذي حكم به العقل من جهة الضرورة وحكمه الاقتصار علی التعیین؛ لأنّ ترخیص العمل بالظنّ المخالف للأصل سوّغه العقل للضرورة، فإذا دار الأمر بين الأمرین كان الطّرف المشكوك مُنْدَرِجاً تحت الأصل، لعدم استقلال العقل بالتسوية بینهما وتفصیله موكول إلی دلیل الانسداد، وهذا النوع یأتي نظیره في التخییر في الحكم الواقعي أيضاً ویظهر حكمه ممّا سبق ویأتي إن شاء الله تعالی.

وأمّا السادس

وهو التخییر العقلي في الحكم العقلي، فمثاله نتیجة دلیل

ص: 229


1- . في المخطوطة: «نوع».

الانسداد علی تقدیر الحكومة إذا قام احتمال التعیین في بعضها وحكمه الحكم بالتخییر إذا كان المرجّح المحتمل شرعیا بمعنی احتمال تعیین الشارع لأحد المحتملین مع كون العقل قاضیاً بالتخییر لو خلّي ونفسه، وإلّا فهو غیر معقول؛ لأنّ الحاكم بالتخییر هو العقل والتردّد من الحاكم في حكمه غیر معقول.

وأمّا الأوّل، فهو جائز وأصالة عدم تعیین الشرع لأحدهما مثبت للتخییر؛ لأنّ المقتضي له ثابت، واحتمال تصرّف الشارع في ذلك لا ینفع ما لم یثبت في رفع الید عن مقتضی العقل وتفصیله أيضاً في محلّه.

ولك أن تقسّم التخییر علی سبیل الكلیّة بتقرير آخر بأن یقال: التخییر إمّا شرعي أو عقلي، والشرعي إمّا تخییر في نفس الحكم، أو تخییر في طریقه، والعقلي إمّا أن یكون متعلّقا بحكم نفسه، أو بحكم الشارع، والأخیر إمّا حكم شرعي واقعي، أو حكم طریقي أصولي وكلّ منهما إمّا أن یكون التخییر المحتمل واقعیاً لاندراج كلّ منهما تحت المأمور به اندراج الفرد تحت الكلّي، أو ظاهریاً مستندا إلی عدم ثبوت المرجّح وقد أشرنا إلی أحكامها،

فلنعد إلی المسألة المبْحُوْثِ عنها، فنقول قد أجاب بعض الأساطین عن الأصل المذكور في المقام بأنّ قاعدة الاحتیاط عند الشكّ غیر جارٍ في أمثال المقام ممّا یكون الحاكم فیه العقل، فانّ العقل إمّا أن یستقلّ بالتخییر وإمّا أن یستقل بالتعیین، فلیس في المقام شكّ علی كلّ تقدیر وإنّما الشكّ في

ص: 230

الأحكام التوقیفیة التي لا یدركها العقل. (1)

ثمّ قال: إلّا أن یقال: إنّ احْتِمالَ أن یرد من الشارع حكم توقیفي في ترجیح جانب الحرمة ولو لاحتمال شمول أخبار التوقّف لما نحن فیه كافٍ في الاحتیاط والأخذ بالحرمة. (2)

أقول: وجوب الأخذ بأحد الحكمین إن استند فیه إلی وجوب الالتزام بحكم الله سبحانه شرعاً، أو بالإجماع كان شرعیاً، وإن استند إلی حكم العقل بمراعاة المعلوم بالإجمال ولو للزوم المخالفة العملیة في الوقایع المتعدّدة كان عقلیاً، فإنّه واقع في كیفیة الامتثال، ومثله إذا استند إلی حرمة طرح قول الإمام (علیه السلام) مع لزوم البناء في مقام العمل علی أحد الأحكام عقلاً، والتخییر علی الأوّل تخییر ظاهري عقلي في الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، كما لو استند إلی الإجماع نظیر القبلة المتردّدة بین الجهات الأربع مع تعذّر الإتیان بجمیعها، وعلی الثاني تخییر عقلي في نفس الحكم العقلي.

وعلی كلّ حال، فالشكّ بین تعیین التعیین والتخییر من جهة المرجّح

ص: 231


1- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص400؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص188؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص109؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص355؛ درر الفوائد في شرح الفرائد: ج4/ ص44 وكتباً أخر.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص189.

العقلي، كما لو استند احتمال التعیین إلی ترجیح طرف المفسدة وغیره مع كون الحاكم هو العقل غیر معقول وعلی ما ذكره ووافقه بعض مشایخنا (دام ظله) وإن كان فیه إشكال موكول بیانه إلی محلّه.

وأمّا من جهة تعیین الشارع لأحد المحتملین، فالظاهر أنّه محتمل في الجمیع، كما إذا نشأ احتمال التعیین من الاستقراء وأخبار التوقّف وما ضاهاها، وحینئذ فالظاهر إنّ الأصل هنا یوافق التخییر علی التقدیر الأخیر؛ لأنّ الجهة الباعثة علی الالتزام بأحد الحكمین عقلاً موجود فیهما معا، واحتمال تصرّف الشارع فیه مع كونه عقلیاً صرفاً لا ینفع إلّا بعد ثبوته، فانّ العقل یتوقّف في حكمه إلّا بعد علمه بذلك الّذي تَخْرُجُ به المسألة عن موضوع الحكم العقلي، كما أشرنا إليه من نتیجة الانسداد علی الحكومة.

وأمّا علی الأوّل، فإنْ كان الحكم بالوجوب واقعیا - كما هو مقتضی دلیل وجوب الالتزام شرعا بنفسه كمسألة اشتباه القبلة، ففي جریان أصالة التعیین أو التخییر وجهان، اختار ثانیهما بعض مشایخنا (دام ظله) ووجهه ما ذكر في سابقه، فانّ التخییر هنا عقلي واقع في كیفیة الامتثال، فالمسألة عقلیةٌ صِرْفَةٌ وإنّما یجوز تصرّف الشارع هنا، فیأخذ به لو صار معلوماً؛ وأمّا لو كان ظاهرياً كما لو استند إلی الإجماع واستفید منه كون الوجوب ظاهریاً، فالظاهر إنّه لا مسرح هنا من أصالة الاشتغال؛ لأنّ التكلیف المردّد ظاهري طریقي لابدّ فیه من الأخذ بالقدر المتیقّن في مقابلة أصالة عدم جواز التعبّد بالمحتمل كالمظنون، فتدبّر.

ص: 232

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من وجوه التعیین.

ومنها: إنّ دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة، فیقدّم احتمال الحرمة لما فیها من المفسدة علی احتمال الوجوب المشتمل علی المصلحة دائماً أو غالباً كما عن «النهایة» من أنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصیل مصلحة لازمة للفعل واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ. (1)

ودعویٰ أنّ العقلاء كثیراً ما یرتكبون المضارّ المحتملة أو المظنونة، بل المقطوعة في بعض المقامات لجلب المنافع المظنونة وغیرها، فیسلكون الطریق المخوف ویركبون الفلك في البحر العظیم الخطر لتحصیل المنافع من التجارات وغیرها ویلتزمون بالحجامة والكيّ بالنار ونحوهما للمنافع البدنیة المظنونة، فیستفاد من ذلك أنّ الأمر لیس منضبطاً عندهم، بل المدار علی القوّة والضعف فیهما بنفسهما ومن حیث رجحان الاحتمال ومرجوحیته، فیتّبعون الراجح محتملاً واحتمالاً علی غیره.

مدفوعة بأنّ المراد بالعقل هو العقل السلیم الخالي عن شوائب

ص: 233


1- . انظر: نهاية الوصول إلی علم الأصول (طبعة مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)): ج1/ ص422-424 الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص399؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص185؛ بحرالفوائد: ج5/ ص107؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص344؛ عناية الأصول في شرح كفاية الأصول: ج4/ ص139 وكتباً أخر.

الأوهام، المستخلصة من أَسْرِ الهوی، غیر المنقادة للشهوة والغضب، الباقي علی فطرته الّتي فطره الله سبحانه علیها وهو الذي یشذّ علی وجه الأرض من كان حافظاً لها بعد الملائكة والأنبیاء والأوصیاء صلوات الله علیهم أجمعین.

وأمّا هذه العقول المتعارفة بین أمثالنا، فلابدّ من الرجوع إلیها من اعتبار تخلیصها عن شوائب الهوی بقطع النظر عنها وإرجاعها في خصوص كلّ مسألةٍ إلی حالها الأصلي، فالتمسك ببناء العقلاء إنّما یجوز في ما علم استناد فعلهم إلی العقل المذكور، وإلّا فأكثرهم متّفقون علی معصیة الخالق جلّ اسمه وصرف العمر في أعمال اللّغو والمكروهات واتّباع الشّهوات مع أنّ العقل السلیم لا یرخّص لهم في الأوّل ولا یساعدهم في غیره - لو خلّي وطبعه - فعمل نوع العقلاء في جلب المنافع الدنیویة بمقتضی القوّة الحیوانیة لا یدلّ علی حكم العقل السلیم به ولا علی عدم استقلاله بعدمه كارتكاب المحرّم الشرعي العقلي لما ذكر.

وممّا یوضّح الحال في المقام إنّ جلب المنافع الدنیویة أزید ممّا یتوقّف علیه الواجبات من حفظ النفس والأهل وغیرهما لا یستقلّ العقل بلزومها لو لم نقل باستقلاله بالأعراض عمّا لا یتوقّف علیه أمر الآخرة من الواجبات والمستحبّات، فكیف مزاحمته للضرر والمفسدة مع استقلال العقل بحرمة الارتكاب علی مابیّن في محلّه؟!

ومن هنا یظهر أنّ حكم العقل في الأمور الدنیویة مقصورٌ علی لزوم دفع الضّرر علی ما ذكروه في محلّه، فلا تُعارضُهُ المنفعة الدنیویة.

ص: 234

وأمّا الأخرویة بعد فرض تحقّقها، فهي مزاحمة له، مقدّمة علیه رجحاناً عقلیاً، كما في الجهاد عند وجود من یقوم بمقدار الكفایة، ولذا كان الحكم المذكور تعلیقیاً، لا تنجیزياً مطلقاً؛ ولا یردّ هذا ما نحن بصدده من تقدیم جانب المفسدة؛ فإنّه كلام في ترجیح أحد النوعین علی الآخر من حیث هما هما، لا بعد ملاحظة ضعف الضرر الدنیوي الذي لا یعتدّ بحاله العقل في جنب المصلحة الأخرویة، وما نحن فیه من قبیل الأوّل، فلا شبهة في الترجیح من هذه الجهة.

والجواب عنه: إنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة - كما ذكره غیر واحد منهم - وإلّا لم یصلح للإلزام؛ إذ مجرد فوت المصلحة عن الشخص مع كون حاله بعد الفوت كحاله قبله لا یصلح وجهاً لإلزام المكلّف به ما لم یبلغ حدّاً یكون في فواته مفسدة، واستشهد له بأنّه لولا ذلك لکان أصغر المحرمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض. (1)

فإنْ قُلْتَ: فعلی ما ذكر ینبغي تعیین جانب الوجوب؛ إذ في فعله مصلحة وفي تركه مفسدة، بخلاف الحرمة؛ إذ لا مصلحة في تركه غیر التحرّز من مفسدة الفعل.

ص: 235


1- . انظر: الوسائل: ج3/ ص 19-15؛ الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص400؛ الفرائد (للمجمع): ص188؛ بحرالفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص108؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص354 وكتباً أخر.

قلت: مع أنّه قد یكون المفسدة حاصلة من نفس فقدان المصلحة الملزمة المتأكّدة فيتّحدان في الخارج، وقد یكون في ترك الحرام أيضاً والتجنّب عنه وجدان مصلحة أنّ مجرّد ترتّب المصلحة لا یوجب التعیین وإنّما أقصی الأمر هنا رجحان ترجیح جانب الوجوب لا الالتزام، فإنّ الأفضلیّة لا یثمر في تعیین أحد المحتملین علی الآخر.

ومنه یظهر الجواب عمّا ربّما یستشهد للدلیل المذكور بما روي عن أمیرالمؤمنین (علیه السلام) من أنّ «اجتناب السیئات أولی من اكتساب الحسنات» (1)، وقوله (علیه السلام) «أفضل من اكتساب الحسنات، اجتناب السیئات» (2)؛ فإنّ الأولویّة والأفضلیّة لا ینفعنا في تعیین الأخذ بأحد المحتملین، مع أنّه یحتمل قویّا استناد الأولویّة إلی جهة الإطاعة لاحتیاج ترك المحرّمات إلی قوّة داعي الإطاعة بحیث یغلب داعي الهوی الموجود نوعا في الفعل، فإنّ الغرض الأصلي من النهي حمل المكلّف علی الترك في ما لولاه لفعله بدواعیه النفسانیة، وإلّا فهو منترك بنفس عدم الداعي ولو لم نقل بأنّ المطلوب من النواهي نفس أن لا یفعل، بخلاف الإطاعة، فالغرض من الأمر حاصل مع

ص: 236


1- . انظر: غرر الحكم: ص185، ح3514؛ والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص344.
2- . انظر: غرر الحکم: ص273، ح5967؛ والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص344.

عدم المعارضة أيضاً.

ثمّ إنّه ربّما یجري الوجه المذكور في الدلیل في نظیر المسألة وهو الدوران بین الاستحباب والكراهة مع سلامته هناك عن الجواب المذكور، فإنّه لا یلزم في المستحبّ أن یكون في تركه مفسدة ولو غیر معتدّة بها، مع أنّ في المكروه لابدّ أن یكون مفسدة نوعاً بحیث لا تصل إلی حدّ ملزم بتركها بناء علی قاعدة تبعیة الأحكام للصفات، فیشكل الحال فیه مع أنّ الظاهر فیه عدم التفرقة بینه وبین ما نحن فیه.

وأجاب عنه شیخنا (دام ظله) بالتزام كون المفسدة في المكروه دنیویّة، فإنّ المفاسد الدنیویّة نوعاً لا تصلح لإلزام الشارع بتركها، لعدم الاعتداد بشأن الدنیا بنفسها وإنّما تصلح نوعاً للنهي الشرعي نظراً إلی مصلحة الإرشاد علی العباد بمفاسد أمور العباد بعد خلقهم وإیجاد ما یضرّبهم استعماله.

وهو عندي محلّ إشكالٍ كما هو الظاهر، ولو كان الأمر كما ذكره، لكان ینبغي الحكم برجحان الأخذ بالاستحباب هناك لو جعل المصلحة أخرویّة، وإلّا فترجیح المفسدة الدنیویة علی المصلحة الدنیویّة عند العقل ظاهر وتفصیل الكلام في أصله لا یناسب المقام.

ومنها: إنّ إفضاء الحرمة إلی مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلی مقصوده؛ لأنّ مقصود الحرمة یتأتّی بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة،

ص: 237

بخلاف فعل الواجب. (1)

وتوضیحه علی ما ذكره بعض مشایخنا (دام ظله) إنّ المقصود من التكلیف لمّا كان حصول المطلوب في الخارج وهو في الحرمة لا یحتاج إلی شعور المكلّف به ووجود داعي الحصول فیه، بل عدم الداعي للفعل ولو لعدم شعور المكلّف به كافٍ في حصوله بخلاف الوجوب.

وأجاب عنه بعض الأساطین طاب ثراه بأنّه یصلح وجهاً لعدم تعیین الوجوب، لا لنفي التخییر (2)، وبیّن (دام ظله) الوجه المتقدّم (3) بأنّ التكلیف المردّد بین الفعل والترك لیس داعياً وحاملاً للمكلّف علی الفعل لم یحصل منه الفعل لأجله حینئذٍ، فإن كان له داعياً خارجیاً للفعل أو الترك تحقّق أحدهما منه له، وإلّا فیبقی علی مقتضی الحرمة، فما ذكر یصلح لعدم تعین الفعل بالمعلوم بالإجمال لا لتعیین الحرمة بحیث لا یجوز له الفعل بدواعیه الخارجیة.

وها هنا وُجُوْهٌ أُخَرُ ربّما یمكن تطبیق الدلیل المذكور علیها.

ص: 238


1- . نهاية الوصول إلی علم الأصول (طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام: ج2/ ص82 طبعة مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام): ج1/ ص424)؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص186.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص187 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص353 و 354.
3- . في المخطوطة: وبينه الوجه المتقدم (دام ظله).

أحدها: إذ الإفضاء (1) إلی الترك أقلّ حاجة إلی البیان من توقّف الوجوب إلی البیان في حصول المطلوب لما ذكر في سابقه، فترك البیان في الوجوب أبعد منه في الحرمة.

وثانیها: إنّ العمل بمقتضی الحرمة وهو الترك أبعد من حصول المخالفة من الفعل؛ لتوقّفه علی وجود الداعي إليه والالتفات به والقصد إليه بعد اشتراكهما في الحاجة إلی رفع المانع، فهما متساویان في التوقّف علی عدم المانع ویختصّ الأخیر بتوقّفه علی المقتضي، فاختیار الحرمة لكونه أبعد عن عروض المخالفة أولی من اختیار الوجوب.

وثالثها: إنّ الترك هنا أقرب إلی انقیاد العبد لأوامر المولی، فإنّ كماله یحصل بترك كلّ فعل لا یدعوه الإطاعة إليه والإعراض من جمیع الدواعي الخارجیة وقد سبق [أنّ] هذا العلم الإجمالي لا یحرّك العبد إلی الفعل بنفسه، فاختیار الحرمة أولی، والحال في هذه الوجوه غیر خفيّ علی البصیر بالقواعد.

ومنها: الاستقراء بناء علی أنّ الغالب في موارد اشتباه مصادیق الواجب بالحرام تغلیب الشارع لجانب الحرمة ومثّل له بأیّام الاستظهار وتحریم استعمال الماء المشتبه بالنجس. (2)

ص: 239


1- . في المخطوطة: إفضاء.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص186 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص345.

والجواب عنه:

أوّلاً انّ الشارع عكس في موارد كثیرة أخری، بل لعلّها أكثر من القسم الأوّل.

منها: الصّلاة بأربعة جوانب وفي الثوبین المشتبهین وغیر ذلك، والوضوء بِالمائِعِ المردّد بین الماء المطلق والمضاف علی ما ذكروها في محالّها، والصّلاة علی غیر القبلة، أو في الثوب النجس، كالصّلاة في أیّام الاستظهار والوضوء بالمضاف كالوضوء بالنجس إلی غیر ذلك، فإن راعیٰ كون الحرمة تشریعیة توجّه النقض علیه فیهما بعینه.

ومنها: تسلیم الودعي درهما ونصفاً إلی من أودعه درهمين (1) والنصف إلی من أودعه درهما بعد تلف أحد الدراهم الثّلاثة، فإنّ تسلیم كلّ من النصفین إلی كلّ منهما محتمل الوجوب لكونه ملكاً له، فیجب ردّه عند المطالبة والحرمة لكونه للآخر، فیحرم التصرّف فیه بدون إذنه، فقدّم طرف الوجوب علی الحرمة مع أنّه یؤدّی في بعض الأقسام إلی المخالفة التفصیلیة في طرف الحرمة.

ومنها: الحكم بوجوب أداء القیمة والعین معاً علی من أقرّ بعین لزید، ثمّ لعمرو، فإنّ الحكم مردّد بین الاحتمالین مع العلم بكون أحدهما حراماً،

ص: 240


1- . في المخطوطة: درهمانِ بالرفع.

فرخّص المخالفة القطعیة لطرف الحرمة.

ومنها: الحكم بتسلیم العین إلی المتداعیین تنصیفاً عند إقامة كلّ منهما البیّنة إذا كانا متصرّفین، أو لابدّ لكلّ منهما، فإنّ الحكم والتسلیم مردّد بین الأمرین أيضاً مع أنّ المقدّم احتمال الوجوب مع لزوم المخالفة القطعیة أيضاً، ففي هذه الثلاثة قدّم احتمال الوجوب مع حصول المخالفة القطعیة، فمع عدمها أولی، إلی غیر ذلك من نظائر ما تقدّم.

هذا بیان ما استفدته من بعض مشایخنا (دام ظله) وهو لا یخلو مِنْ إشكال، فإنّ المذكور:

أوّلاً لا دخل له بالحرمة الذاتية، والحرمة التشریعیة يرتفع موضوعها بالاحتیاط، بل الظاهر أنّهما متباینان أصلاً ولو مع قطع النظر عن رجحان الاحتیاط والنقض بمثالَي الِاستقراء بدعوی حرمة الأخیرین ذاتاً ومنعه كلام آخر.

والمذكور ثانیاً یمكن أن یقال فیه: إنّ الإمساك أيضاً بعد المطالبة نوع تصرّف في العین محرّم، فهو حینئذٍ بعد مطالبتهما معاً معلوم الحرمة تفصیلاً، فلابدّ للفرار منه إلی التسلیم، فلیس تسلیم كلّ منهما لتغلیب وجوبه علی حرمته المحتملین، بل للفرار من المحرّم المعلوم تفصیلاً.

وإنْ شِئْتَ، فَعَبِّرْ عنه بترجیح مقتضي احتمال الوجوب والحرمة معا علی احتمال الحرمة فقط ولعلّ تعیین المقدار نشأ من عدم وجود المرجّح ومنه یظهر الإشكال في الأخیرین، فإنّ الضرورة الناشئة من عدم المرجّح

ص: 241

أوجب ذلك بَعْدَ العِلْمِ التفصیلي بحرمة إهمال الواقعة وترك التسلیم رأساً، مع أنّ خروجه عن مقتضی القواعد بعد الغضّ من الضرورة ظاهرة، فیعلم من ذلك أنّ فیها خصوصیة معلومة أو مجهولة، فلا دخل لها بما نحن بصدده ممّا لا خصوصیة فیها.

مُضافاً إلی عدم قائل ظاهر بترجیح الوجوب بما هو علی الحرمة، فیعلم من ذلك أنّ لذلك سبباً آخر، والكلام هنا في ما لا یظهر له خصوصیة والترجیح بین النوعین من حیث هما هما، فتأمّل.

وثانیاً إنّا نمنع تحقّق الِاسْتِقْراءِ هُنا؛ فإنّ أقلّ ما یقنع به منه ثبوت الحكم في غالب موارد الموضوع، وهو هنا ظاهر العدم، والمثالانِ المتقدّمانِ مع شذوذهما لا یَنْفَعانِنا في الِاستقراء ولو فرض غلبة أمثالهما، أو ثبوت الغلبة بهما لخروجهما عمّا ينبغي ملاحظته من أفراد المبحوث عنه في الاستقراء.

أمّا الأوّل، فلأنّه - مضافاً إلی أنّ وجوب ترك العبادة في أیام الاستظهار لیس علی المشهور (1) کما حكي - لو كان واجباً فلعلّه لأصالة بقاء الحیض وحرمة العبادة وترك غیر ذات العادة بمجرّد الرؤیة للإطلاقات (2) وقاعدة «كلّما أمكن»، وإلّا فأصالة عدم الحیض وحرمة العبادة هی المرجع

ص: 242


1- . انظر: جامع المدارك: ج1/ ص333 ومفتاح الكرامة: ج1/ ص381.
2- . انظر: الوسائل: ج2/ ص537/ ح2.

كذا ذكره بعض الأساطین. (1)

وربّما یستشكل فیه بأنّ الحكم الثابت في موارد الاستقراء لابدّ أن یكون من دلیل وهو إمّا قطعي أو ظنّي من قاعدة وغیرها أو أصل قاضٍ به، فالجواب باستناد الحكم فیه إلی الدلیل من الأصل والقاعدة غیر متّجه، فإنّها أدلّة علی حكم الشارع بالحرمة ولیست مأخوذة في الموضوع مقیّدا له حتّی یخرج به عمّا نحن فیه كما هو المدّعی.

وأجاب عنه بعض مشایخنا (دام ظله) بأنّ الحكم في أفراد الاستقراء لابدّ أن یكون ثابتاً بدلیل قطعي حتّی ینفع في إثبات الحكم في المشكوك فیه، وإلّا فهو غیر نافع في ذلك؛ وذلك لأنّ الثابت بهما الحكم الظاهري الذي یكون وجود الأصل والطریق المتعبدّ به جزءً لموضوعه، فلا ینفع في إلحاق المشكوك الخالي عنهما معاً ولا یثبت به الحكم الواقعي في خصوص الأفراد حتّی یعلم أو یظنّ بكون المشكوك فیه مثلها في الحكم، وإنّ خصوصیّة الأفراد ملغاة فیه والحكم للقدر الجامع عن الطریق التعبّدي وللأصل لا یحصل علم ولا ظنّ بذلك.

وفیه بإطلاقه نظر بهذا التقریر المستفاد لي من كلامه، كما أنّ الإشكال المذكور فاسد.

أمّا الثاني، فلأنّ الدلیل إمّا أن یقوم علی ترجیح جانب الحرمة علی

ص: 243


1- . انظر: الفرائد: ج2/ ص186 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص349.

الوجوب من الشارع، وإمّا أن یقوم علی تعیین موضوع الحرمة والوجوب، والثاني لا دخل له بما نحن فیه قطعاً، فإنّ تعیین أحدهما بأصل أو دلیل أو قاعدة مختصّ بمورده مع القطع أو الظنّ بعدم مشاركة المشكوك له في ذلك، ولو حصل ظنّ معتبر بالتعیین في المشكوك لو فرض إمكانه فهو خارج عن محلّ الكلام؛ فإنّ الكلام في تعیین حكم الشك لا رفع الشبهة بالدلیل، فتعیین كون الحالة الحاصلة فعلاً هو الحیض في ما نحن فیه بأصل أو قاعدة إمكان أو إطلاق لا ثمرة له في الاستقراء؛ لأنّ حاصله رفع الشكّ حكماً وتعیین الموضوع، فلا دوران بعد في الظاهر، فكیف یقاس علیه حال الدوران الموجود الّذي لا معیّن له كما لا یخفی؟

وأمّا الأوّل وهو كون مدلول الأصل والدلیل تعیین الحكم وترجیح أحد الحكمین علی الآخر، فهو إن كان اصلاً، فهو كما ذكره المجيب (دام ظله)؛ لأنّ الأصل لا یثبت حكم الفرد الآخر، ولو كان ملازماً له قطعاً في الحكم، فكیف یثبت به المقام مع عدم الملازمة؟ فلا یحصل منه ظنّ ولا قطع بالإلحاق مع بعد عدم الاشتراك قطعاً في موضوع الحكم الظاهري؛ وأمّا إن كان طریقاً معتبراً فقد یناقش في ما ذكره (دام ظله) بأنّه مثبت لكون الحكم في صورة الحرمة في الواقع، فیحصل الاستقراء به ولیس وجوده قیداً حتّی یمتنع إلحاق المشكوك فیه به وإنّما هو طریق مثبت للواقع، وإن لزم منه اعتباره قید في الحكم القطعي الظاهري، ولعلّ الأولی هنا أيضاً التفصیل بین الموارد، فإن كان الأمارات القائمة علی الأفراد الغالبة ظنوناً لفظیة ولو

ص: 244

مظنونة بالظنّ المعتبر - كخبر صحیح ونحوه - فیحتمل إلحاق المشكوك به نظراً إلی ظهور المجموع في إلغاء الخصوصیات في الحكم الواقعي وإنّ الموضوع معا القدر المشترك، ویدّعی حینئذٍ أنّ هذا أيضاً ظنّ لفظي، ولو كان حصوله من ضمّ الألفاظ المنفصلة والجمل المتعددة وإن لم یكن كذلك، فالظاهر إنّ أدلّة الأمارات قاصرة عن إثبات الزائد علی ما قامَتِ الأمارةُ به ولوازمه الأصلیة وما لا ملازمة بینه وبین مورد الأمارة ملازمة عادیة كما في المقام، فإثباته بالأمارة ممنوعة.

نعم لو اجتمعت الأمارات بحیث حصل بین المجموع والمشكوك ملازمة عادية خفیّة، لم یبعد اعتبار الِاستقراء فیه.

وممّا ذكرنا یظهر وجه الإشكال في إطلاق الجواب بالتعلیل المتقدّم، فتأمّل.

ومن هنا یعلم أنّ أغلب الاستقراءات المذكورة في كتب الفقه والقواعد الكلیّة وغیرهما محلّ إشكال.

وأمّا المثال الثاني، فهو أيضاً خارج عن أفراد المبحوث عنه.

أوّلاً: لما ذكره بعض الأساطین: من أنّ الظاهر إنّ حرمة استعمال الإناء النجس تشریعیة لا ذاتیة كما ثبت فیه، فالحكم لأجل النصّ (1)، ولو رام المستدلّ دفعه بشمول العنوان له أيضاً توجّه علیه ثبوت الحكم في الحرام

ص: 245


1- . انظر: الوسائل: ج1/ ص116/ ح14 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص187.

التشریعي عند المشهور في موارد كثیرة، ككثیر من موارد الشبهة المحصورة وقد سبق بعض أمثلتها.

وثانیاً: إنّ الوضوء له بدل وهو التیمّم، فلا یزاحم الحرمة (1) الّتي لا بدل لها لذلك، فلا ینفع في ما لا بدل للواجب فیه.

وثالثاً: إنّ تلك المسألة من قبیل اشتباه الواجب والحرام مع العلم بهما إجمالا، لا الدوران بین الوجوب والحرمة، مع أنّ العقلاء والعلماء متّفقون في تلك المسألة بعدم جواز ترك الواجب هناك تحفّظا عن الحرام (2) علی ما صرّح به بعض الأساطین للزوم المخالفة القطعیة لأجل تحصیل الموافقة القطعیة، وسیأتي تتمّة الكلام في آخر أصل البراءة عند عنوانه إن شاء الله تعالی.

ورابعاً (3): إنّ محلّ الكلام هنا هو الشبهة الحكمیة، فلا ینفع لها استقراء الشبهة الموضوعیة لتعدّد الصنف ولا یمكن في خصوصها تحصیل الاستقراء؛ لأنّ كلّ دلیل شرعي فیها یكون دلیلا علی تعیین أحد المحتملین؛ لأنّ شأن الشارع بیان نفس الأحكام إلّا أن یرد دلیل علی أنّ الأصل في مطلق الشبهة الحكمیة أو في صنف منها، هو تغلیب الحرمة، ووجوده في

ص: 246


1- . نفس المصدر.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص187.
3- . في المخطوطة: «ثالثاً» وكتب فوقه «رابعاً».

المقام غیر ظاهر أو ظاهر العدم، وممّا ذكر في سابقه یتّجه جواب خامس (1) وهو عدم كفایة الأدلّة الظنّیة في كثیر من المقامات لإثبات الحكم المشكوك فیه، ویتلوه [جواب] سادس (2) وهو الاستقراء القطعي في المقام مقطوع العدم والظنّي منه حجیّته غیرمسلّمة، فعلی المستدل الإثبات.

ومنها: ظاهر مادلّ علی وجوب التوقّف عند الشبهة، فإنّ الظاهر منه السكون وعدم المضيّ في الشبهة.

والجواب عنه بعد عدم حمله علی التوقّف عند التمكّن عن السؤال أو علی الندب أو التوقّف في مقام الاجتهاد وغیرها - كما ذكرها الأصولیّون في جوابها - إنّها ظاهرة في ترك الشبهة حینئذ لأجل كونها احتیاطاً لا تعبّداً من الشارع ولعلّه إليه ینظر كلام بعض الأساطین بأنّها ظاهر في ما لا یحتمل الضرر في تركه.

هذا تمام الكلام في وجوه أصل المسألة.

بقي الكلام في شيء وهو أنّه لو بنینا علی التخییر، فهل في ابتداء الأمر، فلا یجوز له العدول عمّا اختاره، أو مستمرّ فله العدول مطلقا أو بشرط البناء علی الاستمرار؟ وجوه، هكذا ذكره بعض الأساطین (3) والمراد في

ص: 247


1- . في المخطوطة: «رابع» وكتب فوقه «خامس».
2- . في المخطوطة: «خامس» وكتب فوقه «سادس».
3- . انظر: الفرائد، (للمجمع): ج2/ ص189.

الأوّلین ظاهر، وأمّا الثالث، فیحتمل أن یكون المراد منه كون التخییر استمراریاً له العدول إن اختار الاستمرار وبنی علیه، وَإنِ اخْتارَ الْبَدْویَّةَ، فلیس له العدول، فمرجعه إلی كونه مخیّراً بدواً بین التخییر البدوي والاستمراري.

ویحتمل أن یكون المراد أنّ جواز العدول أو الأخذ مطلقا مشروط ببناء المكلّف علی الاستمرار، فیشترط جواز العدول في كلّ واقعة إلی بنائه علی استمرار ذلك في الوقائع المتأخّرة وله بعده نقض البناء والعدول إلی غیره.

وفیه احتمال ثالث وهو كون التخییر بَدْوِیّاً إن كان بانیاً علی الِاستمرار ما أخذ في جمیع الوقایع بأن اختار أحد الحكمین في جمیع الوقائع إجمالاً من أوّل الأمر بخلاف ما إذا أخذه في خصوص الواقعة الماضیة؛ ولكلّ من التفصیلات وجه خاصّ، لكن ظاهر العبارة أوفق بالأوّل، ثمّ الثاني.

وربّما یستدلّ للأوّل بقاعدة الاحتیاط (1)، لدوران الأمر بعد الاختیار بین تعیین المختار في ثاني الحال والتخییر بینه وبین الآخر.

وثانیا: باستصحاب الحكم المختار (2) للشكّ في ارتفاعه باختیار الآخر

ص: 248


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص189.
2- . انظر: نفس المصدر.

ثانیا.

وثالثا: باستلزام العدول المخالفة العملیة القطعیة الّتي منعت عن الرجوع إلی الإباحة في أوّل الأمر. (1)

ویمكن الجواب عن الأوّل بما ذكره بعض الأساطین من أنّ حكم العقل بالتخییر عقلي قطعي لا احتمال فیه حتّی یجري فیه الاحتیاط. (2)

وربّما یستشكل فیه بأنّه لا یتمّ علی ما ذكره في الجواب عن التمسّك بالقاعدة لنفي التخییر من قوله: «إلّا أن یقال إنّ احتمال أن یرد من الشارع حكم توقیفيّ في ترجیح [جانب] الحرمة» (3) إلی آخر ما حكیناه عنه هناك، فهذا الاحتمال هنا أيضاً موجود وحكم العقل بالتخییر إنّما هو إذا لم یكن هنا حكم توقیفي شرعي، فالأولی لي في الجواب أن یقال: إنّ احتمال التصرّف لا ینفع في رفع حكم العقل ما لم یثبت ذلك بالتفصیل المتقدّم هناك.

ویمكن دفع شبهة التدافع بین كلامي المحقّق المذكور:

تارة بأنّه لم یظهر منه اختیار كون الاحتمال تعیینا وإنّما ذكره احتمالا

ص: 249


1- . انظر: نفس المصدر.
2- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ج1/ ص400و الفرائد (للمجمع): ج2/ ص189؛ بحرالفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص110؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص358 و....
3- . قد سبق ذكره، فلينظر الفرائد (للمجمع): ج2/ ص189.

وتوجیها وإن لم یكن مرضیّا عنده، كما یشعر بعدم قوّته عنده التعبیر المذكور.

وأخری بأنّ هذا الكلام في متفرّعات القول بالتخییر وهو بعد إبطال التعیین ودفع قاعدة الاحتیاط بعدم الاكتفاء باحتمال التوقیف الشرعي، وإلّا فالتخییر فاسد أوّلاً، فلا مجال للتكلّم في متفرّعاته، فمحلّ الكلام بعد فرض عدم الاكتفاء باحتمال تصرّف الشارع في توقّف العقل عن حكمه.

وعن الثاني:

أوّلاً بمعارضته مع استصحاب التخییر الحاكم علیه، (1) فإنّ الشكّ في ثبوت الحكم المختار في ثاني الحال بحیث لا یؤثّر اختیار الأخری في رفعه سبب عن بقاء التخییر وارتفاعه، فإذا ثبت بالاستصحاب بقاء التخییر، ثبت به ارتفاع الحكم الأوّل لعدم الشكّ بعد فرض بقاءه.

وثانیاً: بأنّه استصحاب حكم عقلي، فلا یجوز.

وثالثا: إنّ مقتضی الثبوت في المستصحب غیر ثابت بعد اختیار الأخری، فلا یجري الاستصحاب لكونه شكّا في المقتضي.

ورابعا: بأنّ الموضوع غیر معلوم البقاء؛ لاحتمال كون الحكم الظاهري المختار أولاً مترتّبا علی مختار ذلك مع الوصف، فینتفی بتبدّل الاختیار.

ص: 250


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص189.

وعن الثالث بما ذكره بعض الأساطین: من أنّ المخالفة القطعیة في مثل ذلك لا دلیل علی حرمتها، كما لو بدء للمجتهد في رأیه، أو عدل المقلّد عن مجتهده بعد زمن موت أو جنون أو فسق أو اختیار علی القول بجوازه. (1)

ویشكل ذلك بما ذكر (2) في أوائل الكتاب من منع جواز المخالفة هنا عن قصد وعلم من دون ثبوت إذن من الشارع في ذلك كما مرّ نقله وإلی الأمثلة، فما عدا الأخیر منها یناظر المقام، فإنّها أحكام ظاهریة یستند إلیها من باب الضرورة من دون أن یكون له بدّ من ذلك، فإنّه لا یمكن للمجتهد التوقّف في حكمه احتمال عدوله وكذا لا یمكنه بعده الأخذ بالأوّل وكذا غیره، فإنّها كلّها من باب تبدّل الطریق، لا المخالفة العملیّة اختیاراً خصوصاً مع قصدها من أوّل الأمر ولیس المقصود إثبات الضرورة الواقعیّة حتّی تنتقض بإمكان الاحتیاط؛ إذ لابدّ إنّ ذلك لازم حجّیة الطریق، ففي عدمه مخالفة للغرض الباعث علی جعله من انسداد ونحوه.

وربّما یستدلّ للثاني منهما

أوّلا باستصحاب التخییر.

وثانیا بما ارتضاه بعض الأساطین من حكم العقل في الزمان الثاني،

ص: 251


1- . نفس المصدر.
2- . ولکن في المخطوطة: بما في ذکر.

كما حكم به في الزمان الأوّل (1)، ویشكل الأوّل بما مرّ من عدم جریان الاستصحاب في الأحكام العقلیة وغیره.

والثاني بالمنع من ذلك علی بعض الوجوه، كما سنحقّقه إن شاء الله تعالی هذا.

ولعلّ منشأ الاحتمال الأوّل في الوجه الثالث هو كون وجوب الالتزام بأحد الحكمین الذي هو واجب في المقام مردّدا بین الأمرین ولم یكن هناك معیّن لأحد الوجهین، كان المكلّف مخیّراً في البناء علی كُلٍّ منهما، فإن اخْتَارَ التكلیفَ التخییريَّ للاستمراري جاز له العدول، وإلّا فلا.

وفیه إنّه لابدّ فیه من الرجوع إلی الأصول من البراءة أو الاشتغال، لا التخییر، لاشتراطه بسقوط الأصول.

ولعلّ منشأ الاحتمال الثاني إنّه لو كان المكلّف عند كلّ واقعة بانیاً علی الاستمرار لم یتحقّق المخالفة العملیة عن قصد لو عدل عنه بعده، فإنّه عند كلٍّ منهما بان عدم العدول، فالمخالفة غیر مقصودة له في كلّ حال ولا ميز فیه في تحقّق المخالفة القطعیة من دون قصد إلیها وإن كان بانیاً علی العدول كان قاصداً للمخالفة، فتكون المخالفة المتحقّقة علی تقدیر العدول مقصودة للمكلّف، فلا یجوز، ولعلّ هذا أولی من سابقه في عدّه وجهاً في المقام، ولعلّ حمل الكلام المذكور علیه أوجه، ویردّه:

ص: 252


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص189.

أوّلاً: إنّه لو كان كذلك، لكان علی المفصّل اشتراط عدم البناء علی العدول في جوازه، لا البناء علی عدمه، لكفایة الأوّل في انتفاء قصد المخالفة.

وثانیاً: إنّ المخالفة في كلّ واقعة إن كان مع إذن الشارع فیه وجعل البدل، فهو جائز مطلقا، وإلّا جوازه ممنوع مطلقاً ولو مع البناء علی عدم العدول فضلاً عن عدم البناء علیه، فتأمّل.

وأمّا الثالث، فیمكن توجيهه بأنّ المكلّف هنا مخیّر بین الأمرین بدواً، فإن اختار الحكم في جمیع الوقائع لم یجز له العدول عنه، وإن اختار خصوص كلّ حكم فعلي عند الوقائع الخاصّة، فقد لزمه ذلك في خصوصها، فله الأخذ بالآخر في الواقعة الأخری، وهو أيضاً ضعیف كما لا یخفی.

وتحقیق المقام اختلاف الحكم بحسب مدارك المسألة، فإن كان منشأ التخییر هو فحوی أخبار التعارض، كان تابعاً له في استمرار التخییر وبدویّته، وإن كان الحذر عن طرح قول الإمام (علیه السلام)، فالظاهر إنّه بدوي حینئذٍ؛ لأنّه حكم تحریمي مردّد موضوعه بین أمرین مع عدم إمكان الاحتیاط، فلابدّ فیه من الحكم بعدم جواز العدول لحصول العلم الإجمالي بالوقوع في المحرّم المذكور، أعني طرح قوله (علیه السلام)، والتخییر الاستمراري كرّ علی ما فرّ منه.

وإن كان وجوب الالتزام بحكم الله سبحانه، فإن اكتفینا في امتثال

ص: 253

هذا التكلیف بالالتزام الإجمالي وقلنا بأنّه كافٍ في سقوط الأصول، فالظاهر إنّ التخییر استمراري حینئذٍ؛ لأنّ ذلك التكلیف لا یقتضي أزید من عدم جواز الرجوع إلی الثالث ولزوم القدر المشترك بینهما في مقام العمل، إلّا أن یدّعی أنّ التفصیل بین الوقائع مخالف للمعلوم إجمالا الذي وجب الالتزام به، فلا یجوز العدول.

وإن قلنا بأنّ الواجب هو الالتزام التفصیلي بالحكم، تعیّن عدم جواز العدول، لانقلاب المسألة إلی الشكّ في المكلّف به الوجوبي مع عدم إمكان الاحتیاط، فلابدّ من الإلتزام بأحد الحكمین علی ما هو علیه في الوقائع من الكلّیة دائما، لكون الدوام مأخوذاً في الحكم الثانوي ولا سیّما بملاحظة ما أشرنا إليه من كونه دورانا بین الواجب والحرام، فالعدول یكون مخالفة قطعیّة لذلك التكلیف الثانوي، فتأمل.

وإن كان وقوع المخالفة العملیة، فمفاده هو التخییرالبدوي قطعاً.

وإن كان الإجماع، فحاله موكول إلی نظر المجمعین.

وفی صورة الشكّ أو وقوع الخلاف بعد الاتّفاق علی القدر المشترك وجهان:

ص: 254

المسألة الثانیة و[المسألة] الثالثة [في] ما إذا دار الأمر بین الوجوب والحرمة

من جهة إجمال النصّ وتعارضه وحكم الأوّل كسابقه بعینه إلّا في بعض الخصوصیات، كشمول «كلّ شيءٍ مطلق حتّی یرد فیه نهي أو أمر لها»، فإنّه قد یتأمّل فیه هنا ولو لم یتأمّل بالنسبة إلیها، وحكم الثاني هو التخییر ظاهراً لما تحقّق في مسألة التعادل والترجیح مع تفصیل كیفیة التخییر وغیرها.

ص: 255

المسألة الرابعة [في] ما إذا دار الأمر بینهما لأجل الشبهة في الموضوع

وحالها یظهر ممّا فصّلنا في ما تقدّم، لكن إجراء البراءة والإباحة هنا أقوی؛ لعدم لزوم طرح قول الإمام (علیه السلام) وكون الغالب عدم لزوم المخالفة ولو في الوقائع ووقوع مخالفة المعلوم بالإجمال في موارد عدیدة في الموضوعات. (1)

بقي الكلام في شيءٍ وهو حكم دوران الحكم بین الحكمین غیر الإلزامیین والإباحة، وألحقه بعض الأساطین بالإلزامي في المقامات الثلاثة ونفیٰ الإشكال عن أصل الحكم، وهو كذلك عند المشهور ظاهراً، إلّا أنّ أدلّة المقامات الثلاثة مختلفة، فمنها ما یتأمّل في عمومها، فراجع (2) وتأمّل والله العالم.

ص: 256


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص193 و 194.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص194.

الموضع الثاني في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكلیف

اشارة

بأن یشتبه الحرام بغیر الواجب مع العلم بالحرمة والواجب بغیر الحرام بعد العلم بالوجوب والواجب بالحرام مع العلم بهما معاً، فمطالبه كالموضع الأوّل ثلاثة (1):

الأوّل ما إذا اشتبه الحرام بغیر الواجب، ویلحق به موضوعاً أو حُكْماً ما إذا احتمل الوجوب مع اندفاعه بأصالة البراءة، ومسائله أربع (2):

الأوّل

ما إذا اشتبه بغیره لأجل الشبهة في الموضوع الخارجي، والحرام المردّد هنا إمّا مشتبه بین أمور محصورة - كالاثنین والثلاثة - أو بین أمور غیر محصورة، فهاهنا قسمان:

القسم الأوّل: ما إذا كانت أطراف الشبهة محصورة (3)، والكلام فیه في مقامین:

الأوّل: في جواز ارتكابهما وطرح الحكم المعلوم إجمالاً وعدمه المعبّر عنه بجواز المخالفة القطعیة (4)، فالمشهور ظاهراً ومحكیّاً في جملة من الموارد،

ص: 257


1- . قال الشيخ الأنصاري: الموضع الثاني في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب ومطالبه - أيضاً - ثلاثة. انظر: الفرائد: ج2/ ص195 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص367.
2- . فرائد الأصول: ج2/ ص197.
3- . نفس المصدر: ج2/ ص198.
4- . نفس المصدر: ج2/ ص199.

بل یستفاد عن بعضهم الإجماع علیه هو الثاني (1)، وعن المحقّق الخوانساري (2) والأردبیلي (3)0 ومن تبعهما والمحدّث المجلسي (4) في غیر واحد من كتبه والفاضل السبزواري (5) والمحدّث الكاشي (6)5 اختیار الأوّل، ولعلّه المستفاد من كلام صاحب المدارك في الإنائین وإن احتمل بعده التفصیل بین صورة سبق العلم التفصیلي بالنجاسة وعدمها؛ وهو محتمل جملة من كلمات المحقّق القمي (7) طاب ثراه، ولعلّ حمل كلامه علی التردّد فیه أقرب من الحكم بموافقته للمشهور المصرّح به مطلقاً في كلام جملة من متأخّري المتأخّرین،

ص: 258


1- . المصدر السابق: ج2/ ص200.
2- . انظر: مشارق الشموس في شرح الدروس: ج1/ ص282.
3- . انظر: مجمع الفائدة والبرهان: ج1/ ص281 وطبعته الجديدة: ج1/ ص384.
4- . في أربعينه: ص582. وحكي عنه في القوانين: ج2/ ص27.
5- . انظر: ذخيرة المعاد: ص138.
6- . انظر: مفاتيح الشرايع: ج2/ ص192/ المفتاح 646. حيث قال في مسألة اللحم المختلط: «وإذا اختلط الذکيّ بالميت وجب الامتناع منه حتّی يعلم الذکي بعينه... کذا قالوه». انظر: مفاتيح الشرايع: ج2/ ص224/ المفتاح 680. وقال في مسألة ما يحل ويحرم بالعارض: «وإذا اختلط الحلال بالحرام، فهو له حلال حتّی يعرف الحرام بعينه للصحيح وغيره حتّی يعرف انه حرام بعينه کما مرّ»، إنتهی.
7- . انظر: القوانين المحكمة في الأصول المحكمة (طبعته القديمة): ج2/ ص25.

کجدّي العلّامة (1) وعمّي (2) الفاضل وبعض الأساطین وغیرهم.

ولهم في إثبات ذلك مَسالِكُ:

الأوّل: ما اعتمده بعض الأساطین في ما یتحصّل من مجموع كلامه من كون العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة عقلا بحیث لا یجوز عقلا أن یرخّص الشارع في ارتكابهما، فلا حاجة معه إلی منع ظهور الأخبار الآتیة في الترخیص لمخالفته لمقتضی العقل المستقلّ.

وبیان ذلك علی ما قرّره (قدس سره): إنّ المُقْتَضِيَ لِحُرْمَةِ المخالفةِ مَوْجُوْدٌ ولا مانع عنها. (3)

أمّا الأوّل، فلعموم دلیل تحریم ذلك العنوان المشتبه، فإنّ قول الشارع: «اجتنب عن الخمر» یشمل الخمر الموجود المعلوم المردّد بین الإنائین أو أزید، ولا وجه لتخصیصه بالخمر المعلوم تفصیلاً، مع أنّه لو اختصّ الدلیل بالمعلوم تفصیلا، خرج الفرد المعلوم إجمالاً عن كونه حراماً واقعیاً، ولا أظنّ أحداً یلتزم بذلك حتّی من یقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة، فإنّ الظاهر إرادتهم الأعمّ من المعلوم إجمالا.

وأمّا عدم المانع، فلأنّ العقل لا یمنع من التكلیف عموماً أو

ص: 259


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص599.
2- . انظر: الفصول الغروية، (دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1404ق): ص361.
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص200.

خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرین أو أمور، والعقاب علی مخالفة هذا التكلیف. (1)

وأمّا الشرع، فمرجع كلامه في الجواب عمّا سلّم ظهوره في الإذن في آخر كلامه إلی أنّ إبقاءه علی ظهوره یوجب المنافاة لما دلّ علی حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله: «اجتنب عن الخمر»؛ لأنّ الإذن في كلا المشتبهین ینافي المنع عن عنوان مردّد بینهما ویوجب الحكم بعدم حرمة الخبر المعلوم إجمالاً في متن الواقع، وهو ممّا یشهد الاتّفاق والنصّ علی خلافه حتّی نفس هذه الأخبار، حیث أنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعیّة للأمر المشتبه. (2)

وأقول: أمّا ما ذكره في شمول الخطاب للفرد المشتبه فقد قیل في توجیهه: إنّ المراد منه وجود ملاك الخطاب من المصلحة والمفسدة أو المحبوبیة والمبغوضیة، لا توجّهه إلی الجاهل بوجود الموضوع لقبح توجّه الخطاب إلی الجاهل، كقبح توجّهه إلی العاجز عن الامتثال، كیف؟ ولو كان المراد شموله كذلك، لوجب تخصیصه بما لایتنجّز فیه التكلیف كالشبهات البدویة وغیر المحصورة، فإنّه لا فارق بینهما من تلك الجهة وهو ممّا لم یدَّعِهِ أحد، وقد اعترف بوجود المقتضی فیهما وإنّما جعل الجهل عذراً عقلیاً مع أنّه لو كان المراد هو الشمول اللفظي، لم یشمل ما إذا كان الدلیل الدالّ علی

ص: 260


1- . نفس المصدر وبحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص119.
2- . نفس المصدر، ص202.

حرمة العنوان المردّد لبیان إجماع ونحوه أو ما لا عموم فیه لفعل المعصوم (علیه السلام) وتقریره؛ لأنّه لا عموم في شيء منها حتّی یتمسّك به في إثبات المقتضي، فیكون الدلیل أخصّ من المدّعی، لشموله لها عنده وعند غیره من القائلین بمقالته، فالمراد من شمول الخطاب وجود ملاكه الشامل للعالم والجاهل نظیر شمول أوامر المقدّمات للغافلین وأوامر المندوبات للصبيّ بناء علی شرعیة عباداته، فإنّه لیس علی سبیل الشمول اللفظي لعدم استجماع شرائط التكلیف في حقّهم، بل لأجل وجود ملاكه، فخروج (1) ما خرج عن الخطاب المفروض أوّلاً لیس من باب التخصیص، بل لقصور الخطاب نظراً إلی وجود الجهل والغفلة.

وتحقیق مرام المستدلّ

اشارة

إنّ المراد من المقتضي إمّا شمول الحكم الواقعي للفرد المعلوم إجمالاً، لعموم الدلیل الدالّ علیه وإنّه ممّا لا یظنّ بأحد التزام خلافه، فیكون المقصود وجود التكلیف الواقعي الشأنيّ هنا حتّی یحكم بتنجّزه بحكم العقل وأنّه لا عذر في مخالفته بعد ذلك، وإمّا إنّ الخطاب الفعلي شامل له بحكم دخوله تحت إطلاق الكلام حتّی علی القول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة علی ما ذكر من استظهار التعمیم منه، فیكتفی به عند عدم المانع في إثبات الداعي، والثاني مبنيّ علی كون الدلیل مستعملاً في الحكم الفعلي المنجّز لِکَي يَصِحَّ معه التمسّك بإطلاقه، والأوّل

ص: 261


1- . في المخطوطة: «فخرج».

مبنيّ إمّا علی أنّ ذلك الحكم الواقعي مراد من الأدلّة ابتداء، كما هو المعهود في مقام بیان الأحكام، حیث أنّ المراد منه ظاهراً في نوع الموارد هو بیان الأحكام الواقعیّة الّتي لا تختلف بالعلم والجهل، وإمّا علی أنّه مستفاد بإطلاقه من الخطاب المستعمل في الحكم الفعلي المنجّز.

وأنت خبیر بأنّ شیئاً من الوجهین المذكورین في بیان المقتضي غیر مستحسن في مقام الاحتجاج؛ أمّا الأوّل، فلأنّ شمول الحكم الواقعي للفرد المردّد هو مأخوذ في عنوان المبحث وهو الشكّ في المكلّف به بعد إحراز أصل التكلیف، فلو فرض كون شمول الحكم الواقعي مشكوكاً وممنوعاً، لخرج عن هذا العنوان الّذي نحن بصدده ودخل في عنوان الشكّ في التكلیف، فالبحث عن إثبات الحكم الواقعي بعموم الدلیل وغیره وصرف كلام المخصّصین لما وضع له الألفاظ إلی الأعمّ من العلم الإجمالي كأنّه أجنبي عن الإحتجاج في قبال من ینكر المدّعی في العنوان المبحوث عنه.

وأمّا الثاني، فلما أشرنا إليه من اختصاصه بالخطاب اللفظي المسوق للبیان والمدّعی أعمّ منه، ومن أنّ المعهود في المقام ذكر خصوصیّات الأحكام هو إرادة الأحكام الواقعیّة العامّة للجاهل وغیره إمّا باستعمال اللفظ فیه ابتداء، أو علی سبیل الكناية باستعماله في خصوص المنجّز منه بشرائطه مع كون ذلك المعنی مقصوداً بالإفادة من الكلام، مضافاً إلی أنّ عدم كون الخطاب ناظراً إلی خصوص التنجّز في مورد العلم الإجمالي ولو

ص: 262

في ضِمْنِ غیره وكونه ساكتا عن بیان ذلك بتلك الخطابات كأنّه أمر ظاهر بالتأمّل فیها، فكیف یجوز التمسّك بإطلاقه؟!

فلعلّ الأَوْلیٰ في تقریر الاحتجاج أن یقال: إنّ التكلیف الواقِعِيَّ بالاجتناب عن الفرد المعلوم إجمالا ثابت هنا بالفرض وقد تعلّق العلم به ولا مانع من تنجّزه في العقل، فیحكم العقل بتنجّزه علی المكلّف ووجوب امتثاله في الجملة كالعلم التفصیلي، بل بلا فرق في ذلك عند العقل بینهما، فلو ورد ما یظهر منه خلافه من الأخبار تعیّن حمله علی خلاف ظاهره لمكان القرینة العقلیة أو طرحه.

ویمكن الاعتراض علی الوجه المذكور بوجوه:

الأوّل

ما ربّما یظهر من كلام المحقّق القميّ من منع حرمة ما لم یعلم حرمته ونجاسة ما لم یعلم نجاسته.

وقال في بیانه: إنّ اتّصاف الأعيان بالحلّ والحرمة والنجاسة والطهارة یرجع إلی ملاحظة حال فعل المكلّف وإن كانَتِ الحكمة الباعثة للحكم كامِنةً في تلك الأعیان، فالأعیان وإن اتّصفت بذاتها من جهة تلك الحكم بالحرام والنجس مثلاً من غیر تقییدٍ بالعلم والجهل، ولكن اتّصافها بهما (1) من جهة ملاحظة إضافة فعل المكلّف إلیها لا یكون إلّا في صورة العلم. (2)

ص: 263


1- . في المخطوطة: بها.
2- . انظر: القوانين المحكمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص68.

وقال أيضاً - بعد جملة كلام له -: إنّ كون حرمة أحدهما یقینیّة، أو نجاسته یقینیّة بمعنی اتّصافه في نفس الأمر بالحكمة الموجبة للحرمة أو النجاسة، لا یوجب الیقین باتّصافه بالنجاسة والحرمة مضافاً إلی المكلّف، فلم یثبت العلم بالتكلیف حتّی یجب الإجتناب [عنه] من باب المقدّمة. (1)

وأقول: إن كان غرضه إنكار نقلیّة التكلیف وتنجّزة بعد الاعتراف بتحقّق التكلیف الواقعي بأن یكون شربه حراماً في الواقع، فهو اعتراف بالمقتضی، فبعد إحرازه بالعلم الإجمالي لابدّ من إثبات كون الجهل التفصیلي مانعاً عن فعلیّته عقلاً أو شرعاً ولا مانع من ذلك عقلاً كما أشرنا إليه وسنوضّحه إن شاء الله تعالی، وإثبات المانع الشرعي ممّا لم یستند إليه هنا، وإن كان غرضه نفي التكلیف الواقعي عن الفعل بالوجه المقرّر في حقیقته في سائر المقامات، فمع مخالفته لإطلاق دلیله وقیام الإجماع علی ثبوته في الجملة ولزوم التصویب في الموضوعات وغیر ذلك، خرج عن مفروض المسألة وهو الشكّ في المكلّف به كما أشرنا إليه.

الثاني

إنّ الجهل التفصیلي عذر عقلي یمنع من تنجّز التكلیف الواقعي، کموارد الشبهات البدویة الحرمة في نفس الأمر وإن لم یعلمه المكلّف، فإنّ المكلّف عند شرب كلّ واحد من الإنائین جاهل بحرمة فعله،

ص: 264


1- . انظر: القوانين المحكمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص70 والحاشية علی قوانين الأصول: ج2/ ص85.

فما المانع من كونه عذرا في وقوعه في الحرام الواقعي؟ كالمسألة المتقدّمة والشبهة غیر المحصورة وغیرهما.

وتفصیل المقام إنّ حقیقة الحكم الواقعي یحتمل وجوهاً:

منها: أن یكون عبارة عن نفس المصلحة والمفسدة الكامنتین في ذوات الأشیاء.

ومنها: أن یكون عبارة عن المحبوبیّة والمبغوضیّة المتأخّرتین عن الأمرین المتقدّمتین علی الطلب.

ومنها: أن یكون عبارة عن كون الفعل بحیث یجب إذا تعلّق العلم به، فحقیقة التكلیف هو ثبوته المشروط، وهو الّذي يظهر من عمّي العلّامة (1) طاب ثراه ظاهراً، كما أنّ الأوّل هوالّذی یلوح من عبارة المحقّق القمي (رحمة الله علیه) المتقدّمة (2).

ومنها: أن یكون عبارة من الطلب المطلق، لكن علی سبیل الكلیّة وملاحظة الأركان علی الوجه الكلّي بأن یلاحظ ماهیّة الخمر وشرب تلك الماهیّة والعبارة مع قطع النظر عن علمهم بالموضوع والحكم وجهلهم بها، فیُنشِئ الآمر الحكم التحریمي علی نوع المكلّفین في نوع الفعل، فمن علم بها، فقد تنجّز علیه التكلیف؛ وأمّا الجاهل بها، فلا یتنجّز علیه التكلیف في

ص: 265


1- . انظر: الفصول الغرويّة، ص69.
2- . قوانين المحكمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص43.

موارد كونه عذراً وإن كان مندرجاً تحت العنوان من حیث دخوله تحت الأفراد، لكن لا یتولّد منه التكلیف الخاصّ الذي هو مناط الإطاعة والمعصیة بعد ملاحظة الخصوصیّة.

ومنها: شمول التكلیف المطلق له وتولّد الخطاب الشرعي الخاصّ منه أيضاً، لكن مجرّد وجوده لا یكفي في ثبوت العقاب وقطع عذر المكلّف ما لم یثبت وجوده عند المكلّف، فعند عدمه یكون المكلّف معذوراً بمعنی عدم استحقاق العقاب علیه، فمورد حكم العقل بوجوب الإطاعة أخصّ من مورد حكم الشرع، والجاهل المفروض مورد لحكم الشرع وخارج عن حكم العقل وتفصیل هذه الوجوه موكول إلی محلّه.

وحینئذٍ فنقول: أمّا علی الأوّل، فالمفسدة الموجودة في ارتكاب الحرام المفروض وجوده هنا في الجملة یقتضي حكم الشارع بحرمته فعلاً، لقاعدة الملازمة المقرّرة في محلّه بعد إحراز قابلیة المحلّ بحكم وجدان العقل من عدم قبح النهي الخاصّ عن شرب المائع المردّد بین الإنائین، فكون الجهل عذراً حینئذٍ إمّا أنّ هنا (1) مصلحة حين الجهل يتدارك بها مفسدة الواقع، فیكون المفسدة المقتضیة للتحریم متداركة بها نفياً، أو عنایة من الشارع علیه بأن يتداركه بشيء، وإمّا أن یكون لأجل مانع من طرف التكلیف زاحم ذلك جهة حسنه الناشي من قبح الفعل وهذا المانع في كلا القسمین - أعني

ص: 266


1- . في المخطوطة: «لکون».

في طرف التكلیف أو المكلّف به - إمّا أن یحكم بوجوده العقل أو الشرع والشرع سیأتي الكلام فیه إن شاء الله تعالی إمكانا ووقوعاً، وأمّا العقل فظاهر أنّه لایقبِّح التكلیف المفروض ولا یحكم بوجود جهة مرجوحیّة في التكلیف حتّی یزاحم جهة المكلّف به لو سلّمنا أنّ العبرة بجهات التكلیف لا المكلّف به وإلّا فالأمر أظهر، ولا یحكم أيضاً بوجوده مصلحة في الفعل یتدارك بها (1) مفسدة مخالفة الواقع ولا بلزوم تداركها علی الشارع بعد تیسّر الامتثال، فمقتضی قاعدة الملازمة والحكمة هو تعلّق النهي بالمكلّف حینئذٍ بحیث لا یبقی له عذر في المخالفة كما هو المطلوب، ومجرّد احتمال وجود شيء ممّا ذكر بعد تسلیم إمكانه لا ینفع في رفع الید عن قاعدة الملازمة ما لم یثبت، كما في سائر موارد القاعدة.

ومنه یظهر أنّه لا محیص عن الاعتراف بعدم كونه عذراً عقلیّاً علی الوجوه الأخر أيضاً، فإنّ هذا المقدار - وهو وجود المفسدة - ممّا یشترك فیه جمیع العدلیة القائلین بتبعیّة الأحكام للصفات وإنّه یمتنع خلوّ الحكم عن الصفة الموجبة له، وأمّا من یمنع من ذلك مطلقاً كالأشاعرة أو في الجملة لغیر واحد من المحقّقین القائلین بكون العبرة بجهات التكلیف لوجوّزوا وجود التكلیف بدون الصفة ولو في بعض موارده بأن یكون المفسدة حكمة لجعل التكلیف لا علّة له، فلا یتمّ علیه هذا البیان ولابدّ له من جعل

ص: 267


1- . في المخطوطة فوقه: «به».

التكلیف الواقعي عند من أثبته من أن یكون بمعنی آخر.

فإن كان ذلك هو الثاني، فإن قلنا: يكون العلم بكون الشيء مبغوضا للشارع كافیاً في تحریك العقل وإلزامه بتركه، فالأمر كما سبق، وإلّا فنقول: إنّ المبغوضیّة بالمعنی المقصود هنا یلزمه النهي عنه عند كون المحلّ قابلاً للنهي وعدم وجود مانع عن ذلك عند الشارع، وقد بیّنا قابلیة الحلّ عقلاً وإنّه لیس في العقل ما یمنع عنه؛ ولا یكفي الاحتمال بعد إحراز المقتضي له؛ لأنّ احتمال المانع لا یكفي في رفع الید عنه بعد كونه مدفوعاً بالأصل.

وإن كان هو الثالث، فربّما یستشكل في الحكم بالوجوب عقلاً، بناء علی المبنی المتقدّم لقیام احتمال كون الشرط هو العلم التفصیلي، فمع عدمه في المقام ینتفي المشروط بانتفائه فعلا، فما السبب في الحكم بحرمة الوقوع في الجمیع حینئذٍ بحسب العقل؟ ولیس هنا أصل یقتضي تعمیم الشرط للعلم الاجمالي، بل الأصل اختصاص الشرط بالعلم التفصیلي ویرجع في الزائد إلی أصالة البراءة عنه.

ویمكن الذبّ عنه بأنّ المرجع حینئذٍ إطلاق الدلیل، فیقتصر في الخروج عنه إلی الشبهات البدویة وما ضاهاها، لكنّه لا ینفع في ما لا إطلاق لدلیله بأن كان مهملاً من هذه الجهة أو لبّیاً، إلّا أن یدّعي المستدلّ القطع باتّحاد مناط مورد العلم الإجمالي المفروض مع العلم التفصیلي من جمیع الجهات، أو من حیث المقتضي فقط حتّی یتّجه رفع المانع عنه بالأصل، فیدّعي أنّ كلّ ما اقتضی حسن النهي حین العلم التفصیلي موجود في مورد

ص: 268

العلم الإجمالي أيضاً؛ وإن كان هو الرابع، فلا ریب في تولّد النهي الخاصّ في مورد العلم الإجمالی بحسب العقل عقلا وانّه لو بقي العقل علی حاله لحكم بحرمة المخالفة القطعیة هنا، وأظهر منه الوجه الخامس كما لا یخفی، فافهم؛ ولیكن هذا التفصیل في كیفیة حال الحكم الواقعي هنا ببالك لینفعك في ما بعد إن شاء الله تعالی.

الثالث

ما تعرّض له المحقّق المتقدّم ذكره وحاصله المنع عمّا ذكر في ذیل الاحتجاج من منافاة الإذن في ارتكاب الأمرین للمنع عن العنوان المردّد بأنّ مخالفة (1) الحكم الظاهري للحكم الواقعي لا یوجب ارتفاع الحكم الواقعي، كما في الشبهة الخالیة عن العلم الإجمالي إذا فرض كونه مندرجاً تحت عنوان الحكم في الواقع، فكما أنّ حلّیة الفرد المشكوك ظاهراً لا ینافي حرمة العنوان المحرّم واقعاً مطلقاً هناك، فلا ضیرهنا في التزام ذلك مع العلم الإجمالي. (2)

ثمّ إنّه (رحمة الله علیه) أجاب عن ذلك بِأنَّ الحُكْمَ الظاهِرِيّ لا تَقْدَحُ مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة، لرجوع ذلك إلی معذوریّة المحكوم الجاهل كما في أصاله البراءة وإلی بدلیة الحكم

ص: 269


1- . في المخطوطة: المخالفة.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص202 و 203 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص383.

الظاهري عن الواقع، أو كونه طریقاً مجعولاً إليه علی الوجهین في الطرق الظاهریّة المجعولة، وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة، فیقبح من الجاهل جعل [كلا] الحكمین؛ لأنّ العلم بالتحریم یقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم، فإذن الشارع في فعله ینافي حكم العقل لوجوب الإطاعة.

ثمّ اعترض علی نفسه بما ملخّصه: إنّ المنافاة المذكورة إنّما یكون من جهة أنّ الإذن في الفعل إذن في المعصیة والمخالفة، وهو إنّما یقبح إذا علم المكلّف بكونه معصیة حین الارتكاب، والإذن في المشتبهین لیس كذلك إذا كان علی التدریج، لعدم حصول العلم بالوقوع في المعصیة إلّا بعده ولیس في العقل ما یقبّح ذلك وإلّا لقبّح الإذن في موَارِدَ عَدیدةٍ كالإذن في ارتكاب الشبهات غیر المحصورة بحیث یؤدّي إلی العلم بارتكاب الحرام وكالإذن في الشبهة البدویة التي یعلم المولی اطّلاع العبد بعد الفعل علی كونه معصیة وكالتخییر الاستمراري بین الخبرین أو فتوی المجتهدین. (1)

ثمّ أجاب عنه بأنّ إذن الشارع في أحد المشتبهین ینافي أيضاً حكم العقل بوجوب امتثال التكلیف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه، لِإیجاب

ص: 270


1- . الفرائد (للمجمع): ج2/ ص203 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص384.

العقل حینئذ الاجتناب عن كلا المشتبهین. (1)

نعم لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز، فإذن الشارع لا یحسن إلّا بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلا ظاهریا عن الحرام الواقعي، فیكون المحرّم الظاهري هو أحدهما علی التخییر وكذا المحلّل الظاهري ویثبت المطلوب وهو حرمة المخالفة القطعیة بفعل [كلا] المشتبهین. (2) انتهی.

وأقول: حاصل هذا الكلام دعوی أنّ العلم الاجمالي علّة تامة لوجوب الإطاعة وامتثال التكلیف المعلوم بالإجمال كالعلم التفصیلي، فلابدّ من الإتیان بكلا المحتملین لإحراز الواقع، وغایة الأمر هنا إنّه یجوز للشارع في الحكمة أن یعیّن المحتملین بعینه، أو لا بعینه في مقام الامتثال بأن یكون علی تقدیر مخالفته للواقع بدلاً شرعیّاً عنه، فیكون الطرف الآخر مأذوناً فیه ظاهراً؛ وهذا بخلاف العلم التفصیلي، فإنّه لا محلّ للإذن فیه رأساً، فالعلم مطلقاً منجّز للتكلیف وسبب لوجوب الإطاعة الحقیقیة أو الجعلیة.

ص: 271


1- . الفرائد (للمجمع): ج2/ ص204 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص384.
2- . الفرائد (للمجمع): ج2/ ص204 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص 386-384.

وهذه الدعوی لا أعلم فیها موافقاً صریحاً، وممّن صرّح بخلافه جدّي العلّامة طاب ثراه في هذه المسألة حیث اعترف بأنّه لو أَذِنَ الشّارِعُ في ارتكابهما مَعاً، ارْتَفَعَ حُکْمُ العقل، لكنّه منع من ثبوته. (1)

ثمّ إنّ هذا الجواب بظاهره یشكل انطباقه علی السؤال، فإنّ السائلَ منع من عدم الجواز عند عدم العلم حین الفعل، وهو (رحمة الله علیه) لم یثبته بالدلیل في الجواب، فَهو أشبه شيء بتكرار المدّعی.

ویدفعه أنّ حُكْمَ العقل في مثل المقام لیس برهانیاً حتّی يبرهن علیه، وإنّما هو حكم وجداني عقلي لا یعقل فيه إلّا علی الوجدان، والسائل لما منع من القبح لأجل عدم العلم حین الفعل وادعّی انّه لا بأس به مع حصول العلم بعده دَفَعَهُ بأنّ المانع لیس شیئاً ممّا ذكر وإنّما هو تنجّز التكلیف والمفروض بالعلم الإجمالي علی مابیّناه، فافهم.

نعم ظاهر الاحتجاج المتقدّم دعوی المنافاة بین نفس التكلیفین الشرعیّین، فلا یصحّ الجواب عن الاعتراض الأوّل بدعوی المنافاة بین الإذن الشرعي والحكم العقلي، إلّا أن یدفع بأنّ المنافاة بینهما بعد خروج الواقع من الشأنیة إلی الفعلیة بضمیمة حكم العقل، أو أنّ المنافاة بین التكلیفین باعتبار اللوازم لا بالذات.

وعلی كلّ حال، فتحقیق أصل المطلب وتفصیله إنّك قد عرفت أنّ

ص: 272


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص602.

الحكم الواقعي یحتمل الوجوه الخمسة المتقدّمة وظاهر المحقّق المذكور اختیار أحد الأخیرین، فإن قلنا بالوجه الأخیر منهما وهو أولی الوجوه بالدعوی المتقدّمة، فلا یكون الأحكام الظاهریة عقلیة أو شرعیة إلّا عذرية صرفة بمعنی رفع استحقاق العقاب من الفعل عند مخالفتها للواقع، فالإذن في ارتكاب المشتبهین یكون عبارة عن رفع تنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال وجعل العبد معذوراً في ذلك، لا بمعنی العفو الحتمي من العقاب، فإنّه خارج عمّا نحن بصدده من الحرمة بمعنی استحقاق العقاب علیه؛ ومن البیّن إنّ ذلك لا ینافي نفس التكلیف الواقعي وإنّما یتحقّق التنافي بین العقل الحاكم بوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب علی المخالفة وإذن الشارع بجعل المكلّف معذوراً في مخالفة الواقع.

وحینئذ فیتّجه أن یقال: إنّ حكم العقل بوجوب الإطاعة وحرمة المعصیة متحقّق في المقام بالعلم الإجمالي فعلاً من دون أن یكون ذلك معلّقا علی عدم إذن الشارع في الفعل، فإنّ الحكمین العقلیّین تنجیزيّانِ في جمیع موارد صدق عنوان الموضوعین، كما هو الحال في مورد العلم التفصیلي علی ما حقّق في محلّه من امتناع تعلّق النهي عن العمل به علی الوجه المذكور.

وقد یقال: إنّ حكم العقل في المقام إنّما هو إذا لم یأذن الشارع في ارتكابهما مطلقاً، أو بشرط كونه علی التدریج وإن لم نقل به في العلم التفصیلي.

أوّلاً: لِأنّا إذا راجعنا وجداننا وخلّینا نفوسنا عن التفاصیل، لا نجد

ص: 273

في عقولنا قبحاً في أن یرخّص الشارع مِنِ ارْتِكابِ كُلِّ واحِدٍ من المشتبهین تدریجاً وجعل الحكم الظاهري دائراً مدار العلم بالمخالفة حین الفعل مع بقاء العلم الواقعي علی حاله، كما هو المترائی من الأخبار الآتیة إن شاء الله تعالی، كما اعتمد علیه بعض مشایخنا (دام ظله) في ظاهر كلامه.

وثانیا: إنّ الفعل الصادر عن المكلّف عن قصد وعمد إنّما هو في خصوص الأفراد المتعیّنة عنده بعناوینها المعلومة، ولا ریب انّ كلّ واحد من الفعلین المفروضین في المقام مشكوك الحرمة حين الفعل، فإذن الشارع في كلّ واحد منهما علی هذا الوجه لیس إذناً في المعصیة والمخالفة وإن لزمه إلغاء التكلیف المعلوم بالإجمال إذا أخذ المكلّف بكلا الإذنین معاً في مقام العمل؛ وبهذا یتحقّق الفارق بینه وبین العلم التفصیلي، فإنّ الترخیص معه ترخیص في المعصیة عن قصد إلیها وعمد فیه فعلاً وهو غیر جائز عقلاً كما ذكره المستدلّ، فلا نسلّم هنا استقلال العقل بوجوب إطاعة التكلیف بالإجمال تنجیزاً وقبح إذن الآمر في ارتكاب كلّ منهما وعدم جواز معذوریّة المكلّف في المخالفة لأجل جهله التفصیلي بحیث لو صرّح الشارع به حُمل علی إرادة غیر ذلك منه.

ويشكل ذلك بأنّ الإذن في كلّ منهما وإن فرض جوازه من حیث نفسه، لكنّه یتولّد منهما الإذن في ارتكاب المعلوم بالإجمال، فانّ إناء زید المعلوم نجاسته مثلاً إذا تردّد بین إنائین، فالإذن في ارتكاب كلّ منهما إذن في ارتكاب إناء زید المعلوم حرمته للقطع بعدم خروجه عنهما وإن لم یعلم

ص: 274

خصوص الإذن الوارد علیه، وحینئذ فینافي ذلك النهي المتعلّق بالعنوان المجهول بضمیمة حكم العقل بلزوم إطاعته ویكشف عنه ما إذا اختصّ الخطابات بمورد العلم الإجمالي، كما لو قال: اجتنب عن الاناء المردّد بینهما ولك الرخصة في شربهما معاً، فإنّه لا یكاد یشكّ في تنافیهما.

ومنه يظهر الإشكال في الأوّل أيضاً لجواز المنع عنه مع عدم تصرّف في الواقع بوجه من الوجوه وبقاء المطلب في هذه لحالة، فهو نظیر ما ربّما یدّعی في قطع القطّاع من الوجدان في جواز نهي الشارع عن عمله مطلقاً مع ماحقّق في محلّه من استحالة نهي الشارع عن العمل بالقطع الطریقي.

وبالجملة، فلا فرق بین العلم الإجمالي والتفصیلي ذاتاً إلّا باعتبار متعلّقه، فیكون تارة شیئاً معیّناً بحیث یمكن الإشارة إليه، فیسمّی علماً تفصیلیاً، وتارة أمراً غیر معیّن، فلا یصحّ إليه الإشارة؛ ولا فرق في انجعال القطع وتنجّز التكلیف به بین القسمین، فكلّ ما یظهر منه طرح العلم - ولو بعد الانضمام - لابدّ من حمله علی خلاف ظاهره، فدعوی أنّ عدم تمیّز المعلوم من غیره في الخارج سبباً لجواز إلغاء القطع المنجعل بنفسه، ممنوعة لعدم ظهور مدخلیة له فیه عند العقل.

إلّا أن یقال: إنّ اعتبار القطع وعدمه لم یكن إلّا باعتبار تطبیق العمل في الظاهر علی حسبه، فهو إنّما یكون إذا كان بحیث یصحّ تعلّق العمل علیه في نظر القاطع وعدم تمیّزه في نظر القاطع مانع عن كونه متعلّقا لفعله في نظره تفصیلاً ولیس اعتبار القطع عبارة عن أمر واقعي متعلّق بموضوع

ص: 275

واقعي كالتكالیف الشرعیّة، فمعنی لزوم العمل علی حسبه واعتباره إذا كان إجمالیا ولم یعیّنه الشارع بجعل طریق إليه ولم یتصرّف فیه بجعل البدل، هو الإتیان بكلا المحتملین فعلاً أو تركاً لأجل إدراك التكلیف المفروض، فاعتبار العلم الإجمالي وحجّیّته مغاير حقیقة لاعتبار العلم التفصیلي وإن اتّحد مَنْشَؤُهُما عند العقل، فلا یَصِحُّ مقایسة الأوّل بالثاني في عدم جواز رفع أثره بالإذن الشرعي، فإنّه حینئذٍ ینحلّ إلی حكمین عقلیین جاریین مجری سائر الأصول العقلیة في ورود الدلیل الشرعي علیه. ومنه یظهر أنّ الإذن في كلّ منهما ظاهراً لیس إذناً في ارتكاب العنوان المردّد بعنوانه، فإنّ الأحكام الظاهریة الشرعیة كالعقلیة في مثل المقام تتعلّق بما كان متمیّزاً بحیث یعمل علی حسبها المكلّف بحسب نظره واعتقاده الفعلي.

ودعوی وجدان التنافي بین الأمرین - كما سبق - یمكن دفعها باحتمال ظهور الخطاب الخاصّ في الفعلیة والتنجیزیة وإلّا لغی الحكم المفروض، بخلاف الحكم العامّ المتعلّق بالموضوع الكلّي، كما یشهد له ملاحظة ذلك في الشبهة البدویة عند علم الآمر بالحال، فإنّه ربّما یدّعي التنافي بین النهي عن الخمر الخاصّ الذي یعلم الآمر بكون المأمور شاكّاً في خمریّته والترخیص في ارتكاب تلك الشبهة، فتأمّل جیّداً.

وممّا ذكرنا كلّه یظهر الكلام في ما لو بنینا علی الوجه الرابع من وجوه الحكم الواقعي وكذا الحال في غیره من الوجوه الثلاثة المتقدّمة یظهر بالتأمّل فیه بضمیمة ما سبق بیانه في الوجه الثاني وهو كون الجهل التفصیلي

ص: 276

عذراً عقلیاً، فالظاهر أنّه لابأس بترخیص الشارع في المخالفة القطعیة بالإذن في كلّ واحد من محتملات الشبهة من حیث المصلحة الموجبة للتكلیف والمحبوبیة النفسیة والتكلیف المشروط لو بنینا علیه ومن حیث وقوع التنافي بین التكلیفین بضمیمة حكم العقل علی أحد الوجهین المتقدّمین.

ولك أن تقول: إنّه لا فرق في ما نحن بصدده بین الوجوه المتقدّمة بأسرها، فإنّه لا إشكال في ثبوت الحكم الواقعي في المقام بالفرض وبالدلیل المتقدّم وإنّه من التكلیف الواقعي لابدّ وأن یكون بحیث لو تعلّق به العلم لتنجّز به التكلیف عقلا، فالكلام هنا إنّما هو في أنّ التنجیز الناشيء عن العلم التفصیلي في استحالة الترخیص علی المخالفة من الآمر الحكیم أو لا، علی التفصیل المتقدّم.

الرابع من وجوه الِاعتراض

ما تعرّض له المحقّق المتقدّم أيضاً وحاصله: إنّك تعترف بجواز الترخیص في كلّ منهما علی سبیل التخییر علی ما تقدّم، فإذا فرضنا كون المشتبهین ممّا لا یمكن ارتكابهما [إلّا] تدریجاً، ففي زمان فعل أحدهما یتحقّق الاجتناب عن الآخر قهراً، فالمقصود من التخییر - وهو وقوع ترك أحدهما في الخارج - حاصل مع الإذن فیهما معاً، إذ لا یعتبر في ترك الحرام أزید من ذلك من قصد أو نیّة امتثال. (1)

ص: 277


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص204.

وأجاب عنه (رحمة الله علیه) بأنّ الإذْنَ في فعلهما في هذه الصورة أيضاً ینافي الأمر بِالِاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم، لما تقدّم من أنّه مع وجود دلیل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهین لا یَصِحُّ الإذن في أحدهما إلّا بعد المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي، ومعناه المنع من فعله بعده؛ لأنّ هذا هو الذي یمكن أن یجعله الشارع بَدَلاً عن الحرام الواقعي حتّی لا ینافي أمره بالاجتناب عنه، فانّ تركه في زمان فعل الآخر لا یصلح أن يكون بدلاً حینئذٍ، فإن منع في هذه الصورة عن واحد من الأمرین المتدرّجین في الوجود، لم یجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل، وإلّا لغی المنع المذكور. (1)

أقول: یمكن تقریر الجواب بِوَجْهٍ آخَرَ وهو إنّ غایة ما سلّم من جواز إذن الشارع في هذا المقام، هو الاكتفاء عن المكلّف بالامتثال الاحتمالي، فیكون ذلك بدلاً عن الواقع علی تقدیر عدم الإصابة، فیكون ذلك امتثالاً جعلیاً للخطاب الواقعي، وإلّا فلا یجوّز العقل الاكتفاء بما لیس فيه امتثال احتمالي ولا تعییني، فلابدّ وأن یكون النهي عن الآخر بحیث یحتمل معه تحقّق امتثال التكلیف الواقعي وهو إنّما یكون في الحكم التحریمي الدائمي إذا كان النهي عن البدل أيضاً دائمیّاً، لعدم تحقّق امتثال النهي إلّا بالترك دائماً، فلا یجوز الِارْتِكابُ الآخَرُ بعده.

ص: 278


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص 204 و 205.

ثمّ إنّه (رحمة الله علیه) اعترض علی نفسه: بأنّ الإذن في أحدهما یتوقّف علی الآخر في نفس تلك الواقعة بأن یتركهما، والمفروض امتناع ذلك في ما نحن فیه من غیر حاجة إلی المنع ولا یتوقّف علی المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأوّل، كما في التخییر الظاهري الإستمراري. (1)

ثمّ أجاب عنه (قدس سره) بأنّ تجویز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدریجاً، طرح لدلیل حرمة الحرام الواقعي، والتخییر الاستمراري في مثل ذلك ممنوع، والمسلّم منه ما إذا لم یسبق بالتكلیف المعیّن، أو یسبق بالفعل حتّی یكون المأتيّ به في كلّ دفعة بدلاً عن المتروك دون العكس بأن یكون المتروك في زمان الإتیان بالآخر بدلاً من المأتيّ به علی تقدیر حرمته. (2)

أقول: وهذا الإشكال ظاهر الاندفاع علی ما قرّرنا الكلام السابق، وأمّا مقایسته بالتخییر الاستمراري، فما كان منه مماثلا لما نحن بصدده فلابدّ من الالتزام بامتناعه بعد البناء علی ما ذكر ولا مانع منه.

وقوله (رحمة الله علیه): «والمسلّم منه ما إذا لم یسبق...»، لعلّ المراد منه إنّه إنّما یجوز إذا لم یتنجّز التكلیف من أوّل الأمر علی كلّ تقدیر، أو یكون التكلیف بالفعل، فیصحّ أن یكون فعل أحد المحتملین في زمان بدلا عن فعل الآخر؛ لأنّ امتثال الأمر یحصل بإیجاد فردٍ منه في زمان ما، بخلاف التكلیف بالترك

ص: 279


1- . نفس المصدر: ص205.
2- . نفس المصدر.

والنهي، فانّ ترك أحد محتملي النهي في زمان لا یصلح أن یكون بدلاً عن ترك الآخر مطلقاً، فانّ امتثال النهي یتحقّق بترك تمام أفراده في جمیع أزمانه كما أشرنا إليه سابقاً.

وتفصیل ذلك أنّه قد تَتَّحِدُ الواقعة وقد تَتَعَدَّدُ، وعلی التقدیرین إمّا أن یكون التكلیف منجّزاً علی كلّ حال، أو لا، وعلی التقادیر إمّا أن یكون التكلیف بخصوص الفعل المردّد بین الفعلین والأفعال، أو بخصوص الترك كذلك، أو یكون متعلّقاً بأحدهما المردّد بینهما - كما في الدوران بین الوجوب والحرمة - فهذه جملة صور المسألة:

فإن لم یكن التكلیف منجّزاً من أوّل الأمر، فلا ربط له بما نحن بصدده، بل هو مجری التخییر الاستمراري مطلقا علی وجه یظهر تفصیله ممّا سنذكره إن شاء الله تعالی في التنبیهات عند عنوان الشبهات التدریجیّة، وإن تنجّز الخطاب من أوّل الأمر؛ فَإنَّ تعدّدت الوقائع فلا مانع من استمرار التخییر بالنسبة إلی الوقائع المتعدّدة مطلقاً كأن يصلّي الظهر في یوم جمعة ویصلّي صلاة الجمعة في جمعة أخری، وكأن یترك وَطي المرأة ستة أیّام من شهر لناسي العادة الوقتیّة إذا استمرّ الدم علیها ویترك ستة أخری مغايرة للأولی في الشهر الآخر، وذلك الاكتفاء في كلّ تكلیف في كلّ واقعة بالامتثال الاحتمالي في خصوصها وإن علم بعد ضمّ بعضها إلی بعض وقوع المخالفة إجمالاً علی تأمّل في صورة سبق التكلیف المنجّز.

وإن اتّحدت الواقعة، فإن كان تحریمیّاً لم یجز فیه استمرار التخییر بعد

ص: 280

فعل أحدهما، فإنّما یصلح هنا للبدلیة ویحصل به الامتثال الاحتمالي هو الترك المطلق - كما سبق - وإن كان وجوبیّاً، فربّما یستظهر من الكلام المتقدّم إنّه یجوز هنا استمرار التخییر، إلّا أنّ التحقیق إنّه لا معنی هنا لاستمرار التخییر، فإنّ الامتثال الاحتمالي یحصل بفعل مّا، في زمان ما، فاذا فرضنا قیام الدلیل علی سقوط التكلیف به، ارتفع موضوع التخییر شرعاً، فما معنی بقاء التخییر بحاله؟!

وممّا ذكرنا ظهر حال المردّد بین الفعل والترك، فتلخّص من ذلك أنّه لا فرق بین كون التكلیف بالفعل، أو بالترك، أو بأحدهما عند التحقیق، لكنّ الصالح للبدلیة من الفعل هو ما یقع في زمان ما بخلاف الترك، فتأمّل لعلّك تظفر بفارق بینهما.

الخامس

إنّه لو كان الأمر كما ذكر في الاحتجاج، لم یقع الترخیص في المخالفة القطعیة للعلم الإجمالي في الشرعیات وقد وقع في مواقع كثیرة:

منها: الشبهة غیر المحصورة.

ومنها: ما لو أقرّ شخص بعين (1) لجماعة تدریجاً بأن أقرّ إنّه لزید ثمّ لعمرو، فَإنَّهُ یحكم الحاكم بالعین لزید وبقیمته لعمرو، مع انّ أحد الحكمین علی خلاف الواقع ویأخذ هو أو غیره ممّن یجري أحكامه المال وقیمته لهما، مع أنّ أخذ أحدهما أخذٌ للمال بالباطل وكذا یجوز للثالث أن یأخذ المال من

ص: 281


1- . في المخطوطة: «لو أقرّ بعين شخص».

ید زید وقیمته من عمرو مع علمه بِأَنَّ أحد الآخذین تصرّف في مال الغیر بغیر إذنه وكذا لو أقرّ بالعین لثلاثة فمازاد، فَإنَّه یحكم باشتغال ذمّته بقیمتین، أو أزید مع مخالفته لعلمه بمخالفته للواقع وإن فرّق بین شمول قوله (علیه السلام): «إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز» (1)، وبین أدلّة حلّ ما لم یعرف كونه حراماً، حیث أنّه یلتزم بشمول الأوّل للإقرارین المعلوم مخالفة أحدهما للواقع بخلاف الثاني. (2)

ومنها: ما لو تداعیا عیناً في ما یحكم فیه بالتنصیف بینهما مع حصول القطع بأنّها لیست إلّا لأحدهما (3) فینافي ذلك العلم الإجمالي من حیث الحكم والإلزام وتصرّف الثالث بفعل ما یوجب تملّكه منهما بشراء ونحوه، أو بما یوجب جواز التصرّف فقط كالعاریة ومطلق الإذن إذا اختصّ السبب من كلّ منهما بخصوص النصف المحكوم له به، أو بما یوجب تملّك المنفعة كالإجارة، فانّ في جمیعها طرحاً للعلم الإجمالي رأساً.

ومنها: ما ذكروه أيضاً في الصلح من أنّه لو كان لأحد الودعیین درهم وللآخر درهمان، فتلف أحد الدراهم (4)، فانّه یقسّم أحد الدرهمین الباقیین

ص: 282


1- . انظر: الوسائل: ج16/ ص111، ح2؛ المستدرك: ج13/ ص369 و ج16/ ص31؛.عوالي اللئالي: ج1/ ص223، ج2/ ص257 و ج3/ ص442.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص206.
3- . نفس المصدر.
4- . انظر: الشرائع: ج2/ ص121؛ نهاية الإحكام: ص314؛ قواعد الأحكام: ج1/ ص186؛ والدروس: ج3/ ص333.

بین المالكین، مع أنّ دفع أحد النصفین دفع للمال إلی غیر صاحبه قطعاً وإجراء له وتصرّفاً من الثالث بجمیع وجوهه، بل ربّما یقع فیه مخالفة العلم التفصیلي؛ لانّ تنصیف الدرهم غالباً بمبادلته بما یقبل التنصیف بنفسه ممّا یكون قیمته ناقصاً عنه، فانّ أخذ الدرهم للمبادلة یجري مجری المعاوضة لهما معاً بأن یكون معاوضة كلّ منهما متعلّقا بنصفه، فأخذه آخذ للمال من دون رضاء مالكه قطعاً تفصیلاً، بل ربّما یُدَّعیٰ أنّ هذا الحكم - أعني التنصیف - قاعدة مطّردة في نظائر المثال المتقدّم.

ومنها: الحكم بأنّه لو اختلف المتبایعان في الثمن أو المثمن، حكم فیه بالتحالف وانفساخ البیع (1)، وكذا لو قال أحدهما: «بعتك الجاریة بِمِئَةٍ»، وقال الآخر: «وهبتني إیّاها» (2)، فانّه يلزم منه طرح العلم الإجمالي، بل التفصیلي في كثیر من الفروض.

ومنها: الحكم بعدم جنابة واجدَي المني في الثوب المشترك وما ضاهاه، فانّه ربّما یلزم منه مخالفة العلم الإجمالي في حقّ المكلّف الواحد، كما صرّح به بعضهم من جواز استیجارهما لكنس المسجد ومن حیث أمرهما

ص: 283


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص207.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج1/ ص82 وأيضاً مفتاح الكرامة (الطبعة القديمة): ج4/ ص762؛ التذكرة: ج1/ ص576؛ وجامع المقاصد: ج4/ ص453.

بذلك، مع أنّ أحدهما حكم بغیر ما أنزل الله تعالی، ومن الحكم بصحّة اقتداء الغیر بهما في صَلاتَیْنِ، بل ربّما یلتزم في بعض الفروع ما یحصل معه مخالفة العلم التفصیلي.

ومنها: ما ذهب إليه جلّ الأصحاب أو كلّهم في مسألة الإنائین المشتبهین بالنجس من المنع من الوضوء بهما معاً والحكم بوجوب التیمم إن قلنا بكون حرمة الوضوء بالنجس تشریعیة لا ذاتیة، كما لعلّه أظهر الوجهین فیه، فانّه طرح للعلم الإجمالي بوجوب الوضوء بالطاهر المردّد بینهما من دون معارض لتلك الجهة، فانّ الحرمة التشریعیة یرتفع بالاحتیاط خصوصاً الواجب منه، بل ولو قلنا بالوجه الآخر أيضاً لزمهم التخییر لا طرح طرف الوجوب بالكلیة بالمخالفة القطعیة.

ویمكن الجواب عنه بالمنع عن وقوع طرح العلم الاجمالي والتزام توجیه ما یوهم ذلك من الأمثلة المتقدّمة وغیرها.

أمّا مسألة الشبهة غیر المحصورة، فمع أنّ جواز المخالفة القطعیة فیه ممنوع، سیأتي جوازها فیه مع منشأ المنع تفصیلا (1) إن شاء الله تعالی.

وأمّا مسألة الإقرار، فأمّا بالنسبة إلی الحاكم فیمكن توجیهه بما ذكره بعض الأساطین (2): من أنّ وظیفته أخذ ما یستحقّه المحكوم له علی المحكوم

ص: 284


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص 265-257.
2- . هو الشيخ الأنصاري.

علیه بالأسباب الظاهریة، كالإقرار والحلف والبیّنة وغیرها، فهو قائم مقام المستحق في أخذ حقّه ولا عبرة بعلمه الإجمالي؛ نظیر ذلك ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدَي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد، فانّه إنّما یأذن كلّا منهما بملاحظة تكلیفه في نفسه، فلا یقال: إنّه یلزم من ذلك إذن الجنب في دخول المسجد وهو حرام. (1)

وأقول: یمكن النظر في ما قرّره بانّه إن أراد من كون وظیفته أخذ ما یستحقّه بالأسباب الظاهریة انّ تكلیفه واقع (2) في مقام الحكومة والإلزام والأخذ هو ذلك بحیث لو تخلّف الطریق عن الواقع كان مصیباً لتكلیفه الواقعي؛ لانّه لم یؤمر بإجراء ما ذكر علی وفق الواقع، بل علی طبق الأسباب، فهو إخراج للطرق عن الطریقیة والتزام بالسببیة الواقعیة بالنسبة إلی عمل الحاكم، وهو مخالف لكثیر من الأدلّة الظاهرة في أمره بالواقع، كالآیات الدالّة علی حرمة الحكم بخلاف ما أنزل الله، وعلی وجوب الحكم بالحقّ وغیرها ممّا قرّره في مسألة جواز عمل الحاكم بمقتضی علمه في مقام الحكومة، ولما دلّ علی حرمة التصرّف في أموال النّاس من دون طیب نفسه وغیرها في مقام الأخذ والإعطاء، فكیف یدّعي جواز جبر المالك الواقعي بأخذ ماله منه قهراً لمساعدة السبب واقعاً؟!

ص: 285


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص207.
2- . في المخطوطة: واقعاً.

وإن أراد منه أنّ وظیفته في مقام الظاهر والتكلیف الظاهري هو ذلك وإن كان الموضوع للواقع هو العناوین الواقعیة، فالإشكال بعدُ باقٍ علی حاله؛ لأنّ الكلام هنا في جواز مخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي المعلوم إجمالاً، فهو اعتراف بعدم استحالة إلغاء العلم الإجمالي مع ثبوت الواقع، فینتقض به الاحتجاج المتقدّم.

وإن أراد منه أنّ تكلیف الحاكم تابع لتكلیف المحكوم له المشخّص بالأسباب الظاهریة كما یشعر به قوله، فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه وتنظیره بمسألة الفتوی، ففیه:

أوّلاً: إنّه منتقض بما إذا علم الحاكم بأنّ تكلیف المحكوم في حدّ نفسه هو الأخذ ولم یساعده الأسباب، كما إذا علم بكونه قاطعاً بحقیّته وبطلان دعوی الطرف المقابل، فانّه مكلّف بالعمل بقطعه في حدّ نفسه ولا یجوز بمجرّده الحكم له، بل لابدّ من ثبوت حقیّته بطریق عند الحاكم، بخلاف المفتي.

وثانیاً: إنّه لا یخلو في حدّ نفسه عن أحد القسمین المتقدّمین، فإمّا أن یلتزم بالموضوعیّة وهي منافیة لما أشرنا إليه من الأدلّة أو الطریقیة، فیعود الإشكال.

وأمّا تمثیله بالفتوی، فسنشیر إلی حاله إن شاء الله تعالی.

ویمكن دفع الإشكال من أصله بالتزام الموضوعیة مطلقاً كما هو ظاهر بعضٍ، أو في خصوص الإقرار وشبهه مطلقاً، أو في خصوص هذه

ص: 286

الموارد في مقام الحكومة، نظراً إلی الجمع بین حكم العقل والشرع بأن یلتزم فیه بأنّ الشارع رفع الید فیها عن الواقع.

وأمّا في مقام أخذ الحاكم أو غیره المال ودفعه للمحكوم له، فیمكن التزام الموضوعیة في حكم الحاكم بمعنی وجوب إنفاذ حكمه واقعاً ولزم منه مخالفة حكم واقعي، كما ربّما التزم به في بعض فروع المسألة، أو بأحد الوجوه المتقدّمة في الحكومة، وأمّا بالنسبة إلی غیر الحاكم ممّن اتّفق له أخذ المالین من الشخص المقرّ لها (1)، فقد وجّهه المحقّق (2) المتقدّم أيضاً بأنّا لا نسلّم جواز أخذه لهما ولا لشيء منهما، إلّا إذا قلنا بأنّ ما یأخذه منهما یعامل معه معاملة الملك الواقعي، نظیر ما یملكه ظاهراً بتقلید أو اجتهاد یخالف لمذهب من یرید ترتیب الأثر، بناء علی أنّ العبرة في ترتیب آثار الموضوعات الثابتة في الشریعة كالملكیة والزوجیة وغیرهما بصحّتها عند التلبّس كالمالك والزوجین ما لم یعلم تفصیلاً من یرید ترتیب الأثر خلاف ذلك؛ ولذلك قیل بِجَوازِ الِاقْتِداءِ في الظهرین بواجدَي المني في صلاةٍ واحدة، بناء علی أنّ المناط في صحّة الاقتداء الصحّة عند المصلّي ما لم یعلم فساده تفصيلا (3). (4)

ص: 287


1- . في المخطوطة: «المقرّ لهما» ومكتوب فوقه «لها».
2- . هو الشيخ الأنصاري.
3- . في المخطوطة كذا: «تفصيلاً فساده».
4- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص207 و 208.

أقول: وفي كلامه نظر أيضاً أمّا:

أوّلاً، فلأنّ المنع من أخذه لأحدهما من یده مُنافٍ لحلّیة المال المأخوذ من ید المسلم المتفرّع علی حمل تصرّفه علی الصحّة عند الشكّ، كما اعترف به في مقام توجیه بعض الأخبار الآتیة، إلّا أن یمنع عموم القاعدة، أو یراد هنا ما كان التصرّف غیر مستند إلی معاملة واقعة من المسلم ونحوها، ولما دلّ علی نفوذ حكم الحاكم وترتیب الآثار علیه مطلقاً إلّا أن یمنع من شموله لما نحن بصدده. (1)

وأمّا ثانیاً، فلأنّ ما ذكره من أنّ ما یأخذه منهما یعامل معه معاملة الملك؛ إن أراد ترتیب آثار الملك علیه ظاهراً وإن لم یملكه ولم یجز التصرّف واقعاً، فالإشكال بعدُ بحاله، للزوم طرح العلم الإجمالي مع بقاء الواقع بحاله؛ وإن أراد أنّه یترتّب علیه واقعاً آثار الملك، فیشكل بالأدلّة الدالّة علی الأحكام الواقعیة من حرمة التصرّف في مال المسلم إلّا بطیب نفسه وغیرها ممّا لا یُحْصیٰ.

وتنظیره بما ذكر منظور فیه؛ لأنّه لا یبعد أن لا یكون ذلك القاعدة من جهة الموضوعیة، بل لأجل عدم حجّیة الطرق المقرّرة عند العامل في حقّ غیره، بل المعتبر فیه طریقه، فإذا عمل به في حدّ نفسه صار العمل صحیحاً في ظاهر الشرع، فیترتّب علیه آثار الصحّة، ولعلّه لذا قیّده بعدم العلم

ص: 288


1- . في المخطوطة مكتوب فوقه: «أو بعيد».

التفصیلي بالخلاف، فإنّه إذا بنینا علی الموضوعیة جاز تعمیم الحكم له أيضاً، وحینئذٍ فإذا قلنا بإلحاق الإجمالي بالتفصیلي في عدم جواز إلغاء الشارع له رأساً - كما هو المدّعی - اتّجه الإشكال هنا.

ویمكن دفعه بالتزام موضوعیة الملكیة الظاهریة في حقّ الغیر للملكیة الواقعیة عند عدم العلم التفصیلي، لكونه مالكاً في الشریعة حقیقة مطلقاً، أو في خصوص مادلّ الدلیل علی عدم الطریقیة كالمثال المتقدّم لو ثبت فیه ذلك، أو یرفع الشارع الید عنه في خصوص مادلّ الدلیل علی إلغاء العلم، لكشفه عن رفع الید عن الواقع وهو أيضاً راجع إلی نحو من الموضوعیة.

وممّا ذكرنا ظهر حال مسألة التداعي من الجهات المتقدّمة.

وأمّا مسألة الودیعة

اشارة

المتقدّمة وما ضاهاها، فقد ذكر بعض الأساطین في توجیهه: أنّ الحكم فیها تعبّدي وكأنّه صُلْحٌ قَهْرِيٌّ بین المالكین، أو یحمل علی حصول الشركة بالاختلاط وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضی القاعدة الرجوع فیها إلی القرعة (1). (2)

وأمّا مسألة اختلاف المتبایعین، فیمكن توجیهه بالتزام حصول

ص: 289


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص208؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص135؛ الوسائل في شرح الرسائل: ج6/ ص86 والفرائد (مع حواشي أوثق الوسائل): ج3/ ص391 وكتباً أخر.
2- . انظر: الأربعين (للعلّامة المجلسي): ص582 وأوثق الوسائل: ص323.

الانفساخ (1) للعقد واقعاً، فتخرج عن موضوع قاعدة العلم الإجمالي.

وأمّا مسألة واجدَي المني، فإمّا من جهة الفتوی فلا إشكال؛ لأنّ المفتي یعیّن حكم الله تعالی ظاهراً في موضوع الجهل، فإذا كان حكمه البراءة عند الشكّ جاز الإخبار به والإذن الكاشف عنه، وإمّا من حیث الاقتداء والاستیجار، فلابدّ من التزام نوع موضوعیة للحكم الظاهري في حقّ الغیر، أو الإنكار بناء علی القاعدة المتقدّمة.

وأمّا مسألة الإنائین، فیمكن توجیهه تارة بالتزام الحرمة الذاتیة واحتمال تقدیم الشارع مراعاتها علی جهة الوجوب لثبوت البدل له بخلافها، فرخّص في التیمّم هنا مع الماء إلحاقاً له بسائر الأسباب المسوّغة له، وأخری بأنّ في الوضوء بهما تنجیساً للبدن قطعاً بعد تواردهما، ففیه إهمال لشرط الطهارة، فلعلّه لأجله رخّص في التیمّم.

واحتمال إمكان تحصیل الطهارة الظاهریة للبدن أيضاً بغسل الأعضاء بالماء الآخر بعد الأولی، فیكون من قبیل توارد الحالین، فیرجع إلی أصالة الطهارة، مدفوع مضافاً إلی عدم تسلیم الرجوع إلی القاعدة هنا لجواز تعیّن الأخذ بنقیض الحالة السابقة وهو النجاسة، كما هو أحد الأقوال بانّه یكفي في دفع الشبهة احتمال كون ترخیص التیمّم لأجل رعایة طهارة البدن بعد

ص: 290


1- . قال الشيخ الأعظم: وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع أو الثمن وحكم بالتحالف وانفساخ البيع... انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص207.

قیام الدلیل علی الحكم هذا.

ولا یخفی علیك أنّ محصّل التوجیه في أكثر الأمثلة هو الالتزام بِنَحْوٍ مِنْ أَنْحاءِ الموضوعیة، وحینئذٍ فَلِقائلٍ أَنْ یَدَّعِيَ علی المسْتَدِلِّ أَنَّهُ إذا أجاز رفع الید عن الواقع واقعاً في كثیر من الأمثلة المتقدّمة وما ضاهاها، أو جعل العلم ونحوه مأخوذاً في الموضوع، فما المانع من التزام المجوّز بأنّ الشارع رفع الید عن المحرّمات المشتبهة بالمحصور رأساً؟ فغایة ما یلزمه تقیید إطلاق دلیل العنوان المردّد - كما لزمه في بعض الموارد المتقدّمة مثل ذلك - فإن كان المانع هو الإجماع ونحوه، فهو في جمیع الموارد ممنوع وفی بعضها لا ینفع المستدلّ المدّعي للقاعدة؛ وإن كان عدم الدلیل علی الترخیص، فهو كلام آخر منظور فیه، كما اعترف به في ظهور بعض الأخبار المرخّصة، فتأمّل.

المسلك الثاني: ما سلكه جماعة من محقّقي المتأخرین طاب ثراهم ممّا حاصله حكومة العقل بامتثال التكلیف المعلوم بالإجمال وإنّ الجهل التفصیلي لیس عذراً عند العقل وإن جاز للشارع أن یرخّص في فعلهما، لكنّا نمنع من وقوع هذا الترخیص وإتمام القاعدة بناء علی هذا یتوقّف علی دفع ما یترائی منه الإذن في كلا المشتبهین بعد ما ظهر لك من ثبوت المقتضي عند العقل في المسلك السابق وهو أمور:

منها الأخبار الدالّة علی البراءة عند الشكّ والجهالة وعدم العلم

كقوله (علیه السلام): «رفع عن أمتي ما لا یعلمون» وماضاهاه، حیث أنّه یصدق علی

ص: 291

كلّ منهما أنّ حرمته غیر معلوم ومجهول.

ومنها مادلّ علی الحلیة ما لم یعرف الحرام بعینه

كموثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (علیه السلام) قال: سمعته یقول: «كلّ شيء هو لك حلال حتّی تعرف انّه حرام بعینه، فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب یكون علیك قد اشتريته وهو سرقة أو مملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قُهِرَ، فَبِیْعَ أو خُدِعَ، فَبِیْعَ أو امْرَأة تحتك وهي أختك أو رضیعتك، والأشیاء كلّها علی هذا حتّی تستبین لك غیر هذا ولك ذا أو تقوم به البیّنة» (1)، ومصححة عبدالله بن سنان عنه (علیه السلام): «كلّ شيءٍ فیه حلال وحرام، فهو لك حلال حتّی تعرف الحرام منه بعینه» (2)، وروایة عبدالله بن سلیمان الّذي صحّحها بعض المحقّقين إليه، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سألت أبا جعفرٍ (علیه السلام) عن الجُبْنِ، فقال: «لقد سَألْتَنِيْ عن طعام یعجبني»، إلی أن قال: فقال: «ما خبرك عن الجبن وغیره، كلّما كان فیه حرام وحلال، فهو

ص: 292


1- . انظر: الكافي (دارالحديث): ج10/ ص542؛ جامع أحاديث الشيعة: ج23/ ص60 و جواهر الكلام في ثوبه الجديد: ج1/ ص248 و ج3/ ص389.
2- . انظر: من لا يحضره الفقيه: ج3/ ص341؛ تهذيب الأحكام: ج7/ ص226 وج9/ ص79؛ روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ج6/ ص488 وج7/ ص467؛ الوافي: ج17/ ص62؛ الوسائل: ج17/ ص88 وج24/ ص236؛ مرآة العقول: ج12/ ص400 وكتباً أخر.

لك حلال حتّی تعرف الحرام بعینه، فتدعه» (1).

ومنها مادلّ بظاهره علی حلّیة المال المختلط بالحرام في الجملة

كموثّقة سَماعةَ قال: سألت أباعبدالله (علیه السلام) عن رَجُلٍ أصاب مالاً من عمّال بني أمیة وهو یَتَصَدّقُ مِنْهُ ویَصِلُ قرابَتَهُ ویحجّ لیغفر له ما اكتسب ویقول: إنّ الحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیّئاتِ.

فقال أبوعبدالله (علیه السلام): «إنّ الخطیئة لا تكفّر الخطیئة ولكنّ الحسنة تحبط الخطیئة»، ثمّ قال (علیه السلام): «إن كان خلّط الحلال بالحرام، فاختلطا جمیعاً، فلا یعرف الحلال من الحرام، فلا بأس» (2).

ومنها صحیحة أبي بصیر قال: سألتُ أباعبدالله (علیه السلام) عن شراء السرقة والخیانة، فقال: «لا إلّا أن یكون قد اختلط معه غیره، فأمّا السرقة بعینها، فلا إلّا أن یكون من متاع السلطان، فلا بأس بذلك» (3).

ص: 293


1- . الكافي (الإسلامية): ج6/ ص339؛ المحاسن، ج2/ ص495؛ روضة المتّقين: ج7/ ص473؛ الوافي: ج19/ ص355؛ الوسائل: ج25/ ص118؛ بحارالأنوار: ج62/ ص152 وج63/ ص104؛ مرآة العقول: ج22/ ص172 وكتبا أخر.
2- . انظر: الوسائل: ج12/ ص59؛ والفرائد (للمجمع): ج2/ ص216 و 217.
3- . انظر: الكافي (الإسلامية): ج5/ ص228؛ الكافي (دارالحديث): ج10/ ص263؛ جامع أحاديث الشيعة: ج22/ ص820؛ مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج12/ ص400 وج19/ ص268؛ الوافي: ج17/ ص289؛ الوسائل: ج17/ ص289؛ درر الفوائد في شرح الفرائد: ج4/ ص117 والوسائل إلی الرسائل: ج8/ ص305.

ویقرب منه ما عن نوادر أحمد بن محمّد بن عیسی، عن أبیه قال: سُئِلَ أبوعبدالله (علیه السلام) عن شراء الخیانة والسرقة.

قال: «إذا عرفت ذلك فلا تَشْتَرِهِ إلّا من العمّال» (1).

ومنها: مادلّ علی حلّیة نسل الغنم المرتضع مِنَ الخنزیر عند الِاشْتِباه

كما رواه الكلیني وغیره، كما في الصحیح عن حنان بن سدیر إنّه قال: سئل أبوعبدالله (علیه السلام) وأنا حاضر عنده عن جَدْيٍ رضع من خنزیر حتّی كبر وشبّ وَاشْتَدَّ عظمه إن استعمله رجل في غنمه، فأخرج له نسل، ما تقول في نسله؟

فقال: أمّا ما عرفت من نسله بعینه، فلا تقربنه، وأمّا ما لم تعرفه فكله، فهو بمنزلة الجبن ولا تَسْألْ عنه. (2)

ویقرب منه مارواه الشيخان بإسنادهما عن بشر بن سلمة، عن أبي الحسن (علیه السلام) في جَدْيٍ رَضَعَ من خنزیر، ثمّ صُرِفَ في الغنم، فقال: هو بمنزلة الجُبْنِ، فما عرفت أنّه خنزیر، فلا تأكله وما لم تعرفه، فكله». بل ربّما یُدَّعیٰ في هذين الحدیثین التصریح بعدم الفرق بین المحصور وغیر المحصور

ص: 294


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص412 و 416؛ الفرائد (مع حواشي أوثق الوسائل): ج3/ ص371 و 405؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص151؛ التنقيح: ج3/ ص336 و 357؛ الوسائل إلی الرسائل: ج8/ ص295 وهداية المسترشدين: ج3/ ص608.
2- . انظر: الكافي (دارالحديث): ج12/ ص233.

وأنّ الأوّل ملحق بالثاني.

ومنها: ما ورد في حلّیة السمك المشتبه بالمیّت في الماء في الجملة

كروایة عبدالله بن سنان، عن الصادق (علیه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عن الحظیرة من القصب تجعل للحیتان في الماء، فیموت بعضها فیها، قال لا بأس. (1)

ومنها: مادلّ علی حلیّة الربا مع الاشتباه

كحسنة الحلبي قال: قال أبوعبدالله (علیه السلام): «كلّ ربا أكله النّاس بجهالة، ثمّ تابوا، فانّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة»، وقال: «لو أنّ رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغیره حلالاً طیّبا، فیأكله؛ وإن عرف منه شیئاً معزولاً أنّه ربا، فلیأخذ رأس ماله منه ویرد الربا؛ وأیّما رجل أفاده مالاً كثیراً قد أكثر فیه من الربا، فجعل ذلك ثمّ عرفه بعد، فأراد أن ینزعه فما مضی، فله ویدعه في ما یستأنف» (2).

ومنها: الأخبار المستفیضة الدالّة علی جواز الشراء من الظالم والسلطان والعامل مع العلم بظلمهما إلّا أن یعلم أنّه الحرام

كصحیحة أبي عبیدة عن الباقر (علیه السلام) قال: سَأَلْتُهُ عن الرجل یشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم

ص: 295


1- . انظر: کتاب من لا يحضره الفقيه: ج3/ ص324؛ روضة المتّقين في شرح کتاب من لا يحضره الفقيه: ج7/ ص411؛ والوسائل: ج24/ ص85 وكتباً أخر.
2- . انظر: الكافي (الإسلامية): ج5/ ص145؛ الكافي (دارالحديث): ج9/ ص749؛ من لا يحضره الفقيه: ج3/ ص275 وتهذيب الأحكام: ج7/ ص16.

الصدقة وهو یعلم انّه یأخذ منهم أكثر من الحقّ الذي یجب علیهم، قال: فقال: «ما الإبل إلّا مثل الحنطة والشعیر وغیر ذلك لا بأس به حتّی تعرف الحرام بعینه»؛ وفي صحیحة معاویة بن وَهْبٍ: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام): أشْتَرِيْ من العامل الشيء وأنا أعلم انّه یظلم، فقال (علیه السلام): اشتر منه. (1)

وفي موثّقة إسحق بن عمّار قال: سألته عن الرجل یشتري من العامل وهو یظلم، قال: یشتري منه ما لم یعلم أنّه ظلم فیه أحداً. (2)

ومنها ما ورد في حلّیة الحلال المختلط بالحرام مع عدم التمیّز عند إخراج الخمس

بضمیمة ما قد یُدَّعیٰ من أنّ فائدة إخراج الخمس الحكم بحلّیة الجمیع مع عدم حصول الضمان علیه.

فهذه جملة ما حضرني من الأخبار المنقولة الّتي (3) یمكن التشبّث بها في إثبات الترخیص في الشبهة.

ص: 296


1- . انظر: الكافي (الإسلامية): ج5/ ص228؛ الكافي (دارالحديث): ج10/ ص265؛ تهذيب الأحكام: ج6/ ص375 وج7/ ص132؛ جامع أحاديث الشيعة: ج22/ ص684؛ مرآة العقول: ج19/ ص269؛ الوسائل: ج17/ ص219؛ الوافي: ج17/ ص292.
2- . انظر: الكافي (الإسلامية): ج5/ ص228؛ الكافي (دارالحديث): ج10/ ص267؛ الوافي: ج17/ ص292 و 298؛ مرآة العقول: ج19/ ص270؛ جامع أحاديث الشيعة: ج22/ ص686؛ وهداية المسترشدين: ج3/ ص608.
3- . في المخطوطة: «الّذي».

وربّما یجاب عن الطائفة الأولی

تارة بأنّ ما تَنْصَرِفُ إليه الأخبار هو الجاهل الصِرْفُ، أو مع غیر المحصور، نظراً إلی عدم الاعتداد بالعلم الإجمالي الحاصل فیه في نظر العرف، وأمّا في ما نحن فیه، فلا ریب في حصول العلم بالحرام والحلال معاً. غایة الأمر دوران الحلّ والحرمة بین الفردین ومثل ذلك لا یعدّ جهلاً بالحرام ولا یندرج ذلك في تلك الأخبار ولا أقلّ من عدم انصراف ظاهر إطلاقها إليه وهو كافٍ في عدم نهوضها حجّة في المقام، كذا قرّره جدّي العلّامة (1) طاب ثراه.

واعترض علیه بالمنع من الانصراف وإنّه لا منشأ له، ودعوی أنّ اقتران الجهل بحرمة كلّ من طرفي الشبهة بالعلم الإجمالي یمنع من صدق ظاهر اللفظ علیهما، كما تری ممّا لا یساعده عرف ولا برهان.

ویمكن الذبّ عنه

[مرّة] بأنّ المدّعی انصراف إطلاقات البراءة إلی معذوریة الجاهل بالحرمة ولو من غیر جهة الجهل بالموضوع واندراجه تحت العنوان المحرّم الّذي هو شكّ في التكلیف، لا الجاهل بأنّه الحرام المعلوم أو صاحبه الّذي هو شكّ في المكلّف به، فرفع التكلیف غیر المعلوم لا یقتضي رفع احتمال كونه هو التكلیف المعلوم إجمالاً في كلّ من الطرفین، فتأمّل.

وأخری بما قرّره بعض مشایخنا (دام ظله) ظاهراً من أنّها مسوقة لبیان حكم الأشیاء المشتبهة من حیث أنّها مشتبهة ولا ینافي ذلك الحرمة إذا عَرَضَتْ لها

ص: 297


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص610.

جهة أخری، ككونها مقدّمة للواجب أو الحرام توجب وجوب الإجتناب أو الارتكاب، والحكم بالحرمة هنا إنّما جاء من قبل كونه مقدّمة لإحراز التكلیف المردّد بكلا المشتبهین بالقیاس إلی نفسهما ممّا لا بأس به، كما یقتضیه الأخبار، ولكن لا یجوز ارتكابهما لأجل امتثال التكلیف المعلوم إجمالا ولا ینفي الأدلّة تنجّز التكلیف المردّد، فیسري الحرمة إلیهما بالعرض.

وثالثة بما سنقرّره في غیرها إن شاء الله تعالی.

ومن الطائفة الثانیة وهي العمدة في هذا الباب:

أوّلاً: بما ذكره المحدّث البحراني ممّا حاصله: إنّ الظاهر من سیاقها وقرائن أحوالها إنّما هو بالنسبة إلی غیر المحصور، بمعنی أنّ كلّ شيء من الأشیاء و[كلّ] نوع من الأنواع، له أفراد بعضها حلال واقعاً وبعضها حرام، كاللحم المنقسم إلی ما هو ذكيّ وما هو میتة، والأمتعة والفواكه ونحوها ممّا في أیدي المسلمین وأسواقهم فیها المغصوب والسرقة وغیرهما، [فكلّ] فردٍ منها رأیته حكمت علیه بالحلّیة حتّی یعلم أنّه حرام، ویدلّ علی ذلك قوله (علیه السلام) في روایة مسعدة بن صدقة: وذلك مثل الثوب - إلی آخرها - فانّ جمیع تلك الأمثلة إنّما هي بالنسبة إلی غیر المحصور.

ودعوی أنّ التمثیل لا یخصّص عموم الحكم المستفاد عن صدر الخبر مدفوعة بأنّه إن أرید أنّ التمثیل بخصوص الأمثلة المذكورة لا یخصّص، فهو مسلّم ولكن لا یضرّنا، وإن أرید أنّ التمثیل لا یخصّص بها وبما كان من قبیلها من غیر المحصور، فهو ممنوع كیف؟ والأمثلة إذا ذكرت بعد القواعد

ص: 298

الكلیّة صارت موضّحة لها ومبیّنة لها، فتحمل تلك القواعد علیها وعلی نظائرها.

ألا تری أنّه لو قال: «أكرم النّاس مثل العلماء»، فانّه لا یتبادر منه إلّا الأمر بإكرام العلماء خاصّة من بین أصناف النّاس، فالقدر المقطوع به من الخبر هو ذلك، كما یشهد قوله (علیه السلام) في آخر الخبر: «والأشیاء كلّها علی هذا»، إلی آخرها، فانّه عند التأمل هو معنی قوله (علیه السلام) في صدره: «كلّ شيء هو لك حلال» إلی آخره أعادها تأكیداً وهو واضح؛ ويزیده وضوحاً أنّ هذه العبارة في أكثر الأخبار خارجة عنهم في أخبار الجُبْنِ؛ فإنّه كثرت الأسئلة (1) عنه في زمانهم وهو قرینة واضحة علی أنّ مورد الكلیّة ما كان مثل الجبن في كونه غیر محصور. (2)

هذا، ووافقه في ذلك - في الجملة - جدّي العلّامة طاب ثراه حیث [حمل] (3) صحیحة ابن سنان وما في معناها علی أنّ مجرّد وجود الحرام في أفراد الطبیعة لا یقضي بالاجتناب (4) عن جزئیاتها إلّا مع العلم بحرمتها، لا أنّ الاشتباه یصیر سبباً لحلّ الحرام المشتبه بالحلال بعد العلم بهما، لكنّه

ص: 299


1- . في المخطوطة: «الأسئولة».
2- . انظر: الدرر النجفية: ج2/ ص 147-145.
3- . يقتضيه السياق وفي المخطوطة بياض بقدر کلمة.
4- . في المخطوطة: «بالاجتناب».

استشهد علیه بانّه لو كان الدوران بین الفردین مع العلم محلّلاً مطلقا، لزم تحلیل معظم المحرّمات (1) علی ما سنذكره في المسالك الآتیة إن شاء الله تعالی.

وأقول: إن كان الِاستشهاد بالروایة لأجل أنّ المشتبهین بالمحصور فیه حلال وحرام - كما هو المترائي من كلامهما مع غمض العین عن عدم جریانه في الموثّقة المتقدّمة بظاهره - فالجواب بما تقدّم حقّ؛ فإنّ المستفاد منها هو أنّ الموصول عبارة عن العناوین الكلیّة المندرجة تحتها الأفراد المحلّلة والمحرّمة دون نفس الأفراد؛ لعدم تعقّل انقسام الفرد إلیهما إلّا إذا عرض لفردین منها جهة وحدة خارجیة من امتزاج ونحوه، أو فرضیة بأن یعتبر مجموع الفردین أو الأفراد أمراً واحداً فیه حلال وحرام؛ ومن البیّن أنّ حمل الروایة علی الأوّل خلاف الإجماع مطلقاً أو غالباً، وعلی الثاني بعید بالنسبة إلی المعنی المتقدّم، كبعد الحمل منهما مع عدم انطباق السؤال والأمثلة وغیرهما علیه، وكما أنّ تعمیم اللفظ للمعاني المتقدّمة مع استلزامه بإطلاقه خلاف الاتّفاق في الامتزاج ونحوه بعید لبعد القدر المشترك بینهما لفظاً بالنسبة إلی إرادة خصوص المعنی المتقدّم ولا أقلّ من عدم ظهور الكلام في التعمیم وهو كافٍ في دفع الاستدلال.

وأمّا إن کان محلّ الاستدلال هو أنّ النوع حلال ما لم یعلم الفرد الحرام بعینه والمفروض أنّ الفرد المحرّم غیر معلوم بعینه هنا، فقضیّة تلك

ص: 300


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص610 وطبعته القديمة: ص462.

الأخبار حلّیّة الشبهة المحصورة، فدفعه بما ذكر ممنوع، بل لا یرتبط الجواب بظاهره علیه، وهذا الحكم جارٍ في أمثلة روایة مسعدة، فإنّه یحكم بناء علیه بحلّیة تلك الموارد إلی أن یعلم الحرام بعینه، فلا یعبأ بالعلم الإجمالي حینئذٍ في رفع الید عنه، نظراً إلی ظهور العلم في التفصیلي وخصوص قوله (علیه السلام): «بعینه» في تلك الأخبار، بل إطلاق تلك الأمثلة لمّا إذا كان هناك علم إجمالي بالحرمة مؤیّد لما یدّعیه المجوّز، خصوصاً مع غلبة وجود العلم الإجمالي في بعضها في الجملة وإن كان في غیر محصور منها.

وما ذكره من أنّ التمثیل یخصّص العلم بما كان من نظائرها - كالمثال المذكور - ففیه نظر ظاهر، لاسيّما لأجل خصوص المقامات، كما أنّ وروده في أخبار الجبن لا ینافي المعنی المتقدّم، كما هو ظاهر عند التأمّل والاستشهاد بلزوم حلّیة المحرّمات سیأتي الكلام فیه إن شاء الله تعالی.

اللهمّ أن یوجّه كلامهما بأنّ مرادهما ما تقدّم من الوجه الأوّل في الجواب عن الطائفة الأولی وإلحاق تلك الأخبار بأخبار البراءة ویمنع شمولها للشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكلیف.

وفیه: إنّ دعوی الانصراف ونحوها غیر نافع في الجواب هنا بعد التصریح بأنّ غایة الحلّ العلم بعینه، إلّا بعد تعمیم الغایة بحیث یشمل العلم الإجمالي الموجود في المقام، وهو غیر بیّن ولا مبیّن في كلامهما.

وثانیاً: بما ذكره بعض الأساطین من أنّها كما تدلّ علی حلّیة كلّ واحد من المشتبهین، كذلك تدلّ علی حرمة ذاك المعلوم إجمالا، لأنّه أيضاً شيءٍ

ص: 301

علم حرمته. (1)

أقول: ولعلّه أراد بذلك إنّه یقع التعارض بین إطلاق منطوق تلك الأخبار الشامل للمشتبهین ومفهومهما المانع عن استعمال ذلك المعلوم إجمالا، المقتضي لعدم جواز المخالفة القطعیة، فیتطرّق لأجله الإجمال فیها ویعیّن به ظهور المنطوق، في ما یشمل الشبهة المحصورة، فیبطل به الاستدلال بها علی الترخیص فیها، فإن رام المجوّز رفع الید عن المفهوم نظراً إلی المنطوق توجّه علیه جواز العكس بإلغاء إطلاق المفهوم نظراً إلی المفهوم؛ وأنت خبیر بأنّ ذلك إنّما یتمّ إذا تساوی الإحتمالان بالنظر إلی ظاهر اللفظ، وإلّا فالأظهر قرینة علی التصرّف في الظاهر في الكلام الواحد ویصیر قرینة من القرآن المتّصلة علی صرف الظاهر، كسائر القرائن المتّصلة والمنفصلة غیر الصریحة، وللمجوّز أن یدّعي قوّة ظهور المنطوق، لكون إطلاق المنطوق أقوی من إطلاق المفهوم، كما قرّر في محلّه حتّی منع بعضهم من تخصیص المنطوق بالمفهوم الخاصّ، مضافاً إلی أنّ شمول العلم للعلم الإجمالي أخفی من شمول عدم العلم لطرفي الشبهة مطلقاً.

هذا ما یقتضیه النظر الجليّ؛ وأمّا ما یقتضیه دقیق النظر فهو أنّ المفهوم

ص: 302


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص204 و 210؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص122؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص380؛ والوسائل إلی الرسائل: ج8/ ص229.

تابع للمنطوق ولا یتصوّر التعارض بینهما هنا، فإنّه نفي الحكم من نقیض مورد المنطوق، فلا یجتمعان أبداً، ضرورة امتناع اجتماع النقیضین.

وتحقیقه: إنّ المراد من الشيء في قوله (علیه السلام): «كلّ شيءٍ لك حلال»، إمّا هو الأفراد الخارجیة المتشخّصة بخصوصیّاته الفردیّة، وإمّا هو الكلیّات من الأنواع والأصناف المعروضة للأحكام الكلّیة، أو القدر المشترك بین الأمرین؛ وعلی الثاني یسقط التمسّك به لحلّیة الشبهات الموضوعیة، لكنّه خلاف ظاهر اللفظ ومناف للأمثلة المذكورة في الروایه، فلا مجال للمصیر إليه؛ والثالث علی تقدیر تسلیم وجود قدر جامع بین أفراد الكلّي ونفس الكلّي ممنوع ظهوره من اللفظ بقوّة احتمال انصراف اللفظ إلی خصوص الموضوعیّة علی أنّه لا یضرّ في ما نحن بصدده.

وأمّا الأوّل، فلا ریب في شموله لكلّ واحد من المشتبهین بشخصهما وإنّ شیئاً منهما لیس ممّا حصل العلم بحرمته كذلك، وأمّا الأمر المردّد فلیس شیئاً وفرداً آخر من الشيء حتّی یعتبر حاله من حیث العلم والجهل هنا ولو فرض أن یكون له عنوان خاصّ به، كما إذا علمنا طهارة إناء زید ونجاسة إناء عمرو ولكن لا ندري أیّاً من هذین الإنائین إناء عمرو وأیّا منهما إناء زید، وحینئذٍ فلا ریب في أنّ كلّا من هذین الموجودین عندنا شيء لم یعلم حرمته بهذا الاعتبار وإناء عمرو بعنوان كونه إناء عمرو لیس فرداً آخر مندرجاً تحت الإطلاق وإنّما هو أمر منتزع من الفرد الخارجي، فالاعتبار هنا بنفس الفرد الخارجي بجمیع خصوصیّاته وتعیّناته، فإنّه مصداق للشيء من

ص: 303

حیث الخصوصیّات، فالعبرة هنا بالعلم بحرمة الفرد المشخّص الخارجي وعدم العلم به، فلو رُمنا (1) أن نقول: إنّ إناء عمرو أيضاً شيء، فإمّا أن نقول: إنّه شيء آخر، وهو بدیهي البطلان، أو إنّه أحد هذین الشیئین المعیّن واقعاً، المجهول عندنا، فالموجود عندنا فردان من الشيء أو أحد كلّ منهما بتشخّصه الخارجي كان حرمته مجهولاً، لكن یعلم حرمة أحدهما وإذا أخذ أحدهما، المعیّن واقعاً بعنوان أنّه إناء عمرو كان معلوم الحرمة والنجاسة؛ وحینئذ فإن قلنا بأنّ دخوله تحت الشيء ونسبة العلم إليه بالاعتبار الأوّل، ثبت ما یدّعیه المجوّز ولم یمكن معارضته، وإن قلنا بأنّه بالاعتبار الثاني بأن یقال: إنّ إناء زید شيءٍ، فإناء عمرو شيء آخر، فیتّجه حینئذٍ ما ذكره المحقّق المتقدّم من أنّ المعلوم بالإجمال شيء علم حرمته، لكن لا یمكن الجمع بین هذین الاعتبارین في إطلاق قوله: «كلّ شيء»، فلابدّ من ترجیح أحد الاعتبارین علی الآخر، والظاهر أنّ الأوّل معیّن للترجیح، بل كأنّه ممّا لا یحتمل خلافه في ظاهر الخبر، لأنّ الثاني أمر انتزاعي منتزع من الفرد الخارجي؛ ویشهد له ما ربّما یقال من انصراف العلم عرفاً إلی العلم التفصیلي، فإنّ الظاهر أنّه لأجل كون الشيء حقیقة إنّما یعتبر بالوجه الأوّل دون الثاني.

وقریب ممّا ذكر الكلام في قوله (علیه السلام): «كلّ شيء فیه حلال وحرام، فهو

ص: 304


1- . أي قصدنا من رامَ يرروم.

لك حلال حتّی تعرف الحرام»، فإنّ الظاهر من معرفة الحرام معرفة بخصوصیّاتها الفردیة لا بأمر منتزع منه، فإناء عمرو لیس حراماً بهذا العنوان الانتزاعي وإنّما الحرام حقیقة هو نفس الفرد الخارجي الذي یصدق علیه إناء عمرو، كما تقدّم نظیره في الشيء بالتفصیل المتقدّم، فتدبّر.

ثمّ إنّ المحقّق المتقدّم (1) أورد علی نفسه إنّ غایة الحلّ معرفة الحرام بشخصه ولم یتحقّق في المعلوم الإجمالي، ثمّ قال في الجواب: أمّا قوله (علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه»، فلا یدلّ علی ما ذكرت، لأنّ قوله (علیه السلام): «بعینه» تأكید للضمیر جيء به للاهتمام في اعتبار العلم، كما یقال: «رأیت زیداً بعینه» لدفع توهّم الاشتباه في الرؤیة، وإلّا فكلّ شيء علم حرمته فقد علم نفسه، فإذا علم نجاسة إناء زید وطهارة إناء عمرو، فاشتبه الإناءان، فإناء زید شيء علم حرمته بعینه.

نعم یتّصف هذا المعلوم المعیّن بكونه لا بعینه إذا أطلق علیه عنوان أحدهما، فیقال: أحدهما لا بعینه في مقابل أحدهما المعیّن عند القائل. (2)

ثمّ إنّه (رحمة الله علیه) اعترف بظهور قوله: «حتّی تعرف الحرام بعینه» نظراً إلی أنّ قوله: «بعینه قید للمعرفة، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه وعدم تحقّق ذلك إلّا إذا أمكنت الإشارة الحسیة إليه، وإنّ إناء زید في المثال وإن

ص: 305


1- . هو الشيخ الأنصاري.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص202.

كان معلوماً بهذا العنوان، إلّا أنّه مجهول باعتبار الأمور الممیّزة له في الخارج من مقابله، فهو مجهول بشخصه (1)؛ واعتمد في الجواب علی امتناع ترخیص الشارع مع بقاء الحرمة الواقعیة التي یشهد الاتّفاق والنصّ علی خلافه حتّی نفس هذه الأخبار، حیث أنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعیة للأمر المشتبه. (2)

أقول: وأمّا ما ذكره من امتناع الترخیص، فقد قدّمنا الكلام فيه في المسلك المتقدّم ولیس غرضنا الآن ذلك، بل الغرض هو رفع ما یصلح للمانعیة، بناء علی إمكان المنع.

وأمّا ما ذكره في الفرق بین الكلامین الشریفین، فربّما یستشكل فیه بإنّه إن جعل قوله (علیه السلام): «بعینه» بمعنی بنفسه، فهو للتأكید فیهما معاً، ضرورة أنّ النسبة إلی الشيء نسبة إلی نفسه؛ وإن جعل بمعنی بشخصه وخصوصه، فهو تأسیس يخرج العلم الإجمالي مطلقاً، فإنّ العلم بأنّ إناء زید حرام في المثال لیس بشخصه وخصوصه وإنّما هو بذلك العنوان المردّد.

وجوابه: إنّ العلم في الأوّل متعلّق بالنسبة وهي بسیطة، فكون «بعینه» لايعینه أزید من التأكید؛ لأنّ العلم بالبسیط لا یتصوّر فیه اختلاف،

ص: 306


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص201 و 202؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص380؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص123؛ الوصائل إلی الرسائل: ج8/ ص230؛ التنقيح: ج3/ ص328؛ ودرر الفوائد في شرح الفرائد: ج4/ ص63 و....
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص202.

والمعرفة في الثاني متعلّق بالحرام ومعرفة الحرام قد یكون تفصیلیّة متعلّقة به بخصوصیّاته، وقد یتعلّق به بعنوان إجمالي، ككون إناء زید حراماً، فقوله (علیه السلام): «بعینه» هنا یعیّن الأوّل؛ لأنّ المعرفة في الثاني غیر متعلّقة بعین الشيء، بل بعنوان انتزاعي ككونه إناء زید.

وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: إنّ التأكید في الأمر البسیط غیر معقول إلّا لرفع توهّم الاشتباه في الموضوع الخارجي قابل للتأكید بنفسه، فإنّ معرفته تارة بعنوان منتزع، وأخری بجمیع خصوصیّاتها، فتأكید المعرفة هنا یفید تعلّقها بذات الشيء المشتمل علی خصوصیاته.

وذكر بعض مشایخنا (دام ظله) في بیانه ظاهراً إنّ الحكم هنا في الثاني، فقوله: «بعینه» قید للمعرفة وهو متعدّ في الأوّل؛ لأنّ فیه نسبة الحرام إلی الضمیر ونسبة المجموع إلی العلم، فمقتضی القواعد كون الظرف متعلّقاً بالجملة الثانیة، فیكون قوله (علیه السلام) «بعینه» متعلّقا بحرمة الشيء، فلا یعقل فیه سوی التأكید، لأنّ كلَّ ما یكون حراماً فهو حرام بعینه وبشخصه، فلا یكون قیداً للمعرفة رأساً، فلا ربط له بالمقام فافهم، هذا.

وقد أشرنا إلی أنّ ما ذكره لا ینفع بنفسه، لدفع ظهور الجزء الأوّل أيضاً علی ما سلف حیث جعلنا الشيء هو الفرد المتشخّص، فالعلم بأنّه حرام لا یصدق مع الإجمال، فیمكن أن یكون «بعینه» لدفع توهّم أنّ العلم بحرمة ذلك الفرد أو طرفه الآخر مانعاً من إجراء قاعدة الحلّ، وإلّا فلا یظهر لي لولاه وجه مبیّن لهذا التأكید هنا، فلعلّه أيضاً مؤیّد لما سبق، فتدّبر.

ص: 307

ثمّ لا یخفی علیك أنّ ما ذكره من أنّ دعوی كون العلوم بالإجمال شيء معلوم، إنّما یصحّ بظاهره إذا كان للمعلوم بالإجمال عنوان متعلّق للعلم كالمثال المتقدّم علی ما نبّه علیه بعض مشایخنا (دام ظله)، وإلّا فلا یتمّ فیه هذا الجواب رأساً، لأنّه إذا لم یكن للمعلوم إجمالاً عنوان أصلاً، فكیف یُدَّعیٰ كونه أمراً معلوماً؟!

ویمكن دفعه بأنّ محلّ الكلام هو الشبهات الموضوعیّة وهي إنّما تكون عند الشكّ في تحقّق عنوان المحرّم، فالعنوان المردّد بین الأمرین والأمور شيء معلوم حرمته بنفسه، كالخمر الموجود في أحد الإنائین، فلا حاجة إلی كونه معلوماً بوجه آخر، فتأمّل جدّاً.

وثالثاً: بأنّ هذه الأخبار مسوقة لبیان حكم المشتبه من حیث أنّه مشتبه، كسائر أخبار البراءة، فمفادها حلّیة الشيء ما لم یعلم حرمته تفصیلاً من حیث نفسه، بمعنی أنّ الشكّ بما هو شكّ لا یوجب الاحتیاط وإنّ وجود الحرام في أفراد النوع كنجاسة جبن واحد في الأرض لا یوجب الاجتناب عن النوع إلّا مع العلم بالحرمة في ذلك الفرد، فالأخبار المتقدّمة بعضها مسوقة لبیان أصالة الإباحة في الأشیاء - كالموثّقة - وبعضها مسوقة لبیان حلّیة النوع المشتمل علی الحرام عند عدم معرفة الموضوع المحرّم وإنّ انقسام النوع إلی الحلال والحرام - إمّا فرضا أو تحقیقاً - لا یؤثّر في حرمة الأفراد الخارجیة من دون إحراز الموضوع بالعلم به، فهي بأسرها مسوقة لبیان حلّیة الشبهة من حیث هي، من دون نظر إلی فرض علم إجمالي مردّد

ص: 308

بین أمرین أو أمور وإنّ المشتبه حلال فعلاً بحیث تدلّ علی أنّ العلم الإجمالي ملغی في نظر الشارع، فإذا فرض قیام دلیل نقلي أو عقلي - ولو تعليقا - علی حرمة الشبهة مقدّمة لِامْتِثالِ تكلیف معلوم إجمالاً لم یعارضه تلك الإطلاقات، لكونها واردة مورد حكم آخر وبیان جهة أخری وهو الشبهة من حیث كونها شبهة؛ وهذا نظیر ما قرّر في محلّه من أنّ أدلّة التكالیف وجوباً وتحریماً حاكمة علی أدلّة المباحات، فكلّما عرض للمباح عنوان واجب أو محرّم، كان المتّبع دلیل التكلیف ولم یعارضه دلیل الترخیص بتفصیل لیس هنا محلّ بیانه، ولعلّه إليه يرجع كلام المحدث المتقدّم والعلّامة المتقدّم ذكرهما.

فإن قلت: إنّ ما ذكرت في معنی ما عدا الخبر الأوّل غیر ظاهر، بل ولیس بأولی من دعوی أنّها مسوقة لبیان أنّ العلم الإجمالي الملغی في نظر الشارع مطلقا - محصورة كانت الشبهة أو غیر محصورة - فإنّ ظاهرها كون وجود الحرام في أفراد النوع معلوماً فعلاً، فمفادها إنّ العلم بوجود الحرام مطلقاً لیس بشيء حتّی یعرف الحرام بعینه؛ والفرق بین المحصور وغیره مع فرض تعیین أحدهما عن الآخر واختلاف تحدیدهما ما لا یمكن استفادة اختصاص الأخبار بالثاني من تلك الأخبار، مع أنّه لا إشعار في شيء منها بذلك المعنی المبهم.

قلت: إنّ مَصَبَّ تلك الأخبار هو أنّ العِلْمَ بوجود الحرام في النوع لا یوجب حرمة الفرد، لا أنّ مطلق العلم الإجمالي ملغی، فغایة ما یمكن

ص: 309

إدراجه تحتها هو مطلق الشبهة غیر المحصورة؛ ولو تنزّلنا عن دعوی ظهورها في تلك الجهة الخاصّة دون اعتبار العلم التفصیلي مطلقاً، فلا أقلّ من الشكّ في إطلاق الكلام بحسب الجهات، وهو كافٍ في عدم الاستدلال، بناء علی أنّ المعتبر في التمسّك بالإطلاق إحراز كونه في مقام البیان من الجهة المقصودة، ولو سلّم ظهوره أيضاً من حیث هو فبعد ملاحظة خروج كثیر من موارد العلم الإجمالي في المحصور - ولو في الجملة - عن تحت الإطلاق بالإجماع وغیره، یمكن دعوی أولویة المعنی المذكور من تخصیصه أو مساواته له خصوصاً بملاحظة أنّ إطلاق الكلام بحسب الجهات أضعف نوعاً من إطلاقه بحسب الأفراد.

سلّمنا ذلك كلّه، لكنّ الأخبار المتقدّمة لمخالفته للمشهور مع أنّها بمرأی منهم ومسمع لو لم یكن إجماعاً یشكل التمسّك لإثبات تلك القاعدة الأصولیة في الشبهة بعد جمیع تلك الإشكالات المتقدّمة.

سلّمنا ذلك كلّه، لكنّها معارضة بأخبار المنع الآتیة إن شاء الله تعالی المؤیّدة بمرجّحات عدیدة، فتأمّل في المقام، فإنّه بعد غیر منقّح الأطراف والله الهادي.

وعن الطائفة الثالثة، أمّا عن موثّقة سماعة:

فأوّلاً بأنّها معارضة مع مادلّ علی وجوب إخراج الخمس عن الحلال المختلط بالحرام من الأخبار المستفیضة المعتضدة بعمل الأصحاب من غیر خلاف فیه یعرف علی ما صرّح به بعضهم عند عدم العلم بصاحبه ولا

ص: 310

قدره كما لعلّه ظاهر سياق الروایة، وحینئذٍ فالواجبُ حَمْلُ هذه الروایة علی مادلّت علیه تلك الأخبار حَمْلَ المطلق علی المقیّد، كما هو مقتضی القاعدة.

ولو نوقش في ذلك بأنّ النسبة بینهما عموم من وجه

لاختصاص الموثّقة بحرام خاصّ، فبعد الإغماض عن دعوی القطع بعدم الفرق بإجماع مركب وغیره وإنّه ممّا أعرض عنه المشهور، فيوهن بذلك.

نجیب عنه بأنّه بعد المعارضة فالترجیح لتلك الأدلّة لعدّة من الأمور من الكثرة والتعدّد وعمل الأصحاب واعتضاده بالعقل وغیرها، مع أنّه بعد فرض خصوصیّته لهذا المورد من بین سائر الموارد یسقط الاستدلال بها علی قاعدة الحلّ في الشبهة المحصورة مطلقاً، فغایة الخروج عن قاعدة الاحتیاط في مورد خاصّ.

وثانیا بأنّ الظاهر من سياق الروایة نفي البأس عن الصدقة وصلة القرابة وماضاهاهما، المذكورة في صدر الروایة، فإنّ هذا هو محلّ كلام المعصوم (علیه السلام) في صدر الخبر ولم یعلم اختصاص مصرف الخمس في المال المختلط بما یعرف به الخمس المعهود، كما عن جماعة من التصریح بعدم اختصاصه ببني هاشم، فغایة ما تدلّ الروایة هو جواز صرف المال المختلط في وجوه البرّ من الصدقة وغیرها، وهو مطلب آخر لا دخل له بما نحن فیه لو اجتمع فیه شرائط الحجیّة، لجواز صرف الخمس حسب ما یقتضیه تلك الأدلّة المشار إلیها.

وذكر المحدّث البحراني: إنّه یحتمل ولعلّه الأقرب أنّ الإمام (علیه السلام) نظر

ص: 311

إلی ما صرفه [من] وجوه البرّ والخیرات وعرف بقرینة المقام وما استفاده من ذلك الكلام أنّه قد بلغ الخمس أو زاد علیه، فنفی البأس عن الباقي حینئذٍ ولاینافي ذلك قوله (علیه السلام) في صدر الخبر: «إنّ الخطیئة لاتكفّر الخطیئة»؛ لأنّ المفروض في صدره إنّ جملة ذلك المال حرام، ومتی كان كذلك، فالحكم الشرعي في مثله التصدّق به كلّا ً، كما تضمّنته الأخبار العدیدة، فیكون تصدّقه ببعضه لیأكل الباقي حلالاً بزعمه لیس في محلّه وأمّا إذا اختلط بالحلال، فالحكم فیه التصدّق بالخمس، فیحلّ له الباقي.

فحاصل كلامه (علیه السلام): إنّ ذلك وتصدّقه به مع كون المال كلّا ً حراما لا یفید حلّ الباقي منه.

نعم لو اختلط بالحلال أفاد تصدّقه منه حلّ الباقي إذا كان بمقدار الخمس، ویؤیّد ذلك فصل هذه الجملة عمّا تقدّم بقوله: «ثمّ قال: فإنّه یعطي إنّه فرض منه (علیه السلام) وإن لم یكن مال ذلك الرجل كذلك». إنتهی محصّل كلامه. (1)

ولا یخفی علیك بعد ما ذكره عن ظاهر الخبر جدّاً، كما یظهر بالتأمّل من عدّة جهات لا حاجة إلی شرحها، فتأمّل.

نعم في هذا الخبر إشکال من حیث تطبیقه علی القواعد المنصوصة المعمول علیها یتقوّی به التمسّك بها لإلغاء العلم الإجمالي وحلّیة المشتبه،

ص: 312


1- . انظر: الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية: ج2/ ص149.

ولعلّه الذي حمله علی ذلك التوجیه؛ وحمل بعض الأساطین (1) بعد ذهابه إلی امتناع جواز المخالفة القطعیة معترضاً علی من تمسّك به لتجویز المخالفة الاحتمالیة في المقام بأنّ ظاهره جواز المخالفة القطعیة، «فلابدّ إمّا من الأخذ به وتجویز المخالفة القطعیة، وإمّا من صرفه عن ظاهره، وحینئذٍ فحمله علی إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم علیه إمساك مقدار الحرام لیس بأولی من حمل الحرام علی حرام خاصّ یعذّر فیه الجاهل، كالربا بناء علی ماورد في عدّة أخبار (2) من حلیّة الربا الّذي أُخِذَ جهلاً ثمّ لم یعرف بعینه في المال المخلوط» (3)، إنتهی.

مع أنّ احتمال الحمل علی الربا غیر جارٍ في هذا الخبر، بل هو مخصوص بالمال الحرام من أجل حصوله بعمل بني أمیّه، کما صرّح به في صدر الخبر علی ما رأیته في جملة من الكتب؛ والظاهر أنّه لم یذهب إلی إثبات خصوصیة في هذا الحرام أحد من القوم في ما أعلم، فهذا التوجیه بعید جدّاً، بل لا یتحمّله اللفظ إلّا أن یحتمل الخصوصیة وهي أيضاً لا تُخْرِجُهُ عمّا نحن بصدده؛ غایة الأمر إنّه یكون الدلیل أخصّ من المدعی.

ص: 313


1- . وهو الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمة الله).
2- . وسائل الشيعة: ج12/ ص431/ ح2 و 3، الباب 5 من أبواب الربا [من الطبعة الإسلامية].
3- . فرائد الأصول: ج2/ ص217.

والإشكال الّذي أشرنا إليه هو: أنّ المال المحرّم المفروض في الروایة إمّا أن یكون صاحبه معلوماً، أو مجهولاً، أو أعمّ منهما، فإن حمل علی كونه مجهولاً لم یتمّ نفي الثواب علی التصدّق في صدره، بناء علی أنّه يتصدّق المال المتمیّز المجهول صاحبه؛ وإن كان معلوماً لم یصحّ الالتزام بإخراج الخمس أيضاً عند المشهور ظاهراً؛ فإنّ الظاهر أنّ مورد الخمس عندهم هو ما جهل صاحبه، فیكون من الشبهة المحصورة مع عدم مجيء هذه الأدلّة الحاكمة بإخراج الخمس ههنا ویكون بطلان الاحتمال الأوّل قرینة علی الثاني.

ویدفعه أنّ ظاهر (1) بعض تلك الأخبار مساوقة لهذا الخبر، فإن كان هناك مانع من إجماع ونحوه علی وجوب التخلّص عنه من صاحبه فهو مانع عن العمل بهذا الخبر، وإلّا فالمانع من العمل بإطلاق تلك الأخبار مع أنّ التصدّق المفروض في صدر الخبر ظاهره أنّه یتصدّق عن نفسه، ولعلّنا نلتزم بأنّ الصدقة المحكومة عند التمیّز والجهل لابدّ وأن یكون من المالك، فالمختار في الجواب هو الوجه الأوّل ثمّ الثاني المتقدّمان (2).

وأمّا عن صحیحة أبي بصیر الّتي تمسّك بها شارح المفاتیح (3) لحلّیة المشتبه، فیمكن الجواب عنه بأنّ المراد من الاختلاط إنّما هو الامتزاج،

ص: 314


1- . في المخطوطة: «إنّ الظاهر، إنّ ظاهر».
2- . في المخطوطة: «المتقدّمين».
3- . الرسائل الأصولية (رسالة أصالة البراءة)، للوحيد البهبهاني (رحمة الله)، ص 398 و 399؛ والفوائد الحائرية، ص248.

كخلط اللبن بالماء بحیث یتركّب المركّب منهما ویصیر شیئاً واحداً، وإمّا الاختلاط الحاصل من الِاجتماع المقرون بالِاشْتباه، وإمّا هو مطلق الاشتباه الّذي هو اختلاط ذهني؛ وحمل الروایة علی الوجه الأوّل مخالف للإجماع الظاهر والمنقول، بل هو خارج عن عنوان المسألة بالكلیّة، للعلم التفصیلي فیه باشتماله علی الحرام؛ والحمل علی الثاني وإن كان یترائی منه دلالتها علی ارتكاب المجموع، لكنّه عند التأمّل ممّا یحتمل فیه خلاف ذلك، فإنّ السرقة المعلومة إجمالاً في أموال السارق لا یصیر سبباً لحرمة شراء شيء ممّا یشكّ في كونها سرقة، لمكان حمل فعل المسلم علی الصحّة، كما سنبیّنه إن شاء الله تعالی، فیجوز شراء ما هو سرقة واقعاً من المسلم عند عدم العلم بكون المبیع مسروقا، وهذا غیر جواز شراء جمیع محتملات السرقة المعلوم عدم خروجها منها، فإنّ القدر المسلّم من مفهوم استثناء صورة الاختلاط عن النهي هو جواز شراء ما هو سرقة واقعا عند الجهل التفصیلي ونمنع دلالته علی شراء مجموع السرقة وغیرها بحیث یحصل منها مخالفة قطعیة للحكم.

وأظهر منه لو حملناه علی الوجه الثالث وهو مطلق الِاشتباه.

ویؤیّد ما ذكرنا أنّ حمل الروایة علی كون الاختلاط سبباً لحلّیّة التصرّف في مال المسروق منه علی إطلاقه الشامل لصورة تعیّن صاحبه وإمكان تشخیصه ممّا لا أظنّ أحداً یتفوّه به، حتّی إنّ المحدّث الكاشاني الذي يقول بحلّیة المشتبهین في ظاهر بعض كلماته، ذكر في «الوافي» - بعد نقل الخبر - ما صورته: بیان: الِاختلاط إنّما یتحقّق إذا تعذّر التمیّز، ثمّ إن

ص: 315

عرف صاحبها صالَحَهُ علیها وإلّا تصدّقت عنه. (1)

وأمّا [الجواب] عن روایة النوادر

فبأنّ غایة ما یسلّم من دلالتها إنّه یجوز الشراء عند عدم معرفة كون المبیع خیانة وسرقة، وهو كذلك لمكان حمل فعل المسلم علی الصحّة.

ودعوی شمول عدم المعرفة للعلم الإجمالي، فیجوز شراء كلّ من المحتملین المعلوم حرمة أحدهما، فدفعها بما مرّ نظیره في العمومات، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما یستفاد من هذین الخبرین من جواز الشراء من السلطان والعمّال عند العلم ممّا لا دخل له بما نحن فیه؛ لظهورها في ما علم تفصیلاً بخصوصه، أو الأعمّ منه ومن الإجمالي ولجوازه وجه مقرّر في محلّه لیس هنا محلّ ذكره.

وعن الطائفة الرابعة

فأوّلاً: بحمل الخبرین علی ما إذا شكّ في أصل وجود نسل لجدي الغنم (2) سوی ما علم بعینه، كما یشعر به التفصیل في الجواب بما عرف من نسله بعینه وما لم یعرف المشیر إلی وجود نسل معلوم في الغنم والشكّ في البواقي.

ص: 316


1- . انظر: الوافي: ج17/ ص290 والدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية: ج2/ ص150؛ مصابيح الظّلام في شرح مفاتيح الشرائع: ج1/ ص150 و ج5/ ص338.
2- . الکلمتان مخرومتان في المخطوطة.

وحاصله منع ظهورهما في خصوص صورة العلم بوجود نسل مردّد بین أمرین، أو أمور متباینة والتمسّك بإطلاق عدم المعرفة له قد سبق نظیر جوابه.

وثانیاً: بما ذكره المحدّث البحراني (1) في الخبر الأوّل من أنّ ظاهر تنظيره[7] لما لا یعرف من نسل ذلك الفحل بالجبن، یدلّ علی أنّ وجود نسله غیر متحقّق ولا معلوم في [جملة] الغنم، لاحتمال أنّه سرق أو بیع أو ذبح (2) أو نحو ذلك، فغایة الأمر حصول الاشتباه دون تحقّق الوقوع، فتأمّل.

وثالثاً: بما ذكره جَدِّي العلّامةُ طاب ثراه بحملها علی ما إذا كان هناك ید قاضیة بالحلّ، ولا شبهة - إذن - في ثبوت الحكم المذكور مع الانحصار أيضاً، وهو خارج عن محلّ الكلام (3). هذا محصّل كلامه رفع مقامه.

ولعلّه أراد بذلك أنّ العلم بوجود الحرام في ما في ید المسلم لا یوجب إلغاء تصرّفه في كلّ من أطراف الشبهة، فتحمل علی الصحیح بالنسبة إلی ما تصرّف فیه من بیع وهبة وإذن ونحوها؛ لأنّ الید سبب لإلغاء التكلیف المعلوم بالإجمال بحیث یجوز ارتكاب جمیع الأطراف لأجل الید، فإنّ الظاهر أنّ حال الید كحال أصالة الإباحة والبراءة والحلّ من حیث

ص: 317


1- . ذکره في الدرر النجفيّة: ج2/ ص154.
2- . وفي المصدر: «سرق أو ضلّ أو بيع».
3- . انظر: هداية المسترشدين (الطبعة القديمة): ص462.

سقوطها بالعلم الإجمالي وعدمه، ثمّ إنّ استناد الحلّ إلی الید قریب في الخبر الأوّل.

وأمّا الثاني، فحمل الحلّیة فیها لأجل الید مع عدم دلالتها علی كونها في ید الغیر غیر ظاهر.

وعن الطائفة الخامسة بأنّه لا یختصّ الدلیل علی حلّیة ما اشتبه المیّت من السمك في الماء بالحيّ حتّی یستفاد منه كون الحلّیة لأجل الاشتباه، بل یعمّ الصورتین، كما یؤیّدة تعلیل الحلّیة في صحیحة اللبن بعد السؤال عن الحظیرة من القصب [الّتي] تجعل في الماء، یدخل فیه الحِیْتان، فیموت بعضها فیها بأنّ تلك الخطیرة إنّما جعلت لیصطاد. وأظهر منه في الحلّ عند التمیّز صحیحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام)، وكذا موثّقة مسعدة بن صدقة وغیرها، وحینئذٍ فإمّا أن یعمل بظاهرها من الحكم بحلّ السمك المیّت في الحظیرة والشبكة - كما ذهب إليه جمع من الأصحاب - وإمّا أن يطرح مطلقاً، كما هو المشهور ظاهراً، أو یفصل بین المتمیّز وغیره؛ وعلی الأوّلین فلا دخل له بما نحن فیه، وعلی الثالث فهو حكم خاصّ مورده لا یتعدّاه في الجملة لبطلان القیاس.

وعن السادسة

باختصاصه بالرِّبا الذي دلّت الأخبار علی معذوریة الجاهل فیها، فإن اجتمعت شرائط الاعتبار في ما دلّ علی حلّیته مع الشبهة، عمل بها في مورده، وإلّا فالحكم فیه علی القواعد.

وعن السابعة

بما تقدّم الإشارة إليه من احتمال استناد الحلّ إلی تصرّف

ص: 318

المسلم ویده في خبر أبي بصیر وغیره.

وعن الثامنة

بأنّ الحكم بالحلّیة لأجل إخراج الخمس حكم تعبدي شرعي لا یدلّ علی جواز المخالفة القطعیة، بل لعلّ دلالته علی حرمتها أولی من العكس، نظراً إلی حال المال قبل الإخراج (1)، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في ما یمكن دفع دلالة الأخبار المترائی منها جواز طرح العلم الإجمالي مفصّلاً، نظراً إلی أنّه عمدة منشأ إشكال المسألة، لكنّ الحال فیها بعد لایخلو عن إشكال، فعلیك بالتأمّل في ذلك المجال والله الهادي.

وظهر ممّا قرّرنا هنا وفی المسلك الأوّل ما یمكن الاستناد إليه للقول بجواز المخالفة القطعیّة وما یمكن به الجواب عنها.

المسلك الثالث ما ذكره جماعة

وتقریره: إنّ البناء علی جواز المخالفة القطعیة علی ما یدّعیه الخصم بإطلاقه الشامل لصورة إمكان تعیین الحرام وغیره ولا بین أنواع الحرام، باطل بالضرورة من دین الإسلام في الجملة، بل وضرورة سائر الأدیان، إذ فتح هذا الباب یؤدّي إلی دفع العصمة من الأموال والفروج والدماء.

قال عمّي العلّامةُ طاب ثراه: إنّه یجوز علی هذا لمن كان له زوجة في دار أو بلد أن یطأ كل امْرَأَةٍ یصادفها فیها ما لم یعلم أنّها غیرها، ولمن فقد مالاً أن

ص: 319


1- . أو «قبل إخراج الخمس»، حسب ما قرأناه.

یأخذ كلّ ما یجده ممّا یحتمل أن یكون ماله ما لم یقم أمارة شرعیة علی خلافه، وأن یحلّ لواحد قتل جماعة بمجرّد وجود شخص مباح الدم بینهم.

وأمّا الفرق في ذلك بین الأموال والفروج والدماء - كما وقع من البعض - فَناشئٌ عن قصور النظر وقلّة التدبّر، فانّ الشارع كما یرید حفظ دماء المسلمین، كذلك یرید حفظ أعراضهم وأموالهم وإن كان الحكم في البعض آكد (1)، فإنّ ذلك لا یصلح فارقا لتحقّق مثله في الأموال أيضاً.

وبالجملة: ففساد ذلك أَجْلیٰ من أن یحتاج إلی البیان، إلّا أنّ فساد بعض فروعه ربّما یشتمل علی نوع خفاء في بادي النظر ومنه سری الوهم (2)، إنتهی.

وقال المحدّث البحراني (رحمة الله علیه) في مقام الاحتجاج للحرمة: إنّه یلزم علی ما ذكره هذا القائل من حلّ المال المختلط حلاله بحرامه مطلقا، سیّما علی ظاهر صحیحة أبي بصیر، فتح باب مفسدة في الدین وبیان حیلة للسارقین والغاصبین، فیسرق السارق ویغصب الغاصب ما یرید ثمّ یخلطه بماله، فیأكله حلالاً ویبیعه ویأكل ثمنه حلالاً وإنّما یجب علیه القیمة أو المثل في ما أخذه، فیملكه ویخلّط بماله؛ وهذا من قبيل ما ذهب إليه أبوحنیفة من أنّ الغاصب والسارق یملّكان ما أخذاه بتغییره عمّا كان علیه، کجعل الحنطة

ص: 320


1- . انظر: خزائن الأحكام: ج2/ ص183.
2- . انظر: الفصول (الطبعة الحجرية): ص362.

دقیقاً، وفي التزامه من الشناعة ما لا یخفی، فضلاً عن مخالفة أصول الدین والمذهب، ویأتي علی هذا القول أيضاً أنّه متی اشتبهت أجنبیة بزوجات الرجل بحیث لم تعرف من بينهم، حلّ له نكاحها في جملة الجمیع. وبالجملة: فمفسدة هذا القول أكثر من أن تذكر وأظهر من أن تُنْشَر (1). (2)

وربّما یقرّر الحجّة بوجه عامّ للجمیع بأن یقال: إنّه لو كان الشبهة سبباً للحكم بالحلّ، لزم إمكان التوصّل إلی كلّ حرام بوضع ما یشاركه في الصفة معه بحیث یشتبه، والتالي باطل جزماً للزوم لغویة جعل التلكیف حینئذٍ، فمن یرید شرب الخمر مثلاً یجعل معه شیئاً یشاركه في الصفة ویشربها وهكذا غیره.

والتحقیق إنّه لا یلزم من إنكار تنجیز العلم الإجمالي وإلحاق مورده بالشبهة البدویة من حیث القاعدة شیئاً ممّا ذكره، فالتمسّك بها لردّه غیر وجیه، وبه یفسد هذا الاحتجاج رأساً وذلك إنّ المشتبهین بالحرام قد یكون الأصل في كلّ منهما مع قطع النظر عن العلم الإجمالي هوالحرمة، كالدماء والفروج والأموال في الجملة علی المشهور ظاهراً، وقد یكون هو الحلّ؛ وعلی التقدیرین، فإمّا أن یكون ارتكاب الطرفین بقصد التوصّل إلی الحرام بأن یوقع الشبهة، ثمّ یرتكب لیصل به إلی الحرام، أو بأن قصد الحرام بعد

ص: 321


1- . وفي الأصل: «تنتشر».
2- . انظر: الدرر النجفية: ج2/ ص144.

اتّفاق وقوع الشبهة لا باختیاره، أو من دون قصد المكلّفِ التوصّل إلی الحرام رأساً؛ وعلی التقادیر إمّا أن یقوم من قبل الشارع دلیل شرعي من إجماع ونحوه فیه بعدم جواز الارتكاب، أو عرف من طریقة الشارع أنّه لا یرضی بوجود الفعل المحرّم في الخارج، أو لا یكون كذلك، فهذه جملة صُوَرِ المسألة ولیس في الالتزام بالحرمة في الجملة في شيء منها منافاة للقول بإباحة الشبهة المحصورة إلّا صورة واحدة، فانّ جهة الحرمة في غیره أمر خارج عن محطّ نظر الأصولي هنا، بل ذلك ممّا یقوّي القول المذكور لضعف الشهرة والإجماع المذكورین في المقام بقوّة احتمال كون نظرهم إلی سائر الأفراد.

وتوضیح ذلك إنّه لا یفید القول بإباحة المشتبهین بالمحصور من حیث هو المبحوث عنه هنا وإنّه كالشُّبْهَةِ البَدْوِیَّةِ في إِباحَةِ صُوَرٍ عَدِیْدَةٍ فِعْلاً بِحَیْثُ لا یُؤاخَذ المرْتَكِبُ فیها:

إحْداها: ما كان الأصل فیه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي هو الحرمة، فانّ غایة ما یمكن أن یدّعیه المجوّز مطلقا أن یلحقه بالشبهة البدویة وإنّه لا تأثیر للعلم الإجمالي في تنجیز التكلیف وإنّ وجوده كعدمه وانّه لا یسقط به الأصول المخالفة لمقتضی العلم الإجمالي.

وأمّا دعوی أنّه أسوء حالاً من الشبهة الِابتدائیة وأنّه لا یعمل به بالأصل المقتضي للتحریم مطلقاً، فممّا لا ینبغي الإصغاء إليه، كما هو ظاهر للخبیر بالقواعد، وحینئذٍ فلا مانع من جریان الأصول المحرّمة في مورد الشبهة واتّباع تلك الأصول ورفع الید عن أصالة الحلّ بها، لتقدّمها علیها

ص: 322

كالِابتدائیة.

ومن ذلك: الفروج والدماء، فإنّ الحلّ فیها مستند إلی سبب مبیح للوطي والقتل، فمتی شككنا في وجود السبب، كان أصالة عدمه في كلّ منهما حاكمة علی أصالة الإباحة فیهما مع كون العلم الإجمالي ملغی علی هذا القول؛ لأنّ احتمال الحلّ مُسَبَّب عن احتمال تحقّق السبب المبیح، وهو العقد في الوطي والأمر الموجب لإباحة الدم في الثاني من كفر أو غیره، ویكشف عنه عدم جواز القتل والوطي عند الشكّ الابتدائي وفی ما لا یعلم تنجّز التكلیف علی المكلّف كغیر المحصور وما لم یكن أحد الأطراف محلّاً لابتلاء المكلّف، أو خارجاً عن قدرته، فالنقض بهما كما وقع منهما كأنّه لیس علی ما ینبغي، وكذا الأموال علی وجه مبنيّ علی أنّ التصرّف في الأموال مشروط بإحراز السبب المبیح من ملك أو إذن ونحوهما، وتحقیقه موكول إلی الفقه.

ومنه اللحم المشتبه میتته بالمذكّی، فإنّ بناءهم علی الحكم بالحرمة عند عدم إحراز التذكیة.

ومنه ما لو علم بسبق عنوان الحرمة فیهما وتردّد الرافع بینهما، كالمتنجّسین الّذین یعلم إجمالاً بورود المطهّر علی أحدهما.

وَثانِیَتُما: ما إذا أوقع المكلّف الشبهة لیصل بها إلی الحرام، كمن قارن بین الخمر وما یُشْبِهُهُ في الصفة لیشرب الخمر في ضمنهما، فیتّجه فیه القول بالحرمة، إمّا بناء علی بطلان الحیل في الأحكام الشرعیة مطلقاً، أو في ما إذا كان في ترخیصه نقض لغرض الشارع من الحكم، كما ذكر في الزكوة

ص: 323

والخمس؛ ومن المبیّن أنّ تجویز الحیلة هنا مُنافٍ لغرض الشارع من الحكم في الجملة.

ومنه یظهر وجه النظر في كلام المحدّث المتقدّم، بل لو قلنا بجوازه مطلقاً أيضاً، لأنّه لیس حیلة أيضاً، لأنّه لم یتغیّر به عنوان المحرّم واقعاً، بل أوجد عنواناً عذریاً.

وَثالِثَتُها: ما إذا قصد التوصّل به من دون قصد أيضاً، فربّما یلتزم بحرمتها بناء علی حرمة ارتكاب المشتبه بالحرمة برجاء كونه حراماً، كمن یشرب ما یشكّ في خمریّته بدواً برجاء كونه خمراً لمكان قصد المكلّف بفعله الوقوع في الحرام، کحرمة مقدّمة الوجود المقصود به التوصّل إلی الحرام، وأدلّة البراءة مسوقة لبیان المشتبه من حیث هو، فلا تمنع من أن یعرض جهة مقبّحة محرّمة بحیث تستحقّ بارتكاب المشتبه العقاب لأجلها، والمراد من قصد المكلّف بالمشتبه الحرام أنَّهُ الفِعْلُ المسْتَنِدُ إلی رجاء الإصابة بحیث لو لم یرجح كونه خمراً مثلاً لما شربه، وحینئذٍ فیصدق علی مرید شرب الخمر عند ارتكاب الفعل علی تقدیر الإصابة إنّه شرب الخمر عمداً، فیكون تجریّاً علی تقدیر التخلّف، وهذا المقدار كافٍ في منع العقل من الوقوع فیه، مضافاً إلی ما في نفس هذا الفعل بالقصد المذكور من التجرّي علی الشارع وهتك حرمة الشرع والخروج عن حدّ العبودیة عند العقل والعقلاء علی التفصیل المتقدّم في مسألة التجرّي، والجهل هنا لا یخرجه عن الحرمة واقعاً علی تقدیر الإصابة وإنّما یعذّر بسببه الفاعل من حیث هو، فقصده شرب الخمر مثلاً

ص: 324

قصد حرام مقرون بفعل واقع علی طبقه وإن كان رجائيّاً لاجزمیّاً، إلّا أنّه نیّة مجرّدة حتّی یلتزم فیها بالعفو بمقتضی جملة من الأخبار، وكأنّه في بعض المحرّمات ممّا لا تأمّل فیه بملاحظة مذاق الشرع والعقل، ولو كان الظاهر من كلام بعض الأساطین تعمیم معذوريّة الجاهل فیه في مسألة التجرّي، وتفصیل المسألة موكول إلی محلّه.

ویؤیّد ما ذكر في المقام ملاحظة الشبهة غیر المحصورة، بناء علی إلغاء العلم الإجمالي فیه رأساً؛ فإنّ الظاهر صحّة الالتزام بحرمة ارتكاب المجموع بداعي الوصول إلی الحرام كما سیأتي ذكره إن شاء الله تعالی.

وَرابِعَتُها: ما إذا قام دَلِیْلٌ علی عدم إلغاء الشّارع للواقع فیه بإهماله عند الجهل بالكلّیة ولو كان هو معرفة تعلّق غرض الشّارع من النهي بعد صدرر الفعل من المكلّف، كما هو الحال في الدّماء ولو مع قطع النظر عن الأصل الموضوعي، ولعلّ شرب الخمر من هذا القبیل وكذا سائر ما قام الإجماع ونحوه علی عدم طرح العلم فیه.

فظهر ممّا قرّرنا لك الالتزام بحرمة الأصناف المتقدّمة [الّتي] لا ینافي البناء علی حلّیة الشبهة المحصورة مطلقاً علی الوجه المبحوث عنه، وبه یظهر أنّه لا ضرورة ولا عقل یبطل بهما كلام المجوّز.

المسلك الرابع: ما ذكره الفاضل النراقي

طاب ثراه في مجموع المشتبهین من حیث المجموع معلوم الحرمة وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع، فلا یجوز ارتكابهما وقریب منه التمسّك بأنّ ارتكابهما، مستلزم للعلم بارتكاب الحرام

ص: 325

وهو حرام، (1) وسیأتي تفصیل الکلام فیهما في المقام الثاني إن شاء الله تعالی تبعاً لبعض الأساطین، كتحقیق الحال في المسلك الخامس الّذي هو الأدلّة الشرعیة المدّعاة علی وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهین من الإجماع والأخبار والاستقراء، إلّا أنّ تحقّق الإجماع هنا أقرب منه فیه، بل الظاهر كونه محصّلاً في الجملة، لكنه بحیث یَصِحُّ به ما لیس القاعدة علی سبیل الكلّیة لا یخلو عن إشكال.

بقي شيء وهو أنّه هل یختصّ الحكم بعدم جواز المخالفة القطعیة بما تردّد العنوان الواحد بین أمرین، أو یعمّه وغیره وسیأتي تفصیل الكلام فیه وفي أقسامه وأحكامه من الجهة ومن وجوب الموافقة القطعیّة في التنبیهات إن شاء الله تعالی.

ص: 326


1- . انظر: الرسائل الفشاركية: ص98 ودروس في الرسائل: ج3/ ص 185-183.

المقام الثاني: في وجوب الموافقة القطعیة

اشارة

وظاهر المشهور (1) هنا الموافقة القطعیة وخالف فیه ممّن عدا من تقدّم ذكره في المقام الأوّل جماعة، فاكتفوا بالامتثال الاحتمالي. منهم الفاضل القمي (2) في بعض كلماته، والنراقي (3) طاب ثراهما، وربّما یحكی هنا قول آخر وهو القرعة (4)، فیحكم بالحلّ والحرمة علی حسب ما أخرجته القُرْعَةُ، لكنّه شاذّ قائلاً وضعیف دلیلاً.

واستدلّ للقول الأوّل بوجوه:

أحدها: ما ذكره بعض الأساطین وتقریره: إنّه بعد ما ثبت في المقام الأوّل تحقّق الحرمة الواقعیة في الأمر المردّد وشمول دلیله له ولم یكن هناك مانع [عقلي أو شرعي] عن تنجّز التكلیف به عقلاً وشرعاً، لزم بحكم العقل التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهین.

وبعبارة أخری: إنّ التكلیف بذلك الأمر المردّد إن لم یكن ثابتاً جازت

ص: 327


1- . انظر: مشارق الأحكام: ص381.
2- . انظر: القوانين: ج2/ ص25 من الطبعة الحجرية.
3- . انظر: مستند الشيعة: ج2/ ص391.
4- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص409 والرسائل الفشاركية: ص97.

المخالفة القطعیّة، والمفروض هنا التسالم علی حرمتها وإلّا وجب الاحتیاط بحكم العقل، أو یحتمل أن يکون ما يرتكبه من المشتبهین هو الحرام الواقعي یعاقب علیه؛ لأنّ المفروض ثبوت التكلیف بذلك الواقع، فلا یقبح العقاب علیه إذا اتّفق ارتكابه. (1)

ویقرب منه ما یقال في مقام الِاستدلال تارة بأنّ اجتناب الحرام واجب، وما لا یتمّ الواجب إلّا به فهو واجب، الموجّه بعدم صدق الامتثال والحكم بالبراءة إلّا بتركهما معا، أو بوجوب تحصیل العلم بأداء الواجب نظراً إلی أنّ الشغل الیقیني یستدعي البراءة الیقینیة.

وأخری من أنّه إمّا أن یحكم بحرمتهما معاً، أو بعدم حرمتهما معاً، أو بحرمة أحدهما دون الآخر؛ والثاني باطل بما دلّ علیه في المقام الأوّل، والثالث ترجیح بلا مرجّح حیث یجاب عن اعتراض عدم لزومه مع الحكم بالتخییر بأنّ التخییر عقلاً إنّما یكون عند تساوي جانبي الفعل والترك بحسب ترتّب المصلحة والمفسدة، فیحكم العقل به لذلك، وأمّا عند عدم التساوي وترتّب المفسدة علی أحد الجانبین وعدم ترتّبه علی الجانب الآخر، فلا یحكم به إلّا مع قیام دلیل علیه.

وربّما یعترض علی الاحتجاج هنا بحكم العقل بوجوه:

ص: 328


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص210 و 211؛ والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص393.

أحدها: ما تعرّض له بعض الأساطین (1) وإنّ أصالةَ الإباحَةِ في كلّ واحد من المشتبهین جاریة في نفسها ومعتبرة لولا المعارض، فغایة ما یلزم في المقام تعارض الأصلین، فيتخیّر في العمل في أحد المشتبهین ولا وجه لطرح كلیهما.

وأجاب (رحمة الله علیه) عنه بأنّ أصالة الحلّ غیر جاریة هنا بعد فرض كون الحرام الواقعي مكلّفاً بالاجتناب عنه منجّزاً علی ما هو مقتضی الخطاب بالاجتناب؛ لأنّ مقتضی العقل في الاشتغال اليقیني بترك الحرام الواقعي هو الاحتیاط والتحرّز عن كلا المشتبهین حتّی لا یقع في محذور فعل الحرام، وهو معنی المرسل: «اتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس» (2)، فلا یبقی مجال للإذن في أحدهما، وسیجيء في باب الاستصحاب أيضاً إنّ الحكم في تعارض كلّ أصلین إذا لم یكن أحدهما حاكماً علی الآخر هو التساقط لا التخییر. (3) إنتهی كلامه، رفع مقامه.

ویمكن تقریر الجواب هنا بوجوه:

منها: إنّ الترخیص في ترك الاجتناب عن شيء من المشتبهین غیر جائز عقلاً بعد فرض تنجّز التكلیف بالواقع المردّد بینهما، فإنّه بعد كون

ص: 329


1- . هو الشيخ الأنصاري.
2- . انظر: بحارالأنوار: ج77/ ص166/ ح192.
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص211 و 212.

العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الإطاعة بالإتیان بما علم لزومه الّذي هو الأمر الواقعي، لزم علی المكلّف بحكم العقل المستقلّ التحرّز عن كلّ منهما، فلابدّ من تقیید أدلّة الأصول بالعقل المذكور، ولو ادّعی جوازه بجعل البدل، فلا ینافي حكم العقل رجع إلی ما سیأتي الكلام فیه إن شاء الله تعالی من عدم استفادة البدلیة منه.

فالجواب هنا عن ظاهر أدلّة الإباحة كالجواب عنه في المقام المتقدّم من مزاحمة ظاهرها مع العقل المستقلّ، وهذا الجواب هو الظاهر من كلامه (قدس سره) هنا.

ومنها: ما يظهر من کلام جدّي العَلّامةِ طاب ثراه هنا من أنّ الفرد المردّد بين المشتبهين ثابت الحرمة، فيخصّص به قاعدة الإباحة، بل هو خارج عنها، فيکون القاعدة بالنسبة إليه کالعامّ المخصّص بالمجمل، فلا دليل علی حلّية شيءٍ منهما في الظاهر. (1)

ومنها: ما یستفاد من كلام المحقّق المتقدّم في مسألة تعارض الأصلین في الاستصحاب، حیث قال مستدلّاً علی تساقط الاستصحابین: لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّین یوجب خروجهما عن مدلول «لا تنقض»، لأنّ قوله (علیه السلام): «لا تنقض الیقین بالشك ولكن تنقضه بیقین» مثله یدلّ علی حرمة النقض بالشكّ وجوب النقض بالیقین، فإذا فرض الیقین

ص: 330


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص604 وطبعته القديمة: ص461.

بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبین، فلا یجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ، لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض الیقین بمثله، ولا إبقاء أحدهما المعیّن، لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غیر مرجّح؛ وأمّا أحدهما الممیّز، فلیس من أفراد العامّ، إذ لیس فرداً ثالثاً غیرالفردین المتشخّصین في الخارج، فإذا خرجا لم یبق شيء. (1)

ثمّ ذكر (رحمة الله علیه) أنّه قد تقدّم نظیر ذلك في الشبهة المحصورة، ثمّ أطال (رحمة الله علیه) الكلام في تحقیقه، فراجع.

وَمَرْجِعُ هذا الْوَجْهِ إلی خروج المشتبهین جَمِیْعاً عن تحت العامّ بنفسه، كما أنّ مرجع سابقه إلی خروج أحدهما لا بعینه ومرجع الأوّل إلی منافاته لمقتضی العقل المستقلّ؛ ولو كان ظاهر الدلیل إباحتهما معا، یصرف العلم إلی خصوص العلم التفصیلي، ولمّا كانت مسألة تعارض أصلي الإباحة هنا ممّا یُعْتنیٰ بشأنها ویهتّم بها ویلحق بها تعارض الاستصحابین، بل كلّ أصل عملي وقع التعارض بین فردیه إذا كان مماثلاً للمقام، فلا بأس ببسط الكلام في حاله في خصوص أصلي الإباحة بحیث یظهر به حال غیرها أيضاً.

فنقول - وبالله التوفیق -: أمّا التقریر الأوّل، فهو یتوقّف علی كون العلم الإجمالي عِلَّةً تامَّةً لوجوب الإطاعة بنفس ذلك الأمر الواقعي علی ما

ص: 331


1- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص 744 و 745؛ الفرائد (للمجمع): ج3/ ص410؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج8/ ص213 وكتباً أخر.

هو علیه، أو ببدله المجعول قبل الأمر بعد إحراز كونه بدلاً عنه علی تقدیر عدم الإصابة، وقد أشرنا سابقا إلی أنّ كون العلم الإجمالي علّة تامّة بحیث یمتنع الترخیص علی خلافه بالمخالفة القطعیة محلّ كلام مرّ ذكره، ولا ینحصر الدلیل فیه حتّی ینافي عنوان المقام الثاني، وبعد ثبوت ذلك تكون ذلك علّة للإتیان بالواقع، أو المجعول بحیث یستقلّ به العقل من دون تعلیق علی عدم الترخیص أيضاً غیر ظاهر، فانّ غایة ما ثبت منه حینئذٍ هو استقلاله بحرمة المخالفة القطعیّة، لأدائه إلی التناقض ونحوه وإنّه لابدّ هنا من نحو موافقة للتكلیف المعلوم إجمالاً علماً أو احتمالاً واستقلال العقل في ما یزید علی ذلك بامتناع ترخیص الآمر الحكیم غیر مسلّم.

فإن قلت: إنّ الْعِلْمَ الإجْمالِيَّ إن كان علّة لوجوب الإطاعة فهو یقتضي الإتیان بالمعلوم الذي هو الأمر المردّد ما لم یجعل له بدلاً، فانّ الإتیان بغیر الواقع لغو صرف في نظر العقل، وإلّا فقد الحرمة من أصله.

وبعبارة أخری: الواقع إن تنجّز لزم الإتیان به علی كلّ حال وإلّا لم یحرم ارتكاب شيءٍ منهما، ولیس التنجّز موضوعاً شرعیاً یتغیّر بجعل الشارع بنفسه وإنّما المجعول هو الأحكام الواقعیّة والبدلیة.

قلت: العلم الإجمالي لیس كالعلم التفصیلي في أن یكون لامتثاله وتركه مرتبة واحدة إمّا أن یستقلّ به العقل أو لا، بل له في ذلك مرتبتان:

إحْداهُما: ترك المخالفة القطعیة والامتثال الاحتمالي.

وَثانِیَتُهُما: الامتثال القطعي - حقیقة أو حكماً - بفعل ما جعله الشارع

ص: 332

بدلاً عنه، فتسلیم كون الفعل في الأوّل تنجیزیّا، لا یستلزم كونه كذلك في الثاني، فإنّ منشأ استحالة الترخیص في مخالفة العلم إن كان هو التناقض ونحوه، فهو لایجدي في المنع عن الإذن في أحدهما ولو من دون جعل بدل، وإن كان استقلال العقل بلزوم موافقته - كما یشهد به الوجدان وإنّه لیس وراءه شيء - فَاَلا نری من أنفسنا شیئاً منه في الإذن في أحدهما من دون تصرّف في الواقع بجعل بدل له ولا خطور في مثل ذلك في باله.

وأمّا إنّ التنجّز أمر عقلي لا مدخل للشرع فیه، فهو ممنوع؛ إذ لا ضیر في أن یلتزم بأنّ مراتب الإطاعة مختلفة:

فمنها: ما یستقلّ به بحیث یمنع من وقوع الترخیص في خلافه.

ومنها: ما یعلّق علی عدم ترخیص الشارع بتركها.

ومنها: ما لا یجب عنده الفعل أيضاً، كما في الشُّبَهات البَدْوِیَّةِ، حیث أنّ الإتیان بها بالاحتیاط نوع من إطاعة الأمر الواقعي لو تحقّق في نفس الأمر، هذا.

ویمكن أن یراد بالبدل هنا ما یعمّ البدل في مقام الإطاعة، بمعنی أنّ مقتضی القاعدة لمّا كان هو الإتیان بنفس الواقع وفرض الترخیص في أحدهما المعیّن أو المخیّر، كان الآخر المتروك بدلاً من ذلك وحاصله الاقتناع بالامتثال الاحتمالي من الامتثال القطعي، لكنّه لا ینفع في رفع أصل الإباحة، فتدبّر جداً.

ثمّ إنّه بعد ثبوت جمیع ذلك، فإسقاط الأصول بذلك أيضاً لا یخلو

ص: 333

عن إشكال، نظراً إلی إمكان التمسّك بإطلاق اللفظ وتقیید كلّ من الفردین بشرط الانفراد، وتوقّف جوازه علی جعل البدل في الواقع غیر ضائر، لأنّه محتمل الوجود واقعاً، فلا یدفع به ظاهر الدلیل، هذا؛

ولعلّ ما ذكره (قدس سره) هنا هو البناء علی أنّ المصالح والمفاسد الواقعیة عللاً تامّة لثبوت التكلیف علی حسبه وإنّه لا یجوز تفویته عن المكلّف بالترخیص علی ما یخالف المصلحة، وحینئذٍ فإذا فرض علم إجمالي لزم الإتیان بنفس ذلك الواقع، أو بما یتدارك به مفسدة الوقوع في مخالفة الواقع، وهذا هو معنی البدلیّة وهذا نظیر ما قرّره في مسألة إمكان التعبّد بالظنّ حال الانفتاح، فراجع.

وهذه المسألة لمّا كانت موضوعیةً لا ینسدّ فیها باب الواقع بحیث لا یمكن أو یتیسّر موافقة الواقع فیه، كان الترخیص هنا لترخیص هناك متوقّفاً علی وجود ما یتدارك مخالفة الواقع، فإذا وجد ذلك المقتضي جاز جعل البدل للحرام الواقعي في مقام التشریع أيضاً علی طبق نفس الأوصاف، وحینئذٍ فیتّجه ما ذكره (قدس سره) هناك إلّا من جهة الإشكال الأخیر وسیأتي ذكره إن شاء الله تعالی.

وأمّا التقریر الثاني، فیتّجه علی ظاهره [مِنْ] أنّ الفرد الخارج بالتخصّص أو التخصیص إن كان هو المحرّم الواقعي بعنوانه النفس الأمري، فبعد المساعدة علی ذلك یكون الفرد الآخر معلوم الإباحة من هذه الجهة، فهو أيضاً معلوم الحلّیة بهذا الاعتبار، فیكون خارجاً عن قاعدة

ص: 334

الإباحة، لأنّ مجراها ما لم یعلم الحلّ والحرمة، فلا یكون شيء منهما داخلا تحت القاعدة، كما هو مقتضی التقریر الثالث؛ وإن كان هو أحدهما الصادق علی كلّ منهما بمعنی حرمة ارتكابهما معاً، فهذا ممّا لا إجمال فیه رأساً حتّی یقتضي سقوط العامّ، إلّا أن یقال: إنّ المراد بالقاعدة هو مادلّ علی حلّیة كلّ ما لم یعلم حرمته بحیث یشمل بظاهره ما علم حلّیته وما شكّ فیها، فیصحّ ذلك علی الشق الأوّل ویبقی الإشكال حینئذٍ في إثبات خروج الواقع علی ما هو علیه بحیث لا یمكن دفعه بظاهر تلك الأدلّة وتحقیقه یظهر مما سبق ويأتي إن شاء الله تعالی.

وأمّا الثالث، فهو بظاهره مبنيّ علی شمول العلم الّذي هو غایة الحكم للعلم الإجمالي والتفصیلي معاً، وقد أسلفنا الكلام في عدم تمامیّته في شيء من أخبار الحلّ، بل الظاهر عدم ظهور أخبار البراءة أيضاً في ما لم یعلم ولو إجمالاً، كما یظهر ممّا قدّمنا علی أنّه لو بنینا علی تعمیمه للعلم الإجمالي ینفيه لزوم كون مجرّد وجود العلم الإجمالي مانعاً عن جریان الأصل، سواء لزم من العمل بالأصل فیهما مخالفة تكلیف منجّز وعدمه وهو ممّا اعترف (رحمة الله علیه) بفساده، كما سیظهر لك إن شاء الله تعالی في التنبیهات ومثله الكلام في الاستصحاب وغیرهما، مضافا إلی أنّه (قدس سره) اعترف بظهور بعض الروایات في العلم التفصیلي كما مرّ، فلا وجه للتمسّك بذلك التقریر هنا.

نعم یمكن أن یقال: إنّه لمّا كان المفروض في المقام عدم جریان أصالة الحلّ في كلّ منهما لما دلّ في المقام السابق علی حرمة المخالفة القطعیة، لزم

ص: 335

إخراج أحد المشتبهین عن تحت الإطلاق؛ ولمّا كان نسبة كلّ منهما إلی ذلك المانع كنسبة الآخر إليه ولم یكن هناك مرجّح یقتضي تعیین أحدهما في الخروج واقعاً ولا ظاهراً ولم یكن أحدهما المخیّر فرداً ثالثاً للعامّ حتّی یبقی تحت الإطلاق، لزم الحكم بخروج كلیهما عن تحت الإطلاق جزماً، ولیس المانع عن إجراء الأصلین هو قصور من طرف المكلّف بعجزه عن العمل بكلّ منهما - كما هو الحال في المتزاحمین حتّی یلتزم فیه بالتخییر - بل المانع هو عدم جواز جعل الشارع لهما، أو عدم موافقته للمصالح المستكشف ذلك من عدم الوقوع، فلا وجه هنا للحكم بالتخییر، بل قد تقرّر في محلّه أنّ الأصل في تعارض الطریقین أيضاً هو التوقّف لا التخییر، فهیهنا أولی بذلك.

لكنّه أيضاً لا یخلو عن إشكال؛ لأنّ الأمر دائر بین تخصیص العامّ بأطراف المشتبه بالمحصور وتقیید كلّ منهما بشرط الانفراد عن الآخر، لانّه لا مانع من الترخیص في ارتكاب كلّ منهما منفرداً عن الآخر، فإذا ارتكب أحدهما ارتفع شرط الإباحة عن الآخر، فیحرم ارتكابه والتقیید المذكور أولی من الأوّل، لكونه أقرب إلی ظاهر اللفظ منه.

وغایة ما یظهر لي في دفع الإشكال هو ما أشرنا إليه سابقاً من إمكان كون هذه الأدلّة ناظرةً إلی المعلوم بالإجمال وكونها مسوقة لبیان المشتبه، من حیث أنّه مشتبه لا من حیث توقّف البراءة من تكلیف معلوم إجمالاً علی التحرّز عنها، فلا یمكن حینئذٍ التمسّك بها هنا بوجه من الوجوه، فتدبّر.

ص: 336

وثانیها: إنّ المستفاد من قوله (علیه السلام): «كلّ شيء لك حلال» وغیره، بل مجموع أخبار الحلّ والبراءة هو إلغاء الشارع لمحتمل التحریم وجعله في حكم المتیقّن الحلّیة، ففي الشبهة البَدْوِیَّةِ لمّا كان الشكّ في التكلیف احتمال وجوده رأساً وحكم بحلّیته في جمیع موارده علی الاستغراق وفي ما نحن فیه لمّا كان الشكّ في المكلّف به بعد العلم بوجوده، فلا یستفاد منها إلغاء كلّ ما یحتمل حرمته بخصوصه، لانّه إلغاء العلم لا الشكّ، بل المستفاد منه إلغاء الشكّ في التعیین وإنّه هل هذا أو هذا وإنّ احتمال الخصوصیة في كلّ منهما ملغاة عند الشارع من أوّل الأمر، فهو حلال علی البدل، فیلزمه التخییر في العمل، فهاهنا شكّ واحد قائم بالمشتبهین وهو أنّ هذا حلال وذاك حرام، أو بالعكس، فإلغاءه ترخیص في ارتكاب أحدهما المقرون بترك الآخر، فإنّ إلغاء احتمال حرمة أحدهما یستلزم إعماله في الآخر، فالحكم بحلّ كلّ منهما حكم بحرمة الآخر وهو بدل عن الواقع، ولا مجال لأحد في إنكار جواز مثل ذلك عقلاً ولا شرعاً.

وبتقریر آخر: إنّ الحكم بإباحة المشتبه بالمحصور بعد فرض تنجّز التكلیف الواقعي - كما یدّعیه المستدلّ - يستلزم الإذن في البناء علی عدم كونه الحرام المردّد بینهما، وهو یستلزم الإذن في البناء علی أنّ المُحَرَّمَ هو الفرد الآخر، ضرورة لزوم الخروج عن عهدة ذلك التكلیف المنجّز، فكلّ منهما مباح منفرداً من أوّل الأمر بهذه الكیفیة، وبعد ارتكاب أحدهما یحرم الآخر للبناء علی كونه محرّماً بإذن الشارع.

ص: 337

وإن قلت: إنّ الإذن في كلّ منهما متوقّف علی رفع مانع العلم الإجمالي عمّا أذن فیه بجعل غیره بدلاً عن الواقع كما یدّعیه المستدلّ، فإذا ثبت بإطلاق الدلیل الإذن، ثبت به ما یستلزمه من جعل الآخر بَدَلاً عنه.

وأمّا ما قرع سمعك من عدم العبرة بالأصول المشتبه، فلیس هذا محلّه، للفرق البیّن بین لازم الحكم وشرطه وما یتوقّف علیه، وبین لازم متعلّق الأصل، والممنوع هو الثاني وما نحن فیه من قبیل الأوّل والدلیل الدالّ علی إطلاق الحكم اجتهادي یثبت به لوازمه وسائر ما یتوقّف علیه، كما حقّق ذلك في محلّه.

وذكر بعض الأساطین بعد بیان جملة ممّا ذكر في جوابه: أنّ الظاهر من الأخبار المذكورة، البناء علی حلّیة محتمل التحریم والرخصة فیه، لا وجوب البناء علی كونه هو الموضوع المحلّل، ولو سلّم، فظاهرها البناء علی كون كلّ مشتبه كذلك ولیس الأمر بالبناء في كون أحد المشتبهین هو الخلّ أمراً بالبناء علی كون المشتبه الآخر هو الخمر، فلیس [في الروايات] من البدلیة عین ولا أثر. (1)

أقول: إنّه (رحمة الله علیه) لمّا فرض الإشكال في خصوص أخبار الحلّ، أجاب (رحمة الله علیه) عن الإشكال بأنّ مدلولها هو الحكم بإباحة المشتبه بالخمر، لا أنّه هو الخلّ المردّد بین الإنائین وإثبات الثاني بالأوّل أصل مثبت، بل أردأ منه جدّاً.

ص: 338


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص213.

وثانیاً بأنّه لو كان كذلك لأفاد أنّ جمیع المشتبهات هو الحلال الواقعي بحسب البناء علی الاستغراق، فإذا امتنع ذلك في الطرفین تعیّن إخراجهما أو أحدهما عن تحت الدلیل وهذا أيضاً ینافي البدلیة، لا أنّه یثبتها، لانّه يستلزم جواز البناء علی كون الآخر هو المحرّم.

وثالثا بأنّه لو سُلّم إفادتها وجوب البناء علی كون المشتبهین هو الموضوع المحلّل، لا علی وجه الإستغراق، لكنّه لیس بناء علی كون الطرف الآخر هو المحرّم، فإنّ تلازم مجریها بحسب الواقع، إلّا أنّ التلازم بین أمرین في الواقع لا یوجب ثبوت أحدهما بكون الآخر موافقاً للأصل، كما تقرّر في مسألة عدم حجیّة الأصول المثبتة ویحتمل كونه من تتمّة الجواب، لا جوابا مستقلّاً؛ هذا.

ولا یذهب علیك إنّ ما ذكره (قدس سره) غیر حاسم لمادّة الإشكال بتمامها.

وتحقیق المقام

أنّ مُفاد أخبار الحلّ كما ذكره (قدس سره) لا یفید إلّا الحكم بإباحة مالم یعلم حرمته، إلّا أنّه الموضوع المحلّل، لكنّه بعد تعمیم الحكم للشكّ في المكلّف به، كان الحكم بإباحته فعلاً في معنی إلغاء العلم الإجمالي بالنسبة إليه، فحلّ أطراف الشبهة عبارة عن إلغاء احتمال كونه المكلّف به، خصوصاً بعد ملاحظة وجوب الخروج عن عهدة ذلك التكلیف المردّد، فلا یصحّ الحكم بحلّه إلّا بعد البناء علی أنّه لیس هو الفرد المحرّم، وهذا المقدار كافٍ هنا.

ثمّ بملاحظة العلم بوجود المحرّم بین طرفی الشبهة وتنجّز التكلیف

ص: 339

به وإنّه لابدّ من امتثاله شرعا كما یدّعیه الخصم، كان ذلك الحكم كاشفاً عن جعل الآخر بدلاً عنه فراراً عن بقاء التكلیف بلا امتثال، فهذا من قبیل دلالة المنطوق غیر الصریح، فانّه لولاه لقبح ما تضمّنه الكلام، فلا محیص حینئذٍ من الحكم بحلّ كلا المشتبهین علی هذا النحو، ولو نوقش في ما ذكره من دلالة الحلّ هنا علی الفرد المحرّم، اكتفینا بنفس الحكم بالحلّ بضمیمة المقدّمة الثانیة.

وأمّا أخبار البراءة وماضاهاها

فجهة الإشكال المذكور فیها أقوی، لإمكان دعوی استفادة إلغاء كلّ شكّ متعلّق بعمل المكلّف وإنّه لا مؤاخذة إلّا علی مخالفة المعلوم، فالشكّ في التكلیف ساقط رأساً وفي المكلّف به ملغی من حیث التعیین؛ لأنّ الشكّ لا یتصوّر أن یلغي كلا طرفیه، فإنّه إلغاء العلم وإنّما یلغي أحد طرفیه، فإلغاءه وعدم المؤاخذة علیه عبارة عن حلّ كلّ منهما علی البدل إلی آخر ما تقدّم؛ هذا.

ولكنّ الإنصاف - بعد الغمض عما قدّمنا في الجواب عن تلك الأدلّة في المقام الأوّل - إنّ استفادة مثل ذلك المطلب من تلك الأخبار ممّا یشكل الجزم به بحسب العرف، فدعوی ظهورها في ذلك لا تخلو عن شيء، ویظهر بعض تفصیل المقام ممّا قدّمناه هناك، فراجع وتأمّل والله الهادي.

وثالثها: إنّ مُفاد جُمْلَةٍ من أخبار الحلّ العامّة والأدلّة الخاصّة المتقدّمة في المقام الأوّل لمّا كان هو إباحة جمیع أطراف الشبهة المخالفة لما دلّ هناك علی عدم جواز المخالفة القطعیة، تعیّن حملها علی حلّیة كلّ منهما منفرداً عن

ص: 340

الآخر؛ أمّا في الأدلّة الخاصّة، فلأنّ ذلك أقرب المحتملات إلی ظاهر اللفظ، وأمّا العامّة الظاهرة في تعلیق الحكم علی عدم العلم التفصیلي كما سبق بیانه، فلدوران الأمر بین تقیید كلّ فرد من أفراد المشتبه بانفراده عن الآخر في مجموع زمان الحكم حتّی یحرم استعمال خصوص الفرد الآخر بعد ارتكاب الأوّل لفقدان شرطه الذي هو الانفراد وبین تخصیص عموم كلّ شيء بغیر أفراد الشبهة المحصورة، ولا ریب أنّ الأوّل أظهر من الثاني، فیتعیّن الحمل علیه، ولا شبهة في جواز مثل ذلك الترخیص، كما هو الحال في ما لو أجریٰ أصل في أحد الأطراف بعینه بحیث لا یعارض بالأصل في الآخر.

وقد یُقَرَّرُ المُدَّعیٰ بوجه آخر وهو أنّ أدلّة الإباحة والحلّ وإن كانت مُشْتَمِلةً لكلّ واحد من الفردین ومقتضی ذلك جواز ارتكابهما، إلّا أنّه إذا ارتكب أحدهما یحدث بالنسبة إلی الآخر عنوان المخالفة القطعیّة التي ثبت في المقام الأوّل حرمتها نظیر حرمة الجمع بین الأختین (1)، فإنّ كلّ واحد منهما قبل النكاح داخل في قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ (2) ومقتضاه جواز تزویج كلّ واحدة منهما، إلّا أنّه إذا اختار تزویج أحدهما، یُحْدِثُ بالنسبة إلی الآخر عنواناً آخَرَ وهو عنوان الجمع بین الأختین

ص: 341


1- . سورة النساء، الآية 23.
2- . توجد في المخطوطة ترجمة الآية الشريفة هکذا: «پس نکاح کنيد آن-[ی] را که او پاکيزه است از برای شما از زن ها» ولكن جعلنا الآية مكانها سورة النساء، الآية 3.

المفروض حُرْمَتُهُ، فیحرم نكاحها بعینها، فیتعیّن حینئذٍ أن یبقی الآخر بعد ارتكاب أحدهما محرّما ظاهریاً، فیكون بدلاً عن الحرام الواقعي.

أو یقرّر ذلك هنا بأنّ الإذن في أحدهما سبب لخروج الأفراد عن أفراد العام بعد ملاحظة وجوب امتثال الخطاب المنجّز بوجه ما، نظیر خروج الأصل المسبّبي عن تحت العامّ بدخول الأصل السببي وإن افترقا من حیث أنّ ذلك الأثر، إذ ثبت هناك بنفسه وهاهنا بملاحظة التكلیف المعلوم إجمالا.

وفي كلا التقریرین نظر ظاهر؛ أمّا الأوّل، فَلأنّ المخالفة القطعیّة لیست هي المحرّمة بنفسها وإنّما المحرّم المخالفة الواقعیة بعد تنجّز التكلیف به، فلیس هنا في نفس الجمع وإنّما هو في لزوم امتثال التكلیف المفروض، فلا یقاس بالمثال المذكور.

وأمّا الثاني، فلأنّ إجراء الأصل في إحْداهُما لیس دلیلاً علی ارتفاع الأصل في الأخری كما في المثال وإنّما الأصل في كلّ منهما لازم لملزوم هو جعل بدل للواقع غیره، فتأمّل؛ هذا تمام الكلام في أوّل الادلّة.

وثانیها: الإجماع علی وجوب الاحتیاط، كما عن المحقّق الكاظمی (رحمة الله علیه) في شرح الوافیة (1) ودعواه صریحا، ونسبه المحقّق البهبهاني في «فوائده» (2) إلی

ص: 342


1- . انظر: الوافي في شرح الوافية (المخطوط): ص210. ذکره الشيخ الأنصاري في الفرائد: ج2/ ص210.
2- . انظر: الفوائد الحائرية: ص248، راجع الفرائد: ج2/ ص210.

الأصحاب، وعن السیّد (رحمة الله علیه) في المدارك: «إنّه مقطوع به في كلام الأصحاب» (1)؛ وفي الجواهر - بعد ذكر كلام طویل في المسألة وفصل المقام -: إنّا نقول: إنّه من جمیع ما ذكرنا ومن النظر في كلام الأصحاب في هذه المسألة یعني الإنائین، وفي مسألة الثوبین اللّذین اشتبه الطاهر منهما بالآخر وفي محلّ السجود إذا اشتبه الطاهر منه في النجس، یكاد یقطع الناظر في كلامهم إنّه لا إشكال عندهم في جریان هذه القاعدة وعدم الالتفات لهذه العمومات (2). ثمّ ذكر بعض کلمات أصحابنا، إلی أن قال: والحاصل إنّا لم نسمع أحدا تأمّل في هذه القاعدة من أصحابنا، بل یفردونها [ويقرّرونها] ویذكرون الأخبار الماضیة [والخاصة] حیث تكون مؤیّدة لها وإن وقع لهم كلام في كیفیّة تقریرها، ولكنّهم مشتركون في الإضراب عن هذه العمومات في الطهارة والحلّ والحرمة (3). هذا.

وقد یستظهر الإجماع مِنْ مواضِعَ من كلمات القوم، كمسألة الإنائین حیث ادّعی فيه جماعة منهم الحلّي (4) (رحمة الله علیه) الذي لا یعمل بخبر الواحد،

ص: 343


1- . انظر: المدارك: ج1/ ص107 وراجع الفرائد: ج2/ ص210 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص392.
2- . انظر: جواهر الکلام في ثوبه الجديد: ج1/ ص249.
3- . انظر: نفس المصدر: ص250.
4- . انظر: السرائر: ج1/ ص85.

الإجماع ونفي الخلاف أو ماضاهاهما، وعن الشیخ (رحمة الله علیه) في «المبسوط» (1) والحلّي في «السرائر» (2)، والمحقّق في «المعتبر» (3) والعلّامة في «المختلف» (4) إنّهم أرسلوا المسألة إرسال المُسَلَّماتِ من غیر إشارة إلی الخلاف، مع أنّ بناء «المختلف» علی بیان المسائل الخلافیة، وغرضهم التنبیه علی فساد ما علیه بعض العامّة من وجوب التحرّي في تمیّز الطّاهر من النجس مطلقاً، أو في بعض الوجوه وكمسألة الإنائین المشتبه مغصوبهما بغیره حیث صرّح جماعة بإلحاقه بالمشتبه بالنجس (5) مع أنّ الظاهر خلوّه عن النصّ، وكمسألة جوائز السلطان حیث اعتبر الحلّي (6) (رحمة الله علیه) استهلاك الجائزة في جنب أمواله في الحلّیة.

وذكر الشَّهیدُ الثاني أنّ خروجه عن حكم المال المختلط بالحرام مطلقاً حتّی مع انحصار الشبهة إنّما هو بالنصّ (7)، إلی غیر ذلك، هذا.

ص: 344


1- . المبسوط: ج1/ ص 8 و 9.
2- . انظر: السرائر: ج1/ ص85.
3- . المعتبر في شرح المختصر: ج1/ ص54 و 103 و 104.
4- . مختلف الشيعة في أحکام الشريعة: ج1/ ص252.
5- . انظر: مدارك الأحکام: ج1/ ص109.
6- . انظر: السرائر: ج2/ ص203 و المکاسب (للمجمع): ج2/ ص182.
7- . انظر: مسالك الأفهام إلی تنقيح شرائع الاسلام: ج3/ ص141 والنصّ موجود في الوسائل: ج12/ ص156/ الباب 51.

والتحقیق إنّه لو بنینا علی حجّیة الإجماع المنقول في أمثال هذه المسائل الأصولیة المرتبط بالعقل في الجملة، أمكن الاعتماد علی تلك الإجماعات المعتضدة بظهور الشهرة المحصّلة والمحكیة وغیرهما، وإلّا فتحصیل الإجماع علی قاعدة الاحتیاط في مطلق الشبهة المحصورة متعسّر، بل متعذّر؛ مُضافاً إلی أصالة الطهارة، لا أصالة البراءة الّتي هي محلّ الكلام هنا، لأنّها لا تجري في العبادة عند الشبهة المصداقیة، فإنّ مسألة الإنائین مع ورود النصّ فیهما، فالحكم فیه بإطلاقه علی خلاف القاعدة، كما أشرنا إليه وسیأتي إن شاء الله تعالی؛ وكذا بعض ما ثبت بالخصوص، وأمّا سائر الموارد والفروع غیر المنصوصة فنحن نلتزم بالتزام المشهور بالقاعدة؛ وأمّا الإجماع فغیر ظاهر.

وبالجملة: فتحصیل الإجماع إن كان بالتصریح بالقاعدة، فالظاهر إنّ المسألة قلیلة الذِّكْرِ في كلام القدماء بعنوان كلّي، وأمّا المتأخرون فجملة من أعیانهم صرّحوا بعدمها، كما عن الأردبیلي (1) وصاحب المدارك (2) والمحدّث الكاشاني (3) والسبزواري (4) والمحقّق الخوانساري (5) والمحدّث المجلسي (6)

ص: 345


1- . انظر: مجمع الفائدة والبرهان: ج1/ ص281 وطبعته الجديدة: ج1/ ص84.
2- . انظر: مدارك الأحکام: ج1/ ص107 و ج3/ ص253.
3- . انظر: مفاتيح الشرائع: ج2/ ص224؛ المفتاح: ص681 والأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع: ج10/ ص104 وج11/ ص61.
4- . انظر: ذخيرة المعاد: ج1/ ص2؛ وکفاية الأحکام: ج1/ ص66.
5- . انظر: مشارق الشموس: ص 565 و 566.
6- . انظر: ملاذ الأخيار في شرح تهذيب الأخبار: ج2/ ص258 و 327.

والفاضل النراقي (1) ووالده (2) والمحقّق القمي (3) طاب ثراهم.

وأمّا استنباط الإجماع من الموارد الجزئیة، فهو یتوقّف علی تحصیل الإجماع في موارِدَ كَثِیْرَةٍ بحیث لا یحتمل اختصاصها (4) بتلك الموارد، ودعواه كما تری، فلا یثبت به المدّعی كلّا ً ولا بعضاً؛ إذ محلّ الكلام هنا في مقتضی القاعدة وإنّها البراءة أو الإحتیاط، ولا ینافي الأوّل ثبوت الاحتیاط في موارد خاصّة بإجماع ونحوه، كما لا ینافي الثاني ثبوت عكسه في الموارد الخاصّة كالربا ونحوه.

وثالثها: الأخبار، منها قوله (علیه السلام): «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» (5).

ومنها: المرسل: «أتركوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس» (6)،

ص: 346


1- . انظر: مستند الشيعة في أحکام الشريعة: ج5/ ص119.
2- . انظر: أنيس المجتهدين: ج1/ ص394.
3- . انظر: القوانين: ج3/ ص66، وج2/ ص25 (الطبعة الحجرية)؛ ورسائل الميرزا القمي: ج2/ ص805 وج1/ ص421.
4- . ولکن في المخطوطة: «اختصاصها عدم بتلك الموارد» ومکتوب علی کلمة «عدم» کذا.
5- . انظر: المستدرك: ج13/ ص68/ ح5؛ عوالي اللئالي: ج2/ ص132، و 236 وج3/ ص466؛ بحارالأنوار: ج2/ ص272 وج2/ ص144؛
6- . انظر: بحارالأنوار: ج77/ ص166/ ح192 وتهذيب الأحکام: ج9/ ص79. ذکرها الشيخ الأنصاري في الفرائد: ج2/ ص211 و 212.

والضعف منجبر بالشهرة والإجماع المنقول.

ومنها: روایة ضریس عن السمن والجبن في أرض المشركین؛ قال: «أما علمت إنّه قد خلطه الحرام، فلا تأكل وما لم تعلم، فكل» (1)، فإنّ الخلط یصدق مع الاشتباه.

ومنها: روایة ابن سنان (2) «كلّ شيء حلال حتّی یجیئك شاهدان أنّ فیه المیتة» (3)، فإنّه یصدق علی مجموع قطعات اللحم أنّ فیه المیتة.

ومنها: قوله (علیه السلام) في حدیث التثلیث: «وقع في المحرّمات وهلك من حیث لا یعلم» (4)، بناء علی أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام، فإن كان الحرام لم یتنجّز التكلیف به، فالهلاك المترتّب علیه منقصته الذاتیة.

وإن كان ما یتنجّز التكلیف به - كما في ما نحن فیه - كان المترتّب علیه هو العِقاب الأخروي وحیث أنّ دفع العقاب المحتمل واجب بحكم العقل، وجب الاجتناب عن كلّ مشتبه بالشبهة المحصورة، ولمّا كان رفع

ص: 347


1- . انظر: الوسائل: ج16/ ص403/ ح1.
2- . إنّ الراوي ابن سليمان.
3- . انظر: الکافي (دارالکتب الإسلامية): ج6/ ص339؛ ووسائل الشيعة: ج17/ ص91، ح2، بهذا اللفظ: «کّل شيء لك حلال حتی يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة».
4- . انظر: الوسائل: ج18/ ص114/ ح9.

الضرر غیر العقاب غیر لازمٍ إجماعاً، كان الِاجتناب عن الشبهة المجردة غیر واجب، بل مستحبا (1).

قال بعض الأساطین - بعد ذكر ما قلنا -: وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر معارضة لما یفرض من الدلیل علی جواز ارتكاب أحد المشتبهین مخیّراً وجعل الآخر بدلاً من الحرام الواقعي، فإنّ مثل هذا الدلیل - لو فرض وجوده - حاكم علی الأدلّة الدالّة علی الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي، لكنّه معارض بمثل خبر التثلیث وبالنبویین، بل مخصّص بهما لو فرض شموله للشبهة الابتدائیة، فیسلم تلك الأدلّة (2). إنتهی.

ومنها: أخبار التوقّف كقوله (علیه السلام): «الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام في الهلكة» (3)، وغیره ممّا ذكر في مبحث الشكّ في التكلیف والتقریب هنا أيضاً كما تقدّم.

ومنها: أخبار الِاحتیاط المذكورة هناك كقوله (علیه السلام): «وخذ الاحتیاط

ص: 348


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص220.
2- . انظر: نفس المصدر: ص221؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص 162-159.
3- . انظر: المحاسن: ج1/ ص225؛ الکافي (طبعة الاسلامية): ج1/ ص50؛ الکافي (دارالحديث): ج1/ ص123؛ روضة المتّقين: ج8/ ص313 وج12/ ص69 وج14/ ص504؛ الوسائل: ج20/ ص259 وج27/ ص119 و 155 و 158 و 159 و 171؛ مرآة العقول: ج1/ ص168 وکتباً أخر.

في جمیع أمورك ما تجد إليه سبیلاً» (1)، وقوله (علیه السلام): «دع ما یَرِیْبُكَ إلی ما لا یَرِیْبُكَ» (2) وغیرهما.

وقد یعترض علی الأوّل بأنّ الاجتماع ظاهر في الاجتماع الخارجي دون الاجتماع في الذهن بمعنی اجتماع الاحتمالین فیه، وحینئذ فالمراد بالاجتماع إمّا الخلط المزجي بینهما، أو الانضمامي باجتماعهما في مكان واحد أو زمان واحد مثلاً، والأوّل خارج عن محلّ الكلام، لأنّنا لا نعرف أحداً التزم بجواز ذلك، فإنّه بعد المزج معلوم الحرمة ولو باعتبار بعضه، والثاني لا یصیر منشأ للحكم بالحرمة قطعاً كما هو المشاهد في صورة العلم بهما تفصیلاً؛ واشتباه الفرد المحرّم حینئذ بالمحلّل لا ربط له بالِانضمام، فإنّه ثابت عند عدم الإنضمام أيضاً إذا كانا محلّین لابتلاء المكلّف، فالاستدلال لا یصحّ إلّا بعد حمل الاجتماع علی الاشتباه وهو بعید عن ظاهر اللفظ.

مع أنّه یحتمل في الخبر إرادة اجتماع العنوانین في المحلّ الواحد، ولا شبهة في الحكم حینئذٍ بالحرمة فعلاً إلّا علی جواز اجتماع الحكمین في وجه.

وعلی الثاني بأنّ البأس هنا إن كان هو العقاب المترتّب علی مخالفة

ص: 349


1- . انظر: الوسائل: ج2/ ص172؛ المستدرك: ج17/ ص322؛ موسوعة الفقه الاسلامي: ج6/ ص171 وکتباً أخر.
2- . انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: ج2/ ص286؛ الوسائل: ج27/ ص167 و 170 و 173؛ بحارالأنوار: ج80/ ص270؛ مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: ج11/ ص91 و ج12/ ص39 وکتباً أخر.

التكلیف المعلوم بالإجمال، فهو مصادرة؛ لأنّ الكلام بعد في تنجّزه بحیث یعاقب علی مخالفته كیف ما كان، فإنّ القدر المسلّم هنا تنجّزة بقدر حرمة المخالفة القطعیة التي لا تلزم بارتكاب بعض الأطراف، وإن كان هو المفسدة الواقعیة كان حاله كأخبار التثلیث ونحوه في ما یجاب عنها، وإن كان هو الحرام الفعلي كان مصادرة كالأوّل، وإن كان الحرام الواقعي، فهو ولو تمّ الاستدلال حینئذٍ بعد قصر مورده علی صورة العلم بوجود الحرام، إلّا أنّه غیر متعیّن، أو متعیّن الخلاف بحسب ظاهر اللفظ، فإنّ إطلاق ما فیه البأس علی ما فیه حرج شرعاً في الواقع، مخالف لظاهره بعد كونه شأنیاً صرفا؛ ویحتمل في الخبر إرادة تمرین النفس بترك المباحات الموافقة للشهوات النفسانیة حذراً عن وقوعها في محرّماتها.

وعلی الثالث بأنّ الخلط ظاهر في الِامتزاجِ بِحَیْثُ لا یَتَمَیَّزُ وهو خارج عمّا نحن فیه، ومجرّد الاشتباه لیس خلطاً بظاهره، ولو سلّم صدقه علی مجرّد الاشتباه بمادلّ علی الرخصة عند اختلاط الحرام بالحلال التي تقدّم ذكرها، فلابدّ من حمل هذا علی المزج، وتلك علی الاشتباه جمعاً بین الأخبار.

وعلی الرابع بأنَّ منطوقَ الخَبَرِ قاضٍ بحلّیة الغنمین المشتبه میتة أحدهما بالمذكّی وغیرهما ممّا یعدّ في العرف شیئان، فیصدق علی كلّ منهما أنّه شيء لم یجئه (1) شاهدان علی أنّ فیه المیتة، فلو فرض جواز فرض المشتبهین

ص: 350


1- . في المخطوطة: «لم يجيئه».

شیئاً واحداً فیه الميتة مطلقاً، أو في ما یلاحظ فیه العرف جهة ارتباط ووحدة كقطعات اللحم، وقع التعارض بین المنطوق والمفهوم مطلقاً علی الأوّل وبضمیمة الإجماع المركب، بل إطلاق المنطوق علی الثاني، فیسقط الاستدلال لو فرض التساوي مع أنّه ممنوع جداً، فإنّ ظهور الأوّل أقوی من إطلاق المفهوم جداً، فدلالته علی خلاف المدّعی أوضح، مضافاً إلی معارضته بأخبار اختلاط الحرام والحلال، بل هذا أيضاً منها.

وعلی الخامس مع اختصاصه بالشبهات الحكمیة بقرینة قوله (علیه السلام): «یردّ علمه إلی الله أو بغیره»، فما ذكره بعض الأخباریّين وتتمیمه في ما نحن فیه - أعني الموضوعیة بالإجماع المركّب - غیر ظاهر، لعدم مسلّمیة الإجماع علی التلازم مع إمكان القلب بإثبات الإباحة هنا بالعمومات وتتمیمه في الحكمیة بالإجماع المركّب، لكن ما ذكر لا ینفع في منع إطلاق بعض أخبارها بالنسبة إلی الشبهات الموضوعیة، فراجع وتأمّل.

وأخری بأنّه لا یجوز التمسّك بها لخروج الشبهات الموضوعیة البدویة عن تحتها بحدیث: «كلّ شيء» وأمثاله؛ ومن البیّن إنّها كما تدلّ علی خروجها، [کذلك] تدلّ علی خروج الشبهة المحصورة أيضاً علی ما سبق بیانه، والمناقشة في دلالتها وماشابهها لو تمّت أغنت عن التمسّك بها، لأنّ الغرض من خبر التثلیث معارضة تلك الأدلّة كما صرّح به (قدس سره)، وإلّا فلا إشكال في الاحتیاط علی القاعدة.

هذا لو علمنا بظاهره في الحكمیة كالأخباریة وإلّا كالأُصولیین،

ص: 351

فیحمل في مقابلة أدلّة البراءة علی الكراهة - كما هو الغالب في حمل موارد اجتماع النهي والترخیص كما صنعه بعضهم - أو علی الإرشاد كما صنعه آخر[ون]؛ وعلی الأوّل فسقوط الاستدلال ظاهر، وعلی الثاني فأدلّة الترخیص حاكمة علیه كما بیّن في محلّه، علی أنّ الإرشاد لا یختصّ بالإلزامي منه، فیجتمع مع الإرشاد التنزیهي وهو مسلّم.

ودعوی أنّه علی مذهب المجتهدین بحمل تلك الأخبار علی صور الشكّ في المكلّف به؛ لأنّ التقیید أولی من غیره؛ مدفوعة بانّه غیر متعیّن، بل لعلّه لا یتحمّله ظاهر أخبار التثلیث، فإنّ الأشیاء حینئذٍ علی إباحة أقسام لانقسام الشبهات إلی المؤمنین، وتعمیم الحلال البیّن لجمیع موارد الشكّ في التكلیف بعید؛ علی أنّه لا یلائم سیاق تلك الأخبار المسوقة لبیان تعارض النّصین مطلقا وغیره ممّا یشمل الشبهات الحكمیة بقسمیه. ودعوی كونها غالبا من قبیل الشبهة في المكلّف في ذلك الزمان للعلم الإجمالي بوجود الكثیر مع عدم الروايات علی ما یساوي المقدار المعلوم بعد تسلیمه، لا ینفع في تعیین محلّ الأخبار علیه.

وممّا ذكر ظهر وجه النظر في ما ذكره المحقّق المتقدّم خصوصا تخصیص أدلّة الإباحة بها مع إثبات الأوّل عدم تنجّز التكلیف بحیث یجب فیه الموافقة القطعیة، فمن أین یدّعي كون المقام ممّا لا یؤمن معه العقاب؟! فافهم.

وعلی الأخیرین بنحو ما ذكر في ما قبله، إلّا أنّ حمله علی خصوص

ص: 352

الشبهة في المكلّف هنا سالماً عن المانع المتقدّم، لكنّه لعدم تعیّنه وغلبة الشكّ في التكلیف بالنسبة إلیها غیر صالح لإثبات هذا الأصل العظیم، فتأمّل.

ورابعها: ما استند إلیه المحدّثُ البحرانيُّ طاب ثراه وتبعه جدّي العلّامة طاب ثراه وهو أنّ المستفاد من استقراء الأخبار الواردة في الموارد الجزئیة للشبهة المحصورة هو لزوم الاجتناب عنها مطلقا (1).

منها: مُوَثّقتا سَماعَةَ وَعَمّارٍ الوارِدَتانِ في إهراق الإنائین المشتبهین والتيمّم.

ومنها: حَسَنَةُ صَفْوانٍ الواردةُ في الثَّوْبَیْنِ: إذا أصاب أحدهما بول ولم يدر أیّهما هو وحضرت الصّلاة وخاف فوتها ولیس عنده ماء كیف یصنع؟! قال (علیه السلام): یصلّي فیهما. (2)

ومنها: الروایات المعمول بها عندهم، الواردة في وجوب غسل الثوب إذا اشتبه الموضع النجس منها، كصحیحتي زرارة ومحمّد بن مسلم وغیرهما، خصوصاً ما في بعضها من تعلیل وجوب غسل الثوب من

ص: 353


1- . انظر: الحدائق الناضرة في أحکام العترة الطاهرة: ج1/ ص503؛ هداية المسترشدين: ج3/ ص605 و 606 والفرائد (للمجمع): ج2/ ص221.
2- . انظر: من لا يحضره الفقيه: ج1/ ص249؛ تهذيب الأحکام: ج2/ ص225؛ وسائل الشيعة: ج3/ ص505؛ عوالي اللآلي: ج3/ ص55؛ جواهر الکلام في ثوبه الجديد: ج3/ ص440 وج4/ ص478 والحدائق الناضرة في أحکام العترة الطاهرة، ج1: ص504.

النّاحیة الّتي یعلم بإصابة بعضها للنجاسة بقوله: «حتّی یكون علی یقین من طهارته».

قال بَعْضُ الأساطین: فإنّ وجوبَ تحصیل الیقین بالطَّهارَةِ علی ما یُسْتفاد من التعلیل، یدلّ علی عدم جریان أصالة الطهارة بعد العلم الإجمالي بالنجاسة وهو الّذي بنینا علیه من وجوب الاحتیاط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فیها إلی أصالة الحلّ، فإنّه لو جری أصالة الطهارة وأصالة حلّ الطهارة والصّلاة في بعض المشتبهین، لم یكن للأحكام المذكورة وجه ولا للتعلیل في حكم الأخیر، لوجوب تحصیل الیقین بالطهارة بعد الیقین بالنجاسة. (1)

ومنها: ماورد في اللحم المختلط ذكیّه بمیتته، كما حكم بتحریمه الأصحاب من غیر خلاف، كحسنة الحلبي عن الصادق (علیه السلام): أنّه سُئِلَ عن رَجُلٍ كانت لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وكان یدري الذكيّ منها، فیعزله ویعزل المیتة، ثمّ إنّ المیتة والمذكّي اختلطا، فكیف یصنع؟ قال: یبیعه عمّن یستحلّ المیتة ویأكل ثمنه. (2)

ومنها: رِوایَتا ضریس وعبدالله بن سليمان المتقدّمتان، ويرد عليهما: أنَّ

ص: 354


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص222.
2- . انظر: الکافي (دارالحديث): ج12/ ص264؛ التهذيب: ج9/ ص47؛ وسائل الشيعة: ج17/ ص99 و ج24/ ص188.

الاستقراء المذكور لیس قطعیّاً والظنّيّ منه بعد فرض تسلیمه هنا وعدم المنع منه أيضاً نظراً إلی ندرة الموارد المنصوصة بالنسبة إلی غیرها، فحجّیته ممنوعة خصوصاً علی مَذاقِ المحدّث المستدلّ.

وما ذكره جدّي العلّامة طاب ثراه من أنّ الحكم الكلّي مستفاد من ملاحظة جمیع الأخبار، فهو مدلول عرفي لمجموع تلك الروایات، وكما أنّ المستفاد من ظاهر خبر واحد حجّة شرعاً، فكذا المستفاد من جمیعها بعد ضمّ بعضها إلی بعض لاندراجه إذن تحت المدالیل اللفظیة، فیدلّ علی جواز الاتّكال علیه مادلّ علی حجیة ظواهر الألفاظ (1) محلّ نظر؛ فإنّ القدر المسلّم هو الظواهر اللفظیة في استكشاف المراد منها والمراد من الألفاظ هنا معلومة وإنّما الشكّ في إلحاق الخارج بها، فهو بالقیاس أقرب منه إلی ظواهر الألفاظ ونظیر ذلك في الواحد هو القیاس القریب إلی الذهن، لا مادلّ علیه اللفظ بأصالة الحقیقة؛ وتحقیق المقام موكول إلی محلّه اللائق به.

وثانیا إنّ الأمثلة المتقدّمة خارجة كلّا أو جلّا عمّا نحن فیه.

أمّا مسألة الإنائین، فلأنّ الظاهر أنّ مقتضی القاعدة هناك وجوب الوضوء بهما معا في الجملة، كما إذا أمكن تطهیر الموضع بعد الأوّل بالثاني وقلنا بأنّ ما توارد فیه الحالان یرجع إلی الأصل مطلقاً، أو مع تطهیر البدن بعد الثاني بفاضل [الماء] الأوّل في وجه آخر ونحو ذلك، أو أمكن تطهیر

ص: 355


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص606 وطبعته القديمة: ص461.

المحلّ بماء آخر ونحوه، مع أنّ الظاهر إنّهم لا یلتزمون بها حینئذٍ مع أنّ إطلاق النصّ یدفع الأوّل، فلابدّ للمجوّز والنافي من إثبات خصوصیة في المورد تسقط باعتبارها القاعدة، علی أنّه لا یبعد منافاته للقاعدة من جهة أخری وهو ترك الوضوء المأمور به واقعاً وهو مخالفة قطعیّة، مضافاً إلی أنّ الساقط هنا هو أصالة الطهارة لا أصالة الإباحة؛ لأنّها لا تجري في الشبهة المصداقیة في العبادات جزماً؛ وما وقع في كلام بعض الأساطین المتقدّم وإن ذكر أصالة الحلّ والطهارة، لعلّه لیس علی ما ینبغي، إلّا أن یكون ناظراً إلی احتمال الحرمة الذاتیة وإنّها هي المانعة عن صحّة الصّلاة، لكنه خلاف مختاره هناك.

نَعَمْ لَوِ اسْتَفَدْنا مِنَ النصِّ - ولو بضمیمة كلمات الأصحاب - حُرْمَةَ جَمِیْعِ الاستعمالات كالشرب ونحوه، كان لما نحن فیه مثالاً لو لم یتيقّن احتمال الخصوصیة فیه بمخالفة حكمه الآخر للقاعدة.

وأمّا مسألة الثوبین، فلما مرّ من نظیره من أنّ الساقط هو أصالة الطهارة، دون البراءة والحلّ، وإنّ الشبهة وجوبیة صرفة ولا تلازم بین حكمها وحكمه التحریمي، مضافاً إلی ما ذكره بعض المعاصرین من أنّ قوله (علیه السلام): «یصلّي فیهما» لا یأبی عن إرادة الجواز في أیّهما شاء وإن كان خلاف متفاهم العرف، وذلك لو كان بعیداً في الجملة، فبملاحظة أنّ الظاهر منه - لو خلّي وطبعه - هو الصّلاة فیهما معا الّذي هو مخالفة قطعیة وخلاف الإجماع مرتفع البعد عنه.

ص: 356

وأمّا الثوب النجس بعضه

فالحكم بعدم جواز الدخول به في ما یشترط بالطهارة موافق للاستصحاب الحاكم علی أصالة الطهارة والحلّ، ولعلّه الوجه في سقوطهما لا العلم الإجمالي، فإنّ استصحاب نجاسة الثوب لأجل كونه متیقّنا بالنسبة إلی سابقه قاضٍ هنا بترتّب أحكامها، إلّا إذا علمنا بارتفاعها وبغَسل جمیع المحتملات؛ ولعلّه قوله (علیه السلام): «حتّی یكون علی یقین من طهارته»، ظاهر في ذلك نظیر أخبار الاستصحاب، لا ما ذكره (قدس سره)، فما ذكره (رحمة الله علیه) هنا - كما سبق نقله بتمامه - محلّ نظر ومنع.

وأمّا مسألة اشتباه المذكّی بالمیتة

فمع أنّ بیعهما معاً بظاهره یقتضي جواز المخالفة القطعیّة نظراً إلی عدم جواز بیع المیتة، فهو من أدلّة الإباحة في جمیع الاطراف، فیحتمل أن یكون تعیین البیع حینئذٍ لأجل التنزّه عن مفسدة أكل المیتة، یرد علیه - بعد قبول حمله علی إرادة بیع المذكّی الموجود بینهما ونحوه -: إنّه أيضاً خارج عمّا نحن فیه، لأنّ العلم الإجمالي عند الخصم ملغی حكمه، فیجري في مورده الأصل المقرّر عند الشكّ، وأصالة عدم التذكیة هنا كافٍ في إثبات الحرمة من دون حاجة إلی التشبّث بالعلم الإجمالي، فالأصول ساقطة هنا لأجلها ولو كانت الشبهة بَدْوِیَّةً، فَتَدَبّرْ.

ثمّ إنّه قد یعارض الاستقراء المذكور بالموارد الّتي دلّ الدلیل علی عدم وجوب الاحتیاط فیها، فیحكم بعدم وجوبه باستقرائها، كالأخبار الواردة في الربا المعمول بها في الجملة وأخبار إخراج الخمس في الحلال المختلط بالحرام المتقدّم، فإنّ غایة ما هناك حینئذٍ هو الامتثال الاحتمالي، والأخبار

ص: 357

الواردة في جواز الأخذ من أموال السارق وعاملي السلطان وغیرهما ممّا أشرنا إلی جملة منها، واحتمال كونه لأجل الید مدفوع بأنّ الید أيضاً معارض بمثله إلّا أن یعیّن كونه بحمل تصرّفه علی الصحّة إذا اختصّ بأحد الطرفین ومادلّ علی كفایة ثلث فرائض عن علم أنّ علیه فریضة من إحدی الخمس مع إلغاء الجهر والإخفات وقصد خصوص الفائت مع ثبوت الأوّل عند العلم التفصیلي قطعاً كاحتمال ثبوت الثاني.

واستدلّ للقول الثاني - وهو إبقاء ما یساوي الحرام - بوجهین:

أحدهما: الأخبار الدالّة علی حِلِّ ما لم یعلم حرمته، كما تقدّم کثير منها.

و[ثانيهما]: والمنع عن ارتكاب الجمیع إمّا لأنّه مستلزم للعلم بالحرام وهو حرام، أو لما ذكره بعضهم من أنّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم وجود استعمال ما لم یعلم حرمته والمجموع من حیث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه، وكذا كلّ منهما بشرط الاجتماع مع الآخر، فیجب اجتنابه وكلّ منهما بشرط الانفراد مجهول الحرمة، فیكون حلالاً وقد مرّ الكلام في الجزء الأوّل من الدلیل، لكن جملة ممّا ذكر مبنيّ علی تساوي نسبة الأدلّة إلی كلّ منهما، فلو تمّ ما ذكره المستدلّ هنا لإثبات حرمة خصوص الثاني، لَارْتَفَعَتْ تلك الاعتراضات.

وقد یجاب من الأوّل منهما بالمنع عن حرمة تحصیل العلم بالحرام جدّاً في حقّ نفسه وإن حرم تحصیل العلم بارتكاب الغیر للحرام في حقّ غیره

ص: 358

لأجل التجسّس المنهيّ عنه شرعاً، علی أنّ المراد بالحرام المدّعی حرمته تحصیل العلم به إمّا هو ذات الحرام - أعني الحرام الواقعي - أو ما یتّصف بها فعلاً - أعني الحرام الظاهري -.

وعلی الأوّل، فتحصیله معقول في نفسه، لكن عدم حرمته في الجملة واضح جدّاً، فإنّه لا ریب في جواز تفحّص المكلّف عن أعماله السابقة باستكشاف المحرّمات منها، كالتفكّر في صحّة عباداته السابقة المستلزمة مخالفتها للواقع بعد تحقّق العلم بترك الواجب منها، بل وفي جمیع أمور معاشه ومعاده السابقة، بل الظاهر إنّ رجحان ذلك ومحاسبة النفس فیه والدقّة في ذلك ثابت ولو لأجل تدارك ما خالف فیها من قضاء العبادات وردّ حقوق النّاس وغیرهما.

وعلی الثاني، فهو غیرمعقول إلّا من باب التذكرة، فإنّ الحرام لا یتّصف بالحرمة الفعلیّة إلّا بعد كونه معلوم الحرمة ولو كان ظاهریّاً عقلیّاً، ومن البدیهیّات عدم حرمة تذكّر المخالفة الواقعة من الإنسان، بل الظاهر أنّ رجحان تذكّر الذنوب السابقة ممّا لا ریب في رجحانه، كما لا یخفی علی من راجع أخبار محاسبة النفس خصوصاً لأجل التدارك بالتوبة وما یرتبط بها علی انّه غیر حاصل في المقام، سواء قلنا بكون العلم الإجمالي منجّزا أو لا، أو علی الأوّل یكون الأوّل أيضاً محرّماً كالثاني، فیبطل به المدّعی وعلی الثاني، فلا یحصل العلم بارتكاب حرام ظاهري لعدم ما ینجّزه.

وعن الثاني منهما - مضافاً إلی فساد ظاهر تقریره من حیث نسبة

ص: 359

الحرمة إلی المجموع وكذا مع الشرط مع وضوح أنّ المركّب من الحرام وغیره لیس بحرام، ضرورة أنّ المركّب من الداخل والخارج خارج وكذا مع الشرط، فإنّه لا یَصِحُّ الحكم بحرمة شيء بشرط الحرام، بل الحرام هو الشرط والمشروط مباح والتوسّع في النسبة الحرام إلیها مع فساد ذلك في الشرط، ضرورة عدم صحّة نسبة الحرام إلی شرب الماء بشرط شرب الخمر مثلا لا یتّجه به الدلیل، فإنّ العبرة بالحقیقة وهي في المقام لیس إلّا أنّ أحدهما حرام - بما ذكره بعض الأساطین من أنّه إذا كان حرمة المجموع باعتبار جزئه غیر المعیّن، فضمّ الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته؛ نعم له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق، فهي مقدّمة العلم بارتكاب الحرام لا لنفسه، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام؛ ومن ذلك یظهر فساد جعل الحرام كلّا ً منهما بشرط الاجتماع مع الآخر، فانّ حرمته ولو كانت معلومة، إلّا أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقّق لا لذات الحرام، فلا یحرم إیجاد الاجتماع إلّا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقّق ومرجعه إلی حرمة تحصیل العلم بالحرام. (1)

ویمكن توجیه الأوّل من الوجهین بِأنَّ العلم بارتكاب الحرام وإن لم

ص: 360


1- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص412؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص215؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص150؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص404 وکتباً أخر.

یكن محرّماً، إلّا أنّه محرّم هیهنا لأجل كونه شرطاً لحرمة مخالفة الشارع، فإنّ المحرّم هو المخالفة العلمیة دون الاحتمالیة، وشرط الحرام وجزؤه المتأخّرین محرّمان جزماً دون المشروط المقدّم والجزء الأوّل.

وتحقيق ذلك: أنّ حرمة المخالفة عقلاً - بحیث یصحّ ترتّب العقاب علی فعله كوجوب الإطاعة - مشروطة بالعلم بكون الفعل مخالفاً - إمّا إجمالا أو تفصیلا -.

فإن كان الثاني اعتبر حصول العلم حین الفعل الخاصّ، أو ما بحكمه كالناسي المستند نسيانه إلی عدم بنائه علی الإطاعة لو قلنا بعدم معذوریّته.

وإن كان الأوّل اعتبر مقارنة العلم لِارتِكابِ الأطراف، فیكون بارتكاب جمیعها عاصیاض عصیاناً واحداً بارتكاب المحرّم الواقعي، فالمحرّم عقلاً حینئذٍ ما یعلم معه حصول المخالفة الواقعیة لأجل تحقّق المخالفة العلمیة به، فإنّ العصیان لا یصدق إلّا بالمخالفة المعلومة ضرورة لا عبرة بوقوعها من دون علم كما في الشبهات البدویّة.

وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: إنّه كما لا یصدق الامتثال عرفاً بمجرّد كون الشيء مأموراً به واقعاً ما لم یعلم به، كذا لا یصدق عرفاً العصیان بمجرد مخالفة الواقع، بل متوقّف صدقه علی كونه معلوماً، فإذا اكتفینا بالعلم الإجمالي هنا كان المحرّم هو المجموع الذي یحصل به المشروط والشرط، فیكون الجزء الأخیر محرّماً ظاهریاً بعینه لما سبق.

وتوهّم أنّ مجرّد العلم الإجمالي كافٍ في كون ارتكاب ما یصادف

ص: 361

الواقع محرّماً معلوماً، مدفوع بأنّ العلم الإجمالي إنّما یكون علماً إذا نسب إلی الموضوع غیر المعیّن وأمّا إذا نسب إلی فرد بعینه، فلیس إلّا الشكّ.

ثمّ إنّ بعض الأساطین بعد أن قرّر توجیه الدلیل بما یقرب ممّا ذكر، وذكر (رحمة الله علیه) أنّ حاصله عدم وجوب المقدّمة العلمیة، ردّه تارة بإطباق العقلاء، بل العلماء - كما حكي - علی وجوب المقدّمة العلمیة، وأخری بأنّه إن أُرِیْدَ من حرمة المخالفة العلمیة حرمة المخالفة المعلومة حین المخالفة فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدریجاً؛ إذ لا یحصل معه مخالفة معلومة تفصیلاً؛ وإن أرید منها حرمة المخالفة الّتي تعلّق العلم بها ولو بعدها، فمرجعها إلی تحصیل العلم الذي یصیر به المخالفة معلومة وقد منع حرمتها جدّا. (1)

أقول: أمّا دعوی إجماع العلماء فقد سبق ما فیه، وأمّا العُقَلاءُ فَاتّفاقُهُمْ علی وجوب مقدّمة ترك الحرام غیر بیّن ولا مبیّن، بل لو ادّعی أحد أنّ القدر المسلّم في المحرّمات هو حرمة العصیان المتحقّق بفعل الحرام مع العلم به دون إطاعة الواقع علی ما هو علیه المتوقّف علی تركهما إذا لم یعلم تعلّق غرض الأمر بترك الفعل كیف ما اتّفق، لم یكن مستغرباً.

وما یترائی من التزام العبید المنقادین، للاحتیاط في موارد العلم

ص: 362


1- . انظر: الفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص411؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص215؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص149 وکتباً أخر.

الإجمالي، فیمكن استناده إلی أنّ الغالب في أوامر العقلاء هو كون الغرض منه الواقع كیف ما اتّفق، الكاشف عن عدم رضا الآمر بترك الموافقة القطعیة، فهو بمنزلة حكم ظاهري بوجوبه، لأنّه لا فرق في وجوب الإطاعة بین الأمر الانشائي والرضا والكراهة الباطنیین، بل المحبوبیة والمبغوضیة والتفصیل بین الأمرین محتمل وإحراز كون أوامر الشارع من هذا القبیل ممّا لم یتحقّقه.

ومن هنا أمكن التفصیل في وجوب الموافقة القطعیة وعدمه بین الشبهة التحریمیة والوجوبیة عكس ما علیه جلّ الأخباریّین في البدویة الحكمیة، نظراً إلی أنّ المعتبر عندهم في الأوامر أوّلاً وبالذات هو الإطاعة - وإن تبعه حرمة المعصیة - وفي النواهي حرمة المعصیة - وإن تبعه وجوب الإطاعة - فیمكن اعتبارهم من حیث الجهات التكلیفیة الصرفة التي هي عمدة محلّ الكلام هنا دون الجهات الواقعیة الثابتة في المكلّف به، لأجل أنّ الثواب والعقاب دائران مدار الأوّل الإطاعة العلمیّة هناك، فیجب الاحتیاط مقدّمة والمقدّمة العلمیة هنا، فیحرم المخالفة القطعیة فقط؛ وسرّ ذلك لو تمّ، فهو إنّ الأمر اقتضاء فعلي وإیجاد داعٍ للمأمور المنقاد، فیتبعه وجوب الإطاعة وإجابة نداء أمر الآمر بالنهوض للفعل، والنهي زجر ومنع عن المنع، فیتبعه حرمة ردّ الناهي بالفعل، إذ لم یستدع هنا، بل منع وزجر بالمعنی المقابل للاستدعاء.

وأمّا ما ذكروه من أنّه طلب الترك، فمؤوّل أو مطروح، بل هو أمر

ص: 363

ینشأ من المبغوضیة علی طبقها، كما أنّ الطلب شيء ینشأ من المحبوبیة علی حسبها، لا أنّ الاختلاف بنفس التعلّق وتحقیقه صحّة ووهناً في محلّه، والغرض من ذلك كلّه إنّا لم نحصّل من طریقة العقلاء بناء علی وجوب الموافقة القطعیّة هنا في أوامرهم العامّة الّتي لم نعلم تعلّق غرض المكلّف بالترك علی كلّ حال، فعلیك بالتأمّل لعلّك تحصّله منهم والله العالم.

وأمّا ما ذكر ثانیاً من التردید، ففیه نظر یظهر ممّا أشرنا إليه سابقاً من أنّ تقارن علم كلّ علم بحسبه، فمقارنة العلم التفصیلي بالعلم حین الفعل الخاصّ والعلم الإجمالي بتقارنه مع الأطراف الّتي انتزع منها موضوع العلم الإجمالي الّذي هو عنوان أحد الشيئين أو الأشیاء، فبعد تسلیم كون المحرّم هو المخالفة العلمیة دون الاحتمالیة وعمّمنا العلم للعلم الإجمالي، لم یبقَ إشكال في حرمة تحصیل الشرط الحاصل بارتكاب ما یساوي الحرام، وحینئذ فالأولی صرف كلامه (قدس سره) إلی غیر ما وجّهنا به الدلیل لئلّا یتّجه علیه الإشكال، فتأمّل جدّا.

وممّا ذكر ظهر وجه توجیه التقریر الثاني؛ فإنّ المجموعَ حینئذٍ حرامٌ عقلي نظراً إلی تحقّق المخالفة العلمیة به وكذا كلّ منهما بشرط الانضمام وبالتأمّل فیها كلّه یظهر ما یدفع به كلام المحقّق المجیب.

ثمّ إنّ لي في المقام تقریراً آخَرَ رُبَّما ینطبق علیه كلام المستدلّ بالوجه الثاني وهو إنّ العلم الإجمالي لاینجّز متعلّقه علی ما هو علیه في الواقع وإنّما ینجّزه بمقدار ما تعلّق به - أعني المقدار المعلوم - كما هو مقتضی كلام

ص: 364

المحقّق المتقدّم، ففي إجراء الأصل في ماهیّة العبادات، مع أنّه لو كان الأمر علی الوجه الأوّل لم یمكن إجراؤه فیها كما سنشرحه لك إن شاء الله تعالی.

وحینئذ فنقول: إنّ المعلوم حرمته هنا هو أحدهما المعیّن في الواقع، والمشكوك هنا هو تعیّنه في ضمن أيّ منهما، فإذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي لا ینجّز أزید من المقدار الّذي تعلّق العلم به دون المشكوك كان اللازم هنا الالتزام بترك أحدهما وجاز ارتكاب كلّ منهما علی التخییر، فالمحرّم حینئذٍ فعل أحدهما، فالإتیان بالمجموع عصیان لذلك الأمر دون أحدهما، والأصل إنّ العلم الإجمالي علم إذا أسند إلی أحدهما من دون تعیین وإذا أسند إلی الخارج كان شكّاً صِرْفاً، فكلا الطرفین باعتبار نفسهما مجریان للأصل، لكنّه لمّا لم یجز إلغاء العلم اللازم من فعل المحتملین تعیّن الالتزام بحرمة أحدهما المتعیّن في ما یساوي الحرام وجاز الباقي علی القاعدة وهذا المقدار هو الذي یسلّم من كون العلم منجعلاً وعدم جواز إلغاءه المؤدّي إلی التناقض بین الإذن والنَّهْي.

ویمكن دفعه بأنّ المعلوم هنا لیس هو مفهوم أحدهما حتّی یكون المفهوم معلوماً وكلّ من الخصوصيّتین مجهولاً، فیكفي بالإتیان بالأوّل دون الثاني علی إشكال فیه أيضاً، نظراً إلی العلم بأحد الخصوصيّتین وإنّما المعلوم هنا هو مصداق أحدهما - أعني أحدهما الملحوظ مرآة لملاحظة الفردین - فلا قدر مشترك هنا حتّی یحكم بلزومه ويلغی الزائد لأصالة البراءة.

نعم قد ذكرنا إمكان أدلّة البراءة بصورة الانفراد حتّی یثبت التخییر

ص: 365

في طرفي الشبهة، وهو أيضاً مما یمكن توجیه الدلیل به، ولعلّه أوجه ما یقال في تقریر هذا الوجه، فراجع وتأمّل.

وثانیهما: مادلّ بنفسه أو بضمیمة مادلّ علی وجوب امتثال التكلیف الواقعي في الجملة علی جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة، فیستكشف من ذلك كون بعض الأفراد بدلاً مجعولاً من الشارع وإنّه اكتفی بالإمتثال الاحتمالي فیها، وقد تقدّم ما حضرني منها في المقام الأوّل مع ما یمكن به الجواب عنه، فإنّ أكثر الأجوبة جاریة في هذا المقام أيضاً، وما فرض ظهوره في الجواز، فأكثرها ظاهرة في جواز جمیع المحتملات، وقد تقدّم الكلام في تعارض الأصلین وتساقطهما حینئذ، أو سائر ما یصلح الجواب عنه بعد ذلك ممّا شرحنا في أوّل هذا المقام.

وبالتأمّل في جمیع ما ذكرنا من أوّل المسألة إلی هنا، یظهر وجوه الجواب عن جميع تلك الأخبار وما یتّجه منها وما لا یتجّه، فراجع وتأمّل.

وأمّا القول بالقرعة الممكن في الكتب، فمستنده مضافاً إلی عمومات القرعة خصوصاً ما روي عن الجواد (علیه السلام) في جواب یحیی بن أكثم عن قطیع غنم نَزا الراعي علی واحدة منها، ثمّ أرسلها في الغنم، حیث قال (علیه السلام): «یقسّم الغنم نصفین، ثمّ يقرع بینهما، فكلّما وقع السهم علیه قسّم غیره قسمین وهكذا حتّی یبقی واحد وَنَجا الباقي» (1).

ص: 366


1- . انظر: تحف العقول: ص480؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص223 وبحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص165 و 166.

وقد یجاب عن العمومات بأنّها موهونة، مُضافاً إلی إعراض الأصحاب عنها بأنّها مخصّصة بالأكثر، فیسقط عن الحجیّة، وعن الخبر بالمنع من اعتبار سندها مضافاً إلی إعراض المشهور عنها، لكنّ الإنصاف هذا لو اعتبر الخبر سنداً، فلا بأس بالعمل به في خصوص مورده، بل یمكن التعدّي منه إلی كلّ مورد یكون في الاحتیاط ضرراً مالیاً یعتدّ بشأنها بضمیمة أدلّة نفي الضرر وعمومات القرعة؛ وتحقیق المسألة خارج عمّا نحن بصدده، إذ الغرض هنا بیان حال الأصل في الشبهة المحصورة وإنّه [هل هي] البراءة أو الاحتیاط، وأمّا رفع الشك بالقُرْعَةِ، فهو أمر خارج، بل هو تسلیم لوجوب الإحتیاط لو عمل بوجوبه، وإلّا فلا ینطبق إلّا علی البراءة، فافهم.

وینبغي التنبیه علی أمور

اشارة

وهي ما بین ما یتعلّق ببعض تفاصیل عنوان المسألة، وبین ما یتعلّق بشرائط وجوب الاحتیاط مفهوماً ومصداقاً، وبین ما یتعلّق بكیفیة وجوب الاحتیاط وحقیقته، وبین ما یتعلّق بمقدار وجوب الاحتیاط بحسب اختصاصه بخصوص بعض الأحكام، أو شموله لجمیع الآثار وبین ما یتفرّع علی القولین:

الأوّل
اشارة

إنّ التكلیف المعلوم بالإجماع بعد كونه في المقام هو خصوص

ص: 367

التكلیف التحریمي إمّا أن یكون مُتعلِّقُهُ وَمَوْضُوْعُهُ الكُلِّیّان مَعْلُوْمَيْنِ (1) نَوْعاً وإن تردّد المصداق، كالخمر المردّد بین الإنائین، حیث أنّ الموضوع الّذي هو الخمر ومتعلّق التحریم الّذي هو الشرب والاستعمال معلومات نوعاً.

وإمّا أن یكونا معاً غیر معلومین كذلك، كما إذا تردّد الأمر بین أن یكون هذه المرأة أجنبیة فیحرم وطیها، أو یكون هذه الاناء خمراً فیحرم شربها، أو یكون الأوّل معلوم النوع دون الثاني، كما إذا علمنا [بأنّ] ماء أحد الإنائین نجس أو مغصوب، فیكون [حُکْمُ] حرمة شرب أحدهما معلوماً متردّداً بحسب نوع المتعلّق، أو یكون عكس الأوّل، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الأمرین من المسجد الّذي لا یمكن مباشرة البدن له أو الإناء، حیث أنّ النجس هنا معلوم، لكنّ المحكوم علیه مردّد بین الاستعمال أو إبقاء النجاسة في المسجد مثلاً.

وقد يتردّد بعض الفروع بین قسمین منها أو أقسام، كما إذا تردّد الأمر بین أن یكون النجس هو الماء المحرّم شربه أو اللباس المحرّم معه الصّلاة، حیث یصحّ أن یندرج كلاهما تحت قوله: «اجتنب عن النجس».

وعلی كلّ حال، فهل یعمّ وجوب الاحتیاط جمیع الصور المتقدّمة، أو

ص: 368


1- . في المخطوطة: معلومان.

یختصّ ببعضها؟ صرّح بعض الأساطین (1) بالتعمیم، وذكر المحدّث البحراني (رحمة الله علیه) متعرضاً علی صاحب «المدارك» في تأيید ما قوّاه من عدم وجوب الاحتیاط بأنّ المستفاد من قواعد الأصحاب إنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم یمنع من استعماله:

أوّلاً: انّه من باب الشبهة غير المحصورة.

وثانیاً: أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهیّة واحدة والجزئیّات الّتي تحویها حقیقة واحدة إذا اشتبه طاهرها بنجسها، وحلالها بحرامها، فیفرق فیها بین المحصور وغیر المحصور ممّا تضمّنه تلك الأخبار، لا وقوع الاشتباه كیف اتّفق (2). انتهی.

وهذان الوجهان بظاهرهما مَحَلّا نظرٍ ظاهر؛ فانّ ما ذكره أوّلاً من جعل تردّد النجس بین الإناء وخارجه كما تری، والظاهر إنّهم لا یخصّون الجواز بما إذا خرج عن حدّ الحصر، ولعلّه أراد بالمحصور معنی غیر ما هو المعروف، كما یشیر إليه ما نسب إليه ممّا یستفاد منه أنّ الْعِبْرَةَ في المحصور بأن تَكُوْنَ أفراد الِاشتباه أموراً معلوماً معیّنة بشخصها، وفي غیر المحصور

ص: 369


1- . هو الشيخ الأنصاري.
2- . ذکره الشيخ الأنصاري في فرائده: ج2/ ص225 و 226 نقلاً عن الحدائق، فراجع الحدائق الناضرة: ج1/ ص517و أيضاً الفرائد (للمجمع): ج2/ ص416؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص168 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص418 و....

أن لا تكون كذلك، وسنشیر إلی حاله في محلّه إن شاء الله تعالی، مع أنّ الظاهر أنّ حكمهم بالاِحتیاط وهذا المعنی المذكور بینهما عموم من وجه، فإنّ الظاهر حكمهم بوجوب الاجتناب عن ما إذا وقع نجاسة في أحد أجزاء ثوب واحد، أو ثوبین، وعدمه في ما لو تردّد بین الإناء والخارج المعیّن.

وما ذكره مانعاً من اشتراط اتّحاد الحقیقة بظاهرها ممّا لا ضابطة له، فإنّ الماء والخارج المفروض ما تحویهما حقیقة واحدة إن أرید منه الأعمّ من الجنس البعید، وإذا أرید الجنس القریب، فلنفرض الخارج مضافاً، أو شبهه، أو حیواناً مع كون النجس هو بدن الإنسان مثلا، مع أنّ الظاهر عدم التزامهم بالاحتیاط هنا؛ وإن أرید الحقیقة النوعیة فیلزمه لزوم الاجتناب عن ثوبه الصوفي مثلا إذا تَرَدَّدَتِ النَّجاسةُ بینه وبین ظهر الغنم مثلاً وعدمه في مثل إنائي الخلّ العنبي والتمري المصاب أحدهما، أو الماء المطلق والمضاف ذاتاً، أو المضافین؛ والمعهود من طریقتهم - كما صرّح به بعض - عدم الالتزام في مثل الأوّل والالتزام به في الثاني.

وبالجملة: فوحدة الحقیقة هنا لا نجد لها ضابطاً ینطبق علیه كلامهم ولا ما یساعده أدلّة المسألة، بل ولم نحصّل المعنی المقصود منه، إلّا أن یحمل علی أنّ مراده من وحدة الماهیّة عناوین متعلّقات الأحكام التحریمیة، كالمأكول أو المشروب والمسجود علیه مع وحدة عنوان الموضوع، فینطبق علی خصوص القسم الأوّل من الأقسام الأربعة، وحینئذٍ فما ذكره لا یخلو عن وجه.

ص: 370

وربّما یقال: إنّ المعتبر في المقام هو وجود قدر جامع عرفي وعقلائي بحیث یصحّ باعتباره إطلاق الشكّ في المكلّف به علیه، فإنّه إنّما یكون إذا كان متعلّق العلم شیئاً له تعیّن ما عندهم حتّی یصحّ الحكم بكونه شكّا في التعیّن.

واستدلّ بعض الأساطین (1) للتعمیم في حرمة المخالفة القطعیة: بأنّه لا فرق عقلاً وعرفاً في مخالفة نواهي الشارع بین العلم التفصیلي بخصوص ما خالفه، وبین العلم الإجمالي بمخالفة أحد النهیین، واستشهد لذلك بما إذا علمنا تفصیلاً بحرمة مایع مخصوص مردّد بین دخوله تحت عنوان مال الغیر، أو تحت النجس، فكما لا یعذّر في المخالفة لجهله التفصیلي بالتكلیف، كذا حال من ارتكب النظر إلی المرأة وشرب المایع في المثال.

والحاصل: إنّ النواهي الشرعیّة بعد الاطّلاع علیها بمنزلة نهي واحد عن عدّة أمور، فكما لا یجتمع الإذن في الطرفین مع النهي عن أحدهما هناك، كذا لا یجتمع مع ثبوت النهي عن عدّة الأمور هنا.

وفي وجوب الموافقة القطعیة بعدم جریان أدلّة البراءة النقلیّة بخروج أحدهما لما تقدّم واستواء نسبته إلی كلّ منهما وإبقاء الواحد لا بعینه لیس من أفراد العام، كما تقدّم نظیره، والعقلیة لعدم استقلاله بقبح المؤاخذة، بل

ص: 371


1- . هو الشيخ الأنصاري.

الظاهر استقلال العقل بعد عدم القبح بوجوب [دفع] رفع (1) الضرر - أعني العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما (2) - فالظاهر الملازمة هنا بین المقامین. انتهی ملخّصاً.

وقد تُبْنیٰ المسألة علی أنّ متعلّق الأحكام [هل] هو الأفرادُ أو الطبائِعُ؟ فإن قلنا بالأوّل كان الحكم كما ذكره (قدس سره)، فإنّ العناوین حینئذٍ مرآة لملاحظة نفس الأفراد ویكون كلّ نهي حینئذ منحلّا ً إلی نواهي متعدّدة بتعدّد الأفراد، فلا فرق حینئذٍ بین وحدة العنوان وتعدّده؛ لأنّ المعلوم في جمیع المقامات هو ثبوت أحد النهیین الخاصّین في الواقع، ووحدة المرآة وتعدّدها ممّا لا یصلح فارقاً للحكم بالاحتیاط وعدمه؛ وأیضاً فإنّه علی هذا یكون كلّ واحد من الخطابین نهیاً عن فرد من أفراد العنوان الّتي هي الذوات الخارجیة، فیعلم المكلّف حینئذٍ بثبوت أحد النهیین الخاصّین في حقّ المكلّف، فیجب امتثاله كما في الشبهة الحكمیة.

وأمّا إذا قلنا بالثاني وإنّ الأفراد الخارجیة لیست متعلّقة للأمر والنهي، فیَصِحُّ منع ذلك بأنّ العنوان الذي تعلّق النهي به لمّا لم یكن محرزاً في المقام بالفعل بمجرّد العلم بالخطاب لا یحكم بوجوب الاجتناب، بل لابدّ منه من ضمّ العلم بالصغری بأن یقال: «هذا خمر وكلّ خمر یجب

ص: 372


1- . في المصدر: «دفع».
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص227 و 228.

الاجتناب عنه»؛ ومن البیّن إنّ الخطاب في المقام غیر معلوم وإن كان معلوماً إلّا أنّ متعلّق الخطاب غیرمعلوم.

ودعوی أنّ متعلّق الأحكام وإن كان هو الطبائع، لكن ننتزع منها خطابات جزئیة عقلیة أو شرعیة متعلّقة بالجزئیات الخارجیة، فیكون كالأوّل، مدفوعة بأنّ انتزاع تلك الخطابات الجزئیة فرع تنجّز الخطاب بذلك العنوان، والكلام بعد في تنجّزه لعدم العلم بذلك العنوان الذي هو الصغری لحكم العقل؛ وفي ذلك البناء نظر، أو بعد المساعدة علی ما ذكر في مراد القائل بتعلّقه بالأفراد والطبایع إنّ الطبیعة المأخوذة علی وجه اللابشرط، أو بشرط شيء موجود بوجود جمیع أفرادها مطلقا، أو مع الشرط، فلا یعقل ثبوت شيء للطبیعة وعدم عروضه لفرد منه.

فإن أُرِیْدَ من أنّ عدم العلم مانع عن ذلك إنّه یمنع من انطباق الكلّي علی فرده بأن یعرضه ما عرض للكلّي بعد كونه شاملاً له، فهو محال.

وإن أرید منه تقییده بصورة العلم، فهو مع فساده جار في الأوّل أيضاً؛ لأنّ الحكم علی الأفراد المعلومة غیر صادق علی غیرها كما في المقام.

وإن ارید إنّ مدلول الخطاب هو الشأني وتنجّزه منوط بالعلم المفقود هنا، توجّه علیه النقض بالصورة الأولی، فثبت من ذلك أنّ الخطاب إن كان مطلقاً، تولّد منه الخطاب الجزئي علی حسبه من حیث الفعلیة والشأنیّة جزماً، فیجري ما ذكر علی الأوّل وإن كان مقیّداً بالعلم امتنع لشموله للمقام علی الأوّل أيضاً، فافهم.

ص: 373

وربّما تُبْنیٰ المسألة

علی أمر آخر، وهو إنّه إن قلنا بكفایة العلم بالكبری في حكم العقل بوجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة مع الحكم هنا بوجوب الاجتناب؛ لأنّ المفروض هنا وجود العلم به وإن لم یكن الصغری معلومة؛ وخروج الشبهات عن الحكم العقلي الفعلي حینئذٍ مع وجود العلم بالكبری إنّما هو لأجل أنّ للعقل في إمكانه صُوَراً (1) عُذْرِیَّةً یستقلّ في مواردها بالمعذوریة كما بیّن في محلّه، أو لأجل أنّ الشارع حكم فیها بالبراءة، أو لكون وجوده مدفوعاً بأصالة عدمه، فعدم وجوب الاحتیاط لأجل الحكم بعدم وجود موضوعه ظاهراً، وشيء من ذلك لا یجري في ما نحن فیه؛ لأنّ العقل لا یستقلّ بمعذوریّة العبد لأجل ثبوت الواقعة بالعلم الإجمالي، فیتنجّز به التكلیف الواقعي المردّد ویسقط به الأصول علی ماذكره (قدس سره).

وأمّا لو قلنا بتوقّف حكم العقل بذلك علی العلم بالصغری أيضاً، فالمتّجه الحكم بالبراءة لعدم العلم هنا بصغری شيء من الخطابین وقد أشرنا إلی أنّ العلم شكّ صرف إذا نسب إلی خصوص الطرفین أو الأطراف، فبعد اعتبار إحراز الصغری في تنجّز التكلیف - ولو بالإجمال - لم یعقل هنا إیجاب الاحتیاط.

ودعوی أنّ الصغری هنا بالنسبة إلی خصوص التكالیف الأوّلیّة وإن

ص: 374


1- . في المخطوطة: «صور».

لم تكن معلومة بالنظر إلی مادلّ من العقل والشرع علی وجوب الانتهاء عند النهي، كقوله تعالی: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (1) وغیر ذلك، فیقال حینئذٍ: إنّ أحدهما منهيّ عنه لما نشأ منه العلم الإجمالي وكلّ منهيّ عنه یجب الانتهاء عنه، مدفوعة بأنّ الظاهر إنّ تلك الأوامر إرشادیة صرفة، كأوامر الإطاعة ونحوها، فهي مسوقة علی طبق حكم العقل مقرّرة له، وحینئذٍ فهو موقوفة علی تنجّز الخطاب علی المكلّف؛ إذ لا یجب الإطاعة عند عدم تنجّزه علیه، فإنّ جعل الصغری هو النهي المنجّز توجّه المنع علیه، فإنّ الكلام بعد فیه وإلّا لم یتفرّع علیه الكبری، فهو أشبه شيء بالدور أو هو بعینه، فافهم.

ویمكن توجیه الاحتیاط

علیه أيضاً بما أشار إليه بعض الأساطین (رحمة الله علیه) في الكلام المتقدّم إنّ النواهي بمنزلة نهي واحد عن عدّة أمور (2)، بأن یقال: أحد الأمرین من وَطْي المَرْأةِ أو شرب المائِعِ من تلك الأمور وكلّ تلك الأمور منهيّ عنه، إلّا أن یقال: إنّ هذا التنزیل ممّا لا دلیل علیه بعد توقّف كلّ خطاب شرعي إلی إحراز الصغری، فتأمّل.

هذا کلّه بناء علی المسلك الأوّل في الشبهة المحصورة وهو دعوی

ص: 375


1- . سورة الحشر، الآیة 7. آن چه را که او آورد شما را رسول، پس بگیرید او را و آن چه را نهی کرد [باز ایستید]. الآیة جعلنا نصّ الآية بدله في المتن.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص228.

الامتناع، كما ذكره المستدلّ، ولو سلّم ذلك هناك أمكن منعه هنا نظرا إلی أنّ مع تعدّد الخطاب یبقی بالنسبة إلی كلّ واحد منهما امتثال احتمالي، فهو بالنسبة إلی كلّ منهما كالشبهات البدویة.

وبالجملة: فلو ساعدنا علی استحالة الترخیص فیها هناك، فلا نجد من أنفسنا شیئاً منه هنا.

وأمّا علی المسلك الثاني، فهو كما عرفت مبنيّ علی الجواب من الأخبار، والأجوبة هناك مختلفة:

فمنها: ما لا یأتي هنا، كدعوی وقوع التعارض بین المنطوق والمفهوم وَأنّ أحدهما شيء معلوم حرمته بعینه، فإنّ قوله: «كلّ شيء فیه حلال وحرام فهو لك حلال حتّی تعرف الحرام منه بعینه» كالصریح في أنّ ما لا یعلم الحرام من النوع فهو حلال، ولا یجوز تعمیمه للمردّد بین الأنواع، بل وفي نحو: «كلّ شيء لك حلال»، فإنّ العرف لو ساعد علی كون أحدهما شیئاً معلوم الحرمة هناك، فلا یساعد هنا علی كون أحد الأمرین من الشرب والوطي بشيء علم حرمته قطعاً، وكدعوی الانصراف إلی غیر مورد الشبهة، فإنّه لا وجه له هنا ولو سلّم هناك.

ومنها: ما یأتي هنا أيضاً كأكثر أجوبة الأخبار الماضیة أو كلّها.

وأمّا عمدة الجواب عن الأخبار

العامّة الّتي تدلّ علی (1) المنع من كونها

ص: 376


1- . هکذا قرأناه علی السیاق.

مسوقة لإلغاء العلم الإجمالي، فلا ینافي عروض مانع المقدّمیة لامتثال المعلوم بالإجمال، فهي بظاهرها آتٍ هنا أيضاً.

ویمكن منعه

مضافاً إلی تَأَیُّدِهِ في المقام بما لا یجري هنا إنّ المانع هنا بالنسبة إلی كلّ خطاب، إنّما هو الشكّ دون الیقین، بخلافه هنالك، وذلك لأنّ الموجود هنا بالنسبة إلی كلّ نوع من الأنواع وجهة من الجهات لیس إلّا الشكّ ومدلول الخبر نفي ما یعیّنه عن الحكم بالحلیّة، ولیس أحدهما معروضاً للتكلیف بنفسه حتّی یجب مقدّمته بالعرض، بل هو منتزع من اقتران الشكّین بعلم إجمالي، فإلغاؤهما إلغاء لذي المقدّمة؛ وهناك لمّا كان أحدهما معروضاً للتكلیف المعلوم؛ إذ لاینافي الإبهام الظاهري في الموضوع وتعلّق التكلیف به، أمكن دعوی كونه جهة أخری غیر مسوقة لأجلها الكلام، فتأمّل.

وأمّا علی التمسّك بسائر مادلّ علی الوجوب، كالإجماع والاستقراء ولزوم المفاسد، فالظاهر عدم شمول شيء لما نحن فیه ولا أقلّ من الشكّ في شمولها لما نحن فیه ممّا تعدّد فیه الخطاب متعلّقاً أو موضوعاً، وهو كاف في الحكم بالبراءة والحلّ، فلعلّ القول بعدم وجوب الاحتیاط لا یخلو عن قوّة.

بقي هنا (1) سؤال [آخر] أشار إليه المحقّق المتقدّم هنا وفي ذیل المقام الأوّل، وهو الاستشهاد بعدم لزوم إحراز خصوص العنوان بما إذا علم

ص: 377


1- . في المخطوطة: «عنها».

حرمة شيء متردّد عنوانه بین عنوانین أو عناوین متعدّدة من المحرمات، فإنّه لا إشكال في وجوب الاجتناب عنه، فلو كان إحراز الصغری شرطاً لم یصحّ الحكم فیه بذلك.

وأجیب عنه تارة بالالتزام بالموجب، وثانیاً بأنّ حرمته من جهة كون شرب هذا الإناء بنفسه سبباً وعلّة تامّة للحرام وسبب الحرام حرام من دون فرق بین كون المسبّب معلوماً بالإجمال أو بالتفصیل، بخلاف الإنائین، فإنّ شرب كلّ منهما لیس سبباً للحرام، بل بعد ارتكابهما یعلم وجوب وجود سبب الحرام.

وفي كلا الوجهین نظر ظاهر، فإنّ الأوّل یكاد یكون مصادرة لحكم العقل والعقلاء، والثاني مع فساد جعل الفرد سبباً للكلّي كما قرّر في محلّه، إنّ الإشكال جارٍ في نفس المسبّب حینئذٍ، فإنّ المسبّب بعد عدم تنجّزه علی المكلّف، فهو غیر محرّم فعلاً، فلم یحرم سببه فعلاً، وكیف یزید الفرع علی الأصل.

فالأولی في الجواب أن یقال في دفعه: إنّ ذلك لأجل لزوم المخالفة دفعة للعلم الإجمالي بوجود أحد العنوانین، فهو كامتزاج الحلال بالحرام وارتكاب المجموع الّذي لا إشكال ظاهراً في حرمته ولو عند القائلین بالبراءة في الشكّ في المكلّف به. وتنجّز التكلیف هنا مع كون التردّد من جهة واحدة لا تقضي بتنجّزه مع تعدّد جهة الإجمال موضوعاً وحكماً كما في ما نحن فیه، فإنّ غایة ما علم من الاكتفاء بالعلم الإجمالي في التنجّز إنّما هو

ص: 378

ما كان بعض ما في أحد الطرفین وأمّا مع إجمال الطرفین، وعدم تعیّن شيء منهما، فلا نری في حكم العقل والعقلاء منعا صریحاً من عدم الإباحة، بل هو إلی الشكّ البدوي أقرب منه إلی العلم، فافهم.

وبالتأمّل في ذلك یظهر منشأ وجه التفصیل المتقدّم وهو اعتبار الجهة الجامعة، كما لا یخفی علی المتأمّل في ما ذكر وجهه وتحقیق حاله.

الثاني من تلك الأمور

إنّ وجوب الاجتناب عن المشتبهین هل هو بمعنی لزوم الاحتراز عنه حذراً عن الوقوع في الحرام، فلا مؤاخذة إلّا علی تقدير الوقوع فیه، أو لا، بل یستحقّ العقاب علی الفعل المشتبه مطلقا؟

وجهان، وتحقیق حاله موكول إلی مسألة التجرّي وتنبیهات الشكّ في التكلیف التحریمي، فإنّ الظاهر أنّ مناط المسألة واحد في المقامین وهو مع ذلك ممّا لا أری فیه ثمرة مهمّة.

الثالث
اشارة

إنّه لا إشكال في أنّ مجرّد العلم الإجمالي لا ینفع في الحكم بوجوب الاحتیاط، بل یشترط أن یكون المعلوم منجّزاً علی المكلّف علی كلّ حال، بأن یتولّد من التكلیف الكلّي علی جمیع تقادیر محتملات الشبهة، خطاب تفصیلي یستدعي الامتثال، فالعلم به هو مناط وجوب الاحتیاط، لا مجرّد العلم بالموضوع مع استتباعه له، وإلّا فمقتضی القاعدة فیه هو البراءة، سواء كان ذلك لأجل عدم تأثیر المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف لأجل وجود مثله أو ضدّه أو غیرهما فیه بحیث لا یتأثّر منه، كما لو علم بوقوع قطرة في أحد إنائین أحدهما بول، أو متنجّس بالبول، أو كرّ

ص: 379

لا ینفعل بالملاقاة، أو لأجل عدم استجماع بعض الأطراف شرائط التكلیف، أو تنجّزه كأن لا یكون فعله مقدوراً للمكلّف بوجه من الوجوه، أو یكون تركه كذلك، كما سنشیر إليه إن شاء الله تعالی، أو لأجل عدم كون بعض الأطراف معروضاً للتكلیف، بخلاف غیره، كما إذا علمت (1) الزوجة بطلاق الزوج لها، أو لضرّتها ونحو ذلك.

ووجهه: إنّ هذه الصُّوَرَ تَرْجِعُ إلی الشكّ في التكلیف؛ إذ بعد عدم وجود التكلیف الفعلي علی بعض التقادیر یكون التكلیف المنجّز محتملاً لا معلوماً، فتشمله مادلّ علی البراءة عنده.

وأیضاً إذا لم یكن كذلك، فلا یجري الأصل في ما لا یتنجّز التكلیف به، لأنّه أصل عملي یجري في ما یحتاج فیه إلی العمل وهو احتمال التكلیف المنجّز دون مقتضی التكلیف في الجملة، أو ما لا یتنجّز، فیكون الأصل في الطرف الآخر سلیماً عن المعارض، فیعمل به؛ ولو قلنا باحتیاج الترخیص هنا أيضاً إلی جعل البدل مع بطلانه عند التحقیق هنا، فإنّه یثبت بإذن الشارع ما یتوقّف علیه الإذن الّذي هو جعله، علی أنّه أجنبيّ عن حال المكلّف، فإنّ ما یتوقّف علیه فعل الشارع لاحاجة للمكلّف به وإنّما حاجته إلی ارتکابه إمْكانُهُ وترخیصه الثابت هنا بالإطلاق. وهذا كلّه علی القول بوجوب الإحتیاط نقلاً، وإلّا فالأمر أوضح، فإنّ القدر المتیقّن من سائر

ص: 380


1- . في المخطوطة: «علم».

الأدلّة هو غیرما نحن فیه، سیّما مع قیام بعض الأدلّة علی الجواز في بعض موارد المسألة من سیرة ونحوها.

وهذه القاعدة في الجملة ممّا لا إشكال فیها وإنّما الإشكال یقع في جملة من الصور موضوعاً، أو حكماً لخصوصیّة في مورده، فلنذكر جملة منها بحیث یظهر منه حال غیرها، فإنّه من المطالب المهمّة.

منها: ما لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض المحتملات بعینه، أو لابعینه، كما سنذكره في التنبیه الآتي إن شاء الله تعالی تبعاً لبعض الأساطین.

ومنها: إنّه لو كان أحد طرفی الشبهة محرّماً بعنوان وعلم إجمالا بعروض عنوان غیره علی أحدهما مردّداً، كما لو كان أحدهما نجسا أو متنجّساً أو ملتزماً تركه بأحد الأسباب، ثمّ علم إجمالاً بعروض عنوان آخر كالغصبیّة علی المردّد بینه وبین غیره، ففي وجوب الاجتناب عن الآخر حینئذٍ نظراً إلی تعلّق التكلیف المردّد بالمكلّف قطعاً، لوجود موضوعه خصوصاً علی ما هو المختار من تعلّق الأحكام بالطبایع دون الأفراد، فیجب امتثال ذلك التكلیف قطعا، فیتعیّن تركهما مقدّمة.

ولو كان لزوم ترك أحدهما من جهتین والآخر من جهة، كما یشیر إليه ما لو علم تفصیلاً بكون فرد جامعاً لأزید من عنوان واحد، فإنّ الظاهر إنّه یستحقّ علی فعله عقابین أو أزید، كما لو ارتُكِبَ فردان متمیّزان.

وعدم وجوبه نظراً إلی سلامة الأصل في الطرف الآخر عن المعارض، لأنّه لا أصل یحكم بحلّیة المعلوم ونمنع من تخصیص الأصل المعتبر بجهة

ص: 381

دون جهة بعد ظهور أدلّة الأصول في الأحكام الفعلیة من إباحة وبراءة ونحوهما وجهان، أقربهما إلی الأدلّة هو الثاني لما ذكر، ونمنع من استدعاء التكلیف امتثالاً خاصّاً، بل هو علی تقدیر الاتّحاد لا یوجب إلّا تأكّد لزوم الترك الثابت بالتكلیف الأوّل، كما أنّ التكلیف بنفسه علی هذا التقدیر لیس فیه سوی التأكید، بناء علی ما ذكروه من امتناع اجتماع الحكمین في محلّ واحد، فلم یعلم حینئذٍ وجود تكلیف آخر حتّی یجب امتثاله. هذا كلّه إذا كان العنوان المردّد متأخراً عن المعیّن وكان علمه أيضاً كذلك، وإلّا فحاله یظهر مما سنفرده في ما یأتي إن شاء الله تعالی.

ومنها: إنّه لو كان الحكم في أحدهما معلّقاً علی مجيء زمان محقّق الحصول، كما لو تردّد النجس بین وقوعه في ما یشترط طهارته للوضوء والصّلاة فقط قبل وقت الصّلاة وبینما یشترط طهارته في حلّیة الأكل والشرب، فهل یحكم بالبراءة والطهارة في الثاني نظراً إلی عدم تنجّز التكلیف بالآخر فعلاً، أو یحكم بالاحتیاط نظراً إلی وجود التكلیف ذاتا أو أثرا؟ وجهان، أنسبهما إلی ظاهر القواعد هو الأوّل، وأقربهما إلی مذاق الفقه هو الثاني، ولعلّه أقرب إلی دقیق النظر؛ وعلی الأوّل، فلو ارتكبه قبل حضور الوقت جازَ وَحَرُمَ بعد دخول وقت العبادة.

ومنها: إنّه لو استجمع كلّ من المحتملین شرائط التكلیف المعروفة، لكن كان أحدهما خارجاً عن ابتلاء المكلّف عرفا بحیث یعدّ المكلّف أجنبیاً عنه بحسب حاله، فقد صرّح بعض الأساطین (قدس سره) بعدم وجوب الاجتناب

ص: 382

عن الطرف الآخر، كصورة خروج الأوّل عن تحت قدرة المكلّف ولم نرَمن القوم من صرّح بذلك، بل لعلّ الظاهر من كلماتهم هو وجوب الاحتیاط هنا.

واستدلّ علی الأوّل بعد تمثیله بما لو تردّد النجس بین إناءه وإناء الآخر لا دخل له للمكلّف فیه أصلاً بأنّ التكلیف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكّن عقلاً غیر منجّز عرفاً، ولهذا لا یحسن التكلیف بمجرّد المنجّز بالاجتناب عن الطعام، أو الثوب الّذي لیس من شأن المكلّف الابتلاء به، یحسن الأمر بالاجتناب عنه مقیداً بقوله: «إذا اتّفق لك الابتلاء بذلك بعاریة أو بملك أو إباحة، فاجتنب عنه» (1).

ثمّ قال: والحاصل إنّ النواهي المطلوب فیها حمل المكلّف علی الترك مختصّة - بحكم العقل والعرف - بمن يعدّ مبتلی بالواقعة المنهيّ عنها ولذا یعدّ خطاب غیره بالترك مستهجناً إلّا علی وجه التقیید بصورة الإبتلاء.

قال: ولعلّ السرّ في ذلك أنّ غیر المبتلی تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه، فلا حاجة إلی نهیه، فعند الاشتباه لا یعلم المكلّف بتنجّز التكلیف بالاجتناب عن الحرام الواقعي. (2)

أقول: وقد یُوْرَدُ علیه:

ص: 383


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص234.
2- . نفس المصدر.

تارة بالنقض بما لو تحقّق صارف نفساني جازم عن أحد الطرفین بعینه قبل العلم الإجمالي، کما لو کان ما في أحدهما ممّا یستکرهه طبع المکلّف جدّا، فانّه لا یحسن تکلیفه بالاجتناب عنه حینئذٍ إلّا مقیّداً بتغییر حاله علی نحو عدم حسنه هناك، وکذا فی العرف، فانّ ما یجزم العبد ترکه علی کلّ حال ولو لا النهي عنه لا یحسنون نهیه منجّزا بعد علمه بالحال، بل یعدّون ذلك سبباًَ لإلغاء الأمر وَیَصِحَّ للعبد بعد النهي معارضته بأن لم أکن لأفعله ولست في صدره، فَلِمَ تنهاني؟!

وما ذکره من السرّ موجود هنا؛ إذ المکلّف حینئذٍ تاركٌ للمنهيّ عنه بداعیه النفساني المفروض، فلا حاجة إلی نهیه، وفساد التالي عند القائلین بالاحتیاط ظاهر، کما یظهر من کلامه (رحمة الله علیه) أیضاً.

وأخری بالمنع عن عدم جواز التکلیف المنجّز وإنّما المسلّم منه ما یمتنع عادة فعله، کما في لباس السلطان للفقیر البعید ومرجعه إلی اشتراط القدرة العادیة کالقدرة العقلیّة.

وأمّا ما یكون مقدوراً عادة ولكنّ للمكلّف صارف عنه، أو لا یبتلي به المكلّف، فلا مانع من نهیه عنه، كما یصحّ أمره به جَزْماً؛ وما ذكر من عدم حسن التكلیف عُرْفاً وعقلاً حینئذٍ، فهو ممنوع، بل المسلّم هو عدم الحاجة إلی التكلیف حینئذٍ، فیكون الخطاب الخاصّ عند عدم وجود مصلحة فیه لغواً، لعدم ترتّب ثمرة علیه عند وجود مصلحة في ذلك، فلا نری في العقل والعرف ما یمنع منه؛ وکذا نهیه عنه في ضمن مطلق أو عامّ، فإنّه لا یلزم

ص: 384

اللغویة هنا، بل التقیید هیهنا لغو لعدم الداعي إلیه، مضافا إلی حکمة اطّراد الحكم، وما ذكره من السّر مؤیّد لما ذكرنا.

والحاصل: إنّه فرق بیّن بین قبح التكلیف وعدم الحاجة إلیه والمسلّم هنا هو الثاني، لکّنه لا یدلّ علی التقیید في المطلق ولا ینفع مع احتمال وجود مصلحة فیه والنافع هنا هو الأوّل.

وثالثة بأنّه لو سُلِّمَ عدم حسن الخطاب فِعْلاً، لكنّه حسن معلّقا قَطْعاً، كما اعترف به، وهو كافٍ هنا في سقوط الأصول الّذي هو مناط المسألة کما اعترف به، فإنّه إذا رخّص الشارع في المبتلی به فعلا وفي غیره شأناً وحكم فیها بالإباحة فعلاً وشأناً، كان منافیاً لما دلّ علی التکلیف المعلوم بالإجمال - كما إذا كانا فعلیّین - فالمعارضة بین الأصلین هیهنا موجودة وإن كان مؤدّی أحدهما فعلیاً والآخر شأنیّاً معلّقاً علی تحقّق الابتلاء، ویكفي في لزوم المخالفة العملیة كون المكلّف في عرضة المخالفة ولو بعد زمان یتبدّل حال المكلّف فیه بالابتلاء وعدمه إذا كانت الواقعة واحدة، إلّا أن یمنع من جریان الأصول في إثبات الإباحة الثانیة وإنّما مفادها الإباحة الفعلیة إن أمكنت وإلّا خرجت عن تحت دلیل الأصل، فیكون الأصل في الآخر سَلِیْماً عن المعارض فعلاً وإن سقط بعد عروض الابتلاء بالمعارضة، هذا.

وتحقیق المقام

إنّ إخراج ما لا یبتلي المكلّف به إمّا لأجل أنّ ذلك شرط من شرائط التكلیف واقعاً كالقدرة، أو لأجل أنّه شرط لتنجّز التكلیف فعلا كالعلم، أو لأجل أنّه شرط لوجوب امتثاله عند العقل

ص: 385

والعرف، فلا یعدّ الطلب حینئذٍ تكلیفاً لازم المراعاة، لكونه أجنبیّا عنه بالفرض، والأوّل فاسد جدّا، فإنّه ممّا لا یساعده الدلیل ولم نعرف أحداً من الأصولیّین عدّه من شرائطه، بل الظاهر إطباقهم علی خلافه مع أنّ الطلب الواقعي مترتّب علی المحبوبیة والمبغوضیة الناشئتین عن المصلحة والمفسدة، أو عبارة عن أحدهما، ولا شبهة في أنّ جمیع ذلك موجود هنا والنقض بالقدرة فاسد، فانّ معروض تلك الأمور خصوص الأفعال الاختیاریة مطلقا، سواء كان محلّا ً للإبتلاء أولا، فالكذب الاختیاري قبیح مطلقاً جزماً ومبغوض كذلك ولا یحتاج الحرمة الواقعیّة إلی أزید من ذلك.

وأمّا الثاني، فحاصله إنّ وجود الخطاب الخاصّ المتولّد من الحكم الكلّي وكونه مخاطباً فعلاً بترك ذلك الشيء منوط بكون المكلّف في عرضة الفعل عرفاً، فهو شرط لصدور الخطاب وتوجّهه إلی المكلّف وتحقّق الطلب الفعلي وهذا الوجه غیر بعید عند التأمّل.

وممّا ذكر من الاعتراضات قابلة للدفع، أمّا الأوّل، فلانّ الصارف المذكور إمّا أنْ یَكُوْنَ أَمْراً غَیْرَ ثابت بالذات، بأن یكون أمراً في عرضة التغییر والزوال في كلّ وقت أولا؛ وعلی الثاني فإمّا أن یكون الصارف أمراً طارِئاً وعلی منعه من الإقدام إلی الفعل أو لا، بل لا مقتضي للفعل بحسب حال المكلّف؛ والظاهر إنّ الأوّلین غالباً أو دائماً غیر مانعین عن توجّه التكلیف، فإنّ ما كان من الصوارف غیر مستحكم الثبوت، فلا قبح في توجیه النهي إلی المكلّف حین وجوده ولو باعتبار زمن تغیّره قطعاً أو

ص: 386

احتمالاً، لا عقلاً ولا عرفاً من دون تعلیقه علی ذلك، بل مجرّد ذلك یصحّح توجیه الخطاب إليه فعلاً.

وما ذكر في سرّ المسألة غیر جارٍ هنا، لمكان كونه في معرض الزوال وما كان منها مانعاً عن الفعل وله بنفسه دوام في حدّ ذاته، فیمكن الالتزام بالموجب فیه كما نحن فیه وإثبات الفارق بین المقامین، فإنّ النهي ردع عن الفعل، فهو مانع عنه كالمانع المذكور، فلا یتعیّن كون تعلّق النهي معلّقاً علی عدمه، مضافا إلی أنّ تمام العبودیة التي هي المطلوبة من العباد بالتسلیم التامّ وقطع النظر عن جمیع الدواعي والموانع سوی ما یتعلّق بالحقّ سبحانه وتعالی، فلا إشكال في تنجّز النهي حینئذٍ بعد كون غمض النظر عن المانع مطلوباً عن المكلّف ولو في الجملة.

وأمّا الشقّ الأخیر، فنلتزم به غالباً أو دائماً، بل الخروج عن محلّ الابتلاء بحسب حال المكلّف سارٍ لهذا المعنی غالباً.

وبالجملة: فیتّجه الالتزام بجمیع موارد قبح إصدار الخطاب إلی العبد بحسب حاله وهو میزان هذا الشرط.

وأمّا الثاني، فلأنّ المكلّف بعد أنّه لیس أهلاً لتوجیه النهي نحوه عرفاً وعقلاً، لعدم كونه في معرض الفعل لا یحسن خطابه لاخاصّاً ولا في ضمن العموم ولا مع وجود داع إلیه، إلّا أن یخرج النهي عن حقیقته ویكون صوریّاً مسوقاً لمصالح أخری ولیس ذلك لأجل مجرّد اللغویة، بل لأجل عدم كونه أهلاً لذلك.

ص: 387

وأمّا الثالث، فلما سبق من أنّ المسلّم من دلالة أدلّة الأصول هو (1) الحكم بالإباحة الفعلیة دون المعلّقة، علی أنّ ذلك لو شمله الدلیل فإنّما یشمله بعد كون المعلّق علیه حاصلاً ولو بعد زمان، وأمّا مع القطع بعدمه في المستقبل أو الشكّ فیه بعد كونه مدفوعاً بأصالة عدمه فلا وجه لتعمیم الأصول إلیها؛ ضرورة عدم وجود الحكم بعد عدم وجود المعلّق علیه.

ودعوی: أنّ الأصل لا عبرة به عند الشكّ هنا لعدم ثمرة فعلیّة علیه قبل حصوله وبعد حصوله ینكشف الحالّ، فلا معنی للأصل هنا والقطع بالعدم إنّما یكون إذا كان صدور الفعل ممتنعاً عادِیّاً عن المكلّف، وهو خارج عن محلّ الكلام لما سبق.

مدفوعة - بعد تسلیم ما ذكر من منع الحجّیة -: بأنّ الغرض من الأصل هو أنّ العقلاء لا یعتنون باحتمال تبدّل شيء ووجود خاصّ في المكلّف، بل ینزّلونه منزلة القطع بالعدم، فلا یصحّ اعتبار أصالة الإباحة نظراً إلی ذلك الاحتمال غیر المعتنی بشأنه وتخصیص القطع بالعدم بصورة الامتناع العادي مغالطة، فإنّ ما یلحق بغیر المقدور هو ما لم یمكن المكلّف من إیجاد الفعل عادة لو أراد ذلك، لا ما كان صیرورته محلّا لابتلاء المكلّف ممّا لا یمادي (2) لامتناع تعلّق غرض المكلّف به عادة، فإنّه مقدور للمكلّف

ص: 388


1- . في المخطوطة: «وهو».
2- . کذا قرأناه في المخطوطة.

حینئذٍ؛ فإنّ الامتناع بالإرادة لا ینافي الإختیار، ولعلّ هذا المعنی هو الذي صار سبباً لمنع بعض مشایخنا (دام ظله) هذا الشرط في غیر الممتنع العادي، فإنّ الظاهر إنّ ما یمتنع عادة ابتلاء المكلّف به ممّا لا إشكال في قبح توجیه الخطاب نحوه.

ثمّ إنّ هذا كلّه إذا بنینا علی المسلك الأوّل في الاحتجاج، وأمّا علی غیره، فالأمر أوضح، لأنّ جملة منها أدلّة لبّیة (1) یجب الاقتصار فیها علی المتیقّن وبعضها كالمسلك الثاني مبنيّ علی إبطال أدلّة الإباحة بالعلم الإجمالي بالتكلیف والعرف لا یساعد علی كون النجس الموجود في بیت أمیر البلد عند زوجته ولو كان المكلّف قادراً علی الفعل بإیجاد مقدّمات كثیرة لا داعي إلی شيءٍ منها تكلیفاً ثابتاً علی المكلّف ولا جعل العلم بالواحد المردّد بینه وبین إنائه علماً بالتكلیف وكون ذلك شكّا في المكلّف به، كما یظهر ذلك بملاحظة حال النجس المردّد بین الإناء وأرض الصحراء الذي یمكن جعله محلّا للسجود، فإنّ ذلك ملغی عرفاً، یمكن منع ظهور الأخبار في إباحة الطرف المبتلی به؛ ومن هنا یظهر وجه منشأ الوجه الثالث من الوجوه المتقدّمة، لكنّه لا یخلو عن ضعف بالنسبة إلی الوجه الثاني، فهو أقوی الوجوه في المسألة، فتدبّر.

وممّا یؤیّده ما ذكر هنا هو انحلال الإشكال به من مواضع عدیدة ممّا

ص: 389


1- . کذا قرأناه في المخطوطة.

علم عدم وجوب الاحتیاط فیه، كالمنجّس المردّد بین إناءه، أو موضع من الأرض، أو ثوبه وثوب الغیر وإن أمكن اندراج الأوّل تحت ما اختلف فیه النجس بالبیان المتقدّم والمنع من الثاني نظراً إلی إطلاق كلماتهم في الثوبین المشتبهین، لكنّ الثاني فاسد ظاهراً وإن توهّم من الأصول مبنيّ علی كون العبرة بالخطاب الخاصّة دون مثل قوله تعالی: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (1)؛ وبه یجاب عن إشكال صاحب المدارك المتقدّم وإن أمكن الجواب عنه بما سبق.

ثمّ إنّ بعض الأساطین (رحمة الله علیه) أیّد المُدَّعیٰ بصحیحة عليّ بْنِ جعفر (علیه السلام) عن أخیه (علیه السلام) الواردة فیمن رعف فأمتخط (2)، فصار الدم قطعاً صغاراً، فأصاب إناءه، هل یصلح الوضوء منه؟

فقال (علیه السلام): إن لم یكن شيء یستبین في الماء، فلا بأس به وإن كان شیئاً بیّنا فلا (3)، حیث استدلّ به الشیخ (قدس سره) علی العفو عمّا لا یدركه الطرف من الدم، وحملها المشهور (4) علی أنّ إصابة الإناء لا یستلزم إصابة الماء، فالمراد إنّه مع عدم تبیّن شيء في الماء یحكم بطهارته؛ ومعلوم إنّ ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة (5)، واحتمل في آخر كلامه (قدس سره) أن یجعل

ص: 390


1- . سورة المدّثّر، الآیة 5. و رِجز [و پلیدی] را پس دوری کن.
2- . کذا في المخطوطة ولکن فوقه «محط» أي «فأمحط».
3- . انظر: الوسائل: ج1/ ص112/ ح1.
4- . انظر: الاستبصار: ج1/ ص23/ ح12.
5- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص236.

میزاناً وضابطاً لهذا الشرط لاستبعاد خروجه عن القاعدة بالنصّ (1).

وأقول: والروایة لا تَتَعَیَّنُ في ما ذكره (رحمة الله علیه) من تنزیله علی ما نحن فیه، بل یحتمل تنزیله علی ما مرّ في الأمر الأوّل وعلی ماذكره الشیخ (قدس سره)، ولا یمكن رفع احتماله بإطلاق أدلّة انفعال القلیل، لما قرّر في محلّه من الإشكال في رفع الإجمال عمّا یحتمل التخصیص وغیره بعموم العامّ، فكیف یصحّ التمسّك به هنا؟ ولا جبره بالشهرة، فإنّها لو كانت، فلعلّه لأجل إقامة احتمال غیره الاستدلال، لا لفهمهم ذلك من الخبر بالخصوص، بل الظاهر عندهم أنّ الخبر ظاهر في غیر ما نحن فیه، فإنّ نسبة الإصابة إلی الإناء إمّا أن یكون حقیقیّاً، أو توسّعیّاً باعتبار إصابة ماء الإناء والقدر المشترك بینهما خلاف الظاهر، وعلی الثاني، فظاهره ما فهمه الشیخ (قدس سره)، وعلی الأوّل یكون إصابة الإناء معلوماً وإصابة الماء مشكوكاً، فهو إمّا من باب الملاقي أو الشبهة البدویة، ومنه یعلم النظر في جعله ضابطا للمسألة، فافهم.

ثمّ اعلم: إنّ تشخیص موارد الابتلاء وعدمه في كثیر من الموارد في غایة الإشكال وإن کان المعیار فیه حسن الخطاب التنجیزي فیه وعدمه، إلّا أنّ ضبط ذلك مشكل جدّاً، فینبغي تأسیس القاعدة في ما یشكّ في كونه مورد الابتلاء وكونه واقعة للمكلّف وعدمه.

فنقول: إنّ للحكم فیه بالبراءة حتّی یعلم كونه محلّا ً للابتلاء، أو

ص: 391


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص238.

الاحتیاط حتّی یعلم خروجه، وجهین (1)؛ اختار بعض الأساطین ثانیهما، والمختار عند بعض مشایخنا (دام ظله) الأوّل، وهو الأظهر تبعاً له ولما نقل من غیره من مشایخنا (دام ظله) من الإشكال علیه (قدس سره)، ویدلّ علی ذلك أصالة البراءة والإباحة حین الشكّ، فإنّه لا علم فیه بتكلیف منجّز الّذي هو المعیار في الحكم بالإحتیاط، فدوران الأمر بین الوجهین مانع عن حصول العلم به الّذي هو مناط الاحتیاط، علی أنّ الأصل في جمیع موارد دوران الأمر فیه بین كون التكلیف منجّزاً أو معلّقاً علی شيء غیر حاصل لو علم تعلیقه وشكّ في حصوله هو البناء علی العدم.

واستدلّ (رحمة الله علیه) علی الثاني بأنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات غیر مطلقة [و] غیر معلّقة والمعلوم تقییدهما بالابتلاء في موضع العلم بتقبیح العرف توجیهها من غیر تعلّق بالابتلاء، وأمّا إذا شكّ في قبح التنجیز، فیرجع فیه إلی الإطلاقات.

قال (رحمة الله علیه): والمرجع في المسألة إلی أنّ المطلق المقیّد بقید مشكوك التحقّق في بعض الموارد لتعذّر ضبط مفهومه علی وجه لا یخفی مصداق من مصادیقه، كما هو شأن أغلب المفاهیم العرفیّة، هل یجوز التمسّك به أولا؟ والأقوی الجواز، فیصیر الأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلّا ما علم

ص: 392


1- . في المخطوطة: «وجهان» بالرفع.

عدم تنجّز التكلیف بأحد المشتبهین علی تقدیر العلم بكونه الحرام (1)، ثمّ ذكر احتمال تحصیل المیزان من الصحیحة.

أقول: وفیه نظر.

أمّا أوّلاً، فلما تقرّر في محلّه من أنّ الإطلاق والتقیید إنّما یتصوّران في قیود الطلب والمطلوب الّتي لها دخل في حسنهما وقبحهما، وأمّا ما هو من شرائط إصدار المكلّف الطلب بحیث یكون نفس الأمر بدون مراعاتها قبیحاً من غیر أن یكون لها مدخلیّة في حسن الطلب والمطلوب، فلا یتصوّر فیه إطلاق حتّی یكون احتمال التقیید متطرّقاً كي یكون المرجع حینئذٍ هو الأصول اللفظیة وقد بیّنا الابتلاء بعد فرض كونه شرطاً إنّما هو كالفهم من شرائط صدور الخطاب بوجوب الاجتناب بحیث لم یكن له مدخلیّة في قبح ارتكاب النجاسة وحسن اجتنابه، ولا یتصوّر فیه إطلاق حتّی یكون احتمال تطرّق التقیید منفیّاً بالعموم والإطلاق، فتأمّل هنا وفي ما سبق في بیانه.

وأمّا ثانیاً، فلأنّه لو سلّم إطلاق الدلیل، فلا شكّ في أنّ الشبهة مصداقیة لا مفهومیّة، وجواز التمسّك بالإطلاق لدفع الشبهة غَیْرُ مُسَلَّمٍ، كما قرّر في محلّه.

ص: 393


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص239؛ والفرائد (مؤسّسة النشر الإسلامي): ص422؛ والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص439.

وربّما یجاب عنه بأنّ هذا القسم من الشبهة المِصْداقِیةِ ملحقة بالمفهومیة، نظراً إلی أنّ بیانه وجعل میزان ومعیار له علی الشارع، نظراً إلی اختلاف نظر العرف في ذلك، فكأنّ بیانه كالشبهات الحكمیّة وظیفة للشارع، كما جعل في جملة من موارد اختلاف العرف میزاناً، كالوطن وكثیر الشكّ وخفاء الجدران والعادة في الحیض علی بعض الوجوه.

وفیه نظر، بل الأولی في الجواب أن یقال: إنّ مرجع الشكّ هنا إلی الشبهة المفهومیة ومسبّب عن عدم تحصیل عنوان القید بشخصه، وذلك لأنّ القید الذي هو كونه في عرضة الابتلاء، له مراتب كثیرة باعتبار قوّة الابتلاء وضعفه إلی أن یصل إلی حدّ لا یعتنی بابتلاء المكلّف به، لضعفه بحیث لا یعتبر، وكذا خروجه عن الابتلاء وبعده كذلك، فكلّ مورد یشكّ المكلّف في صدق ابتلائه به بحیث یسهل تشخیص حاله بالنسبة إلی حاجته وابتلاءه به بالتأمّل في حال الواقعة بالنسبة إليه، لكن لا یعلم أنّ هذا المقدار من إمكان التعلّق بالمكلّف هل یكفي في حسن توجیه الخطاب أو لا؟ فیرجع الشكّ إلی أنّ الابتلاء الذي هو القید، هل هو ما یشمله، أو أخصّ منه فلا یشمله؟ وذلك لأنّ مقدار ربط الواقعة إلی المكلّف أمر غیر خفيّ غالباً، فإذا تبیّن حال الفرد وشكّ في دخوله تحت الكلّي كان الشكّ والتردید في تحصیل مفهوم الكلّي وانّه أعمّ أو أخصّ، ضرورة أنّ الشكّ في الاندراج ناش من الشكّ في أحد الطرفین، فإذا تعیّن حال الفرد من الجهة المقصودة تعیّن كون الشكّ متعلّقاً بنفس الكلّي وكان التردّد في مفهومه وأنّه عامّ أو

ص: 394

خاصّ؛ وهذه قاعدة لم أر من تفطّن لها كثیرة النفع في الموارد الجزئیّة للمتفطّن لها، والظاهر إنّ هذا أقرب إلی كلامه (قدس سره)، فافهم.

الأمر الرابع
اشارة

في ما یترتّب علی طرفي الشبهة من أحكام المعلوم بالإجمال وما لا یترتّب علیه.

قال الفرید (1) البهبهاني (قدس سره) في حاشیته علی المدارك في مسألة ملاقي الإنائین المشتبهین في ذكر توجیه كلام العلّامة (رحمة الله علیه): لعلّ دلیل العلامة (رحمة الله علیه) إنّ الشارع أمرنا بالتجنّب عن خصوص ما وقع فیه النجاسة وحكم بانّه نجس، فإذا كان التكلیف بذي المقدّمة تكلیفاً بالمقدّمة - كما هو المشهور - لا جرم یكون حال المقدّمة حال ذي المقدّمة في جمیع التكلیفات [التي تعلّقت] بذي المقدّمة وأرید امتثالها ولم یتحقّق الإمتثال إلّا بالمقدّمة، ومن المعلوم أنّه لو وقع في غیر ما وقع ما هو نجس طاهر یصیر في الواقع نجساً.

وبالجملة: المنجّسیة أيضاً من أحكام ذي المقدّمة كالنجاسات من دون تفاوت، فإذا كان تكلیف الشارع بذي المقدّمة تكلیفاً بالمقدّمة أيضاً، وذو المقدّمة هنا اجتنابات كثیرة ومنها اجتناب الملاقي والتكلیف هنا الأمر بالاجتنابات، والامتثال - كما یتوقّف علی المقدّمة بالنسبة إلی الشرب - كذا یتوقف بالنسبة إلی اجتناب الملاقي، كما هو الحال في الإنائین إذا وقع في أحدهما سمّ.

ص: 395


1- . هو الوحيد وَهُوَ بِهٰذا أشْهَرُ.

والحاصل: إنّ حكم الشارع بالنجاسة الّتي من أحكامها المنجّسیة للغیر، إنّما تعلّق بعین ما وقع فیه النجاسة من غیر مدخلیّة لعلم المكلّف وجهله فیه كما مرّ، وأیضاً إذا عرف بعینه یكون منجّساً للغیر جزماً، ولیس ذلك إلّا بحكم الشارع بانّه نجس؛ وهذا الحكم بعینه من دون تفاوت، موجود في ما نحن فیه، بل هو هو بعینه، فتأمّل جدّاً. (1) انتهی محلّ الحاجة من كلامه.

وظاهره - وإن تأمّل فیه أخیراً، بل مال إلی خلافه كما تری - ترتیب جمیع آثار المعلوم بالإجمال علی المشتبهین - وضعیة كانت أو تكلیفیة - ولو بردّ الأوّل إلی الثانیة، كما یظهر من بعض كلامه هنا وذكر ما حاصله: إنّ الثابت بالعلم الإجمالي هو وجوب الاجتناب، لأنّه اللازم من باب المقدّمة من التكلیف بالاجتناب عن الحرام الواقعي، وأمّا سائر الآثار المترتّبة علی ذلك الحرام فلا یترتّب علیها؛ لعدم جریان باب المقدّمة فیها، فیرجع فیها إلی الأصول الجاریة في كلّ من المشتبهین بالخصوص. (2)

ثمّ مثّل له بأنّ المرجع في وجوب الحدّ علی من شرب أحدهما إلی أصالة عدم موجب الحدّ ووجوبه. (3)

ص: 396


1- . انظر: الحاشية علی مدارك الأحکام: ج1/ ص169 و 170.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص239.
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص238.

واعترض علیه بأنّه مع كَوْنِهِ مُشْتَبهَ المُرادِ، قابلٌ للمناقشة، إذ لیس لخصوص الأحكام التكلیفیّة خصوصیة توجب ترتّبها علی الأطراف دون الوضعیّة، بل المیزان المطّرد إنّ أثر العلم الإجمالي - وضعیّاً كان كالفساد والبطلان ونحوهما، أو تكلیفیّاً كحرمة الإرتكاب - إذا توقّف ضدّه علی الأطراف كالصحّة والجواز علی إعمال أصل أو أمارة فلا شبهة في عدم ترتّب الضدّ علیها لسقوطها بالعلم الإجمالي، وإلّا فضدّه مترتّب علی الطرفین كرفع الحدّ في المثال، فانّه یكفي فیه الشكّ في حصول موجبه، كما هو الحال في كلّ مسبّب من أمرٍ وجودي شكّ في سببه.

وبعبارة أخری: إنّ أثر العلم الإجمالي إن كان من الأحكام الوجودیّة كالحدّ وتنجیس الملاقي، فهو لا یترتّب علی الأطراف، وإلّا ترتّب علیه؛ وإن شئت جعلت المعیار كون ضدّه وجودیاً فلا یترتّب، أو عدمیاً فیترتّب هذا.

والأظهر عندي فساد الاعتراض، والمیزان وإنّ ما ذكره (قدس سره) صحیح، منطبق علی القواعد.

وتحقیقه: إنّ أثر العلم الإجمالي المثبت للتكلیف - كما هو محلّ البحث - إمّا أن یكون تكلیفیّاً أو وضعیاً، والأوّل فهو مترتّب علی الأطراف مقدّمة مطلقاً، سواء كان الحكم تحریما كما سبق، أو وجوباً كما یأتي إن شاء الله تعالی، أو كراهة، أو ندباً، كما یظهر بالمقایسة.

وأمّا الثاني، فهي بنفسها ممّا لا یجري فیها الأدلّة ولا ما یجري فیه

ص: 397

البراءة أو اشتغال، وحینئذٍ فالمرجع فیه إلی الأصول الجاریة في نفس تلك الأحكام، فإن كان الحكم المترتّب علی المعلوم إجمالا أمراً موافقا للأصل، كفساد بیع الخمر والنجس، ترتّب علی كلّ من المشتبهین نظراً إلی أصالة عدمه وإجراء قاعدة العلم الإجمالي في الأحكام التكلیفیة المترتّبة علیها غیر جائز هنا، لأنّه إنّما یكون إذا علم إجمالاً وجود الحكم الوضعي وهو إنّما یتصوّر بعد ارتكاب كلّ من الطرفین، لأنّ الموضوع فیه هو لیس ذات الحرام كالحكم التكلیفي، بل الموضوع هو التصرّف في الحرام، أو نفس الحكم الوضعي؛ مثلاً وجوب الاجتناب مترتّب علی نفس الخمر، فیترتّب بإحراز موضوعه بالعلم الإجمالي.

وأمّا وجوب الحدّ علیه، فهو مترتّب علی شرب الخمر وهو غیر محرز رأساً، إلّا بعد تحقّق الشرب في كلّ منهما، وحینئذٍ فیكون هنا علم إجمالي آخر یترتّب علیه حكمه، فلابدّ في كلّ حكم تكلیفي من إحراز وجود موضوعه تفصیلاً أو إجمالاً حتّی یجب الاحتیاط مقدّمة لامتثاله، فافهم.

ومن ذلك یظهر لك فساد الكلام المذكور في صدر المسألة، وسیظهر لك إن شاء الله تعالی تحقیق ما ذكرنا هنا.

وكیف كان، فقد اختلفوا في نجاسة ملاقي الشبهة المحصورة بالنجس وعدمه علی قولین:

ص: 398

أحدهما: النجاسة، ذهب إليه العلّامة في «المنتهی» (1) في ملاقي أحد الإنائین وتبعه علیه صاحب الحدائق (2) مطلقاً.

وثانیهما: الطهارة، وهو المنسوب إلی المشهور، وقد جزم به جماعة من المحقّقین، منهم المحقّق الشیخ عليّ (3) وصاحب المدارك (4)، ومال إليه الشهید (5) (رحمة الله علیه)، وقد استقرّ الرأي علیه في ما قارب عصرنا إلی زماننا ظاهراً؛ وربّما یستدلّ للأوّل بوجوه:

أحدها: ما ذكره العلّامة (قدس سره) - وتقدّم نظیره في كلام الفرید البهبهاني - من أنّ الشارع أعطی المشتبهین حكم النجس (6)، فینجس ملاقیه، كما لو لاقی مستصحب النجاسة لطاهر رطوبة، فإنّ الظاهر أنّه لا إشكال في نجاسته، وظاهره استفادة هذا المعنی من الأدلّة الشرعیة من إجماع وأخبار؛ وممّا یمكن استفادته منها هو الأمر بالإهراق في مسألة الإنائین في الخبرین

ص: 399


1- . انظر: منتهی المطلب في تحقيق المذهب: ج1/ ص178.
2- . انظر: الحدائق الناضرة: ج1/ ص514.
3- . کما نقل عنه صاحب المدارك: ج1/ ص108. وقال فيه: «وبه قطع المحقّق الشيخ علي (رحمة الله) في حاشية الکتاب».
4- . انظر: مدارك الأحکام: ج1/ ص108.
5- . انظر: روض الجنان (الطبعة الحجرية): ص156.
6- . انظر: مدارك الأحکام: ج1/ ص109 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص444.

ومادلّ علی غسل أجزاء الثوب مع الاشتباه وغیرهما من الموارد المشار إلیها في الاستقراء.

قال في الحدائق - بعد استحسان كلام العلّامة -: إن أراد به أنّه في حكمه من بعضٍ الوجوه، كالملاقاة لرطوبة (1) لا جمیعاً، لمنافاته لما دلّ علی الصّلاة في كلا المشتبهین مستدلّا علی ذلك بما تقدّم ممّا دلّ علی غسل أجزاء الثوب كلاً مع الاشتباه؛ إذ من الظاهر إنّ وجهه توقّف یقین طهارته الموجب لإجراء حكم الطاهر علیه من صحّة الصّلاة فیه ومنع تعدّي حكم النجاسة فیه إلی ما یلاقیه برطوبة، وظاهر النصوص الدالّة علی تطهیره كلاً یدفعه؛ إذ إیجابه كلّا دلیل ترتّب حكم النجس علیه قبله.

ثمّ استعجب في ذیل كلامه من العلماء في ما ذهبوا إليه هنا من الحكم بطهارة ما تعدّی إليه هذا المانع مع اتّفاقهم ظاهراً في مسألة البلل [المشتبه] الخارج بعد البول وقبل الاستبراء علی نجاسة ذلك البلل المشتبه ووجوب غسله، والمسألتان من باب واحد. (2)

والجواب: إنّ الدلیل الشرعي إن كان هو الإجماع، فهو مختصّ بخصوص الاجتناب عن نفسهما قطعاً، بل المشهور هنا عدمه، وقد ذكر في «المدارك» إنّ قولهم ماء المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس، فلا یریدون

ص: 400


1- . انظر: الحدائق الناضرة: ج1/ ص514.
2- . المصدر.

به من جمیع الوجوه، بل المراد صیرورته بحیث یمنع استعماله في الطهارة خاصّة. (1)

وأمّا الأخبار، فبعد المساعدة علی عدم إمكان الفصل بین موردها وغیره من حیث الاجتناب عن الملاقي إنّ شیئاً منها لا یدلّ علی نجاسة الملاقی؛ أمّا الأمر بالإهراق، فإمّا واجب غیري لأجل التیمّم، أو كفایة عن عدم الانتفاع به بنفس المشتبه، أو واجب نفسي جموداً علی ظاهر الخطاب و[بناء] علی الوجوه لا ربط له بنجاسة الملاقی وجعلها كنایة عن التحرّز عن ملاقاة شيء منهما لبدن المكلّف أو لباسه أو غیرهما، فیتنجّس به لیكون إرشادیاً إلی ذلك بخصوصه، أو مع عدم الانتفاع بنفسه وإن كان محتملا، إلّا أنّه غیر معیّن جزماً لو لم یكن خلافه أظهر عرفاً.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) من الأخبار الواردة في الثوب النجس بعضه

ففیه إنّ دلالتها إن كان باعتبار الأمر بغسل الثوب لترتیب آثار الطهارة علیه مطلقا الذي أحدها طهارة الملاقی، ففیه إنّه لا إطلاق فیه من هذه الجهة حتّی یأخذ بإطلاقها، بل القدر المعلوم منه توقّف ترتیب أحكام طهارته بنفسه علی الغسل من جواز الصّلاة ونحوه، لا مطلق الأحكام التي منها كونه منجّساً للغیر وإن كان باعتبار أنّ الأمر بالغسل ظاهر في نجاسة ما حكم

ص: 401


1- . انظر: مدارك الأحکام: ج1/ ص109؛ أوثق الوسائل: ص338؛ الفرائد (مع حواشي الأؤثق): ج3/ ص444؛ وسيلة الوسائل في شرح الرسائل: ص226.

بغسله، كما یستكشف من ترتیب بعض الأحكام النجاسة في كثیر من الموارد انّه نجس، كما یستفاد من قوله: «إغسل ثوبك من أبوال ما لا یأكل لحمه» (1) نجاسة أبوالها، وكما في البلل المشتبه وغیره، بل لعلّ كثیراً (2) من أدلّة النجاسات كذلك ویجري ذلك في سائر أخبار الشبهة المحصورة.

ففیه: إنّ الأمر بالغسل بنفسه لا یدلّ علیها بأحد الدلالات مطلقاً، إلّا أن یقوم إجماع ونحوه علی إثبات الملازمة بینهما، وهو هنا مفقود، أو یستظهر من نفس الدلیل أنّ ذلك لأجل كونه نجساً واقعاً، أو محكوماً بالنجاسة، كما في البلل نظراً إلی استظهار كونه من جهة تقدیم الظاهر هنا علی الأصل، خصوصاً بعد استقلال العقل بوجوب الغسل ونحوه ممّا یترتّب علی نفس المشتبهین من دون إحراز النجاسة، وبه یندفع تَعَجُّبُهُ مِنْ (3) تفصیلهم في المسألَتَیْنِ.

نعم یشكل الفرق بین ما نحن فیه والأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا یؤكل لحمه، إلّا أنّه أيضاً لاستظهار جهة الحكم فیه وهو النجاسة بمادلّ علی وجوب هجر النجاسات في قوله تعالی: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ (4).

ص: 402


1- . انظر: الفرائد (طبعة مؤسسة النشر الإسلامي): ص298 والفرائد (للمجمع): ج1/ ص601.
2- . في المخطوطة: «کثير» بالرفع.
3- . في المخطوطة: «استعجابه عن».
4- . سورة المدّثّر، الآية 5، و رجز [و پليدی] را پس دوری کن. جعلنا نصّ الآية بدل الترجمة.

واستدلّ علیه بروایة عمرو بن شمر عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام) إنّه أتاه رجل، فقال له: وقعت فأرة في خابیة فیها سمن أو زیت، فما تری في أكله؟

فقال أبوجعفر (علیه السلام): لا تأكله.

فقال الرجل: الفأرة أهون عَلَيَّ من أن أترك طعامي لأجلها.

فقال له أبوجعفر (علیه السلام): إنّك لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدینك؛ إنّ الله حرّم المیتة من كلّ شيء. (1)

ووجه الدلالة بأنّه (علیه السلام) جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحریم المیتة، ولولا استلزامه لتحریم ملاقیه، لم یكن الطعام استخفافا بتحریم المیتة، فوجوب الاجتناب عن شيء یستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقیه (2)، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهین، فقد حكم بوجوب هجر مالاقاه، ونزّل (رحمة الله علیه) كلام العلّامة المتقدّم علی ذلك؛ ویستفاد هذا الوجه أيضاً من كلام الفرید البهبهاني المتقدّم.

ص: 403


1- . انظر: تهذيب الأحکام: ج1/ ص191 والوسائل: ج1/ ص149/ ح2. ذکرها الشيخ الأنصاري في الفرائد: ج2/ ص241.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص241.
والجواب عنه

أوّلا: إنّا نمنع ذلك، بل وجوب الاجتناب عن الملاقي حكم توقیفيّ جاء من قِبَل سببیة الملاقاة لنجاسة الملاقي، فهو موضوع آخر متنجّس كالأوّل وإن كان هو السبب في نجاسته، وما استدلّ به في «الغنیة» (1)، فهو فاسد لذلك، فإنّ هجر النجس لا دلالة فیه علی هجر ملاقیه بشيء من الدلالات، فحكم الشارع بوجوب هجر المشتبهین ولو من باب المقدّمة لا یدلّ علی وجوب هجر الملاقي.

وثانیاً: إنّه أرید بكون المراد من الاجتناب عن النجس ما یعمّه والملاقي أنّ ظاهر الأدلّة الدالّة علی ذلك وجوب اجْتِنابِ الملاقي أيضاً، فهو إنّما یكون إذا كان هنا دلیلٌ عقليٌ لفظيٌ علی وجوب هجر المشتبهین حتّی یدّعي ظهوره، وهو إن كان ظواهر الأخبار الواردة في المشتبهین فقد عرفت حاله، مع أنّه لو دلّت لما كان من جهة الأمر بالاجتناب، وإن كان هو مادلّ علی الاجتناب عن المردّد بینهما فیأتي ذلك بعمومه في كلا الطرفین مقدّمة كما یُسْتَفادُ من كلام الفرید البهبهاني.

ففیه: إنّه إن أرید إنّه تكلیف واحد متعلّق به وبالملاقي، فیجب مراعاته في الطرفین مقدّمة؛

ففیه: إنّه غیر معقول ما لم یلاحظ المجموع أمراً واحداً ارتباطیّاً حتّی

ص: 404


1- . ذکر الشيخ الأنصاري قول صاحب الغنية [ص46] في الفرائد: ج2/ ص239.

یحكم علیه به، فإنّ الحكم الواحد لا یتعلّق بموضوعین مستقلّین والملاقي والملاقیٰ موضوعان مستقلان قطعاً.

وإن أرید انّ للنجاسة حكمين (1)، أحدهما: الاجتناب عن نفسه، والآخر: عن الملاقي، فیجب ترتیب كلیهما علی الطرفین.

ففیه: إنّ القاعدة (2) إنّما تجري بالنسبة إلی الأحكام المعلومة إجمالاً والحكم الأوّل هنا موجود فعلاً والآخر معلّق علی تحقّق الملاقاةِ، فإنّه لا یعقل الحكم باجتناب شيء غیر موجود، ولو وجد سبب الحكم الذي [هو] نجاسة الإناء مثلاً علی هذا الفرض، فقاعدة المقدّمة تختصّ بالأوّل وأصالة البراءة عن التكلیف الثاني فعلاً سلیم عن المعارض ما لم تَتَحَقَّقِ الملاقاةُ فیهما، فیخرج عن هذا العنوان.

وثالثاً: إنّا لو سلّمنا إنّ التكلیف واحد متعلّق بما یعمّ الأمرین، لكنّ الدلیل علی ثبوت هذا التكلیف في الطرفین إن كان هو الأدلّة الشرعیة، فقد عرفت في أصل المسألة عدم وفائها بإثبات حكم الشبهة المحصورة وإن كان هو ثبوته معلّقاً علی المردّد بینهما، فیجري فیه قاعدة المقدّمة.

ففیه: إنّ المعلوم وجوبه هو الاجتناب عن مجموع النجس وملاقیه، فإذا أجرینا بعد الملاقاة أصالة عدم ملاقاته مع النجس، كان الاجتناب عن

ص: 405


1- . في المخطوطة: «حکمان» مرفوعاً.
2- . في المخطوطة: «قاعدة» بدون الالف واللّام.

نفس الإناءین كافیاً في حصول العلم بالفراغ شرعاً، نظیر ما لو كان هناك إناءان معلوما الطهارة والنجاسة تفصیلاً ولاقیٰ جسم طاهر لأحدهما ولم ندرِ مالاقاه، فالعلم الإجمالي هنا مع العلم بخصوص الملاقي بعد عدم إحراز نجاسته لا یزید علی العلمین التفصیلیّین مع عدم العلم بخصوص مالاقاه منهما، وكما یصحّ هناك إجراء أصالة عدم الملاقاة مع النجس الذي هو هناك ثبوت الوجوب علی جمیع الاحتمالات، ویثبت به قصر التكلیف علی خصوص مالاقاه علی هذا الوجه فكذا هنا، فافهم وتدبّر.

وممّا ذكر یظهر أنّ بناء وجه الطهارة والنجاسة في الملاقي علی ذلك المبنی محلّ نظر، بل لعلّ الأولی الحكم بإطلاق طهارة الملاقي.

وثالثها: إنّ الاجتناب عن الملاقي وإن سلّم عدم وجوبه تبعاً لما لاقاه بأحد الوجهین المتقدّمین، إلّا أنّه یجب لكونه بنفسه معروضاً للعلم الإجمالي بعد الملاقاة، فإنّ الملاقاة سبب للعلم بكون حكمه حكم ما لاقاه، فیعلم إجمالاً بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر كأصله، فیكون المعلوم نجاسته مردّداً (1) بین الطرف الآخر فقط، أو الملاقي والملاقیٰ معاً، فلا فرق إذن في كون [کل] (2) منهما طرفاً للشبهة، فهو نظیر ما لو قسّم أحد الإنائین قسمین وجعل كلّ قسم في إناء؛ وإن شئت قلت: انّه حدث بالملاقاة علم إجمالي آخر

ص: 406


1- . في المخطوطة: «مردّد»، مرفوعاً.
2- . يقتضيه السياق.

بنجاسة الملاقي، أو الطرف الآخر.

ویمكن الجواب بوجوه

الأوّل: ما ذكره بعض الأساطین (1) من أنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقِي [بالکسر] سلیم عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر، لكون الشكّ في الملاقي مسبّباً عن الشكّ في نجاسة الملاقیٰ - بالفتح - فالأصل لا یجري فیه إلّا بعد سقوط الأصل المسبّب، وسقوطه هنا إنّما هو بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر، فإذا تساقطا جری الأصل في الملاقي سلیماً عن مانعه الّذي هو الأصل السببي ومعارضه الّذي هو الأصل الجاري في الآخر، لسقوطهما في مرتبة واحدة، فمرتبة الأصل في الملاقي متأخّر عن أصل الطرفین، فإذا تساقطا بالمعارضة عاد الحكم إلی الأصل المتأخّر كما في تعارض أصالتي الطهارة والنجاسة في الماء النجس المتمّم كُرّاً بطاهر وغیره. (2) هذا محصّل كلامه علی ما فهمت.

واعترض علیه بأنّ قاعدة السببیّة أجنبیّة عن المقام؛ لأنّها إنّما تنفع لو كان دخول الأصل السببي أو خروجه عن إطلاق أدلّة الأصول علّة تامّة لدخول المسبّب فیه أو خروجه عنه، ولیس الأمر في المقام كذلك؛ لأنّ دخوله وخروجه لیس علّة تامّة لدخول الأصل في الملاقِي - بالكسر - فیه،

ص: 407


1- . هو الشيخ الأنصاري.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص242 و 243.

بل العلّة له هو المعارضة، فاللازم حینئذٍ دفعها.

وفیه عندي تأمّل، بل الظاهر هو صحّة ما اعتمد علیه (قدس سره) لو قلنا بعدم جریان الأصل المسبّب عند جریان الأصل في السبب، سواء كان مخالفاً أو موافقاً، لكنّه محلّ تأمّل، بل الّذي یتقوّی عدم جریان قاعدة الحكومة في المتوافقین وإن سلّم جریانها في المتخالفین، وتحقیقه موكول إلی محلّه.

الثاني ما اعتمد علیه بعض مشایخنا (دام ظله) وتقریره: إنّ المیزان في سقوط الأصول من الأطراف وقوع التعارض بینها بضمیمة العلم الإجمالي، ومن البیّن عدم صلاحیة الأصل في الطرف الآخر لمعارضة الأصل في الملاقي، لما قرّر في محلّه من أنّ المعتبر شأن المتعارضین أن یكون العمل بكلّ منهما جائزاً إذا قطعنا النظر عن الآخر والأصل في الطرف الآخر لیس كذلك؛ لأنّه لو أغمضنا عن الأصل في الملاقي لم یجز إجراء الأصل فیه، لابتلائه بمعارضته الأصل في الملاقیٰ - بالفتح -.

وبعبارة أُخری: میزان التعارض أن یكون المانع عن دخول كلّ منهما تحت أدلّة اعتبار المتعارضین دخول الآخر فیها والأصل المفروض غیر جارٍ، ولو لم یكن الأصل في الملاقي جاریاً لمكان المعارضة بینه وبین أصل الملاقیٰ - بالفتح - فإذا تحقّق المعارضة بینهما تساقطا ولم یكن للأصل في الملاقي مانعاً.

ودعوی: أنّ میزان سقوط الأصول وجود العلم الإجمالي ولزوم المخالفة القطعیة العملیة من العمل بالجمیع وهو هنا موجود، مدفوعة بأنّه

ص: 408

یشترط في ذلك لزوم التناقض بین جعل الأصول وبین الحكم بوجوب مراعاة المعلوم بالإجمال، ولا یجوز ذلك في ما تعدّد فیه الواقعة ولا یلزم التناقض إلّا إذا كان سبب وجوب الاجتناب نفس الشبهة الخاصّة، لا وجود شبهة أخری مسوقة بتلك الشبهة ولو بحسب المرتبة، أو وجود أمارة أخری.

ألا تری انّه لو قامت أمارة علی نجاسة أحد المشتبهین، أو كان الأمر دائراً بین وقوع النجاسة في الإناء الطاهر أو النجس، لا مانع من جریان الأصل في الطرف الآخر؛ وذلك لأجل وجوب الاجتناب عن أحدهما بالعلم أو الأمارة لولا الاشتباه، وفي المقام أيضاً كذلك؛ لأنّ الطرف الآخر یجب الاجتناب عنه للعلم بنجاسة نفسه أو الملاقیٰ - بالفتح - فالعلم الإجمالي الثاني بین الملاقِي - بالكسر - والطرف الآخر لا یمنع من جریان الأصل في الملاقیٰ؛ لوجوب الاجتناب عن الآخر بسبب العلم الإجمالي الأوّل، فالأصل في الملاقي في المرتبة الثانیة سلیم عن المعارض فعلاً، لسقوط معارضته بالتعارض في المرتبة الأولی في أوّل الشبهة الأولی، فهو كصورة العلم بنجاسته أو قیام أمارة علیه في عدم لزوم التناقض.

فإن قلت: إنّه یلزم علی ذلك أنّه لو فرض حصول القطع أوّلاً بنجاسة أحد الإنائین، ثمّ تبدّل العلم بالعلم بنجاسة الثلاثة عدم لزوم الاحتیاط عن الإناء الثالث لسقوط الأصل في الأوّلین بالعلم الإجمالي الأوّل له، فلا معارض للثالث، فیجري الأصل فیه، مع أنّه ممّا لا ینبغي أن يلتزم به.

ص: 409

قلت: العلم الحادث المردّد بین الثلاثة رافع للعلم الأوّل وكاشف عن فساده، فیرفع بارتفاعه أمره الذي هو سقوط الأصلین، فیكون المؤثّر في الثلاثة هذا العلم الإجمالي المردّد بین الثلاثة، فیقع التعارض بینها في مرتبة واحدة.

والحاصل: إنّا وإن لم نقل بقاعدة الحكومة مطلقاً أو في الجملة، فنحكم بطهارة الملاقي أيضاً، لتوقّف الحكم بوجوب الاحتیاط علی سقوط الأصول المتوقّف علی تساوي نسبة كلّ منهما مع الآخر في الاندراج تحت دلیل الأصل بعد عدم جواز العمل بكلّ منهما وهذا إنّما یمكن إذا كان كلّ من الأصلین سلیماً عن المانع في حدّ ذاته، وهو هنا مفقود لوجود المانع في المرتبة الأولی.

هذا غایة ما یمكن به تنقیح ما أفاده سلّمه الله تعالی، وهو عندي محلّ نظر؛ لأنّ للأصل في الطرف الآخر مانعين (1)، أحدهما: العلم الإجمالي بینه وبین الملاقیٰ - بالفتح - والآخر: بینه وبین الملاقي، ونسبة المانعیة لجریان الأصل إلی كلّ منهما من جهة واحدة وعلی نسق واحد، وهو الأصل الجاري في الملاقي والملاقیٰ بخلاف المثالین المتقدّمین، فهو كما لو علمنا إجمالا بنجاسة إناء وثوب، أو إناء آخر وحده ابتداء، فإن جعل وجود أحد المانعین مانعا عن تأثیر المانع الآخر، توجّه علیه جریانه في الآخر، فإن التزم

ص: 410


1- . في المخطوطة: «مانعانِ».

بكون كلّ منهما مانعاً عن الآخر، لزم خلوّ الأصل فیه عن المانع، وهو مع أنّه ظاهر الفساد نظراً إلی أنّ المانع الواحد سقط الأصل دون المانعین نقيض نقیض المطلوب، فیلزم جواز ارتكاب الطرف الآخر لا الملاقي، فإن سقط الأصلان المقابلان له لزم وجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقیٰ فقط، وهو واضح الفساد، وإلّا لزم طرح كلّ من العلمین الإجمالیین وجواز المخالفة القطعیة فیها، فلابدّ حینئذٍ للمجیب أن یعیّن كون العلم الواقع بین الملاقیٰ - بالفتح - والطرف الآخر هو المانع فعلاً عن جریان الأصل في الطرف الآخر، فیلغی العلم الإجمالي الآخر، وذلك لأجل تقدّم وجوده زمانا علی الآخر، أو تقدّمه رتبة علیه.

والأوّل مع ما فیه من النظر والمنع المقرّر في محلّه من أنّه لا عبرة في باب التعارض علی السبق واللحوق الزمانیین لا یفي بالمطلوب، فانّه قد یتقارنان زمانا، كما لو كان حصول الملاقاة والعلم به وبنجاسة أحد الإنائین دفعة واحدة، وهو من أفراد محلّ البحث، بل الظاهر شموله لما لو تقدّم الملاقات علی العلم الإجمالي، بل ربّما ینتج خلاف المطلوب في ما لو كان العلم بالثاني سابقا علی الأوّل زمانا، كما لو علم إجمالا بنجاسة إنائین أحدهما مسبّب عن الملاقاة مع شيء غیر معیّن، ثمّ علم بكون ذلك هو الإناء الفلاني، إلّا أن یلتزم بوجوب الاجتناب حینئذٍ، وهو وإن لم یكن مستبعداً، لكنّه یلزمه الحكم بطهارة الملاقیٰ - بالفتح - حینئذٍ وهو غریب.

والثاني مبنيّ علی قاعدة الحكومة والتسبیب، فإنّ تعیین ما تقدّم رتبة

ص: 411

علی الآخر إنّما یكون إذا كان الأصل الواقع في المرتبة الثانیة غیر واقع صالح للجریان مع ما وقع في المرتبة الأولی، فهو حینئذٍ تقریر آخر للجواب الأوّل، فافهم وتأمّل.

الثالث ما سنح بالبال وإن لم أجد أحداً تعرّض له في ما أعلم، وهو أنّ العبرة في وجوب الاحتیاط بالعلم بالخطاب الجزئي المتولّد من الأمر الكلّي بعد إحراز الصغری ولو إجمالاً حتّی یتنجّز بسببه ذلك التكلیف، فیجب الإتیان بالطرفین من باب المقدّمة، وهذا ظاهر ممّا قدمنا، لا مجرّد العلم بوجود الموضوع.

وحینئذٍ فنقول: إنّ المعلوم بعد الملاقاةِ خطاب واحد مردّد بین المشتبهین والخطاب الآخر بالاجتناب عن الملاقي مشكوك فیه؛ مثلا إذا علمنا بأنّ أحد الإنائین بول والآخر ماء، فقد علمنا بتعلّق الخطاب الذي هو الأمر بالاجتناب عن نفس النجس المردّد بین الإنائین، فإذا لاقی أحدهما جسماً طاهراً [و] شككنا في حدوث أمر آخر بالاجتناب عن ملاقي النجس أو لا، فیجب بحكم القاعدة المتقدّمة الاجتناب عن كلّ من المشتبهین تحصیلاً للعلم بامتثال الخطاب المعلوم ولم یجب الاجتناب عن الملاقی؛ لعدم كونه مقدّمة لذلك الخطاب قطعاً، بل أصالة البراءة من التكلیف المشكوك وأصالة الطهارة في الملاقي واستصحابها وأصالة عدم حدوث سبب النجاسة وهو الملاقاة مع النجس الواقعي كلّها سلیمة عن معارضة قاعدة المقدّمة، وكذا لو كان نجاسة الأوّل أيضاً بالملاقاة؛ لأنّ

ص: 412

الأمر باجتناب الملاقي الأوّل معلوم تفصیلاً وبالثاني مشكوك فیه، فالعلم الإجمالي المدّعی بین الملاقي والطرف الآخر منحلّ إلی علم تفصیلي بخطاب مردّد بین الإنائین وشبهة بدویّة هي التكلیف بالاجتناب عن الملاقي، ولا یصحّ فرض المعلوم مشكوكاً، فیدّعی العلم بینه وبین الشكّ البَدْوِيّ، فإنّ مثل هذا العلم الفرضي المنحلّ لا یوجب سقوط الأصول ولا وجوب الاحتیاط، بل إنّا لمّا راجعنا وجداننا لم نجد فعلاً إلّا خطاباً معلوماً بالاجتناب عن نفس النجس وخطاباً مشكوكاً وهو الاجتناب عن الملاقي، وهذا ظاهر علی ما استفدناه سابقاً من أنّ الأمر بالاجتناب عن الملاقي تكلیف مستقلّ عن الأمر باجتناب ذات النجس وكذا في ملاقي الملاقي مع الملاقي، فانّه حینئذٍ نظیر دعوی العلم بوجوب الحدّ علی من شرب الخمر، أو وجوب اجتناب الإناء الباقي في المثال المتقدّم، بناء علی عدم اعتبار وحدة الجنس في الحكم بالاحتیاط، فكما أنّه لانحلاله إلی تكلیف بالاجتناب عن الخمر المعلوم تفصیلاً ولو تردّد موضوعه وشكّ بدوي وهو الأمر بالحدّ علی الشارب، فكذا العلم المدّعی في المقام حرفاً بحرف.

وأمّا لو قلنا بأنّ التكلیف بالاجتناب عن الملاقي إنّما جاء من قبل التكلیف بالملاقیٰ - بالفتح - فالتحقیق إنّه أيضاً كذلك؛ لأنّ أصالة عدم تحقّق الملاقاة مع النجس الذي هو سبب للسرایة وعروض الأمر له قاضٍ بانحصار التكلیف به في ذات النجس المردّد، فلا یجب الاجتناب عن الملاقي، لعدم كونه مقدّمة للمقدار المعلوم من الخطاب وجریان الأصل من

ص: 413

الزائد، لوضوح أنّ التكلیف بهما لیس ارتباطیاً حتّی یستشكل في جریان الأصل.

وممّا ذكر یظهر اندفاع النقض بما لو تردّد النجس بین شیئین وبین واحد، فإنّه لو كان للخطاب المعلّق بأحد الخطابین الأوّلین تعیُّنٌ في عالم الإجمال بحیث یكون المعیّن مردّداً بینه وبین الثالث بخلاف الآخر، وكان بحیث ینحلّ إلی علم تفصیلي بذلك الخطاب وشكّ بدوي، التزمنا بعدم وجوب الاحتیاط عن الآخر، وإلّا فالتفرقة ظاهرة، فافهم وتأمّل فإنّه دقیق.

وینبغي التنبیهُ علی بعض فروع المقام.

منها: إنّه لو لاقیٰ شيء آخر للمشتبه الآخر وجب الاحتیاط فیهما إذا استجمع العلم الإجمالي بأحد الملاقیين شرائط قاعدة الاحتیاط بنفسه، والسرّ فیه ظاهر لحدوث علم إجمالي جدید بوجوب الاجتناب عن الملاقیین، فهذا شبهة أخری في المكلّف به مستقلّ یتبعه حكمه، غایة الأمر إنّ سبب النجاسة المعلومة هنا هو الملاقاة، بخلاف الأوّل في بعض الفروض.

وربّما یستغرب من ذلك فقاهة بأنّه یلزم من ذلك إنّه كلّما صار الملاقي في جمیع المراتب وتراً، كان الأصل البراءة، وكلّما صار زوجاً وجب الاحتیاط، وهو بعد اقتضاء القواعد لهذا التفصیل عجیب، فانّ المتّبع الدلیل.

ص: 414

ومنها: إنّه لو كانت الملاقاة قبل العلم الإجمالي، ثمّ فقد الملاقیٰ - بالفتح - ثمّ حصل العلم الإجمالي بنجاسة مردّدة بین الموجود والمفقود الّذي لاقاه شيء طاهر، قام الملاقي مقامه ووجب الاجتناب؛ لأنّ أصالة الطهارة في الملاقي معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الموجود؛ لعدم جریان الأصل في المفقود حتّی یعارضه، فیسلم الأصل في الملاقي لقاعدة الحكومة، أو لما ذكر في الوجه الثاني وتردّد التكلیف الفعلي بین الاجتناب عن الملاقي أو الموجود لعدم جواز تعلّق التكلیف بالمشتبه المفقود علی ما اخترناه، فعدم صلاحیّة الملاقیٰ - بالفتح - للتكلیف مانع عن سلامة أصل الملاقي علی هذا، فیردّد المكلّف به فعلاً بین الملاقي والموجود وعدم جریان الأصل في المفقود نظراً إلی خروجه عن ابتلاء المكلّف، أو لعدم ترتّب أثر علیه فعلا علی الوجهین الأوّلین، وأمّا لو كان باقیاً في هذه الصورة بعینها، فالمتّجهُ علی ما ذكره وعلی قاعدة الحكومة طهارة الملاقی، وعلی الوجه الثاني هو وجوب الاجتناب علی بعض الوجوه عند التحقیق كما أشرنا إليه.

ومنها: إنّه لو فقد الملاقیٰ - بالفتح - بعد العلم الإجمالي، فإن قلنا ببقاء حكم العلم الإجمالي بعد ارتفاع أحد الطرفین، فالظاهر طهارة الملاقي إمّا علی قاعدة الحكومة أو وجود المانع الآخر عن الأصل فظاهر، وأمّا علی ما قلنا فلأنّ التكلیف السابق باقٍ أثره فعلاً، فشغل الذمّة بها معلوم ولو ظاهراً، فینحلّ به العلم الإجمالي، فتأمّل جدّاً.

وإن قلنا بارتفاع أثره بارتفاع العلم توجّه الحكم بوجوب الاجتناب

ص: 415

عن الملاقي كما لا یخفی وجهه.

ونظیر فقد الملاقیٰ - بالفتح - عدم كونه محلّا ً لابتلاء المكلّف، بل كلّ ما یمنع من صحّة التكلیف الفعلي به وما لا یترتّب علیه حكم تكلیفي كما یظهر وجهه بالمقایسة.

ومنها: إنّه لو كان الملاقي خارجاً عن ابتلاء المكلّف قبل العلم الإجمالي، ثمّ حصل العلم الإجمالي، ثمّ دخل الملاقیٰ بالفتح تحت ابتلاء المكلّف، كما لو لاقی ثوب مع ثوب السلطان، ثمّ علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة ثوبه لوقوع نجاسة علی أحدهما، ثمّ أعطی (1) السلطان الثوب إیّاه ملكه، ففي جریان أصالة الطهارة حینئذٍ في الملاقي والحكم بوجوب الاجتناب عن المشتبهین، أو جریان الأصل في الملاقیٰ - بالفتح - بخلاف الآخرین، أو الحكم بوجوب الاجتناب عن الجمیع وجوه ثلاثة مبنیّات (2) عند التحقیق علی الوجوه الثلاثة المتقدّمة.

فمبنی الأوّل قاعدة الحكومة الّتي هي أولی الوجوه، فانّه بدخول الملاقیٰ - بالفتح - تحت ابتلاء المكلّف یلغي الشكّ في نجاسة الملاقِي - بالكسر- لكونه سبباً له، فیقع التعارض بینه وبین الطرف الآخر ویتساقطان، فیرجع الأصل في الملاقي سلیماً عن المعارض.

ص: 416


1- . في المخطوطة: «أعطا».
2- . في المخطوطة: «مبنيان».

ومبنی الثاني سلامة الأصل في الملاقیٰ - بالفتح - عن معارضة الأصل في الطرف الآخر؛ لسقوطه قبله بمعارضته مع الأصل في الملاقي وسقوطهما معا، فلا أصل حتّی یعارضه علی ما تقدّم في الوجه الثاني من أجوبة الإشكال الأخیر.

ومبنی الثالث ما بیّناه من الوجه الثالث، فإنّ المكلّف به فعلاً قبل دخوله تحت الابتلاء مردّد بین الملاقیٰ والطرف الآخر، فیتنجّز التكلیف بأحد الخطابین، فیبقی أثره ولو ارتفع العلم، كما لو انتفی أحد الإنائین وبدخوله تحت الابتلاء یعلم بخطاب تفصیلي بالاجتناب عن النجس المردّد بین نفس المشتبهین، فیسقط الأصول في جمیع الأطراف بالمقدّمة العلمیة.

ومال بعض مشایخنا (دام ظله) إلی الوجه الثالث، مع اعتماده هناك علی الوجه الثاني؛ نظراً إلی أنّ الأصل في الملاقیٰ - بالفتح - بعد الدخول یعارض مع الأصل الثاني في الطرف الآخر، بمعنی أنّه لو لا العلم الإجمالي بینه وبین الملاقي، ومع قطع النظر عن كونه مقدّمة علمیة لامتثاله لكان مباحاً، فیعارض معه.

وفیه نظر ظاهر علی ما اختاره هناك والتحقیق عندي ما عرفت؛ نعم ربّما یَتَّجِهُ بناء علی قاعدة الحكومة وجوب الاجتناب منهما معاً إذا التزم بصحّة ما ذكرناه في الوجه الثالث أيضاً، فانّ العلم الإجمالي الأوّل أسقط الأصل، فحكمه باقٍ بعد ارتفاعه وانحلاله، فلا یرجع إلی قاعدة الإباحة رأساً ولو بعد سقوط الحاكم، فافهم وتدبّر واغتنم.

ص: 417

الأمر الخامس انّه لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض محتملات الشبهة

الأمر الخامس انّه لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض محتملات الشبهة (1)، فإمّا أن یكون الاضطرار في بعض معیّن، أو بعض لا بعینه؛ وقریب منه الكلام في عروض سبب مرخّص لفعل بَعْضٍ معیّن، أو غَیرِ مُعَیَّنٍ من عسر وحرج، أو مزاحمة مع احتمال التكلیف فیه لما یترجّح علیه.

فإن كان الاضطرار في البعض المعیّن، فقد فصّل فیه بعض الأساطین (2) بین كون الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه، فلا یجب الاجتناب عن الباقي لرجوعه إلی عدم تنجّز التكلیف بالاجتناب عن الحرام الواقعي؛ لاحتمال كون المحرّم هو المضطر إليه - وقد عرف توضیحه ممّا تقدّم - وبین كونه بعده، فاستظهر وجوب الاجتناب عن الباقي مستدّلاً علیه بأنّ الإذن في ترك بعض المقدّمات العلمیّة بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي، یرجع إلی اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكلیف بالاجتناب عن بعض المشتبهات. (3)

واعترض علیه بانّه إن كان العلم بالكبری كافیاً في تنجّز التكلیف حتّی یكون خروج الشبهات البدویّة لأجل استقلال العقل بالمعذوریة،

ص: 418


1- . راجع: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص245 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص453.
2- .هو الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمة الله).
3- . فرائد الأصول: ج2/ ص245.

توجّه علیه أن یحكم بالاحتیاط في المقامین؛ وإن كان العلم بالصغری أيضاً محتاجاً إليه في تنتجّز التکليف، کان الحکم هو البراءة فيها؛ لانتفاء العلم بالصغری بعد الاضطرار مطلقاً، وكذا في كلّ مورد حدث حادث یوجب فوت العلم بالصغری فعلاً.

ودعوی التفرقة بینهما بأنّ مقتضی قاعدة الاشتغال واستصحابه هو وجوب الاحتیاط في الثاني، بخلاف الأوّل لعدم العلم بحصول الاشتغال حتّی يحكم ببقاءه.

مدفوعة بأنّ استصحاب الاشتغال غیر جارٍ، كما اعترف به وقرّر في موضعه؛ وأمّا قاعدة الاشتغال فهي إنّما یعمل بها إذا كان الشكّ في حصول الامتثال، وأمّا لو كان مسبّباً عن الشكّ في انعدام موضوع التكلیف أو ارتفاعه، فلا معنی للتمسّك بها، بل ینقلب إلی الشبهة البَدْوِیّة في الباقي.

نعم، لو كان هناك أصل موضوعي یقضي بإثبات بقاء الشغل، كاستصحاب بقاء الوقت لمترتّب علیه وجوب الإتیان به بالفعل، تمّ الحكم بالشغل لأجله ومثل ذلك مفقود في المقام.

ویمكن دفعه بأنّ العلم بالكبری وإن فرض كفایته في التنجّز عقلاً، لكنّ الأصل الّذي لا معارض له یقتضي الحكم بالبراءة والإباحة في غیر المضطرّ إليه وقد سبق تفصیل الكلام فیه، وهذا إنّما یكون في الصورة الأولی؛ وأمّا الثانیة فالأصل لا یجري فیه ولو قلنا بتوقّف التنجّز علی العلم بالصغری، لأنّه بعد إحراز الصغری أوّلاً وحصول العلم بالتكلیف یحكم

ص: 419

العقل بلزوم تفریغ الذمّة عنه مادام العلم باقیاً قطعاً، ثمّ یبقی أثره بعد ارتفاع العلم: إمّا لأجل اختصاص أدلّة البراءة والحلّ بالشكّ في حدوث التكلیف، فلا یشمل ما نحن فیه؛ لأنّ الشكّ في بقاء التكلیف السابق بعینه.

وإمّا لأنّ العقل الحاكم بوجوب الامتثال سابقاً بعینه موجود في زمان الشكّ؛ لأنّ الحكم العقلي إنّما هو وجوب تحصیل العلم بالفراغ الیقیني بعد الشغل الیقیني، وتقییده بخصوص صورة الشكّ في الإمتثال غیر مسلّم وتحقیقه في محلّه.

وإمّا لأجل استصحاب التكلیف المردّد، فإذا حكم بوجوده في الزمان الثاني، وجب الإتیان بمقدّمته الّتي هي الفرد الباقي لحصول القطع بالفراغ معه.

وإمّا لأجل استصحاب اشتغال الذمّة.

ودعوی جریانه رأساً - كما اعترف به - مدفوعة بأنّ عمدة ما ذكر هناك مانعاً عنه هو أنّ الشكّ بنفسه علّة لوجوب الإتیان لقاعدة الاشتغال، فلا معنی للاستصحاب بعد استواء العلم والشكّ في الحكم بثبوته، فإذا فرض عدم جریان القاعدة وعدم كون الشكّ هنا علّة للحكم ببقاء الاشتغال، فما المانع من استصحابه؟ وتحقیق الكلام هنا موكول إلی مبحث الاستصحاب.

وربّما یستشكل في الحكم بالبراءة في الصورة الأولی بأنّ الاضطرار مانع عن ثبوت التكلیف الثابت مقتضیه ومن القواعد المسلّمة عند العقلاء

ص: 420

إنّ الشك في تحقّق المانع غیر کافٍ في رفع الید عمّا یقتضیه المقتضی، ولذا یجب عند الشكّ في اضطرار المكلّف وعدمه الفحص عنه بمعنی جواز التوقّف في امتثال الحكم بعذر احتمال عجزه عنه من دون فحص ویعدّونه العقلاء عاصیاً لو انكشف عدم اضطراره، بل وكذا یجب البناء علی عدم الاضطرار عند الشكّ فیه بعد الفحص أيضاً حتّی یعلم ذلك، فیجب الصوم علی من یشكّ في قدرته علی إتمام الصوم حتّی یصل إلی العلم بذلك، أو الطریق المعیّن ولو كان هو خوف الضرر.

فكما أنّ الشكّ في وجود الاضطرار في التكلیف المعیّن غیر كافٍ في رفع الید عنه، فكذا الاضطرار المعلوم المردّد بین المكلّف به واقعاً، وأمّا ما لم یكلّف به، فإنّه أيضاً یرجع إلی الشكّ في تحقّق الاضطرار في المكلّف به وعدمه، فإذا ثبت التكلیف وتنجّز علی المكلّف، وجب بحكم العقل القطع بتفریغ الذمّة عنه بمراعاته في ما لا یضطرّ إليه وسقط الأصول المرخّصة كالصورة الثانیة.

ویؤیّده ما قيل من عدم تفصیل أحد في الموارد التي استكشف منها الإجماع علی وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة بین حصول الاضطرار بأحد الأطراف وعدمه، فضلا عن كونه بمعیّن أو غیر معیّن قبل العلم الإجمالي وبعده، فكان وجوب الاحتیاط في الحالات إجماعي وحینئذ فیمكن القول بوجوب الاحتیاط هنا ولو قلنا بأنّ دلیل الاحتیاط في أصل المسألة هو الأدلّة الشرعیة دون حكم العقل.

ص: 421

لكنّ الإنصاف أنّ ذلك منظور فیه، فإنّ دعوی كون الاضطرار مانعاً عن ثبوت التكلیف غیر ظاهر؛ فإنّ القدرة شرط في جواز التكلیف عقلاً، كما صرّحوا به، بل هي ظاهرة في حدّ ذاته، فإنّ طلب شيء من المكلّف لا یقدر علی الإتیان بالمطلوب قبیح، بمعنی أنّه لا مقتضی للطلب منه، فإنّ استدعاء الفعل واقتضاءه فرع قابلیة المستدعی منه للإتیان فعلاً بأن یكون قادراً علی الفعل والترك، وكیف یدّعي أنّ المفلوج والأعمی لهما قابلیّة الأمر بالطمأنینة والنظر إلی القرآن، فإلحاق شرط القدرة بشرط قابلیة الحلّ أولی من إلحاقه بسائر الشروط، فكیف یُدَّعیٰ كون العجز مانعاً؟ مع أنّ العجز لیس إلّا عدم القدرة، فإنّ القدرة أمر وجودي هو التمكّن من طرفي النقیض ولا نتعقل من معنی العجز إلّا عدم التمكّن ممّن له أهلیة التمكّن كالعمی، وهذا المعنی العدمي كیف يصحّ جعله مانعاً عن التكلیف مع افتقار الطلب إلی نفس قدرة المكلّف بما هي قدرة قطعاً؟!

نعم، قد یكون العجز طارِئاً علی المكلّف بمعنی بقاء مقتضی القدرة والتمكّن الشأني ویكون ارتفاعهما فعلاً لأجل مانع منع عنها، لكنّه غیر جعل العجز مانعاً عن التكلیف كما هو محطّ البحث هنا.

وأمّا لزوم الفحص عن القدرة في ترك الامتثال والبناء علی عدم العجز عند الشكّ؛ فإمّا مختصّ بما إذا سبق القدرة حتّی تثبت القدرة باستصحابها، أو في موارد طروّ العجز مع بقاء القدرة الشأنیّة حتّی تثبت القدرة بوجود مقتضیه عند الشكّ في ما یمنع منه؛ وإمّا لأجل الأخذ

ص: 422

بإطلاق الخطاب حتّی یتبیّن المخصّص؛ وإمّا لأجل قاعدة عقلائیّة خاصّة في تلك المسألة، وشيء منها لا یجري في ما نحن بصدده، فإنّ القدر المسلّم من جمیع ذلك مع ما في بعضها من المنع الظاهر بما إذا شكّ في طروّ العجز وعدمه رأساً، لا في ما إذا علمنا بطروّه ولم نعلم إنّ التكلیف متعلّق به أو بالمقدور.

ویمكن دفعه بأنّ ذلك إنّما یتمّ إذا كان الاضطرار حقیقیّاً رافعاً للقدرة وهو خلاف ظاهر العنوان، لخروج الفعل حینئذٍ عن كونه فعلاً اختیاریّاً، وأمّا إذا كان الاضطرار غیر رافع للقدرة، كما لو توقّف حفظ نفسه أو عرضه أو ماله الّذي یعتدّ بشأنه علی ارتكاب بعض المحتملات، أو لزم من تركه حرج، أو كان شرعیّاً كما إذا توقّف واجب أهمّ منه علیه ونحو ذلك، فهذا النحو من الاضطرار [غير] مانع عن التكلیف، لأنّه یجوز التكلیف به عقلاً بمعنی استجماعه لشرائط المكلّف به، فتحقّق مثل ذلك المانع (1) مدفوع عند الشكّ بأصالة عدمه ولذا علّل المفصّل المنع في الثاني بأنّ الإذن في ترك المقدّمات كاشف عن [إذنه في ترك ذي المقدمة] (2) ولا یَصِحُّ الإذن إلّا بعد القدرة، لكن یبقی الكلام في حجّیة أصالة عدم المانع عند كون الشكّ ناشِئاً عن تردّد الممنوع بین أمرین قد تحقّق في أحدهما وعلم عدمه في الآخر، فلعلّ

ص: 423


1- . في المخطوطة: «مانع».
2- . يقتضيه السياق ولکن في المخطوطة مفقود.

بناء المسألة علی مقدار حجّیة أصالة العدم لا یخلو عن قوّة لولا سلامة أصالة البراءة والحلّ في غیر ما اضطرّ إليه عن المعارض، لعدم جریان الأصل في ما اضطرّ إليه، فإنّ عمدة ما استند إليه في وجوب الاحتیاط تعارض الأصلین المفقود هنا، فتأمّل.

وأمّا التمسّك بالإجماع هنا فأوهن شيء؛ لعدم معلومیّة ظهور كلامهم في تعمیم الحكم لذلك بحیث یحصل منه الإجماع؛ ولو فرض ظهور فالتمسّك به لتحصیل الإجماع ممّا لا ینبغي.

هذا كلّه في ما إذا كان الاضطرار بِبَعْضٍ مُعَیَّنٍ، وأمّا إذا كان الاضطرار ببعض غیر معیّن، فقد صرّح بعض الأساطین (رحمة الله علیه) بوجوب الِاحتیاط مطلقاً وإن كان الاضطرار قبل العلم؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من الأمور، ولو علم حرمته تفصیلاً وجب الاجتناب عنه وترخیص بعضها علی البدل موجب لِاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي. (1)

أقول: وتوضیحه أنّ الاضطرار هنا عند مانع عن الحكم الواقعي لا بذاته، فإنّ الممنوع عنه واقعا هو أحد الأطراف لا جمیعها، فاضطراره إلی ارتكاب بعض لا یزاحم التكلیف لتعیّن جعله في ما یباح منها واقعاً، كما لو كان حال الأطراف مشخصّا، فإنّ العلم والجهل لا یغیّران الحكم الواقعي،

ص: 424


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص245 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص454.

بخلاف البعض المعیّن، فانّه لو كان هو المحرّم في نفس الأمر، لم یكن هنا حكم واقعي أصلاً، فیرجع الشكّ إلی نفس التكلیف.

وأمّا ما نحن فیه، فالاضطرار مانع عن امتثال ذلك التكلیف الواقعي بالإتیان بجمیع المحتملات، فمقتضی الجمع بین مراعاة التكلیف الواقعي في الامتثال ومراعاة الاضطرار هو الإكتفاء ببعض المحتملات بقدر ما یندفع به الحاجة من إبقاء الباقي مراعاة للتكلیف الواقعي، كما مرّ في الصورة الثانیة من القسم الأوّل.

وإن شئت قلت: إنّ [حُكْمَ] أصالة الحلّ والطهارة هنا جار في الطرفین ولا ینافیه الاضطرار هنا لتعلّقه بواحد غیر معیّن، فیتساقطان بالتعارض بخلاف ما سَبَقَ؛ لأنّ الأصل غیر جار في المضطرّ إليه.

فإن قلت: الترخیص في ترك بعض المقدّمات العامّیَّةِ كالمقدّمات الخارجیة كاشف عن عدم إرادة الحرام الواقعي، ضرورة امتناع اجتماع الإذن والنهي العقلیین في شيء واحد أبداً، فإذا اتّفق كون المختار هو الحرام الواقعي امتنع بقاء النهي بحاله، فإمّا أن لا یكون موجوداً في الواقع أيضاً، نظراً إلی كون الترخیص الناشي عن الاضطرار أيضاً واقعیاً ولو كان تعلّقه ابتداء بأمر غیر معیّن، ضرورة امتناع الإذن في ترك أحد الأمرین اللّذین أحدهما محرّم، وإمّا أن یكون الحكم الواقعي شأنیّاً صرفاً.

وعلی الأوّل، ففساد الحكم بوجوب الاحتیاط ظاهر؛ لأنّ المفروض ارتفاع التكلیف بالواقع ولا تكلیف بما عداه حتّی یجب الاحتیاط لأجله،

ص: 425

وعلی الثاني فكذلك؛ لأنّه لا یجب امتثال التكلیف المنجّز مطلقاً؛ ولو سُلِّمَ وجوب التعرّض له في الجملة عند العلم به، فأقصی ما هنا وجوب الامتثال الاحتمالي وهو إبقاء ما یساوي الحرام، لا الاقتصار في الترخیص علی ما یندفع به الضرورة.

قُلْتُ: الإذنُ الواقعيُّ مُخْتَصٌّ بِغَیْرِ الحَرامِ، لأنّه لا حاجة للمكلّف في ارتكاب المحرّم نظیر الإذن الثابت في جمیع أطراف الشبهة المحصورة ما سوی ما هو حرام واقعاً، فإنّ ماسواه مباح واقعي قطعاً، لكنّ الإذن هناك ممّا یجب رفع الید عنه ظاهراً بحكم العقل حذراً عن الوقوع في مخالفة الواقع فیه، وهنا لمّا لم یمكن رفع الید عنه لمكان الاضطرار المفروض وتعیّن الأخذ به لذلك ولم یكن مورد الترخیص والنهي ممتازین عند المكلّف، وجب الحكم بترك بعض محتملات الشبهة لذلك ومراعاة التكلیف الواقعي في الباقي، فالاضطرار هنا مانع عن تحصیل العلم بالموافقة، فتعیّن الحكم بعدم وجوبه، ولمّا كان العقل هو الحاكم بوجوبه عند عدم التعذّر، كان وجوب الاقتصار في ترك المقدّمات العلمیة بما یندفع به الضرورة ثابتاً كالأوّل بحكم العقل، لعدم تحقّق الإذن من العقاب في الباقي، بل یستحقّ المؤاخذة علیها لو اتّفقت مصادفة الحرام لها، فیتحقّق من المجموع تكلیف ظاهري متوسّط بین إلغاء الواقع رأساً وتحصیله قطعاً، وهو وجوب الامتثالات الاحتمالیة الممكنة والاقتصار في المتروك بقدر الضرورة.

وذكر بعض الأساطین في بیان التكلیف المتوسّط إنّ حاصله «ثبوت

ص: 426

التكلیف بالواقع من الطریق الّذي رخّص الشارع في امتثاله وهو ترك باقي المحتملات، وهذا نظیر جمیع الطرق الشرعیّة المجعولة للتكالیف الواقعیّة ومرجعه إلی القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معیّنا، كما في الأخذ في الحالة السابقة في الاستصحاب، أو مخیّرا كما في موارد التخییر» (1).

أقول: وهذا بظاهره مبنيّ علی لزوم جعل البدل عند الترخیص حتّی في مورد الاضطرار، وقد تقدّم الكلام في أصل لزومه سابقاً، ویزیده إشكال ملاحظة تحقّق الاضطرار هنا لو قلنا بوجوب الاحتیاط عقلا، وإلّا فلابدّ من ملاحظة مقدار الإجماع والاستقراء وغیرهما، والظاهر عدم إمكان التعمیم بالإجماع لكونه لبیّاً، وأمّا الاستقراء فلا یبعد شموله للمقام أيضاً، فتأمّل.

ثمّ إنّه هل یجب الفحص عن تشخیص المحرّم عند التمكّن منه في الحكم بالتخییر أو لا؟ وجهان، أظهرهما الأوّل؛ لأنّ البراءة هنا محكومة بقاعدة الاشتغال القاضي بلزوم البراءة الیقینیّة.

ودعوی شمول الإجماع علی عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعیة لما نحن فیه ممنوعة، بل المسلّم منه هو الشبهات البَدْوِیّةُ وخصوصاً لو كان الاضطرار شرعیاً لأجل مزاحمة تكلیف آخر أعمّ من

ص: 427


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص246 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص445.

الإحتیاط في بعض المحتملات.

نعم، لو كان هناك إطلاق في دلیل الترخیص بحیث یشمل قبل الفحص أيضاً، اتّجه الحكم بعدم وجوبه.

وهل یجب التحرّي وتحصیل الظنّ إذا كان الاضطرار بغیر معیّن أم لا؟ وجهان، وأمّا المنقول عن المحقّق في «المعتبر» عدم وجوبه، لعدم حصول العلم منه وعدم الدلیل علی اعتبار الظنّ (1) كما أنّ المنقول عن العلّامة في «التذكرة» (2) والشهید في «الذكری» (3)، بل قد یظنّ كونه المشهور وجوبه، إمّا لما ذكره بعض الأساطین من لزوم العمل بحكم العقل، فالأقرب إلی الواقع، أو من جهة أنّ العمل بعد التحرّي هو القدر المتیقّن من الامتثال، أو في حصول البراءة عن الاشتغال الیقیني، بل یمكن إنّه من قبیل الدوران بین التخییر والتعیین في طریق الامتثال؛ والثاني هو المتعیّن وتفصیله موكول إلی دلیل الانسداد.

ص: 428


1- . قال:... التحرّي غير جائز في الإنائين وفي مازاد عليهما سواء کان هناك أمارة أو لم يکن وسواء کان المشتبه بالطاهر نجساً أو نجاسة کالبول أو مضافاً أو مستعملاً ولو انقلب أحدهما لم يجز التحري أيضاً؛ لانّ التحري ظنّ فلا يرتفع به يقين النجاسة... انظر: المعتبر في شرح المختصر: ج1/ ص104.
2- . انظر: تذکرة الفقهاء: ج1/ ص89.
3- . انظر: ذکری الشيعة: ج1/ ص106 و ج3: ص171.

ثمّ إنّه فرّع بعض الأساطین (1) علی وجوب الاحتیاط في ما زاد علی قدر الاضطرار هنا فساد ما ذهب إليه القائلون بالظنّ المطلق من الرجوع في غیر موارد الظنون إلی الأصول العملیّة، مع أنّ مقتضی العلم الإجمالي المدّعیٰ في مقدّمات الدلیل الرابع هو الاحتیاط الكلّي ولم یثبت من مقدّمته بطلان الاحتیاط، إلّا بطلان الاحتیاط الكلّي بمعنی الإتیان بالموهومات أيضاً، فغایة ما یثبت به هو عدم وجوبه في الموهومات، وأمّا المشكوكات، فهي باقیة علی حكم الاحتیاط.

نعم، لو قام دلیل بعد بطلان الاحتیاط علی وجوب كون الظنّ حجّة وطریقا إلی الأحكام، أو منعوا من أصالة وجوب الاحتیاط عند الشكّ في المكلّف به، صحّ ما جروا علیه، لكنّهم لم يقیموا علیه دلیلاً.

وتفصیل المقام انّ ظاهره التفصیل بین كون الظنّ حجّة وطریقاً، فیرتفع أثر العلم الإجمالي وبین غیره فیبقی، فینبغي الإشارة إلی حال القسمین مع تعمیم المورد، فنقول:

أمّا القسم الأوّل وهو ما إذا قام حجّة وطریق في موارد المعلوم بالإجمال؛ فإن قام الطریق علی نفي التكلیف في بعض أطراف الشبهة فاللازم هو الحكم بالاحتیاط في الباقي مطلقاً، كما یظهر وجهه ممّا تقدّم؛

وإن قام علی ثبوت التكلیف في بعضها - كأن قامت البیّنة علی نجاسة

ص: 429


1- . هو الشيخ الأنصاري (رحمة الله)؛ انظر: فرائد الأصول: ج2/ ص246 و 247.

أحد الإنائین المشتبهین والظنون الخاصّة المثبتة للتكالیف في المسألة المفروضة - فإنْ قام علی كون المعلوم بالإجمال هو خصوص ما قام علیه، فالظاهر عدم وجوب الاحتیاط في الباقي، لتعیّن المعلوم بالإجمال شرعاً، فلا مقتضی للإحتیاط، وإن لم یقم إلّا علی ثبوت الحكم في مورده بحیث یمكن أن یكون هو أو غیره، فحينئذٍ إمّا أن یقطع بانحصار التكلیف واقعاً في واحد من الأطراف من الخارج، أو یحتمل الزیادة؛ وعلی التقدیرین إمّا أن یكون للمعلوم بالإجمال خصوصیة معلومة لم تقم الأمارة علی وجودها في موردها - كأن قامت البیّنة علی كون أحد الإنائین المعلوم نجاسة أحدهما بالدم نجساً في الجملة - أو لا یكون كذلك؛ وعلی التقادیر، فإمّا أن یكون الطریق قائماً علی تحقّق الحكم في زمان المعلوم بالإجمال أو لا، فیحتمل تأخّره عن الحكم المعلوم بالإجمال، فهذه عدّة صور المسألة، فلنشر إلی أحكامها.

أمّا إذا علم انحصار التكلیف، فقد یُدَّعیٰ جریان البراءة في غیر مورده علی جمیع الصُّوَرِ، نظراً إلی أنّ الطریق حجّة مثبت لكون التكلیف الواحد بالفرض هو ما قام علیه الأمارة، ولو فرض توقّفه علی لزوم إثبات انطباقه علی المعلوم بالإجمال واقعاً، فهو في الطرق غیر ضائر وإن لم یجز في الأصول العملیّة.

ویشكل بأنّ القدر المسلّم من إثبات الأمور العادیّة الطرق والأمارات ما تعدّ طرقاً بالنسبة إلیها دون ما هو من قبیل المقارنات الاتّفاقیة كما نحن

ص: 430

بصدده، وحینئذٍ فلا یبعد أن یلحق بما إذا لم یعلم الانحصار وإن كان في بعض الصور حاله أظهر.

وأمّا إذا لم یعلم الانحصار وقامت الطریق بعد العلم الإجمالي، فإن كان للمعلوم بالإجمال خصوصیّة لم یقم علیها الأمارة ولم یقم علی تحقّقه في زمان المعلوم بالإجمال، فالظاهر هنا وجوب الاحتیاط، كأن علمنا بنجاسة أحد الإنائین علی حرمة أحدهما بعد العلم الإجمالي من دون بیان لحال ما قبله زمانا؛ لأنّ العلم الإجمالي بعد باقٍ بحاله، فانّ الأمر بالاجتناب عن النجس لابدّ من امتثاله قطعاً بعد العلم به ولا یعلم من الطریق إنّ النجس هو ما قام علیه الأمارة بوجه من الوجوه، وأصالة عدم تعدّد التكلیف والبراءة عمّا زاد علی الواحد لا یثبت اتّحاد متعلّقهما، كما أنّ سقوط الأصول في ما قام علیه الطریق غیر نافع بعد تأخّره عن تنجّز التكلیف الواقعي، كما مرّ نظیره في الاضطرار المتأخّر.

وأمّا إذا قام علی تحقّقه في زمان المعلوم بالإجمال في الفرض السابق، ففي وُجُوْبِ الاحْتِیاطِ أيضاً وَعَدَمِهِ وَجْهانِ ممّا مرّ ومن أنّ الطریق المفروض قاضٍ بكون مورده متعلّقاً للتكلیف بعینه، وحینئذٍ فإمّا أن یكون هو المعلوم إجمالاً، أو یكون غیره، فلا إشكال علی الأوّل وكذا الثاني لعدم جریان الأصل فیه، فهو كما لو دار الأمر في المعلوم بالإجمال بین المحرّم تفصیلاً والمباح، فالأصل في الطرف الآخر سلیم عن المعارض مع سلامته عمّا مرّ من الإشكال الذي یختصّ بما علم تعدّد عنوان المأمور به، وهو بعد

ص: 431

غیر منقّح لإمكان منع ذلك هنا لتأخّر الطریق عن سقوط الأصول الجاریة قبل وجوده قطعاً، فانّ قيامه بعد في الزمان المتأخّر لیس مانعاً من جریانه في المتقدّم، فتأمّل.

وإن لم یكن للمعلوم بالإجمال خصوصیّة، كان علمنا بنجاسة أحد الإنائین في الجملة وقامت البیّنة علیها في خصوص أحدهما، فإن قام علی تحقّقه في زمان المعلوم بالإجمال، فالظاهر عدم وجوب الاحتیاط هنا من دون إشكال؛ لأنّ القدر اللازم علی المكلّف حینئذٍ هو الاجتناب عن النجس المردّد بینهما من دون خصوصیة، فإذا حكمنا بكون أحدهما بعینه نجساً لأجل الطریق، كان اجتنابه اجتناباً للنجس شرعا، فیمتثل به التكلیف المعلوم.

وبعبارة أخری لو فرضنا كون مورد الأمارة نجساً، انطبق علیه المعلوم بالإجمال، لكونه مصداقاً للمطلق المعلوم بالإجمال، فامتثاله امتثال للمعلوم بالإجمال بعد إحراز الموضوع بالأمارة، فافهم.

وإن لم یقم علی تحقّقه في زمان المعلوم، ففي الحكم بالبراءة في الباقي نظرا إلی ما مرّ وعدمه، وجهان؛ لا یبعد ترجیح الثاني لرجوعه إلی فرض العلم بالخصوصیة؛ لأنّ وجوده في زمان معیّن حینئذٍ خصوصیّة لم یقم علیها الطریق، وأمّا إذا لم یتأخّر الطریق عن العلم الإجمالي بأن یقارنه أو یتقدّم علیه، ففي ما حكم علیه بالبراءة من الصور السابقة، فهاهنا أولی، بل الظاهر الحكم بالبراءة فیه بجمیع صوره نظراً إلی عدم جریان الأصل في

ص: 432

مورد الأمارة.

هذا كلّه إذا لم یكن العلم الإجمالي حادثاً لأجل اعتضاد الطرق بعضها ببعض، وإلّا فالظاهر هو الحكم بالبراءة مطلقاً في غیر موارد الأمارات، لكونها من المعلوم إجمالاً مقیّدا بموارد الأمارات حینئذٍ مختصّاً به اختصاص المسبّب بسببه.

إذا عرفت ذلك إجمالا، فنقول: إنّ الجواب عن إشكال العلم الإجمالي في جریان الأصول في الموارد الخالیة إمّا من حیث أنّها ناظرة إلی الأحكام الثابتة في الشریعة الّتي عُلِمَ إجمالاً بثبوتها، فهي ناظرة إلی ذلك المعلوم إجمالاً أو كالناظرة إلیها في كونها صالحة للتعیین، أو من حیث أنّها قائمة علی تحقّقها في زمان المعلوم بالإجمال ووجودها واقعاً بحیث یجب الرجوع إلیها والعمل بها كان في سقوط الأصل عند العلم الإجمالي لوجودها في موارد الأصول، أو من حیث أنّه لا خصوصیّة للمعلوم بالإجمال، فینطبق علیه ما قامَتْ علیه الأمارة، أو لأجل أنّ المنشأ في حصولها زائد (1) علی المقدار المعلوم تفصیلاً هو تلك الطرق والأمارات.

وأمّا القسم الثاني، ففي بقاء حكم الاحتیاط وعدمه في الباقي وَجْهانِ ممّا ذكروا من أنّ المضطرّ إليه - بعد ملاحظة دلیل وجوب التحرّي - هو خصوص الموهومات وهذا الاضطرار حاصل قبل العلم الإجمالي، أو من

ص: 433


1- . في المخطوطة: «زائداً».

حینه لوجود الأمارات الظنیّة حین العلم، فیكون من القسم الأوّل الّذي اعترف بعدم وجوب الإحتیاط فیها، فیرجع في الموارد الخالیة إلی الأصول الموجودة في المسألة، سواء قلنا بأنّ نتیجة دلیل الانسداد هو العمل بالأمارات والظنون النوعیة، أو العمل بمقتضی الظنون الشخصیة.

فعلی الأوّل لا إشكال من جهة عدم تأخّرها عن العلم الإجمالي.

وعلی الثاني، فصفة الظنّ الشخصي وإن كان متأخّراً عن العلم الإجمالي، لأنّ حصولها بعد الإجتهاد والفحص، لكن أسبابها - وهي الأمارات - موجودة قبله أوحینه، والعبرة في ذلك بالأسباب وإن كانت صفة الحجّیّة معلّقة علی صفة الظنّ؛وذلك لأنّ الاحتمالات منقسمة من أوّل الأمر إلی ما یظنّ بعدم التكلیف فیه بعد الفحص واقعاً وإلی غیره، فالمضطرّ إليه هو خصوص الاحتمالات الموهومة لقاعدة التحرّي.

هذا، مضافاً إلی أنّ الظنون المذكورة معتبرة من باب الإلجاء والإضطرار، إلّا أنّها كاشفة ولو ظنّاً عن كون مؤدّیاتها هي الأحكام الواقعیّة ودخولها في المعلوم بالإجمال، فیرجع الشكّ في دخول الموارد الخالیة عنها فیه إلی الشكّ في الأقل والأكثر، والمرجع فیه هو البراءة. هذا تنقیح ما ذكره بعض مشایخنا (دام ظله).

وفیه عندي تأمّل، فانّ الظّاهِرَ أنَّ المسألة من قبیل الاضطرار بغیر معیّن، فانّ الاضطرار الحقیقي، أو العسر والحرج، أو الإجماع علی بطلان الاحتیاط الكلّي كلّها لیست مختصّة بالموهومات ذاتاً، بل نسبة الجمیع إلی

ص: 434

أطراف الشبهة علی حدّ سواء وإنّما یتعیّن الموهومات لترك الاحتیاط فیها بملاحظة حكم العقل بملاحظة ما هو أقرب إلی الواقع، لأنّه ممّا یمكن من الامتثال حینئذٍ، فهذا التعیین إنّما جاء بعد وجوب الاحتیاط عقلاً، فلا یخرج المورد عن الحكم بالاحتیاط.

وتوضیح ذلك یظهر ممّا ذكر في سبب الفرق بین المقامین وعمدة ما هناك منع الاضطرار وثبوت الحكم واقعاً في ما اضطرّ إلی البعض المعیّن، بخلاف غیره، وهذا الاضطرار لیس عن ثبوت الحكم الواقعي جَزْماً، كیف؟ ولو كان الأمر كما ذكره، لكان المتّجه الرجوع إلی البراءة في جمیع الموارد؛ أمّا موهومات التكلیف، فبالاضطرار والترخیص المفروض؛ وأمّا في غیرها، فلأجل أصالة البراءة، كما هو الحال في القسم المذكور وفیه هدم لأصل الدلیل لا رفع لإشكاله.

ودعوی كشف الظنون المذكورة عن كون مواردها هي الواقعیات المعلومة إجمالاً فاسدة جدّاً؛ لأنّ الكشف الظنّي إذا لم یكن حجّة - كما هو المفروض - فكیف ینقلب المسألة إلی الشبهة البدویة؟ كیف ومظنون التكلیف ومشكوكه مساویان في لزوم مراعاة الإحتمال فیها لأجل الاحتیاط والظنّ بعدم التكلیف لا یرفع الاحتیاط في الباقي ولو كان ظنّا خاصّا كما مرّ؟ فافهم وتأمّل.

ص: 435

الأمر السادس

قال بعض الأساطین (1) (رحمة الله علیه): لو كان المشتبهات ممّا یوجدن (2) تدریجاً، كما إذا كان زوجة الرجل مضطربة في حیضها بأن تنسی وقتها وإن حفظت عددها، فیعلم إجمالاً أنّها حائض في الشهر ثلاثة أیام مثلاً، فهل یجب علی الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر؟ و [هل] یجب علی الزوجة أيضاً الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزیمة تمام الشهر، أم لا؟ وكما إذا علم التاجر بابتلاءه في یومه أو شهره بمعاملة ربويّة، فهل یجب علیه الإمساك عمّا لا یعرف حكمه في المعاملات في یومه أو شهره، أم لا؟

التحقیق أنْ یُقالَ إنّه لا فرق بین الموجودات فعلاً والموجودات تدریجاً في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بینهما إذا كانت الابتلاء دفعة وعدمه لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب.

نعم قد یمنع الابتلاء دفعة في التدریجيّات - كما في مثل الحیض - فانّ تنجّز تكلیف الزوج بترك وطي الحائض قبل زمان حیضها ممنوع، فانّ قول الشارع: «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» (3). ظاهر في وجوب الكفّ عند

ص: 436


1- . هو الشيخ الأنصاري ومن هنا بدأ کلامه.
2- . في المخطوطة کذا: «لو کان المشتبهان ممّا يوجد».
3- . في المخطوطة: زن ها را در محيض نزديکی نکنيد تا طاهر شوند، بدلَ نصّ الآية ولکن جعلناها مکانه. سورة البقرة، الآية 222.

الابتلاء بالحائض؛ إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء، فلا یطلق بهذا الخطاب، كما أنّه مختصّ بذي الأزواج ولا یشمل العزّاب إلّا علی وجه التعلیق، فكذلك من لم یبتلِ بالمرأة الحائض.

ثمّ قال (1): ویشكل الفرق بین هذا وبین ما لو إذا نذرأوحلف في ترك الوطي في لیلة خاصّة، ثمّ اشتبهت بین لیلتین أو أزید، ولكنّ الأظهر هنا وجوب الاحتیاط، وكذا في المثال الثاني من المثالین المتقدّمین (2). إنتهی محلّ الحاجة من كلامه.

أقول: كلامه (قدس سره) یحتمل بعیداً إنّ الأظهر عنده وجوب الاحتیاط في جمیع الأمثلة المتقدّمة بأن یكون قوله: «ولكن الأظهر هنا» حینئذٍ دفعاً قد یمنع الابتلاء دفعة ویكون المراد منه مثال الحیض الّذي منع من تحقّق الإبتلاء فیه دفعة.

ویحتمل أن یكون إشارة إلی التفصیل في الأمثلة، فیكون قوله: «والأظهر هنا» مفیداً لوجوب الاحتیاط في مثال النذر بعد المساعدة علی البراءة في مثال الحیض، فیكون محصّل الكلام التفصیل بین ما كان من قبیل مثال الحیض فالبراءة، وبین ما كان من قبیل مثال النذر والربا فالأظهر

ص: 437


1- . القائل الشيخ الأنصاري وهذا بقيّة کلامه.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص248 و 249 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص 458-456.

الإحتیاط؛ وهذا المعنی لعلّه أظهر من سابقه بحسب العبارة، وهو الّذي فهمه شیخنا (دام ظله) من كلامه، وعلیه فیتّجه سؤال الفارق بین تلك الأمثلة، وتفصیله یظهر من تفصیل حكم الأمثلة الثلاثة بحیث یظهر منه حال كلّ المسألة.

أمّا المثال الأوّل أعني الحیض، ففیه وجوه:

منها: الحكم بالبراءة نظراً إلی خروج الأفراد المتأخّرة عن تحت ابتلاء المكلّف في الزمان الأوّل كما قرّره (قدس سره)، بل قد یقال بالبراءة ولو لم نقل باشتراط ابتلاء المكلّف بجمیع أطراف الشبهة في الحكم بوجوب الاحتیاط، نظراً إلی أنّ المعیار فیه سقوط الأصول بالتعارض الواقع بینها بضمیمة العلم الإجمالي وهو مفقود في المقام لعدم جریان الأصل في الأزمنة المتأخرة في الزمان الأوّل، فلا یجري الأصل فیه إلّا بعد مجيء زمانه، فالأصل في كلّ زمان سلیم عن المعارض فعلا، فلا یجب الاحتیاط في شيء منها.

ومنها: الحكم بالاحتیاط (1) مطلقاً، كما نُسِبَ إلی الشیخ (قدس سره)؛ ووجهه إنّ الظاهر في قوله تعالی: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ (2)، كون الحیض ظرفاً للحكم بالحرمة، لا شرطاً لتحقّق أصل الحكم بالحرمة، فیكون الحرمة

ص: 438


1- . انظر: الفرائد (للمجمع)، ج2، ص249.
2- . في هامش المخطوطة: پس اعتزال جوييد زن ها را در محيض. (الآية)، بدل نصّ الآية ولکن جعلنا نصّ الآية مکانها. سورة البقرة، الآية 222.

بالنسبة إلی زمان الحیض ثابتاً قبل زمان الحیض، نظیر ما ذكره عمّي العلّامة طاب ثراه في الواجب المعلّق (1).

ودعوی اختصاص التكلیف بزمان الحیض كاختصاصه بذوي الأزواج (2) ممنوعة، بل الظاهر كفایة العلم بتحقّق الحیض ولو في آخر الشهر، أو الظنّ به في توجیه الخطاب نحو المكلّف، كصحّة توجیه الأمر بصوم شهر رمضان تماماً من أوّل الشهر؛ ولا یقاس هذا بموارد عدم تحقّق الابتلاء، فإنّه إنّما یسلّم إذا لم یكن لوقوع طرف الفعل زمان متحقّق الحصول في المستقبل ولذا یصحّ نهي العبد من النظر إلی زوجة المولی عند ركوبها من أوّل الأمر بعد إحراز تحقّقه بعده.

ألا تری أنّه لو توقّف ارتكاب بعض أطراف الشبهة إلی ما یحتاج إلی مضيّ زمان مع كون المكلّف في عرضة إیقاع المقدّمة أوّلاً، وبینها ثانیاً لم یجز بمجرّده الحكم بالبراءة عن الآخر، كما لو كان أحد المشتبهین في بیته والآخر في بیت بعید عن ذلك البیت مع كونه فیه فعلا؛ ولا نجد فارقاً بین كون توقّف الفعل علی مضيّ زمان بین كونه لأجل افتقار بعض مقدّمات الفعل إليه وبین كونه لأجل كون الزمان ظرفاً في الفعل، أو ظرفاً لما هو معلّق علیه التكلیف كالحیض.

ص: 439


1- . انظر: الفصول الغرويّة: ص80.
2- . في المخطوطة: «بذی الأرواح».

وأمّا ما ذكر من عدم وقوع التعارض في الأصول، ففیه أنّه علی ما ذكر یجري الأصل فعلاً في الأزمنة المتأخّرة، نظراً إلی الشكّ في اشتغال الذمّة بالترك في الزمان الثاني بالإذن فيهما کذلك لا يجامع المنع فِعْلاً عن أحدهما، بل قد يقال بأنّه لا حاجة إلی اجتماع الأصلین في زمان واحد، بل یكفي في التناقض جعل الأصل عامّاً بحیث یفید الإذن في كلّ من أطراف الشبهة، فإنّه لا یجامع النهي عن أحدها ولو كان مشروطاً بمجيء زمانه، ضرورة امتناع اجتماع النهي والإذن مع علم المكلّف بهما ولو إجمالا.

ومنها: الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة من دون وجوب الموافقة القطعیة، فیحكم فیه بالتخییر للزوج أو الزوجة، وهو من حیث القواعد بعید، إلّا أن یستنبط من أخبار المضطربة ونحوها ذلك؛ هذا.

والأظهر إنّه إن قلنا بكون أحكام الحیض مشروطاً بمجيء زمانه لإنكار الواجب المعلّق رأساً أو في خصوص المقام، اتّجه الرجوع إلی الأصول الخاصّة، كما سنشیر إليه إن شاء الله تعالی ولم یجر فیه قاعدة الاحتیاط - ولو لم نقل باشتراط الابتلاء - لأنّه لا فائدة في توجیه الخطاب المشروط بشرط غیر حاصل للقطع بانتفاء التكلیف فعلاً، والأصول العملیة إنّما جعلت لأجل كیفیّة العمل، فكیف تجري في زمان لا تكلیف فیه ویمكن تحقّق العمل فیه وجعل الأصل العملي كلیّاً بحیث یفید الرخصة في جمیع أطراف الشبهة تدریجاً لا مانع منه بعد عدم تنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال في شيء من الأزمنة، فهو كجعل الأصل في واجدَي المني في الثوب المشترك

ص: 440

والشبهة غیر المحصورة علی بعض الوجوه وغیرهما، وإن قلنا بكونها معلّقة علی تحقّق الحیض، لا مشروطاً بمجيء زمانه، فالظاهر هو الحكم بوجوب الاحتیاط ولو قلنا باشتراط الإبتلاء كما بیّناه.

ودعوی أنّ الأصول العملیّة لا تجري إلّا بعد مجيء زمان العمل لا قبله لعدم ترتّب العمل علیه قبله ولو كان التكلیف ثابتا، فلا یقع فیه التعارض بین الأصول؛ ممنوعة، ولو سلّمت لكان تنجّز التكلیف بما هو الواقع بسبب العلم الإجمالي كافیاً في عدم جریان الأصول ولو اختلفت زمانا، فإنّ التكلیف المنجّز بالعلم لابدّ له عقلا [من] امتثال حقیقي أو جعلي، ولا یتحقّق شيء منهما بعد إجراء الأصول تدریجاً، بل یتحقّق المخالفة القطعیة التي یستقلّ العقل بقبحها بعد تنجّز الخطاب علی ماسبق تفصیله.

وهذا بخلاف الشقّ الأوّل، لعدم إحراز تنجّز التكلیف في شيء من الأزمنة والمنع من كون العلم بحصول تكلیف في أحد الأزمنة منجّزاً، فافهم وتأمّل.

وأمّا المثال الثاني وهو مسألة الربا، فربّما یوجّه التفرقة بینه وبین المثال السابق بعد الالتزام فیه بالبراءة، بخلافه هنا حسب ما فهم من كلام المحقّق المتقدّم بأنّ التكلیف هنا منجّز فعلاً علی جمیع التقادیر بخلافه هناك، وذلك لأنّ موضوعات الأحكام الشرعیة التي هي أفعال المكلّفین إن كانت بالموضوعات الخارجیة كالقسمة بین الزوجات ومقاربة الحائض ونحوهما،

ص: 441

فحینئذٍ فیتوقّف توجیه الخطاب فعلاً إلی المكلّف بتحقّق تلك الموضوعات، فلا یجوز النَّهْي فعلاً عن مقاربة الحائض إلّا بعد تحقّق الحیض والزوجیة، كما لا یجوز الأمر بالقسمة إلّا بعد حصول الزوجات فعلاً؛ ولو أغمضنا النظر عن تأخّر أزمنتها الذي لا مدخلیة لها في حسن الخطاب وقبحها إلّا مجرّد كونها ظرفاً للوجود، فانّ قطع النظر عن الزمان لا یوجب تحقّق الحیض فعلاً الذي هو قید عنوان المحرّم، فانّ الموضوع عند التحلیل هو الحائض؛ وأمّا إذا كانت متعلّقات الأحكام نفس فعل المكلّف من دون تعلّقها بموضوع خارجي، أو كانت متعلّقة بموضوعات موجودة فعلا، كالغِیْبَةِ وشرب الخمر والمعاملة الربویّة ونحوها بعد وجود المؤمنین والخمر والأجناس الربویّة، فالتكلیف بها ثابت فعلاً؛ ولو كان زمان الفعل متأخّراً لإطلاق الخطاب بالنسبة إلیها، فهو الآن مكلّف بالاجتناب عن شرب الخمر والربا في الأزمنة اللاحقة، لوجود ما له مدخلیة في تحقّق الخطاب ولا یضرّه توسیط الزمان الّذي لیس إلّا ظرفاً للعمل ولا مدخلیة له في الحسن والقبح؛ نعم لو فرض عدم وجود الأجناس الربویة، كان التكلیف معلقّاً علی وجودها كالصورة الأولی.

ویؤیّده إطباق الفقهاء علی استحقاق العقاب لمن علم بحرمة الخمر ونحوه من المحرّمات، ثمّ فرض مسافرته إلی بلاد الكفر حتّی بلغ بطول الزمان حدّ القاصرین، فارتكب المحرّم المفروض ولیس ذلك الأمر من جهة تنجیز الخطاب الإجتناب عن المحرّمات اللاحقة في الزمان الآتي مع

ص: 442

توسّط تلك الأزمنة الطویلة بین زمان الالتفات والفعل الواقع حال القصور الفعلي، هذا.

وعندي في التوجیه نظر، وتفصیل المسألة: إنّ الشكّ في تشخیص المعاملة الربویة من غیرها قد يکون ناشیاً من الجهل بأحكام الربا وموضوعاتها المستنبطة بأن یكون جاهلاً بمسائل الربا، لعدم اطّلاعه تفصیلاً بمذهب مجتهده، أو عدم استنباطه لتلك المسائل بنفسه لو كان مجتهداً، وقد یكون ناشیاً عن الشبهة في المصداق الخارجي بعد تشخیص ما یرتبط بحاله من الأحكام الكلیة المتعلّقة بالربا كلّا ً.

وبالجملة: إمّا أن یكون منشأ الشبهة الجهل بالحكم الكلّي، وإمّا أن یكون لأجل اشْتِباهِ الموضوع الخارجي، وعلی التقدیرین إمّا أن یكون التدریج في وقوع المعاملة الربویة وصدوره منه، كالصرّاف الذي یعلم بوقوع الربا في بعض مُعامَلاتِ شهره مع كون جمیع معاملاته ممّا یصحّ ویجوز إیقاع الربا فیه، وإمّا ان یكون التدریج في ابتلاء المكلّف به بحیث یكون في غیر ذلك الفرد الواقع في الزمان الخاصّ خارجاً عن تحت ابتلائه بالربا، بحیث لا یجوز نهیه في غیر ذلك عن الربا فعلاً علی نحو سائر ما خرج بعض أطراف الشبهة عن تحت الابتلاء، فإن كانت الابتلاء مستمرّاً والوقوع تدریجیّاً، فلا إشكال في وجوب الاحتیاط فیه مطلقاً - حكمیّة كانت الشبهة أو موضوعیّة - من دون حاجة إلی التطویل المتقدّم، لاجتماع شرائط الاحتیاط فیه وكون وقوع الأطراف تدریجیاً باختیار المکلّف لا

ص: 443

يوجب سقوط القاعدة بعد فرض کون الابتلاء مستمرّاً والظاهر خروجه عن عنوان المطلب، فانّ المراد بتدریجیة الشبهات لیس هو تدریجیة ارتكاب المكلّف لها باختیاره، بل الظاهر تدریجیة نفس الموضوعات المتعلّقة للأفعال في الوجود متّصفة بالعنوان المحرّم ولو لأجل تدریجیة شرط حرمته أو تدریجیة نفس الأفعال بحسب الإمكان بحیث لا یمكن صدور بعضها إلّا في زمان متأخر دون بعضها.

ویلحق به الإمتناع العادي وما یترك في الزمان المتقدّم بنفس عدم ابتلاء المكلّف به فیه، وهذا أعمّ مطلقاً من الأوّل في وجه، فلابدّ في عنوان المسألة من أن یكون صدور بعض الأطراف بعینه متوقّفاً ولو بملاحظة حال الشخص عرفاً علی مجيء زمان متأخّر بخلاف بعض آخر، ففي هذا المثال لابدّ وأن یفرض أن یكون المعاملة الّتي یمكن صیرورتها رباً واقعاً ممّا یصحّ صدورها من المتأخّر في كلّ شهر مرّة معیّنة واقعاً، فیكون في غیر زمانها ممّن لا یَصِحُّ منه صدورها حتّی لا یصحّ نهیه تنجیزاً إلّا عن تلك المعاملة.

وحینئذ فنقول: إن كانت الشبهة حكمیة لأجل عدم تحصیل العلم بأحكام الربا تفصیلاً، فالظاهر وجوب الاحتیاط علیه في كلّ ما یحتمل كونه ربا؛ لعدم جریان أصالة البراءة قبل الفحص في الشبهات الحكمیة للمجتهد وفي حكم حقّ العامّي فیها مطلقاً، فلا مناص حینئذٍ عن الاحتیاط قبل تعلّم الأحكام ونمنع إمكان فرض الشكّ بعد الفحص المعتبر عن الأدلّة، فانّ

ص: 444

المسألة لاتخلو عن حكم ولو ظاهريّ بعد ملاحظة الأصول الجاریة فیها، بل لا یبعد أن یكون فرض ابتلاء المكلّف وعدمه ملغی في الأصول الجاریة في الأحكام الكلّیة.

وإن كانت الشبهة موضوعیة بعد فرض إحراز الأحكام الكلّیة، فإن فرض كونه في أوّل الشهر مثلاً أجنبیّاً عمّا یقع في آخره بأن لا یكون قادراً علیه أوّلاً ونحوه، صحّ الرجوع إلی البراءة والرجوع إلی الأصول، وإلّا بأن كان المكلّف في عرضة الوقوع عرفاً بحیث لا یقبح توجیه الخطاب نحوه؛ ولو تأخّر الفعل زماناً كان مقتضی القاعدة المتقدّمة هو الاحتیاط وقد أشرنا في سابقة إلی أنّ مجرّد تأخّر زمان الفعل لا یصلح مخرجاً عن قاعدة الاحتیاط، فراجع وتأمّل.

وأمّا المثال الثالث وهو مسألة النذر، فربّما یوجّه وجوب الاحتیاط فیها مع عدم الإلتزام به في المثال الأوّل بأحد أمور:

منها: إنّ حرمة الوطي في المثال تكلیف معلّق علی مجيء زمانه لا مشروط به كسائر الخطابات العامّة علی الأوقات، فیجب تحصیل المقدّمات قبل مجيء الزمان والاحتیاط في أطراف الشبهة من باب المقدّمة.

ومنها: إنّها وإن كانت مشروطة، إلّا أنّ تحصیل المقدّمات الوجودیة الاختیاریة في الواجبات المشروطة لازم أيضاً قبل وجود شرطه الّذي هو الزمان، كما ذكر في محلّه وجهه وإن لم نقل بإمكان الوجوب التعلیقي أو وجوده رأساً.

ص: 445

ومنها: إنّ الخطابات وإن قلنا بعدم تأثیره في حقّ المكلّف قبل زمانه مطلقا في الخطابات الأصلیّة، إلّا أنّها بالنسبة إلی الأوقات المعلّقة علیها الواجب باختیار المكلّف - كالنذر والحلف والعهد المؤقّتة - لیس كذلك إلّا من جهة تنجیز التكلیف بالنذر علیه قبل الوقت ویساعده حكم العرف. ألا تری أنّه لو وعد زید عمرواً بإعطاء فرسه له في الغد، ثمّ باعه قبل الغد، فیقال إنّه أخلف وعده؛ ولا فرق بین وعد المخلوقین بعضهم مع بعض وعهدهم مع خالقهم من هذه الجهة؛ هذا.

ولا یخفی علیك إنّ هذه التوجیهات لا تنفع في توجیه كلام (1) المحقّق المتقدّم ذكره، الّذي فهم منه التفرقة بین الأمثلة؛ لأنّه صرّح في أوّل كلامه بأنّ المعیار في وجوب الاحتیاط هو الابتلاء دفعة وعدمه في توجیهه من التفرقة من هذه الجهة بكون التكلیف معلّقاً ووجوب مقدّمة الواجب المشروط وكون الالتزامات ممّا لابدّ من مراعاته من جهة المقدّمة قبل زمانها ممّا لا یصحّ به كلامه (رحمة الله علیه)، فإنّ عُنْوانَ الِابْتِلاءِ هو حسن توجیه الخطاب منجّزاً وعدمه وهذا ممّا لا ربط له بشيء منها.

مع أنّه ربما یناقش في الأوّل بأنّه إن التزم بصحّة التكلیف التعلیقي في الشرعیّات، فلیلتزم به في مثال الحیض أيضاً، لما أشرنا إليه سابقاً من ظهور

ص: 446


1- . في المخطوطة: «الکلام».

قوله تعالی: ﴿فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾ (1)، كون الحیض ظَرْفاً، فلو كان مجرّد تعلیقیّة الحكم كافیاً في الحكم بالاحتیاط، لزم الحكم به فیه أيضاً، مضافاً إلی أنّ كفایة الوجوب المعلّق في إیجاب الاحتیاط غیر ظاهر مع عدم إثبات الإبتلاء الفعلي وإثباته هنا بعد المنع عنه هناك مشكل جدّاً.

وفي الثاني بأنّ ما ذكر جار في مثال الحیض بعینه، لأنّه أيضاً تكلیف مشروط، فلو بنی علی كون مثل ذلك مسقطاً للأصول، كان اللازم الحكم بالاحتیاط هناك أيضاً.

وتوهّم التفصیل بین التحریم المشروط والوجوب المشروط في وجوب المقدّمة وإرجاع الحیض إلی الأوّل والنذر إلی الثاني، نظراً إلی أنّ الحكم الشرعي هو وجوب الوفاء بالنذر، مدفوع بأنّ ترك الحرام أيضاً واجب ولو لم یسمّ واجباً اصطلاحاً، فلا فرق بین مقدّمة تركه ومقدّمة فعل الواجب، ویشهد له شمول الدلیل المذكور في محلّه لإثبات الدعوی المذكورة.

هذا مضافاً إلی أنّ اتّحاد مناط المقام الّذي هو المقدّمة العلمیّة مع تلك المسألة الّتي هي مقدّمة الوجود غیر ظاهر، بل عمدة ما ذكر هناك من لزوم تفویت الواجب اختیاراً بترك المقدّمة غیر جار هنا، فانّ التفویت الحاصل

ص: 447


1- . في المخطوطة بدل نصّ الآية: پس عزلت جوييد زن ها را در محيض. سورة البقرة، الآية 222.

هنا هو مخالفة الواقع في أحد الأطراف اختیاراً، فبعد عدم إثبات تنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال بهذا العلم یكون كالمخالفة الواقعة في الشبهة البدویّة ومع تعدّد المكلّف وتعدّد الواقعة وغیر المحصور ونحوها.

وبالجملة: فالمعیار هنا بتنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال وهناك بأنّه لا یجوز تفویت الواجب بترك مقدّمته عقلاً، فتأمل.

وفي الثالث بانّه إن كان الغرض منه كون الوجوب تعلیقیّاً أو مشروطاً یجب مقدّمته، اتّجه علیه ما ذكر في الأوّلین، وإلّا فلا وجه له سوی دعوی استفادة الالتزام بإبقاء الموضوع وعدم تفویته من الكلام فیها للالتزام بالفعل، فكأنّه التزم بأمرین دلّ علی أحدها الكلام التزاماً واقعیّاً أو عرفیاً، وحینئذٍ فهو أجنبي من المقدّمة العلمیة، ضرورة عدم جریانه فيه، لخروج العلم والجهل عن مدالیل الألفاظ رأساً، فكیف بمقدّمة العلم بحصوله؟ فافهم وتأمّل.

والإنصافُ إنّ أظهر الوجوه هنا هو وجوب الاحتیاط، نظراً إلی أنّ كون الوجوب تعلیقیّاً عرفاً ولو أرجع إلی المشروط عند التحلیل القطعي في تلك المسألة، لصحّة توجیه الخطاب نحو المكلّف فعلا بعد قیام مقتضيه، بل هذا التعلیق یجري في العرف مجریٰ التنجیز، نظراً إلی أنّ كون الواجب هو الوفاء بالنذر وقد وقع النذر، بل الظاهر إنّ طریقة العقلاء قائمة هنا علی وجوب الاحتیاط علی نحو قيامه في الدفعي ویظهر تمام الكلام فیه ممّا سبق، فظهر ممّا فصّلنا ما یصلح مناط لحكم كلّ المسألة من الوجوه المتقدّمة،

ص: 448

فیظهر منه تمام حكم التدریجي بعنوان كلّي والله العالم.

ثمّ إنّ المحقّق المتقدّم (1) قال: وحیث قلنا بعدم وجوب الاحتیاط في الشبهة التدریجیّة، فالظاهر جواز المخالفة القطعیة؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكلیف الواقعي بالنسبة إليه، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلی الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحةً وتحریماً، فیرجع في المثال الأوّل إلی استصحاب الطهر إلی أن یبقی مقدار الحیض، فیرجع فیه إلی أصالة الإباحة، لعدم جریان استصحاب الطهر، وفي المثال الثاني إلی أصالة الإباحة والفساد، فیحكم في معاملة یشكّ في كونه ربا بعدم استحقاق العقاب علی إیقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر علیها؛ لأنّ فساد الربا لیس دائراً مدار الحكم التكلیفي، ولذا یفسد في حق القاصر بالجهل والنسیان، أو الصغیر علی وجه. ولیس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود؛ للعلم بخروج بعض المشتبهات التدریجیة عن العموم لفرض التسلیم للعلم بفساد بعضها، فیسقط العامّ عن الظهور بالنسبة إلیها ويجب الرجوع إلی أصالة الفساد.

اللهم إلّا أن یقال: إنّ العلم الإجمالي بین المشتبهات التدریجیّة كما لا یقدح في إجراء الأصول العملیّة فیها، كذلك لا یقدح في إجراء الأصول اللفظیة، فیمكن التمسّك في ما نحن فیه بصحّة كلّ من المشتبهات بأصالة

ص: 449


1- . هو الشيخ الأنصاري.

العموم، لكنّ الظاهر الفرق بین الأصول اللفظیّة والعملیّة، فتأمّل (1).

أقول: أمّا ما استظهره من جوازالمخالفة القطعیة، فوجهه ظاهر ممّا سبق في أصل المسألة، خصوصاً ما ذكر في ردّ من قال بوجوب إبقاء ماسوی الحرام، ومقابل ذلك الظاهر الالتزام بوجوب إبقاء ما یساوي الحرام مطلقاً، نظراً إلی استقلال العقل بالتحرّز عن المفسدة الملزمة الّتي كشف عنها النهي الشرعي بقاعدة الملازمة بعد حصول العلم به؛ إذ لا یختلف الحال عقلاً في التحرّز عن الضرر المعلوم إجمالاً بین الدفعي والتدریجي.

ولایقاس ذلك بما لو تعدّد المكلّف، لأنّه في حقّ كلّ واحد منهم ضررمحتمل یمكن ترخیص الشارع في ترك مراعاته، أو إلی استقلال العقل بقبح الوقوع في مخالفة الشارع عن علم وعمد، نظیر ما قرّره (رحمة الله علیه) في ما تعدّد فیه الواقعة كما سبق في الدوران بین الواجب والحرام، أو إلی أنّ المعیار في لزوم الإحتیاط لزوم التناقض في جعل الشارع وهو حاصل في المقام وإن كان تدریجیاً من عدم وجوب الاحتیاط هنا، لعدم اتّحاد الزمان حتّی تتعارض الأصول في مرتبة واحدة، بل الأصول لا مانع في ما عدا المشتبه الأخیر، فیحكم فیه بالاحتیاط، لأنّ الترخیص فیه بعينه بعد ما رخّص فیه سابقاً إلغاء للواقع ومناقض لجعل التكلیف، أو أنّه یستصحب عدم

ص: 450


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص249 و 250 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص 460-458.

حدوث عنوان المحرّم إلی الزمان الأخیر، لعدم العلم بحدوث العنوان، ثمّ یستصحب وجود العنوان بعد الآن الأوّل من الزمان الأخیر، فیستصحب عدم الحیض إلی الزمان الأخیر، ثمّ یستصحب بعد الأوّل من الثلاثة الأخیرة مثلاً وجوده، نظراً إلی حصول العلم بطروّ الحیض وعدم العلم بارتفاعه، فیثبت التفكیك بین الأطراف بالأصول، فلا وجه لسقوط الأصول حینئذٍ، وهذا لو تمّ، فهو مختصّ بما كان قابلاً للبقاء كالحیض، وجمیع الوجوه منظور فیها خصوصاً ما قبل الأخیر.

ومنه یظهر الوجهان علی القول بوجوب إبقاء ما یساوي الحرام، أعني التخییر وتعیین الأخیر للوجه الثالث، أو لحصول العلم بصیرورته في الجملة، فیسقط به الأصل حینئذٍ، أو لأنّه القدر المتیقّن وهو أردء الوجوه المحتملة.

وأمّا ما ذكره من الرجوع في المثال الأوّل إلی استصحاب الطهر إلی الزمان الأخیر فهو حقّ، وإن قلنا بأنّ العلم الإجمالي مسقط للاستصحاب بنفسه، وإن لم یكن متعلقّا بتكلیف منجّز كما یظهر من بعض كلامه، فانّه إنّما یسقط إذا كان العلم الإجمالي مزاحماً للاستصحاب في زمان واحد، كأن نعلم إجمالاً بارتفاع أحد المستصحبین.

وأمّا ما علم إجمالا بارتفاعه في زمان ما، فلا إشكال في جریان الاستصحاب إلی زمان یعلم بارتفاعه ضرورة، أمّا لو علمنا بانتقاض الطهارة المتیقّنة في زمان ما من الأزمنة المتأخّرة، لم یمنع ذلك من استصحابه

ص: 451

فعلاً إلی زمان العلم بالارتفاع، ووجهه ظاهر عند التأمّل.

ومن هنا ربّما یتّجه الالتزام في ما یحكم فیه تنجیز العلم الإجمالي بالتفصیل بین ما لو كان هناك استصحاب موضوعي كالمثال علی القول به فیه وعدمه، فیحكم بوجوب الاحیتاط في الثاني مطلقاً، نظراً إلی تعارض أصالتي الإباحة في طرفي الشبهة، ویحكم في الأوّل بمقتضی الأصل الموضوعي إلی الزمان الأخیر المساوي لزمان الحرام، لحكومة الأصول الموضوعیّة علی قاعدة المقدّمة عند سلامته عن المعارض ولا معارض للأصل الموضوعي هنا، لعدم صلاحیّة أصالة الإباحة في الزمان الأخیر، لمعارضة الأصل الموضوعي خصوصاً بعد معارضته بمثله ویحكم في الزمان الأخیر بمقتضی الاحتیاط السالم عن معارضة الأصل الموضوعي، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره من الرجوع إلی الإباحة في الزمان الأخیر، فهو في غیر العبادات الّذي هو محطّ كلامه (قدس سره) حقّ ولو كان من قبیل جواز وطي الزوج لها ولا یجری هنا أصالة الحرمة في الفروج؛ لأنّه مقصور علی ما كان الشكّ في تحقّق السبب المُبِیْحِ الذي هو العقد الصحیح، دون ما كان الحرمة من جهة احتمال العوارض المحرّمة.

وأمّا في عبادات الحائض، فالرجوع إلی الإباحة الفعلیّة فیها غیر معقول بعد كونها عبادة متوقّفة علی الأمر، وأصالة البراءة عن تحریم العبادة لیثبت به الوجوب الأصلي إنّما یمكن إذا كان سقوط الوجوب معلّلاً بالحرمة الذاتیة ویكون الشكّ في الأوّل مسبّباً عن الشكّ في الثاني، وهو

ص: 452

خلاف الظاهر في تلك المسألة، بل لا یبعد أن یكون التحریم تشریعیّاً عرفاً، وحینئذٍ فلا یبعد أن یكون المرجع هو البراءة عن وجوب العبادة، فیحرم تشریعاً إلّا بعنوان الاحتیاط؛ إلّا أن یدّعی أنّ العلم بثبوت المقتضی للعبادة والشكّ في تحقّق المانع الذي هو الحیض، كافٍ في الحكم علی حسب المقتضی ولو لأجل أصالة عدم المانع.

ولو قلنا بأنّ مقتضی الأصل البراءة عن فعل العبادة، فیحصل هناك علم إجمالي بثبوت أحد التكلیفین من محرّمات الحائض أو عبادات الطاهر، فالمتّجه عند من یكتفي بمثل هذا العلم الإجمالي - كما علیه بناءه - هو الحكم بوجوب الاحتیاط فیها جمیعاً، إلّا أن یلتزم بحرمة العبادة ذاتاً ولم یلتزم في مثل هذا الدوران بتعیین الحرمة، فیكون أصالة الإباحة في محرّماتها سلیمة عن المعارض، فافهم.

وأمّا ما ذكره من الرجوع في المثال الثاني إلی أصالتي الإباحة والفساد، فوجهه ظاهر بعد كون الأصل في المعاملات الفساد، ولا أقلّ من استصحاب بقاء الثمن والمثمن علی ما كان علیه قبل العقد وعدم حصول الانتقال؛ وكذا أصالة الإباحة بحسب التكلیف؛ لأنّه الأصل إلّا إذا دخل في عنوان التشریع، فیحرم لأجله وهو خارج عن محطّ الكلام.

وأمّا ما ذكره من أنّ فساد الربا لیس دائراً مدار الحكم التكلیفي یشیر إلی أنّه لو كان كذلك، کانتْ أصالة الإباحة مثبتة للصحّة ولو لأجل حكومتها علی أصالة الفساد لرفعه سبب الشكّ فهو مشكل؛ لأنّ النهي في

ص: 453

المعاملات لا يصلح للفساد بذاته لعدم المانع من حرمة المعاملة وكونها مؤثّرة وإنّما یدلّ علیه لو قلنا به من جهة الدلالة العرفيّة والإجماع ونحوهما ممّا لا یحصل به سببیة حقیقیة حتّی یكون أصالة الإباحة من جهة التكلیف مثبتاً للصحّة لعدم تعلّق النهی فعلاً كما هو الحال في العبادات.

نعم، قد یجيء الفساد من جهة النهي لبیع العنب ممّن یعمله خمراً نظراً إلی حرمة أثر المعاملة علی وجه مقرّر في محلّه، لكنّه لا یُشابِهُ مسألة الربا، لكن هذا المقدار من إمكان التبعیّة في المعاملات ممّا یدفع الاعتراض عنه (قدس سره).

وأمّا قوله تعالی: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ (1)، ولذا یفسد في حق القاصر بالجهل والنسیان والصغیر علی وجه، فیمكن أن یكون الوجه إشارة إلی أحد الوجهین في قوله تعالی، حیث أنّ قوله [تعالی] إشارة إلی ارتفاع الأثر التكلیفي وهو الإثم دون الوضعي - سواء كان المراد من الموعظة الإسلام أو المتذكّر - كما یحتمل فیه أن یكون إشارة إلی ارتفاع الأثر الوضعي والتكلیفي معاً، وعلی الأوّل یتحقّق التفكیك بین الحكمین

ص: 454


1- . سورة البقرة، الآية 275. ذکر وأشار (رحمة الله علیه) في هامش المخطوطة إلی ترجمة قوله تعالي بالفارسية ولکن جعلنا بدله نصّ الآية الشريفة وهذا لفظ الترجمة: پس کسی که بيايد او را موعظه[ای] از [جانب پروردگارش] پس باز ايستد، پس از برای او [ا]ست آن چه [را] که گذشته است.

- كما هو المقصود - ولكن ذكر الصغیر حینئذ أجنبيّ عن ذلك لفساد معاملاته، لأجل الصغر عن المشهور ظاهراً ویحتمل أن یكون إشارة إلی أحد الوجهین في معاملات الصبيّ وهو صحّتها عند استجماع الشرائط، فیكون الفساد هنا لأجل الربا مع انتفاء الحكم التكلیفي.

وأمّا ما ذكره من عدم جواز التمسّك بعموم مثل [قوله تعالی]: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (1)، فهو ظاهر لما ذكره، ولكون الشبهة مصداقیّة، فلا یجوز التمسّك فیها بالعموم علی وجه مذكور في محلّه إذا كانت الشبهة مصداقیّة، وإلّا فقد أشرنا إلی عدم جریان الأصول قبل الفحص في الشبهة الحكمیة وبعد الفحص المعتبر یشكل فرض المسألة بحیث ینطبق علی ظاهر المثال، كما سبق الإشارة إليه.

وأمّا ما ذكره أخیراً من التفرقة بین الأصول اللفظیّة لِما كان من باب الظنّ والظهور فوجودها مانع عن حصوله، بخلاف الأصول العملیّة؛ لأنّها أصول مقرّرة لحال العمل عند الشك، فلا مانع من العمل بها حینئذٍ، إلّا أن یلزم منه مفسدة خارجیة من طرح خطاب منجّز ونحوه، ویحتمل حینئذٍ أن یكون قوله تعالی إشارة إلی فساد الوجه؛ نظراً إلی أنّه إنّما یتمّ إذا كان اعتبارها من باب صفة الظنّ الشخصي، وأمّا إذا قلنا باعتبارها من باب

ص: 455


1- . سورة المائدة، الآية 1. أشار المصنف (رحمة الله علیه) إلی ترجمة الآية الکريمة في هامش المخطوطة وجعلنا نصّ الآية مکانه وهذه لفظها: «وفا کنيد به عقود».

الظنّ النوعي، فلا نسلّم أنّ وجوده مانع؛ إذ لیس المراد به إلّا كونه بحیث یحصل منه الظنّ - لو خلّي وطبعه - وإن لم یحصل فعلا.

وأقول: إنّ ما استظهره من التفرقة بین المقامین هو غیر مبنيّ علی ذلك القول المتروك، بل یكفي في ذلك كون اعتبارها علی وجه الطریقیّة للواقع، فإنّ ما یكون طریقاً للواقع - ولو بجعل الشارع - إذا قام علی أمرین نعلم إجمالا بعدم وجود أحدهما في الواقع، فإنّ المجموع یخرج حینئذٍ عن الطریقیة بنفس العلم الإجمالي، فانّه يلزم من البناء علی أنّ كلّا ً منهما هو الواقع البناء علی أنّ الجمیع ثابت في الواقع وهو لا یجامع العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع، فهو كما لو قام طریقان أحدهما علی إباحة شيء والآخر علی حرمته، أو أحدهما علی وجوب الظهر یوم الجمعة والآخر علی وجوب الجمعة مع قیام الإجماع علی عدم وجوب الأمرین معاً، فانّه لا إشكال ظاهراً عندهم في معاملة التعارض في المقامین.

وبالجملة: فالعلم الإجمالي كالعلم التفصیلي مانع عن كون الطریق حُجَّةً من حیث كونه طریقاً إلی الواقع بالنسبة إلی مورد التعارض وإن بقي علی الطریقیة في نفي الثالث، فلابدّ من التزام خروج المجموع عن الحجّیة الفعلیّة وإن بقیا علی الحجیة الثانیة.

وإن أبیت عمّا ذكر، فكلّ من الطریقین حجّة وداخل تحت دلیل الاعتبار أوّلاً ولو قبل مجيء زمان العمل، فلیست كالأصول العملیّة معتبرة لأجل العمل ابتداء المتوقّف علی توجّه التكلیف فعلاً علی المكلّف، بل

ص: 456

الطرق معتبرة مطلقاً ولو لم یكن هناك تكلیف منجّز فعلاً، فیقع التعارض بین الطریقین بضمیمة التكلیف المعلوم بالإجمال.

ولعلّ قوله تعالی إشارة إلی إشكال وحلّ؛ أمّا الإشكال، فانّ كُلّا ً منهما باقٍ في حدّ ذاته علی وصف الطریقیة، فیمكن جعل كلّ منهما معتبراً بعد عدم کون العلم الإجمالي منجّزاً، فانّ التناقض بین جعلهما وجعل الواقع إنّما یكون إذا تنجّز الواقع بالعلم، فصار ظاهریّاً أيضاً، فلا تناقض بین جعل أحكام ظاهریة یخالف بعضها للواقع.

وأمّا الحلّ، فانّ الحكم الواقعي بعد كونه معلوماً للمكلّف إجمالاً یناقضه جعل الطریق المخالف له بنفسه، خصوصاً بملاحظة أنّ مقتضی الحجّیّة المطلقة فیهما البناء علی أمرین في مقام العمل یخالف الواقع قطعاً ولو تدریجاً، فافهم وتأمّل.

ثمّ إنّه ربّما یدّعي التناقض بین ما استظهره هنا من التفرقة بین المقامین وبین قوله في مسألة حجّیة ظواهر الكتاب من أنّ وقوع التحریف في القرآن - علی القول به - لا یمنع من التمسّك بالظواهر لعدم [العلم] الإجمالي (1) باختلال الظواهر بذلك، مع أنّه لو علم لكان من قبیل الشبهة غیر المحصورة، مع أنّه لو كان من قبیل الشبهة المحصورة أمكن القول بعدم قدحه، لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر غیر المتعلّقة

ص: 457


1- . في المخطوطة: «الإجمال».

بالأحكام الشرعیّة العملیّة الّتي أمرنا بالرجوع فیها إلی ظاهر الكتاب (1). انتهی.

ویمكن دفعه أمّا بالنسبة إلی منع كونه محصوراً، فبأنّ العلم في غیر المحصور كلا علم علی ما سنبیّنه إن شاء الله تعالی، فلا ینافي وجوده حجّیة الطرق.

وأمّا الوجه الأخیر، فبأنّ ما عدا القسم المذكور خارج عن دلیل الاعتبار، لاختصاصه بما ورد في الأحكام العملیة ولو كان دلالته علیه بالتزام ونحوه.

وأمّا ما لا یتعلّق بعمل رأساً، فهو خارج عن الحجّیة، فیكون العلم الإجمالي مُرَدَّداً بین ما یخالف الحجّیة الشرعیة وبین ما لیس بحجّة رأساً، فلا یسقط به الحجّة عن الاعتبار بخلاف نحو المقام، فافهم.

الأمر السابع

الظاهر إنّه لا فرق في وجوب الاحتیاط في الشبهة المحصورة المصداقیّة بین أن یكون منشأ الشكّ اشتباه المكلّف به وبین أن یكون اشتباه عنوان المكلّف المتردّد بین أمرین كلاهما متعلّقان لتكلیف

ص: 458


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج1/ ص158؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج1/ ص368؛ بحرالفوائد في شرح الفرائد: ج2/ ص32؛ منتهي الدراية في توضيح الکفاية: ج4/ ص312؛ عناية الأصول في شرح کفاية الأصول: ج3/ ص131 وکتباً أخر.

مغاير للآخر - كما في الخنثی - وحیث أنّ مسألة الخنثی ممّا لم ینقّح في كلمات الفقهاء، فلا بأس ببیان حالها بالنظر إلی أحكامها من حیث جریان الأصول في ما في الجملة تبعاً لجماعة من الأصولیین.

فنقول: الخنثی إن قلنا بكونها طبیعة ثالثة، أو جوّزنا ذلك فیه بأن لم یقم دلیل علی انحصار الإنسان في الرجل والمرأة، كان الشكّ في ثبوت الأحكام المختصّة بأحدهما لها شبهة حكمیة قطعاً علی الأوّل واحتمالاً علی الثاني، وحینئذٍ فإن علمنا بأنّها ملحقة في جمیع الأحكام بأحد الصنفين كان كالصورة الثانیة في حصول العلم الإجمالي وإن لم یجر فیها حینئذٍ احتمال القرعة، وإلّا بأن احتملنا التفصیل فیها بحسب الأحكام واقعاً كان اللازم هو الرجوع إلی الأصول الجاریة في كلّ مسألةٍ بخصوصها إن لم یلزم من ذلك أيضاً مخالفة عملیة بأن علم ثبوت بعض المختصّات لها أيضاً.

وإن قلنا باندارجها تحت أحد الصنفين واقعاً، فیحصل من ذلك علم إجمالي مصداقيّ بكونها مكلّفة بما یختصّ بها أحد الصنفين من التكالیف والكلام فیها یكون في الأحكام التكلیفیة تارة، وفي الأحكام الوضعیّة أخری.

أمّا الثانیة، فإن قلنا برجوعها إلی التكلیفیة، فحالها یظهر من الكلام في الأولی، وإلّا فالبحث فیها لا یناسب المقام إلّا ببقاء الأحكام التكلیفیّة؛ لأنّ قاعدة العلم الإجمالي والرجوع إلی البراءة ونحوهما ممّا هو محلّ البحث في ما نحن بصدده من الأصول الثلاثة لا تجري فیها بنفسها وإن جرت في ما

ص: 459

يتبعها من الأحكام التكلیفیّة.

فلنقتصر علی الكلام في أحكامها التكلیفیّة - سواء كانت تابعة لحكم وضعي أو لا - ويتبعه الكلام في حكم الغیر من الرجال والنساء بالنسبة إلیها.

أمّا الأوّل، فقد یذكر فیها وجوه:

أحدها: القرعة حیث أنّها لكلّ أمر مشكل (1)، فیرجع إلیها في جمیع أحكامها المقرونة بالعلم الإجمالي بخصوصها أوّلاً، وعلیه فَتَتَرَتَّبُ علیه الأحكام الوضعیة أيضاً؛ لأنّ القرعة أصل موضوعي يترتّب علیه جمیع الأحكام.

وفیه: إنّ عمومات القرعة إمّا مختصّة بالمشكل الّذي لا مندوحة فیه عملا ولو بإجراء الأصول العمليّة، والمقام لیس منه، وإمّا موهونة بورود التخصیص بالأكثر، أو بإعراض الأصحاب عنها في أكثر مواردها (2)، فلا

ص: 460


1- . القرعة لکلّ أمر مشکل. انظر: «قاعدة القرعة» للشيخ حسين الکريمي القمي حيث تعرّض لهذه القاعدة مفصّلاً وبيان مدرکها عند العامّة والخاصّة، وأيضاً راجع القواعد الفقهية (لآیةالله الشيخ ناصر مکارم الشيرازي)، ج1/ ص329 و 336 حيث نقل روايات العامّة والخاصّة حول هذه القاعدة.
2- . قال صاحب الفصول الغروية:... والجواب إنّ عمومات القرعة موهونة بإعراض الأصحاب عنها بالنسبة إلی أکثر مواردها... انظر: الفصول (الطبعة القديمة): ص362.

یجوز التمسّك بها من دون انجبار، كما هو الحال في المقام، خصوصاً مع عدم معهودیّة إعمالها في موضوعات الأحكام التكلیفیّة الصرفة.

وثانیها: الحكم بالبراءة فیها مطلقاً، ونسب إلی صاحب الحدائق (1) معلّلاً بأنّه إنّما نقول بوجوب الاحتیاط في ما إذا كان منشأ اختلاف الخطاب جنساً أو نوعاً اشتباه المكلّف به، لا المكلّف - كالخنثی - فیجب الرجوع إلی البراءة، بل یمكن دعوی عدم توجّه الخطابات التكلیفیّة المختصّة بالرجال والنساء إلیها، إمّا لانصرافها إلی غیرها، أو لاشتراط التنجّز بالعلم بتوجّه الخطاب إليه تفصیلاً - وإن كان مردّداً بین خطابین موجّهین إليه تفصیلاً - لأنّ الخطابین بشخص واحد بمنزلة خطاب واحد بشيئین، إذ لا فرق بین قوله: «اجتنب الخمر» و«اجتنب مال الغیر»، وبین قوله: «اجتنب كلیهما» بخلاف الخطابین الموجّهین إلی صنفين یعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما. (2)

والحاصل: إنّه لا علم بكون الخنثی مكلّفاً بالمختصّات واقعاً، لانصراف أدلّتها إلی غیرها، ولو سلّم العلم، فتنجّز الخطاب مشروط

ص: 461


1- . قال الشيخ مصطفی الاعتمادي في شرحه علی الفرائد [ج3/ ص218]: إنّ صاحب الحدائق مع ذهابه إلی الاحتياط في الشبهة المحصورة، ذهب إلی البراءة في مسألة الخنثی بالنسبة إلی التکاليف المختصّة... انظر: الحدائق: ج7/ ص20 وج1/ ص148 وج5/ ص276 وج1/ ص502.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص252 و 253؛ الفرائد (مع حواشي الأؤثق): ج3/ ص464 و 465؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص258 وکتباً أخر.

بإحراز عنوان المكلّف بخصوصه ولو لم نقل باشتراط العلم التفصیلي في طرف المكلّف به.

وقد یوجّه البراءة أيضاً بانّه لو منع التفرقة بین الشكّ في عنوان المكلّف والمكلّف به، فالبراءة هنا أيضاً ثابتة، بناء علی ما سبق من عدم جریان القاعدة في ما إذا تعدّد فیه الخطاب، بل ما نحن فیه أولی منه، وبأنّ إعمال الاحتیاط بسبب العلم الإجمالي الكلّي موجب للوقوع في الحرج، نظراً إلی منعها حینئذٍ عن النظر عن الرجال والنساء جمیعاً وعن استماع صوتهما، بناء علی أنّ صوت كلّ منهما عورة بالنسبة إلی الآخر، وعن لبس جمیع ما یختصّ من اللباس بالرجال والنساء إلی غیر ذلك.

ویضعّف الأوّل بأنّ دعوی الانصراف مطلقاً فاسد جداً، فانّه مع أنّه لا یظهر له وجه سوی ندرة الوجود الّذي لا یصير سبباض للانصراف، إنّ الإلتزام به في مثل وجوب حفظ الفرج عن الزنا والعورة عن النظر بحیث لا یشمل الخنثی - كما تری - ظاهر الفساد.

نعم ربّما یَصِحُّ ادِّعاؤُهُ في بعض المقامات، كحرمة لباس المختصّ بإحدی الطائفتین للآخر المستفاد من حرمة تشبّه كلّ منهما بالآخر، فانّ اختصاص الحكم واقعا فیه غیر بعید، وینبغي إخراج كلّ ما احتمل فیه ذلك بحسب الظاهر عن عنوان المسألة، كما أنّه یمكن دعوی أنّ المثالین المذكورین عن الأحكام المختصّة، لإمكان إرجاعهما إلی خطاب واحد مردّد المصداق وهو النهي عن الزنا والأمر بحفظ العورة، فتأمّل.

ص: 462

والثاني بما ذكره بعض الأساطین من أنّ المناط في وجوب الاحتیاط في الشبهة المحصورة عدم جواز إجراء أصل الإباحة في المشتبهین، وهو ثابت في ما نحن فیه، ضرورة عدم جواز جریان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قُبلي الخنثی، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النظر والزنا علی كلّ أحد، فمسألة الخنثی نظیر المكلّف المردّد بین كونه مسافراً أو حاضراً لبعض الاشتباهات، فلا یجوزله ترك العمل بخطابهما. (1)

ویمكن المناقشة بعد إخراج المثالین وما أشبههما بما أشرنا إليه بأنّ عدم جواز إجراء الأصول تابع لتنجّز التكلیف المعلوم بالإجمال وهو ما منعه المستدلّ، فلابدّ من إثباته وتمثیله بالتردّد بین عنوان المسافر والحاضر غیر ظاهر (2)، بل یمكن جعل السفر والحضر هناك من شرائط التكلیف، لكنّ الإنصاف إنّه لو اعتمدنا علی ما أسّسه (رحمة الله علیه) في مسألة الشبهة المحصورة علی الوجه الّذي قرّره، فالظاهر جریانه هنا، لكنّك عرفت أنّه غیر خالٍ عن النظر، وعلی تقدیر الاعتماد علی غیره من منع دلالة الأخبار أو إجماع ونحوه، فدعوی الاختصاص غیر بعید خصوصاً علی غیر الأوّل.

والثالث: بالمنع عن إجراء البراءة في ما اختلف الجنس، وتحقیقه قد

ص: 463


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص253 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج3/ ص465.
2- . بعدها لفظ «ما» وهو غير دخيل في المعنی فلذا حذفناه.

تقدّم.

والرابع: بأنّه لو سلّم لزوم الحرج، فهو بالنسبة إلی أحكام خاصّة یقتصر في رفع الاحتیاط بالحرج علیها، فلا يتعدّاها، فلا یمكن [الأخذ] (1) بالبراءة بحسب القاعدة.

وثالثها: الحكم بالاحتیاط فیها مطلقاً، وهو الظاهر من بعض الأساطین (2) للعلم الإجمالي لكونها مكلّفة بأحد النوعین، إمّا تكلیف الرجال المختصّ بهم، أو تكلیف النساء بناء علی أنّه لا فرق في تنجیز العلم الإجمالي بین ما اتّحد فیه جنس التكلیف أو تعدّد.

وهو الظاهر من المحقّق الثاني، بل ربّما یستظهر الإجماع علیه؛ قال في مسألة صلاة الجُمُعَة: «واعلم أنّ شیخنا في الذكری صرّح بأنّ الخنثی كالمرأة في ذلك (3) معلّلاً بالشكّ في السبب (4) وكذا المصنّف في النهایة (5). ویرد علیه أنّ تكلیف الخنثی لمّا كان في باب العبادات دائراً مع أحوط الطرفین، وهو ما یحصل به یقین البراءة، للقطع بثبوته وتوقّف الجزم بالبراءة علی ذلك، كان

ص: 464


1- . يقتضيه السياق ولکن في المخطوطة بياض بقدر کلمة.
2- . هو الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول: ج2/ ص251.
3- . انظر: الذکری: ج3/ ص219.
4- . انظر: الذکری: ج4/ ص110.
5- . انظر: نهاية الإحکام: ج2/ ص45.

[المناسب] في هذا الباب إیجاب الجمعة علیها وعدم انعقادها لها» (1) انتهی.

وهذا الكلام یحتمل فیه کون إیجاب الجمعة لتردّد تكلیفه من حیث الصّلاة بین الظهر والجمعة، ولعلّه لذا خصّه بالعبادات، فلا یكون شاهداً للاحتياط الكلّي، إلّا أنّ ظاهر عبارته في مسألة النظر، الالتزام بحرمة نظر كلّ من الرجل والأنثی إلیها وحرمة نظرها إلیهما وبعض العامّة.

والإلتزام بالأوّل بحسب القاعدة یقتضي الاحتیاط في أحكام نفسها بالأولی وكان ظاهر كلامه في المقامین مشیراً (2) إلی مسلّمية الاحتیاط للخنثی خصوصاً الثاني، كما یظهر بالتأمّل فیه.

وربّما یؤیّد استظهار الإجماع علی الاحتیاط الكلّي باتّفاقهم علی وجوب ستر جمیع البدن في الصّلاة كالمرأة والأخذ بالجهر بالعشائین علی القول بأنّ الإخفات رخصة فیهما، کالتخيير بینهما لو كان عزيمة لها والتخییر بین الابتداء بغسل الظهر أو البطن في الوضوء لو كان التخییر شَرْعِیّاً بَدْوِیّاً، وأنت خبير بما في دعوی الإجماع علی الاحتیاط الكلّي، خصوصاً بعد ما عرفت من الشهید والعلّامة من عدم وجوب الجمعة واحتمله المحقّق الثاني في آخر كلامه لخوف الفتنة لحضورها في الجمعة، مع أنّه لا یصلح بنفسه للخروج عن تحت الاحتیاط اللازم، وقد وقع الخلاف

ص: 465


1- . انظر: جامع المقاصد: ج2/ ص418.
2- . في المخطوطة: «مشير».

في لباس إحرامها ما بین قول بالتخییر وقول بإلحاقها بالنساء وقول بالجمع بینهما، وفي وجوب الجهاد علیها، بل من بعضها نقل الخلاف في ستر الخنثی، بل الحكم بالتخییر للخنثی مع إمكان الاحتیاط ولو بالتكرار یدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط مطلقاً.

وأمّا العلم الإجمالي، فقد یدفع بعد تسلیم كونه منجّزاً للتكلیف مطلقاً بأنّ موارد ابتلاء الخنثی قد یكون مردّداً بین أمرین أحدهما غیر متحقّق فعلاً، لانتفاء شرط التكلیف فیه، أو موضوعه ونحوها كغیر المستطیعة بالنسبة إلی أحكام إحرام الحجّ وما یتعلّق به، ومن لا تری الدم بالنسبة إلی أحكام الحائض ونحو ذلك، أو یكون شرائط المكلّف به موجوداً، لكن أحدهما خارج عن محلّ ابتلاءه، كمن لیس من شأنه لبس الذهب والحریر بحیث یقبّح توجیه التكلیف إليه تنجیزاً ونحو ذلك، فیخرج كثیر من الموارد عن تحت الاحتیاط.

وفیه نظر؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي واقع بین حكم یختصّ به الرجال وحكم یختصّ به النساء، فكلّما وجد تكلیف فعلي من كلّ من النوعین، وجب الاجتناب عن جمیع ما یختصّ بأحدهما ممّا یبتلي به الخنثی وإن لم یكن له مقابل آخر، فانّه لا فرق عند التحقیق بین أن یكون أحد طرفی الشبهة واحداً والآخر أزید من الواحد؛ مثلاً لو فرضنا توجّه التكلیف علیها بالاجتناب عن النظر إلی الرجل، أو النظر إلی المرأة لابتلائها بهما وكان

ص: 466

مبتليا (1) بواحد من مختصّات إحدی الطائفتین، كوجوب الجمعة أو حرمة لبس الحریر، فانّه یعلم إجمالا بأنّه مكلّف بأحد أمرین، إمّا ترك النظر إلی المرأة وفعل الجمعة وترك لبس الحریر، أو ترك النظر إلی المرأة فقط، فانّ الشكّ في توجّه التكالیف الثلاثة، أو توجّه خصوص الأخیر ناشٍ عن الشكّ في عنوان الخنثی، فما الوجه في قصر العلم الإجمالي علی الحكم الأوّل مع الأخیر وجعل الشبهة بدویة في الباقي (2)؟!

وبالجملة، فالخنثی كلّما اندرج تحت تكلیف واحد من مختصّات إحْدیٰ الطائفتین، فیجب علیها الاحتیاط علی هذا المبنی عن جمیع ما یبتلي به من تكالیف الطائفة الأخری للعلم الإجمالي، وأنت خبیر بأنّ فرض الخنثی خالیاً عن شيء من مختصّات أحد الصنفين بعید جداً ولو كان هو حرمة النظر، أو حرمة التكلّم واستماع الصوت، بناء علی الحرمة في الطرفین، وحرمة اللباس المختصّ، وحرمة كشف إحْدیٰ العورتین، وحرمة الزنا (3)، ونحو ذلك ما لم یرجع شيء منها إلی الخطاب التفصیلي، وحینئذٍ فیسري الاحتیاط إلی جمیع التكالیف، فانّ جمیع الخطابات واقعة في عرض واحد، لیس شيء منها نوعاً مسبّباً عن الآخر.

ص: 467


1- . في المخطوطة: «مبتلی».
2- . في المخطوطة بياض بقدر سطرين.
3- . ولکن في المخطوطة: «حرمة حفظ عن الزنا» وهو خطأ.

ویمكن دفعه وتسهیل الأمر علی الخنثی بأحد وجهین:

أحدهما: قصر الاحتیاط علی طرفي كلّ علم إجمالي واقع في زمان واحد وإلغاء سائر التكالیف الطاریة علی المكلّف بعده ما لم یحدث له مقابل، فیسقط بناء علی ما سبق في الوجه الثاني من وجوه دفع العلم الإجمالي المذكور في ملاقي الشبهة المحصورة، كما یظهر من عمّي العلّامة (1) طاب ثراه وبعض مشایخنا (دام ظله) ظاهراً؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي إذا حدث بین أمرین وجب الاحتیاط فیهما، فإذا حدث شكّ في تكلیف فعلي آخر بعد ذلك نعلم إجمالاً بوجوده، أو أحد طرفي الشبهة، كان الأصل فیه سلیماً عن المعارض، لسقوط الأصل في مقابله بالعلم الأوّل إلی آخر ما مرّ بیانه، وحینئذٍ فالعلم الإجمالي بثبوت أحد التكالیف المذكورة مثلاً قبل یوم الجمعة، أو قبل حضور وقت الصّلاة، أو قبل ابتلائه بلبس الذهب والحریر، لا یوجب الاحتیاط في فعل الجمعة ومراعاة الاحتیاط في شرائط الصّلاة، أو حرمة لبسهما، إلّا إذا وقع بعده، أو معه مقابل له من مختصّات الصنف الآخر، فیجب الاحتیاط لأجله.

وأنت خبیر بأنّ هذا التفصیل بعد الغمض عمّا قدّمنا من منع المبنی، لا أظنّ أحداً من الفقهاء التزم به، بل الظاهر أنّه خروج عن مذاق الفقاهة.

وثانیهما: إنّ العلم الإجمالي بثبوت الأحكام المتفرّقة مُغایِرٌ للعلوم

ص: 468


1- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص363.

الإجمالیة الجزئیة، كما في كلّ واحد من الأمثلة المتقدّمة، فالشكّ في كلّ مسألةٍ منها شكّ في المكلّف به مع اعتبار خصوص المسألة ولذا یحكم فیه بالاحتیاط؛ ولو قلنا بإلغاء العلم الإجمالي الكلّي، فلا یصحّ اعتبار بعض أطرافها مقابلا لما لا معادل له من الأحكام، نظیر ما قرّرناه في الوجه الثالث من وجوه دفع الإجمالي عن الملاقی، فتأمّل.

ورابعها: ما تحصّل لي من كلام بعض الفقهاء من إلغاء العلم الإجمالي الكلّي والرجوع إلی ملاحظة خصوصیات المسائل، فما كان الشكّ فیه في المكلّف به كالأمثلة المتقدّمة، أو كان من العبادات الّتي لابدّ من إحراز الیقین بفراغ الذمّة عنها، فیحكم بوجوب الاحتیاط، وأمّا غیره فلا، وظهر وجهه ممّا تقدّم، ولعلّ هذا الوجه أشهر عندهم من غیره والظاهر إنّ مرجع كلام عمّي العلّامة طاب ثراه إليه. هذا محصّل الوجوه بأدلّتها.

وتحقیق أطراف المسألة: إنّ الشكّ في تكلیف الخنثی قد یكون شبهة بدویة صرفة لا یشوبها شائبة علم إجمالي، وقد یكون الشكّ في مصداق الحكم النفسي بعد العلم بالخطاب تفصیلاً، وقد یكون في تعيين أحد الخطابین المتوجّهین إلیها بالعلم الإجمالي بخصوصه، وقد یكون في تعلّق ما یختصّ بأحدهما مع عدم مقابل خاصّ له، وقد یكون في الوجوب الغیري بحیث يتوقّف البراءة الیقینیّة عن غیر المعلوم الوجوب علی دفع الشكّ، وحینئذ فإمّا أن یكون المقدّمة مردّدة بين أمرین متباینین بخطاب واحد، أو بخطابات متعدّدة، أو مردّدة بین التكلیف وعدم التكلیف، وقد یكون

ص: 469

مردّدة بین المتبابنین بحیث لا یمكن الجمع بینهما في فرد واحد مع إمكان التكرار وعدمه، فهذه جملة صور المسألة.

أمّا لو كانت الشبهة بدویة صرفة، كما في حال الخنثی بالنسبة إلی مبدأ زمان التكلیف وإنّه هل هو التسع أو الخمسة عشر، فلا إشكال في إجراء البراءة هنا، بل ربّما یكتفي هنا باستصحاب الصغر.

وأمّا لو كانت الشبهة في مصداق المخصّص - كما في مسألة حفظ الفرج عن الزنا والنظر إلیها واللمس - حیث أنّ الظاهر إنّ الزنا أمر واقع بین اثنین یوصف لأجله كلّ منهما بالزاني، [ف-] إن قلنا بأنّ متعلّق الخطاب هو ذلك الأمر والعورة الشاملة للعورتین، فالظاهر إنّه لا ینبغي التأمّل في جریان قاعدة الاحتیاط بعد تسلیم أصل القاعدة، فانّ دعوی الانصراف أو منع كون منشأ الشكّ لأجل الشكّ في العنوان جریان القاعدة هنا كما تری؛ ومنه وجوب الاجتناب عن ماء استنجائه بالنسبة إلی كلّ من العورتین بعد وجود الموضوعین أو مطلقاً.

وأمّا لو كانت الشبهة في تعیین أحد الخطابین المتوجّهین إليه المتقابلین، كحرمة نظرها إلی الرجل أو المرأة، أو التكلّم مع أحدهما، أو استماع صوت أحدهما - لو قلنا بالحرمة - فمقتضی القاعدة ابتناؤه علی المسألة المتقدّمة في الأمر الأوّل، بل لعلّ البراءة هنا أظهر إلّا أن یدفع الاحتیاط هنا لو قلنا به هناك بلزوم الحرج من منعه عن جمیع الطائفتین في الأمور المذكورة كما هو الظاهر، وحینئذ فمقتضی القاعدة المتقدّمة في الأمر الخامس هو الاقتصار

ص: 470

علی ترك الموافقة القطعیة، فیحكم هنا بالتخییر.

وذكر بعض الأساطین في المسألة الأولی إنّه یمكن إرجاع الخطابین إلی خطاب واحد، وهو تحریم نظر كلّ انسان إلی كلّ بالغ لا یماثله في الذكورة والأنوثة عدا من یحرم نكاحه، ثمّ قال: ویمكن أن یقال انّ الكفّ عن النظر إلی ما عدا المحارم مشقّة عظیمة؛ إلی أن قال: أو یقال إنّ رجوع الخطابین إلی خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعیة، لا في وجوب الموافقة القطعیة. (1)

أقول: الظاهر إنّ إمكان إرجاع الخطابین إلی خطاب واحد لا ینفع في إثبات الاحتیاط لو كان مقصوراً بما اتّحد فیه الخطاب، فانّ العبرة [تکون] بالخطابات المحقّقة دون الفرضیة، إلّا أن یستكشف وحدة المناط وإنّ العبرة في الواقع بالعنوان الجامع، لأنّه هو الموجب للمفسدة لإثارته الشهوة.

وأمّا ما ذكره أخیراً من إرجاع الخِطابَیْنِ إنّما هو في المخالفة القطعیة بظاهر[ه] ممنوع جدّاً، فانّ وحدة الخطاب أو تعدّده - فعلا أو إرجاعاً - ممّا لا یختلف باختلاف مقام حرمة المخالفة أو وجوب الموافقة، بل هما عن عوارض العلم بالخطاب.

ویمكن توجیهه بأنّ مقام الموافقة القطعیة لابدّ من الاجتناب عن كلّ

ص: 471


1- . انظر: الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج1/ ص225؛ الفرائد (مؤسسة النشر الإسلامي): ج1/ ص37؛ الفرائد (للمجمع): ج1/ ص99؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج1/ ص247 و 248 و 301 وکتباً أخر.

من الصنفين، لاحتمال كونه من حیث عنوانه الكلّي عين المنهيّ عنه، لا مصداقاً له، فانّ الاجتناب عن الرجل مثلاً لیس لأجل كونه مِصْداقاً للبالغ غیر المماثل، بل لأجل كونه رجلاً نهی عنه علی فرض كونها امرأة، ومقام المخالفة القطعیة لما یحصل في ضمنه القدر المشترك بین الأمرین المحرّمین - وهو النظر إلی غیر المماثل - صحّ إرجاعها هنا إلی الواحد بخلاف الأوّل.

ومع ذلك، فالظاهر أنّه لا یكاد ینطبق علی قواعد العلم الإجمالي، كما یظهر بالمراجعة في ما قدّمنا، فتأمّل.

ومن هذا القسم حرمة لبسها ما یختصّ من اللباس بالرجال والنساء، إلّا أن یُدَّعیٰ اختصاص التكلیف واقعاً بغیرها، إلّا أنّه یلزمه ظاهراً الالتزام بإباحة لبسهما مطلقاً، فیجوز حینئذٍ جواز المبادلة، ولا یخلو عن (1) إشكال.

وأمّا إذا لم یكن لها مُقابِلٌ خاصٌّ، فالظاهر أنّ كثیراً من الفقهاء لا یلتزمون بالاحتیاط هنا وإن كان یوهمهُ كَلامُ المحقّق الثاني، وقد عرفت حال مَنْشَئِهِ وما یجاب عنه.

وأمّا إذا كان المشتبه الوجوب لأجل تفریغ الذمّة عن واجب وكان مردّداً بین أمرین متباینین، فان اتّحد الخطاب كاشتراط ساترهما بعدم كونه من مختصّات الرجال، أو من مختصّات النساء، أو اشتراط صلوتها بفقدان ملاقاة بدنها ولباسها بأحد مائَي الاستنجاء مع الابتلاء بكلّ من طرفي

ص: 472


1- . في المخطوطة: «من».

الشبهة فعلاً، فلا إشكال في الحكم علیها بوجوب الاحتیاط.

وإن تعدّد الخطاب - كما في علم الخنثی بوجوب ستر جمیع بدنه في الصّلاة، أو ترك لباس الذهب والحریر فیها مطلقاً، أو حیث یكون ساتراً مع قطع النظر عن تبعیّة الحكم الوضعي للتكلیفي هنا، وكما في علمها بوجوب كشف الوجه أو الرأس في الإحرام ونحو ذلك - فالظاهر لزوم الاجتناب.

ولو قلنا باشتراط اتّحاد الخطاب في وجوب الاحتیاط؛ لأنّ العبرة هنا بالخطاب النفسي الّذي هو وجوب الصّلاة للزوم الحرج الخروج عن عهدة ذلك التكلیف بما یعلم اندارجها تحت مصداقه، ولو قلنا بجریان الأصل في ماهیة العبادات، فانّه إنّما یكون إذا دار المكلّف به بین الأقلّ والأكثر.

وأمّا إذا كان الأمر مردّداً بین التكلیف وعدم التكلیف - كالشكّ في وجوب الجهر في الصّلاة الجهریة حیث لا یسمع الأجنبي وقلنا بعدم تعیین شيء علی المرأة حینئذٍ، أو وجوب ستر جمیع البدن لو منع من جریان الأصل في لبس الحریر بحكومة أصالة البراءة علیه، لكون الشكّ في الشرطیة ناشیاً عن الحكم التكلیفي ونحو ذلك - فالمشهور ظاهراً علی وجوب الاحتیاط هنا؛ وهو ظاهر بناء علی أصالة الاشتغال في ماهیّة العبادة؛ وأمّا علی القول بجریان أصالة البراءة، فیشكل ذلك بأنّ مقتضی القاعدة حینئذٍ هو الحكم بالبراءة بمقتضی القاعدة المقرّرة.

وربّما یستشكل به كلام بعض الأساطین حیث التزم بالاحتیاط في

ص: 473

جهر الخنثی لو كان الإخفات رخصة في المرأة، مع بنائه علی البراءة في ماهیّة العبادة، وكأنّه مبنيّ علی الاحتیاط الكلّي في أحكام الخنثی للعلم الإجمالي الكلّي وقد تقدّم الكلام فیه.

وقد یوجّه حكمهم بالاحتیاط في ستر الخنثی ونحوه؛ وما ذكره في جهر الخنثی بأنّ محلّ الكلام في تلك المسألة في ما إذا كانت الشبهة حكمیة، وأمّا إذا كانت الشبهة مصداقیّة، فهو محلّ الاحتیاط من دون إشكال ومحلّ الكلام من الثاني، لأنّ منشأ الشكّ هو تردّد المكلّف بحسب الموضوع بین العنوانین؛ وأنت خبیر بأنّ ما ذكر فارقاً بین المقامین غیر جارٍ في هذا النحو من الشبهة المصداقیة، كما یظهر بالمراجعة ولعلّه یأتي بیانه في محلّه إن شاء الله تعالی.

وأمّا إذا كان مردّداً بین المتباینین بحیث لا یمكن الجمع بینهما - كما في جهر الخنثی وإخفاتها عند سماع الأجانب بناء علی تعیّن الإخفات علی المرأة حینئذٍ - فانّ مقتضی القاعدة فیه لزوم الاحتیاط، فإن كان له مندوحة بحیث یتمكّن من الصّلاة في موضع لا یسمع الأجنبي فهو، وإلّا فتكرار الصّلاة هو الأصل في نحو المقام، إلّا أن یقوم دلیل علی عدم وجوبه من إجماع ونحوه، وإلّا فالتخییر.

وقد یقال بالتخییر مطلقاً في مسألة الجهر لكون الجاهل معذوراً في الجهر والإخفات، وفي شمول دلیل المعذوریّة لمثل هذا الجهل تأمّل.

هذا كلّه في حكم الخنثی في معاملتها مع الغیر وحكمها في حدّ نفسها بحسب القاعدة؛ أمّا معاملة الغیر معها، فمقتضی القاعدة فیها هو الرجوع

ص: 474

إلی الأصول الجاریة في خصوص المسائل لانتفاء العلم الإجمالي الكلّي هنا.

فمنها ما یرجع فیه إلی البراءة ومنه أصالة البراءة عن النظر إليها والتكلّم معها واستماع صوتها وفاقاً لجماعة في الأوّل، منهم بعض الأساطین في هذه المسألة، بناء علی عدم العموم في آیة الغضّ للرجال وعدم جواز التمسّك بعموم حرمة إبداء الزينة علی النساء لاشتباه مصداق المخصّص وكان الفارق بین الآیتین هو وجود الاستثناء الكاشف عن عموم المستثنی منه في الآیة الثانیة، نظراً إلی قوله تعالی:«وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ » (1) خصوصاً مع استثناء النساء أيضاً، بخلاف الأوّل؛ إذ لیس فیه إلّا حذف المتعلّق الّذي إفادته للعموم في مثل المقام غیر ظاهر، خلافاً للمحقّق الثاني حیث صرّح بالحرمة، بل لتخصیصه ذكر المخالف ببعض العامّة لا یخلو من إشعار بعدم ظهور مخالف من الخاصّة، بل عن سبطه دعوی الإتّفاق علیه، ووافقه بعض الأساطین في مبحث العلم الإجمالي في نظر النساء إلیها نظراً إلی عموم الآیة وإن استشكل فیه في الحاشیة المنسوبة إليه بما سبق؛ ومبنی المسألة عند التحقیق جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقیة وعدمه.

ص: 475


1- . سورة النور، الآية 31. [و زينت های خود را آشکار نکنند] مگر از برای شوهرهای خودشان. هذه ترجمة قوله تعالی الّذي أشار إليه المصنّف في هامش المخطوطة وجعلنا الآية مکانها.

وقد یقال: إنّ ما نحن فیه من قبیل ما تعلّق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج ولو بین شخصین، فترخیص كلّ منهما لمخالطة الخنثی مخالف للغرض المقصود من عدم مخالطة الأجنبي مع الأجنبیة ولا یردّ النقض في الشبهة الِابتدائیّة، فما نحن فیه من قبیل ترخیص الشارع للرجلین بتزویج كلّ منهما لإحدی المرأتین اللّتین یُعْلَمُ إجمالاً أنّها أخت لأحد الرجلین، فتأمّل.

ومنها: ما یرجع فیه إلی الاحتیاط، كما في تغسیلها إن قيل بكون الأمر به كِفائیّاً عامّاً، وإن اعتبرت المماثلة في خصوص المباشر، فیجب حینئذٍ تكرار الغسل للرجل والمرأة كما صرّح به بعضهم وترك الاقتداء بها في الجماعة تحصیلاً للقطع بالبراءة وعدم الاكتفاء بأذانها.

ومنها: ما یرجع فيه إلی القواعد، كما في الحدّ المختصّ بالرجل، كالقتل عند الارتداد، فانّ المرجع هنا مع الدوران بین الحرمة والوجوب علی وجه إلی أصالة حرمة أذیّة المسلم وقتله ما لم یحرز فیه الإذن الشرعي، وكما في عدم قبول شهادته إذا لم یكتف فیه بالمرأة، كما لو ضمّ فقط إلی الرجل الواحد وفي عدم قبول فتواه لأصالة حرمة العمل بالظنّ، فتأمل في المقام والله العالم.

الأمر الثامن

إنّ طرفي الشبهة المحصورة إمّا أن یكون الأصل في كلّ منهما في نفسه هو الحلّ، أو في كلّ منهما هو الحرمة، أو في أحدهما الحلّ وفي الآخر الحرمة، فإن كان الأصل هو الحلّ، ففیه الكلام المتقدّم في أصل

ص: 476

المسألة من بقاء الأصول بحالها في طرفي الشبهة، أو في ما عدا المقدار المساوي للحرام، أو سقوطهما والرجوع إلی الاحتیاط؛ وأمّا إن كان الأصل في أحدهما الحلّ بخلاف الآخر، كما لو علم إجمالاً بنجاسة إنائین یعلم أحدهما مستصحب النجاسة والآخر مستصحب الطهارة، فالظاهر بقاء الأصول بحالها، لأنّ ما كان الأصل فيه الحرمة محكوم بالحرمة شرعاً، فهو كما لو قامت البیّنة علی نجاسة أحد إنائین یعلم تفصیلاً بأنّ أحدهما نجس، أو علمنا بالإجمال، أو وقع النجاسة في أحد إنائین أحدهما خمر أو بول، علی أنّ المناط في وجوب الاحتیاط سقوط الأصول بالتعارض، وهو غیر معقول في المقام.

وأمّا إن كان الأصل فیهما هو الحرمة، فأمّا علی القول بالاحتیاط، فلا إشكال في الحكم بوجوب الاجتناب علی كلّ حال؛ وإنّما الكلام في أنّ ذلك لأجل قاعدة الشبهة المحصورة وحكم العقل، أو لأجل بقاء الأصول في طرفي الشبهة بحالها، ویتفرّع علی الوجهین ترتّب الآثار الوضعیة علی الثاني إذا اقتضتها الأصول المحرّمة، بخلاف الأوّل كنجاسة ملاقي مستصحبَي النجاسة عند العلم الإجمالي بطهارة أحدهما، [و] مقتضی كلمات بعض الأساطین هو الأوّل.

ومبنی المسألة إنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالتكلیف الفعلي مسقط للأصول بنفسه مطلقاً ومخرج عن مجراه، أو أنّه بنفسه لا ینافي جریان الأصل وإنّما المنافي له حكم العقل بلزوم مراعاة التكلیف المعلوم بالإجمال،

ص: 477

وقد تقدّم تفصیل الكلام في ذلك.

وأمّا عند المجوّزین لما عدا ما یساوي الحرام، أو مطلقاً، فیمكن الفرق بین المقامین، أمّا فلعدم جريان أصالة جریان الحلّ والبراءة في شيء من الطرفین لحكومة الأصل الموضوعي علیه، ولا مانع من جریانه؛ لأنّ العلم الإجمالي بعدم حرمة أحدهما لا یؤثّر في رفع الأصول شیئاً عنده، وإلّا لسقط به أصالة الحلّ والبراءة في طرفي الشبهة بطریق أولی لكونه، متعلّقاً بالتكلیف، بخلاف الأوّل الّذي یتعلّق بما لا أثر له، إلّا أن یفرّق في سقوط الأصول بالعلم الإجمالي بین أصل الإباحة والأصول الموضوعیة ولو لأجل الأخبار الواردة في خصوص المحصور؛ ویؤیّده ما ذكر بعض الأساطین من أنّ ظاهر من استدلّ لجواز ارتكاب الشبهة بما تدلّ علی حلّیة المال المختلط بالحرام هو التعمیم. (1)

وحیث قد ذكرنا أنّ العلم الإجمالي بنفسه غَيْرُ مُسْقِطٍ للأصول خُصُوْصاً علی هذا القول، فالظاهر الحكم هنا بما یقتضیه الأصول الحاكمة بالتحریم، كیف والحكم بالإباحة هنا وبالحرمة في ما إذا كانت الشبهة بَدْوِیَّة لا ینبغي الإصغاء إليه؟ والتأيید المذكور إنّما یصحّ إذا لم یكن هناك أمارة من یدٍ ونحوه یقتضي رفع أصالة الحرمة في الأموال، وهو في مورد الدلیل غیر ظاهر.

ص: 478


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص254.

وتفصیل المقام إنّ الأصل المثبت للحرمة في كلّ من المشتبهین إمّا أن یكون هو الحرمة بالذات وبالفعل، وقد یكون هو الحرمة بالذات والحلّیة بالعرض، وقد یكون بالعكس، ولا فرق عند المجوّز علی القاعدة بین الأوّل والثالث، كما أنّ الثاني ملحق بما كان الأصل فیها الحلّ ابتداء.

ولنشر إلی حال الأمثلة الّتي أخرجها بعض الأساطین عن محلّ البحث بناء علی التخصیص:

منها: المرأتانِ المشتبهتان بالأجنبیّة (1)، فإن اشْتَبَهَتْ زوجة الرجل بالأجنبیّة، كان الحكم وجوب الاجتناب عنهما، نظراً إلی أصالة عدم تحقّق السبب المبیح في كلّ منهما؛ وإن طلّق إحدی زوجتیه، ثمّ اشتبهتا، كان الأصل في كلّ منهما الإباحة لولا العلم الإجمالي، فیلحق بالقسم المتقدّم نظراً إلی استصحاب الحلّ.

ومنها: الذبیحتان اللّتان یُعْلَمُ بأنّ إحْداهُما میتة (2)، فإن كان شيء منهما مورداً لأمارات الحلّ والطهارة - كالید والسوق - فینبغي الحكم بالحلّ علی هذا القول، وإلّا فأصالة عدم التذكیة في كلّ منهما محكمة علی المعروف، نعم عن المحقّق القميّ التصریح بجواز ارتكاب ماعدا مقدار الحرام. (3)

ص: 479


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص254.
2- . نفس المصدر.
3- . مناهج الأحکام: ص217.

ولعلّ وجهه المناقشة في الأصل المذكور بما هو مذكور في محلّه، أو إنّ كلامه مبنيّ علی غمض النظر عن الأصل الموضوعيّ، أو لما قیل من احتمال ابتناءه علی اعتبار الأصول المثبتة، خصوصاً مع أنّ اعتبار الاستصحاب ثابت عنده من باب الظنّ المطلق، وحینئذٍ فیثبت بأصالة عدم التذكیة في كلّ منهما (1) كون الآخر مذكّی، فیتعارضان ویتساقطان، فیرجع إلی عمومات الحلّ، فهو (رحمة الله علیه) یمنع من كون الأصول هي (2) الحرمة بالعرض، فالمخالفة منه حینئذٍ في صُغْریاتِ المسألة، لا في ما ذكر من الكلیّة.

وأنت خبیر لو كان الأمر علی ما ذكر جری في جمیع الأصول الاستصحابیّة الحاكمة بالتحریم وهو في معنی كون العلم الإجمالي مسقطاً للأصول الحاكمة بالتحریم، مطلقاً، إلّا أن یفرض الأصل غیر الاستصحاب ولا یلتزم بذلك فیه.

ومنها: المال المشتبه بمال الغیر والأصل في الأموال هو الحرمة، إلّا أن یكون المعلوم إجمالاً خروج أحد المالین عن المالیّة (3)، فیكون استصحاب بقاء كلّ من المشتبهین قاضیا بالحلّ، أو یكون مورداً للأماراتِ مِنْ یَدِ مُسْلِمٍ أو سُوْقٍ وَنَحْوِهِما.

ص: 480


1- . مکتوب بعده في المخطوطة: «يثبت» ولکن حذفناه.
2- . في المخطوطة: «هو».
3- . في المخطوطة: «الملكيّة» ومکتوب فوقها: «المالية»، وتحتها: «الحلّية».

ومنها: الأسیران اللّذان أحدهما محقون الدم، ومقتضی الأصل في الدماء هو الحرمة، إلّا أن یكون هناك أصل موضوعي یقضي بارتفاع المانع، أو بحلیّة دمه من استصحاب ونحوه.

ومنها: الإناءان المعلوما النجاسة إذا علم طهارة أحدهما. (1)

بقي هنا شيء وهو أنّه یفرق علی هذا القول بین ما إذا كان العلم الإجمالي مسبوقا بالعلم التفصیلي بحال المشتبهَین، كما لو كان هناك إناءان معلوم طهارة أحدهما المعیّن ونجاسة الآخر ثمّ اشتبها، وبین غیره ممّا كان العلم الإجمالي ابتدائیاً.

وذكر السیّد (رحمة الله علیه) في المدارك بعد ذكر أنّ إطلاق النصّ وكلام الأصحاب یقتضي عدم الفرق في ذلك بین حصول الِاشْتِباهِ من حین الفعل وبین صورة طروّ الِاشْتِباهِ بعد تعیّن النجس أنّ الفرق بینهما محتمل، لتحقّق المنع من استعمال ذلك المتعیّن، فیستصحب إلی أن یثبت الناقل عنه. (2)

واعترض علیه الفرید البهبهاني (رحمة الله علیه) بانّ «غایة ما ثبت من الاستصحاب وجوب الاجتناب عن خصوص ما وقع فیه النجاسة، وأمّا

ص: 481


1- . ذکر الشيخ الأنصاري في الفرائد (للمجمع): ج2/ ص255.
2- . انظر: المدارك: ج1/ ص108؛ خزائن الأحکام: ج2/ ص183؛ إيضاح الفرائد: ج2/ ص676 ودرر الفوائد في شرح الفرائد: ج6/ ص326.

كونه معلوماً بعینه فلا، وهذا بعینه متحقّق (1) في الصورة الأولی، لما عرفت من أنّ المحكوم بالنجاسة شرعا لیس إلّا خصوص ما وقع فیه النجاسة، فیكون هو المأمور بالاجتناب عنه.

وبالجملة: ما ذكرت إنّ الاجتناب لا یجب إلّا مع تحقّقه بعینه، إن أردت التحقیق عندنا، فهو غیر حاصل في الصورة الثانیة أيضاً، فانّ الاستصحاب لا یحقّقه بعینه، وإن أردت في نفس الأمر، فهو متحقّق في الأولی أيضاً» (2).

أقول: الظاهر إنّ وجه التفرقة أنّ الثابت بالاستصحاب في الثانیة هو الوجوب الفعلي الظاهري، وحینئذٍ فلا وجه من مراعاته بالاحتیاط، لتحقّق الشغل الظاهري الیقینيّ المستدعي للبراءة الیقینیّة، والثابت هو النجاسة الواقعیة ولا یسلّم السیّد تحقّق الشغل هناك بمجرّد العلم الإجمالي، بل ذكر إنّ استبعاد سقوط حكم هذه النجاسة إذا لم یتحقّق المباشرة بجمیع الأطراف غیر ملتفت إليه، فالتفرقة بینهما علی ما ذكره لا ینبغي دفعه بما ذكر.

نعم، استصحاب الأحكام الظاهریّة محلّ إشكال مذكور في محلّه؛ علی أنّ حكومة مثل ذلك الاستصحاب علی أصالة الحلّ مع اندراج الحلّ

ص: 482


1- . في المصدر: «متحقّقون».
2- . الحاشية علی مدارك الأحکام: ج1/ ص169.

السابقة تحت إطلاقه حتّی یكون من قبیل استصحاب حكم المخصّص محلّ مناقشة أيضاً، فتأمّل.

لكن یمكن التفرقة بین الصورتین بأنّ عمدة الأخبار الدالّة علی الإباحة في المقام هو قوله: «كلّ شيء فیه حلال وحرام، فهو لك حلال حتّی تعرف الحرام منه بعینه»، ونحو ذلك من الأخبار المغیّاة بالعلم التفصیلي حسب ما یدّعیه المجوّز، ولا یخفی أنّ حصول العلم التفصیلي في أحدهما مخرج لمورده عن المغيّی ومدخل له تحت الغایة، وطرف الاشتباه بین فرد الغایة والمغيّی لا یخرج ما دخل تحت الغایة عنها ولايدخله تحت المغيّی، ولا أقل من الشكّ في اندارجها تحت إطلاق الحكم بعد الاشتباه؛ وكذا غیر واحد من الأخبار الخاصّة ظاهرة في خصوص الصورة الثانیة، بل یمكن دعوی بقاء أثر العلم التفصیلي بعد طروّ الاشتباه عقلاً، نظراً إلی تنجّز الخطاب به واشتغال الذمّة به عقلاً ولا یمنع عنه طروّ الاشتباه ولو علی تقدیر عدم العبرة بالعلم الإجمالي، بل الظاهر أنّ الحكم بكون مجرّد طروّ الاشتباه باعثاً لسقوط التكلیف الفعلي أمر مستغرب عقلاً وفقاهة خصوصاً عند سهولة التمیّز، لكنّ التفرقة بعد لا تخلو عن تأمّل والله العالم.

الأمر التاسع

نُسِب إلی العلّامة طاب ثراه في «المنتهی» أنّه قال: لو اشتبه أحد أطراف المحصور بأمور متعدّدة وجب اجتناب الجمیع، لأنّ مقدّمة

ص: 483

المقدّمة مقدّمة (1). ووافقه فیه بعض الأساطین. (2)

وعن صاحب المعالم (3) والمحقّق الخوانساري (4) (رحمة الله علیه) ردّه بأنّ وجوب الاجتناب عن الإنائین إنّما ثبت بالنصّ، وشموله للمقام ممنوع، وهو حسن لو كان وجوب الاجتناب علی خلاف القاعدة لأجل النصّ، وأمّا علی تقدیر كونه علی القاعدة كما هو ظاهر كلام العلّامة (رحمة الله علیه)، فلا وقع لما ذكراه.

وقد یقال: إنّ وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف إن كان من باب التعبّد الشرعي، أو حكمنا بنجاستهما شرعاً، أو عقلاً، أو قلنا بوجوب الاحتیاط شرعاً، فلا شبهة في وجوب الاجتناب عن جمیع الأطراف إذا اشتبه بأحد أطراف المحصور، نظراً إلی ثبوت التكلیف به شرعاً، والمفروض تردّده بین أمور محصورة، فیجب من باب المقدّمة الاجتناب عن الكلّ، بل لیس فیه حكایة مقدّمة المقدّمة.

وإن كان من جهة حكم العقل بعدم جواز الارتكاب تحصیلاً للبراءة الیقینیّة، فلا یجب الاجتناب عنها؛ لأنّ الأطراف حینئذٍ وإن كانت مقدّمة، إلّا أنّ مقدّمة العلم لیست كسائر المقدّمات معروضة للوجوب الشرعي،

ص: 484


1- . انظر: منتهي المطلب في تحقيق المذهب: ج1/ ص178.
2- . انظر: منتقد المنافع في شرح المختصر النافع: ج1/ ص463 وذخيرة المعاد في شرح الإرشاد: ج1/ ص381.
3- . انظر: معالم الدين (في الفقه): ج1/ ص381.
4- . انظر: مشارق الشموس في شرح الدروس: ص282.

بل وجوبها عقلي صرف، ولعلّه لذا أُخْرِج مِنْ تلك المسألة.

ومن البیّن أنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة في المقام - كما عرفت - معلّق علی عدم ثبوت الرخصة من الشارع علی جواز الارتكاب ولو لأجل تساوي نسبة الأصل بالنسبة إلیهما.

ومن المعلوم أنّ فرداً من المحصور لو اشتبه بأمور متعدّدة یمكن إجراء الأصل في جمیع أطراف الشبهة الحادثة بسبب حدوث صفة الاشتباه، ولا یلزم من الترخیص فیها تناقض في فعل الشارع؛ إذ لیس في المقام خطاب شرعيّ معلوم بالإجمال حتّی یكون جعل الأصول في الأطراف منافیاً له، كما لا یعارض الأصل في الفرد المشتبه الأصل في الفرد الباقي علی تعیّنه، لسقوط أصله بالمعارضة من أوّل الأمر ولم یحدث بالنسبة إليه حادثة توجب إحیاء أصله، كما أوجب حدوث الاشتباه عود الأصل في الفرد المشتبه؛ ولذا لو اشتبه الفرد الآخر أيضاً بأمور محصورة، یعود أصله بالاشتباه ویقع التعارض بین الأصول، فیجب الاحتیاط في الجمیع، للزوم التناقض في جعل الأصول، وإلّا فاشتباه أحد الأطراف لا یوجب ذلك، وحینئذٍ فیبقی للتكلیف المعلوم إجمالاً امتثال احتمالي بالاجتناب عن الفرد غیر المشتبه؛ هذا ولكن عندي محلّ تأمّل وإشكال، والله العالم بحقیقة الحال.

الأمر العاشر

إنّه یقوم مقامَ العلم الإجمالي بحرمة واحد مردّد الأماراتُ المعتبرةُ إذا قامت علی حرمته لا بعینه، بل الأصول العملیّة أيضاً، كما لو كان هناك إناء مستصحب النجاسة، فاشتبه بغیره، فالظاهر وجوب

ص: 485

الاجتناب علی القول به هناك، ولو كان هناك إناءان مشكوكا الطهارة، فعلم إجمالاً بأنّ أحدهما مسبوق بالنجاسة، فلا یبعد الحكم بلزوم الاحتیاط، ودعوی عدم انصراف أخباره إلی مثل ذلك غیر ظاهرة.

[الأمر] الحادي عشر

لو انعدم أحد الموضوعین، كما لو انتفی أحد الإنائین، فإن كان قبل العلم الإجمالي فالظاهر هو الحكم بالبراءة والحلّ في الطرف الموجود، وإن كان بعده فالظاهر بقاء لزوم الاحتیاط في الطرف الموجود نظراً إلی أصالة الاشتغال، أو استصحابه، أو استصحاب بقاء التكلیف، كما سبق نظیره في ما لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض المحتملات، فراجع.

[الأمر] الثاني عشر

إنّه قد یكون في أحد طرفي الشبهة حكم واحد، وفي الآخر حكمان فصاعدا، كما لو كان أحد طرفي الشبهة حَراماً ونَجساً علی تقدیر كونه المكلّف به، والآخر حراماً فقط، أو كان بعض المشتبهین ممّا یتعلّق به جملة من أحكام النجس، بخلاف الآخر.

وحكمه إنّه لو كان الجمیع من نوع واحد ولم یكن بین بعضها مع بعض خطاب مشترك بخلاف الآخر، كان اللازم الاحتیاط في الجمیع إذا كانت موجودة قبل العلم الإجمالي وتعلّق بها العلم مرّة واحدة، وأمّا إذا اختلفا تقدّماً وتأخّراً كان تجدّد الحكم الآخر بعد العلم الإجمالي، فمقتضی بعض ما ذكر من اعتبار التقدّم والتأخر الزماني هنا، هو الحكم بالبراءة هنا، وقد تقدّم الكلام فیه.

ص: 486

وأمّا إذا لم یكن الجمیع من جنس واحد بأن اختصّ بعض طرفي الشبهة بجنس آخر من التكلیف، فإن قلنا في الأمر الأوّل بعدم الفرق لم یكن بینها فارق من هذه الجهة، لكن ربّما ینحلّ العلم الإجمالي في المقام إلی علم تفصیلي وشبهة بدویة، نظراً إلی أنّ الخطاب المشترك بینها معلوم الثبوت علی المكلّف تفصیلاً والمختصّ بأحدهما مشكوك ولیس لإجراء الأصل فیه معارض، نظراً إلی أنّ مقابله هو التكلیف الموجود في الآخر وهو معلوم الوجود في الجملة وإن تردّد مصداقاً، وقد تقدّم الكلام في نظیره في مسألة الملاقي، والحكم بالبراءة أوضح لو قلنا باختصاص الحكم بمتّحدي النوع أو الجنس، كما ذهب إليه صاحب الحدائق (1)، ومال إليه عمّي العلّامةُ طاب ثراه في مسألة الاستصحاب معتمداً علی ما حاصله ظاهراً شمول غایة الأصل، وهو العلم للعلم الإجمالي في المتّحدین (2) كما مرّ تفصیله، بخلاف المتخالفین لانصراف الدلیل إلی غیره، فتدبّر والله العالم.

المقام الثاني: في الشبهة غیر المحصورة

اشارة

والكلام فیه [يقع]:

تارة في عدم وجوب الاحتیاط والتفرقة بینه وبین المحصور حكماً؛

وأخری: في جواز المخالفة القطعیة وعدمها، فیجب إبقاء ما یساوي الحرام فیها.

ص: 487


1- . انظر: الحدائق: ج1/ ص517؛ الدرر النجفية: ج2/ ص159 و 160.
2- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص378.

وثالثة: في كشف الحال عن حقیقتها ومیزانها وما هو الضابط في ما لا ینحصر من الشبهة.

ورابعة: في بیان حال ما لا یعلم دخولها تحت المحصور أو غیر المحصور وتأسیس الأصل في ذلك.

وخامسة: في ما یلحق بالمحصور من شبهة الكثیر في الكثیر موضوعاً أو حكماً، فهاهنا مراحل ومقتضی النظم الطبیعي وإن كان تقدیم المرحلة الثالثة المتكفّلة لبیان الموضوع علی غیرها، إلّا أنّا أخّرناها كما صنعه بعض الأساطین وغیره؛ لأنّ الموضوع بهذا العنوان العرفي لیس منصوصاً في ألفاظ الكتاب والسنّة حتّی یتكلّم في تحقیق المفهوم مع قطع النظر عن الحكم أو لا، بل هو عنوان مستفاد من الأدلّة المتشتّتة، فلابدّ من تقدیم الأدلّة وما یتبعها أوّلاً حتّی یتكلّم بعده عن مقدار سعة الموضوع وشموله، كما هو الحال في مسألة الشكّ بعد الفراغ ونحوه.

ولعلّ هذا هو العذر فیمن عدل عن الوضع الطبیعي، وإن ناقش فیه بعض مشایخنا (دام ظله) بما حاصله ظاهراً إنّ ذلك متوقّف علی صلاحیة أدلّة المسألة لاستنباط موضوع غیر المحصور منها وعلی عدم كونه مذكورا بهذا العنوان في شيء من أدلّة المسألة، وَكِلْتا المُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوْعَةٌ لعدم تحصیل ما عدا الإجماع ما هو المیزان في الموضوع وعنوان غیر المحصور موجود في معقد الاجماع المحصّل والمنقول، وهو عندي محلّ تأمّل، وسیظهر وجهه ممّا سنذكره إن شاء الله تعالی، والأمر فیه سهل.

ص: 488

المرحلة الأولی

اشارة

إنّهم صرّحوا بعدم وجوب الاحتیاط في الشبهة غیر المحصورة، ویمكن أن یستدلّ له بوجوه:

أحدها

إنّ الاجتناب عن الشبهة غیر المحصورة موجب للعسر والحرج، وهو منفيّ آیة وروایة، بناء علی أنّ المستفاد من أدلّتها نفي الحرج النوعي، بمعنی أنّ كلّما اشتمل نوعاً وغالباً في حقّ أغلب المكلّفین، فهو مرفوع كلیّة ولو بمعونة تعلیل نفي الحكم في كثیر الأخبار كلیّة بنفي الحرج مع اطّراده في جمیع موارده في حقّ كلّ مكلّف، فیستفاد منه أنّ كلّ ما كان كذلك ما یلزم منه حرج نوعاً وغالباً، فهو مرفوع كلیة، ولعلّه مراد من استعان علی المطلب بما ورد من إناطة الأحكام الشرعیّة وجوداً وعدماً بالعسر والیسر الغالبین، وإلّا فلم نجد ما یدلّ علی الكلّیة صریحاً خصوصاً مع ظهور الكلام في نفي العبرة بالحرج الشخصي، فلا یرد علیه حینئذٍ ما ربّما یظهر من جماعة مما حاصله إنّ فیه عدولاً عن عنوان غیر المحصور إلی ما فیه الحرج، وهو قد یتحقّق في المحصور وقد لا یتحقّق في غیر المحصور.

وقد یورد علیه بأمور:

منها: ما ربّما یظهر من بعض الأساطین وغیره من أنّ أدلّة نفي العسرو الحرج لا تدلّ إلّا علی رفع ما کان ضيّقاً علی المكلّف في حقّه، وأمّا رفعه عمّن هو في حقّه في غایة السهولة فلا، بل لا امتنان فیه علی أحد، إذ

ص: 489

فیه تفويت لمصلحة التكلیف من غیر تداركها بالتسهیل. (1)

ویشكل بأنّ تنزیل أدلّة نفي الحرج علی نفي الحكم المتضمّن للحرج غالِباً لعلّه أقرب من تنزیلها علی الحرج الشخصي، خُصُوْصاً مع ملاحظة مساق الآيات والروایات، وتحقیق المقام موكولٌ إلی محلّ آخر.

وما ذكر من لزوم تفویت المصلحة، فهو إن كان مبنیّا علی الملازمة بین التكلیف ومصلحة المكلّف به، فالإشكال وارد في مورد العسر أيضاً، لأنّ التسهیل لیس من مصالح متعلّق التكلیف، وإن بني علی أنّ العبرة بحسن التكلیف لا المكلّف به، وإن كان الثاني من جهات الأوّل لولا المانع، فالإشكال غیر متّجه؛ لأنّ في اطّراد الأحكام أيضاً جهة ربّما یعتبره الشّارعُ، فلا یكلّف في غیر مورد الحرج إلحاقاً له بالغالب، أو لغیر ذلك ممّا لانعرفه من جهات التكلیف وبیانه موكول إلی محلّه.

وأجاب عنه عمّي العلّامة طاب ثراه معترضاً علی المحقّق القمي (رحمة الله علیه) بأنّ العسر والحرج انّما یقتضیان رفع الحكم الذي یترتّبان علیه علی قدر ترتّبهما علیه، ففي غیر المحصور لمّا كان ترتّبها علی وجوب الاجتناب عنه وما في حكمه ثابتاً علی الإطلاق حتّی بالنسبة إلی ما یزید منه علی قدر الضرورة، لوضوح ترتّبهما علی تقدیر تحدید رفع المنع بأنّ ما فیها أيضاً لعموم مورده وابتلاء عامّة النّاس به في عامّة الأحوال أو أغلبها، لزم

ص: 490


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص258.

ارتفاعه علی الإطلاق، بخلاف المحصور لندرة الاضطرار إليه، وعلی تقدیر حصوله، فدوران رفع الید فیه مدار رفع العسر والحرج لا یوجب عسراً ولا حرجاً ولهذا جاز ثبوت حكمه. (1)

أقول: وقد ذكر نظیر ذلك في مسألة رفع الحرج الغالبي.

ویرد علیه: إنّ إثبات المدّعی به یحتاج إلی التعمیم من جهات ثلاثة من طرف المكلّف؛ إذ قد یوجد مكلّف لا حرج له في الاجتناب عن شيء من أفراد الشبهة المفروضة، لعدم ابتلائه بحسب حاله بمواردها كثیراً.

ومن طرف أفراد الشبهة بحسب متعلّقها، فانّ الحرج متحقّق عن النجاسة والغصب ونحوهما عند الشبهة المفروضة دون الخمر المشتبه بین أفراد غیر محصورة والكلب والخنزیر المشتبهین، لسهولة التمیّز وندرة تحقّق الموضوع،

ومن حیث أفراد العلم الإجمالي، فانّ العلم الإجمالي الناشي عن حكم العادة بوجود نجاسة ما، أو متنجّس ما في البلد، أو السوق، يتعسّر الاحتیاط فیه، دون ما كان ناشیاً عن وصول نجاسة إلی جزء من أجزاء بیته الوسیعة.

ومن حیث تعمیم الترخیص إلی جمیع أطراف الشبهة في مقابلة الاقتصار في الرخصة إلی مقدار منها یندفع به الحرج.

ص: 491


1- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية (الطبعة القديمة): ص361.

وما ذكره لو تمّ وأغمض عن المناقشة بأنّ اللازم تحديده بحدّ لا یلزم بعده حرج، ولو كان هو مطلق الحاجة العرفیة لا رفع الجمیع، فلا يفي بالتعمیم من جمیع الجهات المتقدّمة، بل ما ینطبق به منها بظاهره هو خصوص الأخیر، أمّا بالنسبة إلی الأوّل فواضح، ضرورة أنّ تخصيص الحكم بمكلّف دون مكلّف مع سهولة تمیّزهما مصداقاً لا یتبعه عسر ولا حرج.

وأمّا الثاني، فلا یبعد أن یكون کذلك، فانّ الحرج حاصل في جملة من الموارد بخصوصیّاتها وبعد إخراج الموارد العسریة بخصوصیّاتها لا نسلّم لزوم الحرج في الباقي وإن احتمل أن یدّعی أنّه یلزم من مجموعها الحرج ولا یلزم من كلّ منها بخصوصه، لكنّه غیر ظاهر عند التدقیق أيضاً عمّا لو كان ضمّ مشتبهه إلی غیره غیر دخیل في حدوث الحرج في المجموع أيضاً، إلّا أن یدّعی العسر حینئذٍ في تميّزه عن غیره.

هذا مع أنّ إلحاق الحرج فیها بحكمه كالملاقي بالحرج في نفس التكلیف مناقشة، لأنّ الحرج النوعي إن لوحظ بالنسبة إلی عنوان غیر المحصور قد حقّقنا عدم لحوق الاجتناب اللازم لمثله حتّی في المحصور وقد اعترف به أيضاً، وإن لوحظ في نفس الحكم الواقعي فحینئذٍ یكون المدّعی عدم حصول الحكم الواقعي هناك، فیلزم كونه أسوء حالاً [بالنسبة إلی] النجاسة المشكوكة بدواً، إلّا أن یلتزم به فیه أيضاً، فیلزمه التصویب في الموضوع مع أنّه بتلك الملاحظة تَخْرُجُ المسألة عن الوحدة ویكون الملحوظ

ص: 492

في كلّ مقام عنوان المحرّم بخصوصه، فكیف یحكم برفعه بالحرج النوعي؟ فتأمل.

ومنها: إنّه لو سلّمنا أنّ المعیار في نفي التكلیف علی لزوم الحرج غالبا ولو بمعونة ما ذكر، فلا ینفع للمدّعی؛ لأنّ الشبهة غیر المحصورة لیست واقعة متعلّقة لحكم شرعي حتّی یكون لزوم الحرج غالباً سبباً لرفعه، بل هو عنوان منتزع لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة والمقتضي للاجتناب في كلّ واحد منها هو نفس الدلیل الخاصّ التحریمي الموجود في كُلِّ مسألة بخصوصها والمفروض ثبوت التحریم لذلك الموضوع من دون لزوم حرج منه في الأغلب ولو عند الاشتباه ولا دخل لما دلّ علی دوران الحكم مدار العسر والیسر الغالبین.

فغایة ما یمكن أن یقال حینئذٍ أنّ كلّ حكم لزم من مراعاته في خصوص شبهاته غیر المحصورة حرج علی أغلب المكلّفین، كأن یدّعي أنّ في الاجتناب عن النجس الواقعي المردّد بین غیر المحصور حرج غالباً، فهو مرتفع بخصوصه ولا یسري ذلك في الأحكام الّتي لا تكون كذلك، كالخمر والمرأة المشتبهة في ناحیة مخصوصة.

وقد یجاب عنه بأنّه إنّما یتمّ إذا لم نقل بأنّ میزان غیر المحصور هو ما كثر مشتبهاته بحیث یلزم من الاحتیاط فیه الحرج في حقّ أغلب المكلّفین، أو إذا لزم فیه ذلك ولو لم یكن مستنداً إلی الكثرة، وإلّا فالاعتراض ساقط من أصله.

ص: 493

والكلام في المبنی سیظهر ممّا نذكره إن شاء الله تعالی وهو بعد تسلیم المبنی غیر وافٍ بدفع الإشكال، فانّ العبرة علی ما قرّره بلزوم الحرج في الاجتناب عن جمیع مشتبهاته غیر المحصورة، لا عن خصوص كلّ شبهة منها، مع أنّ المتّجه حینئذٍ إلغاء قید الكثرة؛ لأنّه لا دخل له بنفسه في رفع وجوب الاجتناب؛ لأنّ العبرة حینئذٍ بلزوم الحرج الغالبي في خصوص كلّ مشتبه، سواء كان محصوراً، أو غیر محصور والأمر فیه سهل، كما أنّ ما ذكره المحقّق المعترض في آخر كلامه من إمكان الدعوی المذكورة منظور فیه جدّاً.

بل الظاهر إنّ مقتضی تقریر الجواب المذكور هو المنع عن رفع مثل ذلك أيضاً، فانّ العبرة حینئذٍ بلزوم الحرج الغالبي في نفس الحكم الشرعي، لا حصوله غالبا في صنف جعل له عنوان انتزاعي، فانّ مقتضی إناطة الحكم بالغالب ملاحظة الغلبة في نفس أفراد الموضوع المعروض للحكم، لا انتزاع مفهوم یصدق علی جملة أفراد منها حتّی یدور حكم الصنف مدار الغالب، بل الظاهر عدم التزام الفقهاء بنظائر المسألة - كعنوان الشیخ والشیخة - حیث یتعسّر لهما الصوم غالباً مع أنّ الظاهر إناطتهم الحكم بالحرج الشخصيّ في الأخیرین.

ومثله الكلام في الوضوء في الیوم الشدید البرد بالماء البارد ونحوه، فالظاهر حینئذٍ هو إناطة الحكم بلزوم الحرج في كلّ تكلیف خاصّ تعلّق به علم إجمالي عسر مراعاته في حقّ خصوص من تعسّر له، فافهم.

وتحقیق المقام إنّ وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة إمّا شرعي

ص: 494

- ظاهریاً كان أو واقعیّاً بل لو كان امضاء لما حكم به العقل - وإمّا عقلي صرف.

فعلی الأوّل، فالاعتراض غیر وارد؛ لأنّه حینئذٍ واقعة واحدة تعلّق بها حكم شرعي، فینفيه القاعدة المذكورة، لأنّه أيضاً حكم یدور مدار الغالب، إلّا أن یناقش في شمول دلیل الإناطة لمثله نظراً إلی عدم إطلاق لفظي له، لكنّه بعید، بل لا یبعد دعوی وحدة المناط في المقامین؛

وعلی الثاني، فإمّا أن یكون المرفوع بالأدلّة هو الحكم الظاهري الفعلي، لكونه بنفسه تعلیقیّاً قابلاً للترخیص، أو یكون هو نفس الأحكام الواقعیّة ولو في الجملة.

وعلی الثاني، فالأمر كما ذكره في الِاعْتِراضِ، وعلی الأوّل یمكن دعوی وحدة الواقعة نظراً إلی أنّ الترخیص حینئذٍ واحد متعلّق بموضوع كلّي، والظاهر أنّ مبنی الإعتراض علی الوجه الأخیر كما هو مقتضی كلامه.

فإن قلت: قد استظهر المُحَقِّقُ المُعْتَرِضُ عدم جواز المخالفة القطعیة، فلو كان المرفوع هنا هو الحكم الواقعي لم یعقل المنع عن المخالفة القطعیة،

قلت: رفع الواقع قد یكون بتقیید نفس الواقع بغیر الفرد وقد یكون بالإذن في مخالفته علی وجه خاصّ بجعل بدل له ومبنی الكلام هو الثاني دون الأوّل، هذا.

ویمكن دفع الاعتراض علی هذا التقدیر أيضاً بدعوی أنّ المستفاد من أدلّة الحرج علی أنّ الأحكام الشرعیة جعلت علی وجه لا یؤدّي إلی الحرج

ص: 495

نوعاً وإنّ كیفیة جعل الأحكام لا یؤدّي إلی الحرج علی المكلّف نوعاً، فإذا كان بناء الشارع في أحكامه إلی مراعاة الواقع مطلقاً بحیث یلزم منه وجوب هذا النحو من الامتثال البعید لأدّی إلی الحرج غالباً، أو إن قصر الإباحة الشرعیة علی ما لا یكون فیه علم إجمالي مردّد بین ما لا ینحصر مؤدٍّ إلی الحرج الغالبي، فتأمّل جیداً.

ومنها: ما قرّره بعض الأساطین - مضافاً إلی ما ذكر - من منع غلبة العسر في الشبهات غیر المحصورة بعد خروج ما كان منها ممّا لا یبتلي المكلّف ببعض أطرافه، كما هو الغالب في هذه الشبهة؛ لعدم وجوب الاجتناب عنه ولو كان في ضمن المحصور، بل مرجعه إلی الشبهة البدویة بالنسبة إلی التكلیف المنجّز، فهو خارج عن الشكّ في المكلّف به علی ما سبق، وبعد إخراج هذه الشبهة، فحصول العسر غالبا في غیرها ممنوع جدّاً؛ هذا توضیح الاعتراض.

وربّما یُجابُ عنه بما سبق من جواز تفسیر غیر المحصور بما ذكر، لكنّ الانصاف بعد قصر الخارج عن الابتلاء بما كان التكلیف فیه قَبیحاً، لعدم شأنیّة بعض الأطراف لعروض الِارتكاب له عُرْفاً، إنّه مشكل جدّا لكثرة الشبهة غیر المحصورة علی الوجه المذكور، خصوصاً لو ضمّ مشكوك الابتلاء به في وجه.

ومنها: المنع من غلبة العسر في أنواع غیر المحصور مطلقاً، فانّ اشتباه المحرّم بما لا ینحصر في جملة من الأحكام الشرعیة - كاجتناب النجس

ص: 496

والمغصوب - حاصل غالباً ویعسر الاجتناب عنه، وأمّا غیره من المحرّمات كالزنا والغیبة وشرب الخمر واللواط وإضرار المسلّم بدناً وعرضاً إلی غیر ذلك من جمیع ما حرّمه الله سبحانه، فالاجتناب عن مشتبهاته مطلقاً ممّا لا عسر فیه، لندرة غیر المحصور فیه، فلا یبعد أن یدّعی أنّ أكثر المحرّمات الشرعیة ممّا لا عسر في اجتناب مشتبهاتها ولو في ضمن غیر المحصور وإن عسر في جملة منها، فكیف یصحّ دعوی الغلبة؟!

ویمكن دفعه بأنّ المعتبر في المقام هو الغلبة الشخصیّة الخارجیة دون الصنفيّة، وغالب موارد الشبهة غیر المحصورة هو لزوم الحرج ولو لأجل غلبة وقوعها في تلك الأحكام الخاصّة، فتأمّل.

ومنها: ما ذكر المحقّق القميّ طاب ثراه من أنّ لزوم الحرج یوجب الحكم بالطهارة، كما لو اضطرّ إلی أكل الميتة وشرب الماء النجس، واللازم الحكم بالطهارة في المحصور أيضاً إذا كان الإجتناب عسراً. (1)

وقال: وأمّا قد یتمسّك بذلك في مثل طهارة الحدید مع ورود الأخبار بالنجاسة، فذلك تأسیس في الحكم ودفع، لارفع لحكم ثابت، وبینهما فرق واضح. (2)

وردّه في «الفصول» بعدم الفرق بین ما لو كان الموجب للوقوع في

ص: 497


1- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص68.
2- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص69.

الحرج حرمة أو نجاسة أو غیرهما، لاقتضاء العسر والحرج رفع الحكم المرتّب علیه مطلقاً.

ثمّ قال: وإلی هذا ینظر احتجاج الأصحاب بذلك علی طهارة الحدید في مقابلة الأخبار الدالّة علی نجاسته (1)، ورد التفرقة بین الدفع والرفع بأنّه غیر واضح؛ لأنّ ما یصلح للتأسیس والدفع، یصلح للرفع أيضاً.

سلّمنا لكنّ المقام من باب الدفع لا الرفع وحیث یدفع بلزوم العسر والحرج عموم الادلّة الدالّة علی التحرّي لصورة الاشتباه بغیر المحصور، فلا یجب التجنّب لما عرفت من أنّ مبنی وجوبه علی فعلیّة التحریم المستتبع لخوف الضرر علی تقدیر ارتكاب البعض، فإذا دفعنا عموم التحریم ارتفع الخوف وسقط اعتبار الوجوب.

وأورد علیه بأنّ مراد المحقّق القمي (رحمة الله علیه) من الدفع ما كان العسر مانِعاً عن جعل نفس التكلیف لكونه معتبراً بنفسه وبالرفع ما كان الغرض رفع عموم الحكم وإطلاقه للمورد المتعسّر، فكلّما كان دلیل الحكم أخصّ من دلیل العسرّ كان دفعاً وأدلّة نفي العسر كافیة في إثبات عدمه، وكلّما كان للحكم مورداً آخر لا حرج فیه، فیكون النسبة عموماً من وجه لم یجز التمسّك فیه بالقاعدة، وهذا عكس ما فصّل فیه بعض الأساطین من أنّه یعمل بالقاعدة في ما لا یكون هناك دلیل أخصّ منها، لحكومة القاعدة علی

ص: 498


1- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية: ص361.

عموم أدلّه الواقع، وإلّا فالخاصّ مقدّم علی القاعدة.

وبالجملة، فما ذكره بعد تسلیمه في حال القاعدة لا یَجُوْزُ رَدُّهُ بأنّ المقامَ من باب الدفع، ضرورة أنّ نفي عموم الأحكام الواقعیة لیس دفعاً بهذا المعنی، فَالِاعْتِراضُ مَبْنِيٌّ علی عَدَمِ تَنْقِیْحِ مُرادِه.

أقول: الّذي یظهر لي من كلام المحقّق (رحمة الله علیه) وإن لم یَخْلُ مِن (1) اضطرابٍ؛ إذ المستفاد من القاعدة - ولو علی تقدیر التنزّل (2) والمماشاة - هو رفع الحكم الوضعي في مقام الدفع بأن یستدلّ بها علی عدم جعل أصل الحكم إذا لزم منه الحرج دائماً، أو ولو غالباً، وأمّا إذا كان الحرج طاریاً علی الحكم الوضعي المجعول یقیناً، فلا یستفاد منها ارتفاع الحكم الوضعي وإنّما غایته رفع خصوص التكلیف، كما في مثل الاضطرار والشبهة المحصورة، فغرضه حینئذٍ إنّ نفي العسر قاض في مسألة الحدید بعدم جعل الشارع أصل حكم نجاسته، لأنّ الحكم بالنجاسة یقتضي الوقوع في العسر، بخلاف المقام حیث أنّ أصل الحكم بنجاسة مُلاقي البول لا حرج فیه بنفسه، فلو طرأ هنا تعسّر في بعض أفراده - كما في غیر المحصور - ألحق بالتعذّر الرافع للتكلیف فقط؛ وهذا كلامٌ مَتین.

وما ذكره العلّامة الموردِ أوّلاً من المنع من التفرقة علی ما ذكر غیر

ص: 499


1- . في المخطوطة: «لا يخلو عن».
2- . في المخطوطة: «تنزّل».

متّجه، بل لعلّ ما اختاره بعد الدقّة إلی ذلك كما ذكره ثانیاً من أنّ المقام مقام دفع، خصوصاً بعد تسلیم كون المرفوع نفس عموم التكالیف الخاصّة كما ظهر ممّا سبق ردّه، ولو اقتصر علی المنع أمكن توجیهه بأنّ غیر المحصور عنده عنوان تعلّق به حكم شرعي، فهو مدفوع بأدلّة الحرج كما سبق، فافهم.

ومنه یظهر إنّ ما فهمه منه بعض مشایخنا (دام ظله) من التفصیل في نفس مجری القاعدة بین الدفع والرفع كما سبق، مخالف لمراده علی ما ذكر، فلا یكون عكساً للتفصیل الآخر، كما أنّ هذا الكلام ناظر إلی تنقیح مفاد القاعدة وذلك التفصیل إلی مقام تقدیم الخاصّ علی العامّ عند التعارض، وهذا ممّا لا یستوحش منه المحقّق القميّ، بل یظهر منه أنّ التقدیم لأجل عدم مقاومة الخاصّ للعامّ، فتدبّر، وتحقیق حال المسألة موكول إلی تنقیح مفاد القاعدة في محلّه.

ثمّ إنّه قد یستحسن منع ارتفاع الأحكام الوضعیة بقاعدة الحرج بناء علی أنّ المرتفع بقاعدة الحرج هو الحرج البالغ حدّ الإمتناع العادي وما دونه ممّا یضطرّ المكلّف إليه لحفظ نفسه - کأكل المیتة في المخمصة ونحو ذلك - فانّه لا یُستفادُ منها حینئذٍ أزید من رفع الحكم التكلیفي الصرف، وأمّا لو كان الثابت منها هو رفع الحرج العرفي مطلقاً الّذي وقع الخلاف بینهم في أنّها بهذا المعنی قاعدة یتمسّك بها بنفسها لإثبات الحكم الشرعيّ، فهذا المعنی لو ثبت كذلك كانت صالحة لرفع الحكم الوضعي والتكلیفي معاً،

ص: 500

ولعلّ ما ذكره مبنيّ علی إنكار صلاحیّة القاعدة بنفسها لذلك.

وأقول: تنزیل كلامه علی ذلك بعید، كما یظهر بالمراجعة إلی كلامه [و] كما أنّ التفصیل بین المقامین غیر ظاهر وشرحه غیر مناسب للمقام.

ومنها: إنّ المرفوع بأدلّة الحرج هو الأحكام الواقعیّة دون الظاهریّة و [يکون] المقام من الثاني.

وردّ بأنّ الموجب للاحتیاط هو حكم العقل بوجوبه من باب المقدّمة وهو حكم واقعيّ، فینفي بأدلّة الحرج، وهو بظاهره فاسد؛ لأنّ المنفيّ بها هو الأحكام الشرعیّة دون الفعلیة التي منها وجوب مقدّمة العلم.

فالجواب عنه ما أشرنا إليه من أنّ المرفوع هو الأحكام الواقعیّة الّتي أوقع مراعاتها وامتثالها المكلّف في الحرج إمّا رأساً، أو برفع فعلیّتها بجعل البدل، أو بدونه علی هذا البناء، أو رفع الوجوب الشرعي للاحتیاط علی وجه آخر، أو غیر ذلك ممّا یظهر ممّا سبق.

ومنها: إنّ الحرج الواقع لیس من القسمین المتقدّمین وقاعدة نفيه في ماسوی المرتّبتین لیس ممّا ینتفع به الفقیه، بل هو حكمة ربّما یعتبرها الشارع، وتحقیق ذلك [يستدعي] سؤالاً وجواباً موكولين (1) إلی مسألة نفي الحرج.

ومنها: ما حُكِيَ عن بعض أساتید العصر (2) من إنكار لزوم الحرج عن

ص: 501


1- . في المخطوطة: «موکول».
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص260 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص13.

الاجتناب مُطْلَقاً مُعَلّلاً بأنّه لو كان المشتبهات معلومة الحرمة تفصیلا، لم یكن حرج في الإجتناب، كما لو فرض العلم بنجاسة صحراء وسیعة أو أمر من أمور كثیرة، فانّها لو كانت معلومة النجاسة تفصیلاً لم یكن في اجتنابها حرج، فكذلك هنا، وهذا الجواب غیر مفهوم عند هذا العبد.

وثانیها

الأخبار الدالّة علی حلّیة ما لم یعلم حرمته، فهي بعمومها وإن عمّت الشبهة المحصورة أيضاً، إلّا أنّ مقتضی الجمع بینها وبین مادلّ علی وجوب الاجتناب بقول مطلق هو حمل أخبار الرخصة علی غیر المحصورة وحمل أخبار المنع علی المحصور.

وأجاب عنه بعض الأساطین بوجهین:

أحدهما: إنّ المسألة في وجوب الِاجتناب في المحصور هو اقتضاء دلیل نفس الحرام المشتبه لذلك بضمیمة حكم العقل، وقد تقدّم بما لا مزید علیه إنّ أخبار حلّ الشبهة لا یشكل صورة العلم الإجمالي بالحرام. (1)

وفیه نظر؛ لأنّ ما ذكر هناك هو إمّا شمول الغایة لها، لكون المعلوم بالإجمال أيضاً شیئاً معلوماً، أو مناقضته لحكم العقل المستقلّ، وشمول الأوّل لما نحن فیه بعید جدّاً؛ لعدم صدق حصول العلم بالحرام، أو معرفته

ص: 502


1- . انظر: الفرائد (مؤسسة النشر الإسلامي): ص432؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص261؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص14 وکتباً أخر.

في شيء من المشتبهات عرفاً، ولا أقلّ من انصرافها إلی غیره، وكذا الثاني كما سنشیر إليه في المخالفة القطعیة، وما قدّمناه هناك من سائر الوجوه من إجماع وانصراف ونحوهما، فأكثرها لا یتأتّی هنا.

وثانیهما: إنّه لو سلّمنا شمولها لصورة العلم الإجمالي بالحرام حتّی ینحلّ الشبهة المحصورة أيضاً، وأخبار وجوب الاجتناب، مختصّة بغیر الشبهة الِابتدائیة إجْماعاً، فهي علی عمومها للشبهة غیر [الِابتدائیة] أيضاً أخصّ مطلقاً من أخبار الرخصة.

والحاصل: إنّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائیة وأخبار الإجتناب نصّ في الشبهة المحصورة وَكِلا الطَّرَفَیْنِ ظاهِرٌ في الشبهة غیر المحصورة، فإخراجهما عن أحدهما وإدخالها في الآخر لیس جمعاً، بل ترجیحاً بلا مرجّح.

أقول: أخبار البراءة منها ما یعمّ الشبهة البدویة ومنها ما یختصّ بمورد العلم الإجمالي، ككثیر من الطوائف المتقدّمة، كما أنّ أخبار الإجتناب منها ما یختصّ بمورد العلم الإجمالي كبعض ماتقدّم من الأخبار.

ومنها: ما یعمّها والبدویّة، كحدیث التثلیث.

وما ذكره أوّلاً من أخصّیة أخبار الإجتناب إنّما یتمّ في القسم الثالث بالنسبة إلی القسم الأوّل، وأمّا الرابع فالنسبة تباین صرف وجعل الإجماع علی خروج الشبهة البدویة غیر ظاهر؛ لأنّ خروجها عنها لیست بالقرائن الداخلیة، بل بأمر خارج عنها، والخروج بالأمر الخارج المخصّص المنفصل

ص: 503

لا یوجب انقلاب النسبة وتحقیقه في محلّه؛ علی أنّه یمكن حمل الأخبار العامّة علی ما تَشْتَرِكُ فیه البَدویّة والمحصور بحیث یفید الرجحان في الأوّل واللزوم في الثاني كما صنعه (رحمة الله) في بعض كلماته؛ مضافاً إلی أنّ المحصورة أيضاً خارجة عن تحت أدلّة البراءة بالاجماع أو العقل أو غیرهما، فالنسبتان متساویتان، ولعلّه لذلك عدل عنه بقوله: والحاصل، مع ظهور اختلاف الحاصل والمحصول.

وكذا النسبة بین الثاني من الأوّلین مع الرابع عموم مطلق وخبر البراءة أخصّ من دلیل الاحتیاط ومع الثالث مبنیّة علی شمول كلّ منهما لغیر المحصور وعدمه، فما یعمّه من أخبار البراءة أعمّ مطلقاً من أخبار الاحتیاط علی ما هو الظاهر من اختصاصها بغیر المحصور، وحینئذٍ فیثبت ما رامه المستدلّ، وإلّا فمتباینان؛ وما یختصّ منها بظاهرها بالمحصور، فهو ممّا لا ربط له بالمقام وحمله علی غیر المحصور بعد عدم العمل بظاهره غیر متعیّن؛ لجواز حمله علی ما سبق فیها أيضاً، فراجع.

وما ذكره ثانیاً من أنّ النسبة عموم من وجه، أو بحكمه بملاحظة الخارج وإنّ إخراج مورد الإجتماع عن أحدهما لیس جمعاً، بل ترجیحاً من غیر مرجّح، فهو صحیح في العامّین من تلك الأخبار، سواء قلنا باحتیاج الجمع إلی الشاهد أولا؛ أمّا علی الأوّل، فواضح لعدم وجوده هنا؛ وأمّا علی الثاني، فلأنّ ذلك إنّما یصار إليه إذا اتّحد وجه الجمع؛ وأمّا مع تعدّد الجمع وعدم المرجّح - كما في المقام لإمكان العكس - فلا یمكن أنْ یُصارَ إلی شيء

ص: 504

منها بعینه، وأمّا في غیر العامّین، فقد بیّنا النسبة وحكمه یظهر مما سبق.

وحاصل الكلام: صحّة الاستدلال هنا مع قطع النظر عن الوجه الأوّل بأخبار البراءة الخاصّة بمورد العلم بحیث یشمل غیر المحصور دون العامّة، لعدم مقاومة أخبار الاحتیاط العامّة والخاصّة لها:

أمّا الأولی، فلأنّها أعمّ مُطْلَقاً من دلیل البراءة، فتخصّص به.

وأمّا الثانیة، فلأنّ بعضها مختصّة بالمحصور، وعلی تقدیر العموم، فتخصیصها بأخبار الاحتیاط في غیر المحصور غیر بعید.

أمّا علی قاعدة الجمع فظاهر؛ لأنّ إبقاء غیر المحصور فیها یقضي بطرح دلیل الاحتیاط رأساً، فالجمع بما ذكر أولی منه، والظاهر أنّه أقرب من سائر وجوه الجمع هنا؛ وأمّا علی غیرها، فیمكن توجیه المطلوب بأنّ أخبار الاحتیاط ضعیفة ظهوراً في الشمول لغیر المحصور وأخبار البراءة أظهر منها في ذلك، فیرجّح تلك علیها دلالة، أو یقال: إنّ الأوّل نصّ ولو بضمیمة الخارج في المحصور والثانیة نصّ في غیر المحصور، فیقدّم النصّ في كلّ منهما علی الظاهر، أو أنّهما علی تقدیر التكافؤ تتساقطان، فیرجع إلی عموم أدلّة البراءة، هذا.

مع أنّه یمكن أن یقال: إنّ الأخبار المتقدّمة - في أنّ كلّما فیه حلال وحرام بعمومه اللفظيّ شامل لغیر المحصور، خصوصاً بعد تنزیله علی اشتماله علی الحلال والحرام الفعلیین، كما هو مقتضی الأصل ولیس في الإحتیاط ما یقضي بتخصیصها، لأنّها مع قطع النظر عمّا تقدّم فیها - لا

ص: 505

تقاوم العموم المفروض في غیر المحصور ظهوراً، فتدبّر.

وثالثها

بعض الأخبار الدالّة علی أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام بین المشتبهات لا یوجب الإجتناب عن الجميع ما یُحْتَمَلُ كَوْنُهُ حَراماً، مثل ما في محاسن البرقي عن أبي الجارود قال: سألت أباجعفر (علیه السلام) عن الجبن، فقلت: أخبرني من رأی انّه یجعل فیه المیتة؟

فقال: أمن أجل مكان واحد یجعل فیه المیتة حرم جمیع ما في الأرض، فما علمت فیه میتة، فلا تأكله، وما لم تعلم، فَاشْتَرِ وَبِعَ وَكُلْ. واللهِ إنّي لَأعْتَرِضُ السُّوْقَ، فأشتري اللحم والسمن والجبن، والله ما أظن كلّهم یسمّون هذه البریة وهذه السودان. (1)

فانّ قوله: «أمن أجل مكان واحد»، ظاهر في انّ مجرد العلم بوجود الحرام لا یوجب الاجتناب عن محتملاته، وكذا قوله (علیه السلام): «وما أظنّ...»، فإنّ الظاهر منه إرادة العلم بعدم تسمیة جماعة حین الذبح، كالبربر (2) والسودان (3) ولو بعد ملاحظة تطبیقه مع السؤال عن مورد العلم.

ومن ذلك الأخبار الدالّة علی حِلِّیَّةِ كُلِّ ما كان فیه حَلالٌ وَحَرامٌ

ص: 506


1- . انظر: المحاسن: ج2/ ص296، ح1976 والوسائل: ج17/ ص91/ الباب 61/ ح5. تعرّض لذکر هذا الخبر ا لشيخ الأنصاري في الفرائد (للمجمع): ج2/ ص262.
2- . في المخطوطة: «البريّة».
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص262.

المتقدّمة، خصوصاً ما وقع جواباً للجبن، بل یمكن تخصیص ظاهرها بصورة العلم الإجمالي نظراً إلی ظهورها في تحقّق الحلال والحرام فعلاً في أفراد النوع، وجعل الحرام معلوماً تفصیلاً وإن أمكن، إلّا أنّه لا ربط له بالحكم حینئذٍ؛ لأنّ تعیّن الحرام خارجاً لا یقضي بحلّیة غیرها ولا بحرمتها جزماً، فحملها علی خصوص ذلك بعید.

وردّ بعض الأساطین التمسّك بالخبر الأوّل باحتمال أن یدّعی أنّ المراد جعل المیتة في الجبن في مكان واحد لا یوجب الاجتناب عن جبن غیره من الأماكن ولا كلام في ذلك، لا أنّه لا یوجب الاجتناب عن كلّ جبن یحتمل أن یكون من ذلك المكان، فلا دخل له بالمدّعی.

وأمّا قوله: «ما أظنّ كلّهم یسمّون»، فالمراد منه عدم وجوب الظنّ، أو القطع بالحلّیة، بل یكفي أخذها من سوق المسلمین، بناء علی أنّ السوق أمارة شرعیة لحلّ الجبن المأخوذ منه ولو من ید مجهول الإسلام؛ إلّا أن یقال: إنّ سوق المسلمین غیر معتبر مع العلم الإجمالي بوجود الحرام، فلا مسوّغ للارتكاب إلّا كون الشبهة غیر محصورة، فتأمّل. (1)

أقول: لم أفهم وجه اختصاصه احتمال كون الشبهة بَدْوِیَّةً علی الفقرة الأولی مع احتماله أيضاً قائم في قوله (علیه السلام): «واللهِ ما أظنّ كلّهم»، بل لعلّه هنا أقوی، لأنّ نفي الظنّ أعمّ من وجود العلم الإجمالي بعد كون الكلام مَسُوْقاً

ص: 507


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص263.

لأجل الشُّبُهاتِ الْبَدْوِیَّةِ علی الاحتمال المذكور، وعلی كلّ حال، فیمكن دفع الاحتمال في الأوّل بأنّ إطلاق السؤال یشمل الصورتین معاً، فانّه لم یقیّد السائل بما إذا كان مشخصّاً بحیث لا یحتمل في ما يرید أكله عدم كونه منه، فلابدّ من دلالة الجواب علی حال هذه الصورة أيضاً.

ودعوی بُعد إرادة القدر المشترك من الجهتین مدفوعة بأنّه عدم اقتضاء حرمة أمر واحد حرمة بیع ما في الأرض مقدّمة ولا أصالة، علی أنّ تنزیل الكلام علی ذلك إخراج له عن الفائدة؛ لبداهة الحكم بحیث لا یصلح تنزیل السؤال علیه أيضاً، إلّا أن یكون غرضه بیان منشأ الشكّ والاحتمال في غیره، فیكون الجواب ناظراً إلی إلغاء الشكّ في الحرمة وسببه، لكنّه خلاف الظاهر خصوصاً بملاحظة سوق السؤال حیث عبّر عنه بأنّ المخبر أخبر بأنّه یجعل فیه المیتة، إلّا أنّه جعل فیه في موضع بعینه وإن كان متعلّق الرؤیة لابدّ وأن یكون معیّناً، فانّ سَوق الكلام مختلف، بل یحتمل بملاحظته تخصیص السؤال بصورة العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم المسبّب عن الأخبار لو كان متعلّقاً بجبن خاصّ خارج عن ابتلاء السائل فعلاً، لبعد السؤال لذلك ولم یحسن سَوقه كذلك.

ولعلّ تفریع اعتبار العلم الخاصّ في الحرمة وعدمه في الحلیّة مع شموله بظاهره لغیر المحصور لا یخلو عن تأيید لما ذكر، فالظاهر هو دلالة الكلام علی ما ذكر في الاستدلال، ولعلّه قوله: «فتأمل» مشیر إلی ذلك، كما یحتمل أن یكون إشارة إلی عدم الملازمة بین سقوط السوق بالعلم الإجمالي

ص: 508

مع سقوط أصالة الحلّ به وإن كان السوق لكونه أمارة أولی بالسقوط من وجه تقدّم في نظیره.

وذلك لأنّ السوق مورد غالباً للعلم الإجمالي غیر المحصور، لتحقّق العلم بنجاسة بعض ما فیها وكون بعض ما فیها مُلْكاً لغیر المتصرّف فیه واقعاً، ولو كان الغصب طارِئاً علی أصله الّذي یتبعه النماء ونحو ذلك، فاعتبار الشارع للسوق الذي لولاه اختلّ النظام مع العلم المردّد بین ما لا ینحصر لا یلازم إلغاءه في غیره.

وربّما یحتمل أن یكون إشارة إلی اعتراض آخر علی الدلیل، وهو أنّ العقل إن كان حاكماً بوجوب الاحتیاط عند العلم الإجمالي مطلقاً، كان الكلام هنا ارتكاب التأویل فیها، كما ارتكب التأویل في أخبار البراءة المتقدّمة في قبال حكم العقل، مع أنّ الغرض هنا إبداء التفرقة بینهما، كما أنّها لا تنفع لو كان العقل مفصّلاً بینهما لكفایة ذلك عن الخبر، فالخبر المذكور كالأخبار المتقدّمة في المحصور، فلا یصلح فارِقاً بینهما.

واحتمل فیه أيضاً وجه آخر وهو أن یكون إشارة إلی بطلان ما تقدّم من أنّ اعتبار الید في ذلك المورد من جهة عدم وجود المعارض لها، إذ لو أخذ المعلوم بالإجمال وأعطاه للغیر لكان ذلك تصرّفا بلا معارض؛ وأين هذا من اعتبار الأصول في موارد العلوم الإجمالیّة مع كونها مُبْتَلاةً بالمعارض؟ فاعتباره أمارةً خالیةً مِنَ المعارض لا یوجب اعتبار المتعارضین

ص: 509

بالمناط فضلاً عن الأولویّة، وفیه تأمّل، لأنّ ذلك لو تمّ لم یجر (1) ذلك (2) في السوق الّذي هو محلّ كلامه، فانّه أمارة أخری غیر الید، فافهم.

ورابعها

ما ذكره جدّي العلّامة طاب ثراه من أنّ الأصل في الأشیاء هو الحلّ، حتّی یعلم ثبوت خلافه، والعلم الحاصل في غیر المحصور بوجود الحرام في الجملة لا یعدّ في العرف علماً بثبوت الحرمة بالنسبة إلی شيء من الخصوصیّات حتّی یمنع عن الإقدام علیها، لوهن احتمال كون المحرّم خصوص شيء منها في نظر العرف جدّاً بحیث لا یلتفت إليه في خصوص الموارد، بل بعد التحرّز منه لذلك من ظنون أصحاب السوداء، كالتحرّز عن كثیر من المطعومات للعلم بوجود طعام مسموم في العالم، فیحتمل أن یكون هو ذلك، وإذا لم یكن الاحتمال المذكور ملتفتاً إليه في خصوص كلّ منها، لم یعدّ ذلك العلم الإجمالي علماً في المقام (3)، فلا مانع من الأصل حینئذٍ.

ووافقه في ذلك بعض الأساطین مُقَرِّراً له بأنّ مناط الاحتیاط هو وجوب دفع الضرر المحتمل وهو العقاب، وهو لا یجري هنا، ضرورة أنّ كثرة المحتملات توجب عدم الإعتناء بالضرر المعلوم وجوده بینها. (4)

ص: 510


1- . مکتوب تحت «لم يجر»، لم ير.
2- . في المخطوطة: «ذلك ذلك».
3- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص598 وطبعتها الحجرية: ص459.
4- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص263.

واستشهد له بأمثلة عرفیة، ثمّ ذكر تقریره بأنّه عند العقلاء كالشبهة البَدْوِیَّةِ. (1)

أقول: صیرورة كثرة المحتملات سَبَباً لإلغاء حكم العقل یتصوّر علی وجهین:

أحدهما: أن یكون سبباً لِضَعْفِ احْتمال المصادفة في كلّ واحد من الموارد.

وثانیهما: أن یكون سبباً لكون وجود العلم كعدمه، فیكون (2) للشبهة البدویة، والفرق بینهما أنّ الثاني دفع للتخصیص والأوّل إثبات للمانع، والأوّل - مضافاً إلی استلزامه جواز المخالفة القطعیة لسریان الضعف إلی جمیع الأطراف، وهو ممّا أنكر ثانیهما صریحاً، ولعلّ أمره بالتأمّل في آخر كلامه إشارة إليه -.

یرد علیه:

أوّلاً: إنّ كثرة المحتملات بنفسها لا توجب ضعف احتمال شيء منها، فانّه لو كان هو الحرمة في كلّ منها موهوناً، لزم كون اتّصاف الجمیع موهوماً، وهو یناقض العلم بحرمة البعض، ضرورة أنّ نقیض السالبة الكلّیة هو الموجبة الجزئیة، ولا فرق فیه بین كون النسبة السلبیة علمیّة أو

ص: 511


1- . نفس المصدر: ص263 و 264.
2- . بعده في المخطوطة بياض بقدر کلمة.

ظنّیة، كما أنّه لا یُمْكِنُ جَعْلُها سبباً لوهم المصادفة في البعض، ضرورة تساوي نسبة الكثرة بنفسها إلی جمیع الأطراف، فالتخصیص ترجیح بلا مرجّح.

وما یترائی من حصول الوهم في بعض أطراف غیر المحصور، فهو إمّا مبنيّ علی الغفلة عن العلم الإجمالي ووجود سبب ضعف الاحتمال إلی آخر الأطراف، فإنّ التناقض مشروط بفعلیّة رجحان الأمرین، أو علی عدم تساوي نسبة المعلوم بالإجمال إلی أطرافه، فیكون بعضها المعیّن أو غیر المعیّن مظنوناً وبعضها مَوْهُوْناًً، أو لأجل أمارات خارجیة، وحینئذٍ فلو أرید إلغاء الاحتمال الضعیف لزمه التفصیل بین الموارد علی أنّه منقوض بالمحصور عند وجود أمارة غیر معتبرة.

وبالجملة: الظنّ بحلّیة كلّ من أطراف الشبهة یلزمه الظنّ بأنّ المحرّم في غیره، فلا یعقل أن یكون جمیع ماسواه موهوماً.

وثانیاً: إنّا لو سلّمنا ضَعْفَ الاحتمال في كلّ منهما، لكن قد تقرّر في محلّه أنّ العقاب الموهوم أيضاً یجب دفعه كغیره من أفراد الضرر مطلقاً أو في الجملة، فیجب التحرّز عن احتمال الإصابة وإن كان ضعیفاً، كما هو مقتضی مذهبهما ظاهراً.

والحاصل: إنّ غایة ما هناك، كون الضرر هنا موهوماً ومن المقرّر وجوب دفع الضرر الموهوم، كیف ولو لم یكن كذلك، لكان اللازم التفصیل في المحصور بین المظنون والموهوم؟ بل في المقام أيضاً إذا اتّفق

ص: 512

صیرورة بعض الأطراف مظنوناً أو مشكوكاً، كما أنّ التفصیل بین مراتب الوهم غیر مستقیم ولم یعهد ذلك من أحد منهم وان اعتبرت المراتب في مقام الترجیح، كما في دلیل الانسداد وغیره؛ علی أنّ الاختلاف هنا لیس باعتبار المرتبة.

وثالثاً: بالنقض بالمحصور إذا كان بعض احتمالاتها ضعیفاً، كضعف الاحتمال في المقام، كما أنّه یلزمه الاعتراف بوجوب الاجتناب إذا ارتفع الضعف عن بعض المحتملات لعارض من قرب إلی المعلوم إجمالاً ونحوه.

والتفصیل بین أقسام الضعف باعتبار الأسباب، فلا یعتبر إذا استند إلی الكثرة دون غیرها ممّا لا وجه له، لما تقرّر في محلّه من أنّ العبرة عند العقل بنفس الأوصاف وإنّ الأسباب ملغی في نظر العقل، مع أنّه لم یعهد ذلك من أحد منهم في مسألة دفع الضرر، فَافْهَمْ.

وَیُمْكِنُ دَفْعُ الْإشكالاتِ المَذْكُوْرَةِ بعد تسلیم ما ذكر فیها بالفرق بین وهن الاحتمال وكونه موهوماً، وهي مبنیّة علی إرادة الوهم من الوهم والضعف في المقام والمراد هو أنّ احتمال المصادفة في كلّ من الأطراف موهونة لا یلتفت إلیها ومنشأ الوهن كثرة المحتملات.

وتنقیحه: إنّ الشكّ وإن لم یكن مشكّكاً - كالظنّ - ولیس له مراتب بحسب القوّة والضعف، إلّا أنّ له تشكیكاً آخر بحسب القرب والبعد، فقد یكون أحد الشكّین أقرب من الآخر مع بقائها علی تساوي الاحتمالین كالعلم، فانّه وإن لم یقبل التشكیك كالعلم بذاته أيضاً، لكن بعض العلوم

ص: 513

أبعد عن مخالفة الواقع من بعض واشتركا في انتفاء الاحتمال فعلا، وذلك التشكیك في الشكّ قد یحصل بملاحظة تعدّد سبب الشكّ ومنشأ الاحتمال ووحدته، كما في الخبرین المتعارضین إذا كانا مشكوكي الصدور وكان أحدهما مع ذلك مشكوك الدلالة ومشكوك التقیّة إلی غیر ذلك، فانّه لا ریب في أنّ الحاصل فعلا للمكلّف لیس إلّا الشكّ، للشكّ في الصدور المانع عن الرجحان، إلّا أنّ ذلك أبعد عن الواقع عن غیره؛ وقد یحصل بملاحظة كثرة أطراف الشكّ وقلّته كما في المقام، فانّه من الواضح بالوجدان إنّ الاحتمال القائم في المحصور أقرب من الاحتمال في كلّ واحد من غیر المحصور، ولیس ذلك لأجل مرجوحیّة احتمال الوجود بالنسبة إلی العدم في الثاني، كما ذكر في الِاعتراض خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الشكّ في المكلّف به لیس هو في أنّ كلّا منهما محرّم أولا، بل في أنّ المحرّم [هل] هذا أو هذا، إلی آخر المحتملات، فكلّما ازداد طرف الاحتمال، ازداد الاحتمال وهناً وبعداً (1) إلی أن یصل إلی حدّ لا یعتني به العقلاء لشدّة وهنه، كما یظهر بمراجعة الأمثلة، فلا یعتني حینئذٍ باحتمال الإصابة، فلیس تَرْكُهُ حینئذٍ طریقاً لِامتثال التكلیف المعلوم ولا فعله عصیاناً له، فیحصل الأمر من العقاب.

وعلی التقریر الثاني یقال نحو ذلك في احتمال الضرر، فَإنّ احْتِمالَ

ص: 514


1- . في المخطوطة: «بعد».

الضَّرَرِ إذا ضَعُفَ بِحَیْثُ لا یَعْتَنِيْ بِهِ الْعُقَلاءُ، كان العِقابُ علی تقدیرِ الوُقوعِ في المُخالَفةِ عقاباً مِنْ دُوْنِ حَجَّةٍ؛ ولا ینافیه البناء علی وجوب دفع الضرر الموهوم، فإنّ الوهم غیر الوهن الحاصل بسبب الكثرة، كما یظهر بملاحظة الأمثلة العرفیّة - كالسمّ المعلوم إجمالا وجوده في الدنیا - فإنّ التحرّز عن الطعام لأجل كونه ذلك المعلوم مُسْتَهْجَنٌ عُرْفاً، بخلاف التحرّز عنه لمجرّد احتمال كونه سمّاً إذا قام فیه ذلك، فالتحرّز عن الجبن مثلاً لأجل احتمال إصابته للنجس المعلوم وجوده في فرد من أفراد الجبن غیر مستحسن عرفاً وإن حسن اجتنابه لاحتمال نجاسته حسناً غیرَ ملزم، كحسنه في الشبهة البدویّة.

ألا تری أنّه فرق بین قذف أحد الشخصین وقذف واحد من بلدة عظیمة، فانّه یتأثر كلّ منهما في الأوّل ولا یتأثّر أحد في الثاني، وبین الأخبار بموت أحد الشخصین - أحدهما ابنه أو قریبه - وبین الإخبار بموت واحد من أهل بلده.

وذكر شیخنا (دام ظله) إنّ الِاسْتِشْهادِ بهذه الأمثلة كما وقع من بعض الأساطین غیر صحیح، كأصل الدعوی، للفرق بین مورد التحسین والتقبیح العقلیّین وبین غیره، كوقوع الغیر في الضرر سابقاً أو لاحقاً، أو وقوع نفسه سابقا في قبیح أو مضرّ، فانّ مورد القاعدة هو الفعل الصادر عن نفس المكلّف في المستقبل إذا اتّصف بحسن أو قبح عقلي ألزمه العقل بفعل الأوّل وترك الثاني بخلاف غیره، وقد تبیّن في محلّه أنّ الأسباب ملغی

ص: 515

في نظر العقل كلیّة وإنّ احتمال الضرر سبب لاستقلال العقل بوجوب دفعه ولو بلغ مرتبة الوهم الضعیف، فلا ربط للأقربیّة المذكورة في مناط الحكم، وإن شئت فلاحظ نفسك إذا لم تكن مأموناً من العقاب علی تقدیر المصادفة، وكنت قاطعاً بترتّب العقاب علی تقدیر الفعل، فانّك تجد العقل مستقلّا ً بالتحرّز عن ذلك العقاب جزماً، أو لاحظ القائل بوجوب الاجتناب هنا مع التزامه بعدم ترتب العقاب إلّا علی تقدیر الإصابة.

وأمّا غیر ذلك المورد، فربّما یختلف الحال باختلاف الأقربیّة والأبعدیّة وما نحن فیه من الأوّل وتلك الأمثلة من الثاني، فإنّ التأثّر من القذف أو موت القریب لیس حكماً عقلیّاً وإنّما هو من شؤون النفس الهارب عمّا لا یلائمه، ولیس بشيء من أحوالها ضابطة تامّة صحیحة، فیجوز اختلاف حالها بحسب قرب الاحتمال وبعده؛ هذا توضیح كلامه مع ما یرتبط به، وهو متّجه عندي في دفع التقریر الثاني.

وأمّا الأوّل علی ما مرّ توضیحهُ، فدفعه به غیر ظاهر، فإنّ المعیار فیه قوّة أصالة الإصابة وضعفه، فإذا كان الضعف علی الوجه المذكور لم یحكم العقلاء بوجوب تركه له تحصیلاً للإطاعة الإجمالیة علی نحو الشبهة البدویّة لوهنه ولیس مجرّد الوقوع في مخالفة الواقع موجباً للعقاب، بل به یحصل الأمن منه، فتأمّل.

وأمّا الوجه الثاني ومرجعه إلی أنّ العلم الإجمالي الموجب لتنجّز الخطاب ما لم یكن محتملاته بالغاً حدّ الكثرة المفروضة في المقام، فتحقیقه إنّا

ص: 516

إن قلنا بكفایة العلم بالكبری في ثبوت التلكیف من دون حاجة إلی ضمّ الصغری المعلومة، فلابدّ في رفع حكم الاحتیاط في الشبهة البدویة إلی أنّه معذور عند العقلاء وإنّ للتكلیف المتحقّق موارد عذریّة یُعْذَرُ فیها الوقوع في المخالفة، أو إنّه مرخّص فیه شرعاً بأدلّة الحلّ والبراءة الشرعیّین، وحینئذٍ یمكن أن یدّعی أنّ ما كثر محتملاته كثر غیر المحصور من جملة موارد العذر عند العقلاء، أو مشمول للأدلّة الشرعیة.

وإن قلنا بعدم كفایته واحتیاجه إلی ضمّ الصغری، فإذا انضمّ معه العلم بالصغری، حكم العقل بلزوم مراعاته أشكل دعوی إلغاء العلم في المقام؛ لأنّ المسألة علی هذا عقلیّة صرفة ولا نری في حكم العقل فرقاً بین المقامین، بخلاف الأوّل، لأنّها حینئذٍ عقلائیّة عرفیة لا یستبعد تفكیكهم بین الموارد.

إلّا أن یقال: إنّ تسلیم بناء العرف والعقلاء كافٍ في رفع الاحتیاط اللازم بحكم الأصل العقلي، فیكون العلم المنجّز عقلاً شاملا له، لعدم ظهور وجه لتخصیصه بغیره، لا العلم المنجّز للواقع علی ما هو علیه فعلاً بحیث یوجب الاحتیاط نظراً إلی ما ذكره، فتدبّر.

وخامسها

إنّ الدلیل الموجب للاحتیاط في المحصور هو الإجماع، لما سبق من حكومة الأصول الشرعیّة علی حكم العقل لولا الإجماع، وهو منتفٍ في المقام، ومثله لو بني ذلك علی الأدلّة الشرعیة لقصورها عن إفاده الوجوب، هذا كما إنّ إثباته بالمسلك الثاني ومنع دلالة أدلّة الحلّ غیر وافٍ

ص: 517

لإثبات الاحتیاط في المقام، فراجع وتأمّل.

وسادسها

الإجماع (1) الظاهر المنقول عن جماعة منهم: الشهید والمحقّق الثانیان في «الروض» (2) و«جامع المقاصد» (3)، والمحقّق البهبهاني (4) وغیر واحد ممّن تأخّر عنه، ونفی عنه الخلاف المحقّق القمي (5) (رحمة الله علیه)، بَلِ ادَّعیٰ بعضهم أنّ مدار المسلمین في الأعصار والأمصار علیه (6)، وهو جیّد لو لم نشترط في وجوب الاجتناب ابتلاء المكلّف بأطراف الشبهة فعلا، وإلّا هو الحال في كثیر من موارد هذه الشبهة علی ما صرّح به بعضهم، فدعوی السیرة في غیرها غیر ظاهرة، بل وربّما یسري الإشكال منه إلی الإجماع، لاحتمال كون نظرهم في مقام الاستنباط إلی تلك الموارد، فتأمل.

وسابعها

ما ذكره المحقّق القمي طاب ثراه في مقام نقل الفارق بین المقامین، وهو انّ ارتكاب جمیع المحتملات ممكن ومتحقّق عادة في المحصور، فیحصل الیقین باستعمال الحرام والنجس، بخلاف غیر المحصور، فلا یتحقّق فیه العلم عادة لمكلّف واحد باستعمال المحظور؛

ص: 518


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص257.
2- . انظر: روض الجنان: ص224.
3- . انظر: جامع المقاصد: ج2/ ص166.
4- . انظر: الفوائد الحائرية: ص247.
5- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص65.
6- . انظر: الفوائد الحائرية: ص247.

وحصوله لجمیع المكلّفین غیر مضرّ؛ لأنّ كلّا ً مكلّف بعلم نفسه، وإذ لیس فلیس، وذلك كواجدَي المني في الثوب المشترك. (1)

وذكر (رحمة الله علیه) في ردّه: إنّ إمكان ارتكاب الجمیع لا یوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الجمیع ولا یوجب حصول الیقین باستعمال الحرام لمن لم یستعملها جمیعاً؛ وما ذكره من حكم واجدَي المني في الثوب المشترك یجري في المحصور إذا ارتكب كلّ من المكلّفین بعض أفراده. (2)

أقول: وجوابه ما عرفت من أنّ عمدة المانع من جریان الأصول لزوم الترخیص في المخالفة القطعیّة لو أجري في كلّ من الطرفین أو الأطراف، وتخصیصه بالبعض ترجیح من غیر مرجّح، وجعل تعیینه باختیار المكلّف محتاج إلی دلیل، فوجب الحكم بالاحتیاط عند إمكان استعمال الجمیع ولو لم یستعملها المكلّف الواحد، فقیاسه باختیار المكلّف ترك البعض بصورة عدم إمكان الجمع غیر جیّد.

ومنه ظَهَرَتْ قوّة الوجه المذكور، فإنّ عدم إمكان الجمع وتحقّقه عادة، كما ذكر وقرّره المحقّق المذكور في غیر المحصور رافع للمعارضة بین

ص: 519


1- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص66 وخلاصة القوانين: ص145.
2- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص69 وخلاصة القوانين: ص146.

دلیل العقل واستقلال العقل بعدم جواز طرح الخطاب المعلوم وعدم جواز إخراجه عن تحت دلیل الحرمة، مع أنّ مقتضی الرخصة هو ذلك؛ لعدم لزوم المخالفة القطعیّة في المقام وبقاء الامتثال الاحتمالي علی كلّ حال، فلیس الترخیص في كلّ منها ترخیصاً في ارتكاب الحرام ولا طرحاً للخطاب ولا إخراجاً له عن الحرمة، فانّه لیس إلّا كترخیص البعض في المعیّن أو لا بعینه في المحصور كما ذكره (قدس سره)، مع أنّه لا شبهة في جوازه، فإذا ارتفع المانع جری الأصل في كلّ واحد من الأطراف بمقتضی اطلاق دلیله.

فإن قلت: إن (1) أرید من عدم تحقّق الجمع عدم تمكّن المكلّف من الجمع، فهو غیر حاصل هنا في كثیر من موارد المسألة، وإن أرید عدم الجمع باختیار المكلّف فهو غیر مجدٍ، كما هو الحال في المحصور كما ذكره (قدس سره).

قلت: إنّ المعتبر بناء علی هذا الوجه عدم صلاحیّة المکلّف بحسب حاله للجمع، نظیر عدم الابتلاء المتقدّم، سواء كان لعدم إمكانه عادة، أو لعدم كونه في معرض الوقوع، وهو كافٍ في رفع المنافاة لما ذكر من المناط في إلحاق ما خرج عن الابتلاء بما لا یمكن ارتكابه، فانّ الترخیص الفعلي یقع عند التحلیل علی كلّ واحد منها منفرداً؛ علی أنّ ثبوت البراءة عند عدم إمكان العادي هنا أيضاً مثبت للمدّعی في الجملة.

فإنْ قلت: لو كان البناء علی ذلك، للزم الحكم بالبراءة في المحصور

ص: 520


1- . في المخطوطة: «انّه».

أيضاً إذا لم یمكن، فیحقّق الجمع عادة، وهو خلاف ما سبق ولم یعهد من أحد منهم علی أنّه ينقلب التفصیل بین المحصور وغیر المحصور إلی التفصیل بین ما لا یمكن تحقّق الجمع فیه وغیره، فلا یتمّ به المطلوب.

قلت: ميزان غير المحصور علی هذا ما بلغ كثرة أطرافه حدّاً لا یمكن تحقّق الجمع فیه عادة ویكون هذا مورداً للبراءة لذلك.

وأمّا لو طَرَأَ للمحصور ما أوجب ذلك من خصوصیّات المقامات فلنا أن نلتزم فیه أيضاً بالبراءة إن لم یقم إجماع، أو دلیل علی نفي التفرقة، أو علی ثبوت الحكم بالاحتیاط فیه من سائر الوجوه المتقدّمة المختصّة بالمحصور، وإلّا فالفارق بین المقامین هو ذلك الدلیل.

فإن قلت: قد ذكر سابقاً تبعاً لبعض الأساطین إنّه لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض المحتملات لا بعینه، أو رخّص فیه الشارع كذلك، لم یكن ذلك رافعاً لوجوب الاحتیاط عقلاً في غیر مقدار الاضطرار، بل یجب مراعاة الواقع بالمقدار الممكن، أو غیر المرخّص فیه، فما الفارق بين ارتفاع التكلیف الفعلي الموجب للاحتیاط وبین كونه بسبب الاضطرار إلی الفعل، أو بسبب عدم إمكان تحقّق الجمع بملاحظة حال المکلّف، بل الأوّل أولی.

قلت: الفرق بین المقامین حصول المزاحمة بین الترخیص الفعلي والنهي الواقعي هناك، فلابدّ من مراعاةِ الأمرین علی مقدار الرخصة، بخلاف المقام؛ لأنّ الموجود في المقام عدم المقتضی للنهي عن المجموع المعبّر عنه بحرمة المخالفة القطعیة، لعدم كون المكلّف في عرضة الفعل وعدم

ص: 521

ترتّب ضرر علی الترخیص في ترك الموافقة القطعیة إذا دلّ علیه دلیل ولو كان إطلاق أدلّة الأصول.

ولا فرق في ما ذكر بین توقّف الترخیص علی جعل البدل وبین القول بعدمه، كما استظهرناه سابقاً علی ما هو الحال في كلّ أصل سلّم عن معارض یوجب سقوطه، ووجهه یظهر ممّا سبق، فتأمّل.

وثامنها

وثامنها (1): ما ذكره بعض الأساطین من أنّ الغالب خروج بعض أطراف الشبهة في غیر المحصور عن محلّ ابتلاء المكلّف (2)، وقد سبق عدم وجوب الاحتیاط حینئذٍ في المحصور فَضْلاً عن غیره؛ وفي عدّه دلیلاً للمدّعی نظر، بل لعلّه إخراج كثیر من الموارد عن موضوع المسألة.

وتاسعها

إنّ الغالب في ما یترائی كَوْنُها شُبْهَةً بَدْوِیَّةً وجود العلم الإجمالي المردّد بین غیر المحصور - سواء كانت الشبهة موضوعیة، أو حكمیة - فلو خصّص أدلّة البراءة بغیر هذه الشبهة كان تنزیلاً للإطلاق علی الفرد النادر، سواء كانت عامَّةً للحكمیّة، أو مختصّة بالموضوعیة؛ وفیه نظر بعد تسلیم الغلبة ینشأ من اشتراط الإبتلاء في وجوب الاحتیاط.

وهذه جملة من ما حضرني من وجوه المسألة، وهذا المقدار كافٍ في ثبوت المسألة، لما عرفت من عدم فساد جملة منها خصوصاً بعد الاعتضاد؛

ص: 522


1- . في المخطوطة: «وثانيها».
2- . انظر: تمهيد الوسائل في شرح الرسائل: ج6/ ص425.

وما ذكره بعض الأساطین في كفایة ما ذكره من الوجوه من أنّ المسألة فرعیّة یكتفي فیها بالظنّ، فهو بظاهره مبنيّ علی القول بالظنّ المطلق في الفروع دون الأصول، أو ما یجري مجراه من تبعیض الاحتیاط، مع أنّه لم یظهر من كلماته الأخر ذلك، بل صرّح بنفي التفرقة بین الظنّ في الفروع والطرق، وهذا یجري مجراها. والله العالم.

المرحلة الثانیة: في جواز المخالفة القطعیّة وعدمها

والكلام فیه یقع [تارة] في أصل جواز الارتكاب من حیث هو، وأخری من حیث اجتماعه مع القصد من أوّل الأمر لا نفسها، وثالثة في جوازه عند كون المقصود هو الحرام والباقي مقدّمة له.

أمّا الأوّل، ففي وجوب إبقاء ما یساوي الحرام، أو جواز ارتكاب الكلّ، وجهان أو قولان، صرّح بعض الأساطین بالأوّل وظاهر إطلاقهم عدم وجوب الاجتناب، وخصوص بعض كلماتهم هو الثاني.

لكنَّ الإنْصافَ إنّ تنزیل كلامهم علی إرادة عدم وجوب الِاحْتیاطِ وخصوص بعض كلماتهم هو الثاني، ولكنّ الإنصاف إنّ تنزیل كلامهم علی إرادة عدم وجوب الاحتیاط فقط في مقابلة الشبهة المحصورة غیر بعید، خصوصاً بعد ندرة تحقّق المخالفة القطعیة لمكلّف واحد، أو عدم وجوده كما مرّ في السابع المقترن بظاهر تقریر المحقّق القمي (رحمة الله علیه)، حیث لم ینكر العموم من طرف غير المحصور، فكان سبب كلامهم هو نفي الاحتیاط فقط، وبه یتّجه المناقشة في شمول الإجمال لذلك.

ص: 523

وربّما یقال بشمول كلماتهم للمقام وإنّ عنوان المقامین عندهم واحد، فیشمل الإجماع نظراً إلی إطلاق كلامهم المؤیّد بجملة من الخصوصیّات، كجعل الحرج نوعیاً والتمسّك بعموم الأخبار والاعتراض علی التمسّك بالحرج بأنّه لا یوجب الحكم بالطهارة وإنّ مقتضی ذلك الحكم بطهارة صحراء وسیع الفضاء الّتي (1) ینجس بعضه لمن يزاولها بالرطوبة ویحتاج إلی مزاولتها (2)، كما ذكره المحقّق القمي (رحمة الله علیه) وغیر ذلك ممّا یجده المتتبّع، وهو مُشْكِلٌ جدّاً.

وأمّا حكم المسألة بحسب الدلیل، فمقتضی الوجه الأوّل هو الاقتصار علی المخالفة الاحتمالیّة، والحكم بحرمة القطعیّة منها علی القاعدة لاندفاع الحرج بالأوّل، وإلّا لخرج عن مفروض المسألة نظراً إلی أنّ ترك كلّ واحد منها مؤدٍّ إلی الحرج حینئذٍ، فیسقط أصل التكلیف، لكون متعلّقه حرجیّاً، ولا ینافي ذلك کون الحرج نوعيّاً، كما هو مبنی الاستدلال، لأنّ الحرج النوعي إنّما جاء من قبل وجوب الاحتیاط، فیكون هو الساقط دون الامتثال الاحتمالي الذي هو صنف آخر من أصناف الإطاعة، وقد أشرنا سابقاً إلی بعض الكلام فیه هنا وفي ما لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض

ص: 524


1- . في المخطوطة: «الّذي».
2- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول: ج3/ ص68 وبحر الفوائد في شرح الفرائد: ج2/ ص122 و ج4/ ص484 و ج5/ ص269.

المحتملات، فراجع.

ومقتضی الوجه الثاني والثالث هو الحكم بالإباحة مُطْلَقاً لو لم نقل بِامتِناعِ الترخیص فیه في الجمیع، وإلّا فلا.

وأمّا الرابع، فقد ذكر بعض الأساطین في تنقیحه ذلك الوجه هناك إنّه علم من ذلك أنّ الآمر اكتفی في المحرّم المعلوم إجْمالاً بین المحتملات بعدم العلم التفصیلي بإتیانه ولم یعتبر العلم بعدم اتیانه (1)، وذكر (2) هنا إنّ الظاهر دلالته علی جواز ارتكاب الكلّ، لكن مع عدم العزم علی ذلك من أوّل الأمر، وأمّا معه، فالظاهر صدق المعصیة عند مصادفة الحرام، فیستحقّ العِقاب. (3)

وبین هذین الكلامین بظاهرهما تدافع، إلّا أن یجعل الثاني وجهاً للتأمّل الّذي أمر به عقیب الأوّل، لكنّ الظاهر إنّ وجهه التأمّل في أصل الدلیل، كما یشیر إليه ما ذكره في المقام الآتي إن شاء الله تعالی؛ مضافاً إلی أنّ ما ذكره من أنّ الآمر، اكتفی به عنه، انّما یناسب إذا كان الحكم بالترخیص من قبل الآمر وأمّا إذا كان من قبل حكم العقل، أو العقلاء بعدم تنجّز

ص: 525


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص265؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص291 وج4/ ص515؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص19 وکتباً أخر.
2- . مکتوب في المخطوطة فوق هذه الکلمة «ظ».
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص266؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص297 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص23.

التكلیف بحیث يتبعه الاحتیاط وإنّه لا یحسن العقاب باتّفاق المصادفة، فلا ربط له باكتفاء الآمر، إلّا أن یوجّه أنّ ذلك باعتبار الخطاب الفعلي المتوجّه علی المكلّف، فیكون العقلُ والعُرْفُ كاشِفَیْنِ عن كیفیّته ویكون اكتفاء الآمر لأجل حكمها، ولعلّ هذا التعبیر فرار عن إشكال (1) لزوم جعل البدل بعد تحقّق العلم الإجمالي المنجّز للتكلیف، كما صرّح به في المحصور، فجعل الاكتفاء من قبل الآمر حتّی یعقل معه البدلیّة، وقد عرفت الإشكال في المبنيّ والمبنی علیه والأمر سهل.

ویمكن بناء الوجهین علی الوجهین المتقدّمین في ذلك الدلیل، فإن قلنا بأنّ العلم الموجود كعدمه في عدم تنجّز الخطاب به، كان مقتضی القاعدة الترخیص في الكلّ، لعدم الاجتناب في شيء منها إلّا في صورة القصد، أو لا علی وجه؛ وإن قلنا بأنّ احتمال الضرر لوهنه غیر معتنی به، أو احتمال المصادفة، فهو لا یقضي إلّا بإلغاء الاحتیاط، وأمّا ارتكاب الكلّ بعد فرض المقتضي لمراعاته في الجملة، فهو إلغاء للعلم الاحتمالي، فهو غیر جائز خصوصاً في صورة القصد، فانّ إجراءه فیه ظاهر الفساد لما فیه من الإقدام علی الضرر المقطوع.

وفیه: إنّ ما ذكر من الثاني في غیر صورة القصد مُشْكِلٌ جدّاً، فانّ المانع المفروض الّذي هو وهن الاحتمال موجود في المحتمل الأخیر،

ص: 526


1- . في المخطوطة: «الإشکال».

ضرورة تساوي نسبته بالنسبة إلی الكلّ - لو خلّي ونفسه - فكیف یحكم بالمنع عنه، وحصول العلم حينئذ یتحقّق الحرام منه به، أو بما تقدّمه غیر ضائر، كما سبق من عدم حرمة سبب العلم بالحرام.

وما ذكر في الشقّ الأوّل أيضاً ممنوع، فانّ إلغاء العلم وتخصیص ما یحكم بالاحتیاط لأجله بغیره إنّما یسلّم بقدر الموافقة القطعیّة، وأمّا بحیث یرخّص معه بترك الموافقة الاحتمالیة، فهو غیر مسلّم ممّا ذكر، فسقوط المرتبة الأولی من الامتثال لعدم وفاء العلم المفروض له لا یقضي بسقوط المرتبة الثانیة، بل لعلّ العكس أولی، لأنّ إلغاء العلم لكثرة المحتملات غیر وافٍ بإسقاط الموافقة الاحتمالیة، بل الکثرة إنّما یضعّفه باعتبار الاحتیاط.

وقد یقال بحرمة المخالفة القطعیة نظراً إلی ما مرّ في التفصیل بین المقامین في المحصور، ككون المخالفة القطعیّة عنواناً محظوراً عند العقل وهو یحصل بارتكاب المحتمل الأخیر، فهو المنهيّ عنه، لكونه محصّلا له دون غیره.

وبعض تلك الوجوه لو لم یسلّم هنا نظراً إلی مادلّ علی وجوب الاحتیاط أيضاً، فلا مانع منه هنا لسقوط الاحتياط فیه، ولو سلّم، فغایة ما یسلّم من الوجه المذكور هو إسقاط الاحتیاط، لا الترخیص في مخالفة الواقع قطعاً.

وأمّا الخامس، فقد استظهر بعض مشایخنا (دام ظله) الإجماع [علیٰ] حرمة المخالفة القطعیة في ما یُشْعِرُ به كلامه هنا أيضاً، فإن تمّ، فهو، وإلّا - كما هو

ص: 527

الظاهر- فالمرجع فیه إلی الأصول المقتضیة للحلّ والبراءة، وأمّا احتمال الإجماع فهو غیر كاف في سقوط الأصل جزماً وإن لم یسلّمه سلّمه الله تعالی.

هذا إذا لم یناقش في شمول تلك العمومات لمورد العلم الإجمالي ولو من حیث لزوم إلغاء العلم في البین للوجوه المتقدّمة، كما هو الظاهر عندي، وإلّا فأدلّة الأصول والعمومات غیر كافیة في المقام، فلابدّ من الاحتیاط بمقتضی حكم العقل عند عدم ثبوت الإذن، نعم لو أنكر أحد حكم العقل ولو في الجملة تمّ الحكم بالبراءة.

وأمّا السادس، فقد ظهر الكلام فیه ممّا سبق، والتمسّك بإطلاق الإجماع المنقول مع ما عرفت غیر جیّد.

وأمّا السابع، فالكلام في المسألة في الموضوع المفروض فیه ساقطٌ رأساً.

وكذا الثامن.

وأمّا الأخیر: فقد تقدّم الكلام فیه، مع أنّ إخراج صورة المخالفة القطعیة كما هو مفروض المقام من العموم غیر ضائر، إلّا أن یدفع ذلك بعدم المقتضي له بعد شمول دلیل الأصل، وقد تقدّم الكلام في مبناه هذا.

وذكر بعض الأساطین: إنّ التحقیق عدم جواز ارتكاب الكلّ لاستلزامه طرح الدلیل الواقعي الدالّ علی وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعي، كالخمر في قوله: «اجتنب عن الخمر»؛ لأنّ هذا التكلیف لا یسقط عن المكلّف مع علمه بوجود الخمر بین المشتبهات.

ص: 528

غایة ما ثبت في غیر المحصور الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات، فیكون البعض المتروك بدلاً ظاهریّاً عن الحرام الواقعي، وإلّا فإخراج الخمر الموجود یقیناً بین المشتبهات عن عموم قوله: «اجتنب عن كلّ خمر» اعتراف بعدم حرمته واقعاً، وهو معلوم البطلان. (1)

أقول: ما ذكره [مِنْ] مبنیٰ امتناع ترخیص الشارع علی ارتكاب جمیع محتملات الشُّبْهَةِ مع بقاء التحریم الواقعي بحالِهِ وقد سبق الإشكال في هذا المبنی، ولو سُلِّمَتْ صحّته هناك، ففي جریانه في المقام - نظراً إلی اتّحاد المناط وعدمه؛ لأنّ العلم هنا غیر منجّز رأساً - إشكال تقدّم فيه.

ثمّ إنّ شیخنا (دام ظله) مع عدم مساعدته علی المبنی المشار إليه وافقه في ذلك، نظراً إلی أنّه لو سلّم عدم تحقّق الإجماع علی المنع هنا كالمحصور، فَإطلاق عمومات الحلّ غیر وافٍ بإتيانه؛ لأنّ التمسّك به مبنيّ علی إطلاق الكلام باعتبار الجهات، وهو غیر مسلّم في المقام؛ لأنّ المسلّم منه هو حلّ الشبهة من كونها شبهة، وأمّا من حیث تحقّق المخالفة القطعیّة في ضمنه، فهو ممنوع؛ لأنّه جهة خارجیّة لا یشملها الإطلاق.

وعندي فیه نظر یظهر وجهه ممّا سبق، وهذا كلّه في المخالفة القطعيّة من حیث هي هي مع قطع النظر عن كونه قاصداً للحرام أو لا، فیرتكب

ص: 529


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص266 و 267 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص23.

الباقي مقدّمة له، أو كونه قاصداً للمجموع من حیث أنفسها من أوّل الأمر؛ ولو جوّزنا المخالفة من حیث هي، فیقع الإشكال في حرمته في كلّ منهما. أمّا لو كان قاصداً للحرام بنفسه، كمن یرید شرب الخمر، فیشرب جمیع المحتملات لأجله، فقد ذكر بعض الأساطین هنا: إنّ الظاهر استحقاق العقاب للحرمة من أوّل الارتكاب بناء علی حرمة التجرّي. (1)

وذكر في مسألة التجرّي بعد ذكر التلبّس ممّا یحتمل كونه معصیة رجاء لتحقّق المعصیة به، أو لعدم المبالاة بالحرام، أو لرجاء أن لا یكون معصية، إنّه یشترط في صدق التجرّي فیها عدم كون الجهل عذراً عقلیاً أو شرعیاً، كما في الشبهة المحصورة الوجوبية والتحریمیة، وإلّا لم یتحقّق احتمال المعصیة وإن تحقّق احتمال المخالفة للحكم الواقعي، كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها. (2)

أقول: ظاهر هذه العبارة یقتضي أن یكون الحرمة من أوّل الارتكاب تجرّیاً بشرط أن لا یكون الجهل عذراً في المقام، وهذا إن كان لأجل حرمة المخالفة القطعیة مطلقاً، أو في خصوص هذا القسم، فهو لا یقتضي الحرمة

ص: 530


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص267؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص298 وکتباً أخر.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج1/ ص49؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج1/ ص106؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج1/ ص100 و....

من أوّل الارتكاب، ضرورة أنّها تحصل بالفرد الأخیر، فهو المتعیّن للحرمة؛ وإن كان لأجل حرمة ارتكاب كلّ منها، فهو إنّما یتّجه إذا قیّدنا الترخیص في ترك الاحتیاط في غیر المحصور بغیر هذه الصورة، فیلزم هنا بالحرمة مطلقاً، وحینئذ فَمُتَّجَهُ (1) البناء علی الحرمة الظاهریة - عقلیّة أو شرعیّة - مطلقاً ولو لم نقل بحرمة التجرّي، فالتطبیق بین الكلامین غَیْرُ حاصِلٍ؛ إلّا أنْ یُقالَ: إنّ الحرمة علی القول بالتجرّي إنّما جاء من قبل قصد المحرم المتلبّس بفعل مقدّمته، أو يراد بالحرمة ما یترتّب علیه العقاب علی الاحتمال الأخیر، وحینئذٍ فلا تدافع بینهما.

وعلی كلّ حال، فالظاهر هو الحكم هنا بعدم جواز المخالفة القطعیة ولو جوّزناها من حیث هي هي، لأنّها مخالفة واقعة عن عمد وقصد إلیها ویصدق المعصیة معه عند العرف والعقلاء ویحكمون باستحقاقه العقاب علیه؛ ولأنّ المجموع قد ارتكب مقدّمة لارتكاب الحرام، فیكون محرّماً كسائر المقدّمات المقصود بها التوصّل إلی الحرام، وهذه المقدّمة وإن كانت مقدّمة للعلم عند التحلیل والمقدّمة المقصود بها التوصّل یراد بها هناك مقدّمة الوجود، إلّا أنّ الظاهر إنّ الجهة الموجودة فیها موجودة هنا علی الوجه الأقوی، ولأنّ أدلّة الترخیص غیر وافية بحلّیة مثل ذلك؛ لأنّ فیه جهة خاصّة لیس فیها إطلاق من حیث تلك الجهة، فانّ الإطلاق من حیث

ص: 531


1- . الأولی: «فالمتّجه».

الجهات یرتفع بأدنی سبب مورّث للتشكیك، ومفادُ الوجه الأوّل استحقاق المؤاخذة بتحقّق المصادفة و[مفاد الوجه] الثاني حرمة كلّ منها حینئذٍ، وکذا الثالث إن ارتفع الإطلاق مطلقاً، وإلّا بأن قصر دلالته علی المخالفة القطعیة فبالأخیر، وقد سبق بعض الکلام في نظیره في المحصور.

وأمّا لو قصد المجموع لأنفسها من أوّل الأمر، فقد ذكر بعض الأساطین أنّ التحقیق عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أوّل الأمر، فانّ قصده قصد للمخالفة والمعصیة، فیستحقّ العقاب بمصادفة الحرام. (1)

وذكر شیخنا (دام ظله) إنّا لا نری فرقاً بینه وبین ما إذا لم یقصده من أوّل الأمر.

والجواب عنه مع احتمال كونه من متفرّعات مُفادِ الوجه الرابع ممّا سبق، وعلیه فالتفرقة ظاهرة [من] أنّ الظاهر هو ماذکره (قدس سره)، لكان قصد المكلّف ارتكاب الحرام وتعمّده علیه وتحقّق الإرتكاب منه خارجاً، ولا فرق بين حرمة ارتكاب الحرام عقلاً وعُقَلاءً بین وقوعه عن قصده وعمد تفصیلي أو إجمالي في ضمن المجموع، مع قصور أدلّة الرخصة لمثل ذلك ولو قلنا به في ما سبق، بل لا یبعد دعوی استقلال العقل والعرف فيه بحيث لا یمكن صدور الترخیص شرعاً فیه، فإنّ الخمر مثلاً لم یخرج عن حرمته واقعاً بعد، فتأمّل جیداً.

ص: 532


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص266.

هذا کلّه إذا لم یكن المحرّم الواقعي المردّد ممّا لا یرخّص الشارع في ارتكابه لأجل تعلّق غرضه بعدم وجوده في الواقع أو لغیر ذلك، وإلّا فلا إشكال في حرمة المخالفة القطعیّة بأقسامها الثلاثة.

المرحلة الثالثة: في بیان تعریف غیر المحصور وضابطة الفرق بینه وبین المحصور

وربّما یذكر في تفسیره وجوه:

أحدها: ما عن المحقّق (1) والشهید (2) الثانیین، والميسي (3)، وصاحب المدارك (4)، بعد ذكر أنّ المرجع فیه إلی العرف: إنّ ما كان غیر محصور في العادة، بمعنی أنّه یعسر عدّه لا ما امتنع عدّه، لأنّ كلّ ما یوجد من الأَعداد قابل للعدّ والحصر (5).

واعترض علیه بعض الأساطین تارة بأنّه إنّما یتّجه إذا كان الِاعتمادُ في عدم وجوب الاجتناب علی الإجماع المنقول علی جواز الارتكاب في غیر

ص: 533


1- . حاشية إرشاد الأذهان (طبعت في ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره): ج9/ ص72؛ حاشية شرائع الإسلام للمحقّق الكركي: ج10/ ص141 و 142؛ وحاشية شرائع الإسلام للشهيد الثاني: ص85؛ ومسالك الإفهام: ج1/ ص180.
2- . انظر: روض الجنان: ص224.
3- . في المخطوطة: «المجلسي». نقل قوله صاحب مفتاح الکرامة في: ج2/ ص253.
4- . انظر: المدارك: ج3/ ص253.
5- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص268 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص24.

المحصور، أو علی تحصیل الإجماع من اتّفاق من عبّر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم بها. (1)

وأخری إنّ تعسّر العدّ غیر متحقّق في ما مثّلوا به لغیر المحصورة كالألف مثلاً، فانّ عدّ الألف لا یعدّ عسرا. (2)

ویمكن دفع الأوّل:

أوّلاً: بدعوی إمكان تحصیل الإجماع المنقول علی عدم الفرق في أفراد غیر المحصور عندهم، إذ لم یعهد من أحد منهم احتمال التفصیل بین أقسامه، فكان غیر المحصور عندهم عنوان واحد، فإذا ثبت في بعضها ثبت في غیره بذلك.

وثانیاً: بأنّ الدلیل الصالح لتعیین عنوان الموضوع لمّا كان منحصراً عندهم في ذلك لزم التعویل علی خصوص الإجماع في المقام؛ لعدم تعیین الموضوع بغیر ذلك من الوجوه المعروفة.

أمّا الحرج، فلأنّه بعد كونه شخصیّاً ینقلب عنوان المسألة إلی عنوان آخر، وهو ما كان من الشبهة فیها الحرج - كما حكي عن صاحب المعالم (3) في

ص: 534


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص268 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص 26-24.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص268 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص26.
3- . انظر: معالم الدين (قسم الفقه): ج2/ ص582.

فقهه - وإن كان نوعیّاً فلابدّ من ملاحظة نوع واحد حتی يجعل معیاراً للحكم، فیجوز تعیینه في عنوان غیر المحصور ولو بضمیمة ما تقدّم.

وأمّا الأخبار العامّة فلأنّها تعدل علی ثبوت الحلّیة في كلّ مشتبه، فلابدّ من دعوی خروج عنوان المحصور بمادلّ علیه، فلا یمكن تحصیل العنوان به.

وأمّا الأخبار الخاصّة، فكذلك لعدم ذكر العنوان فیها تفصیلاً.

وأمّا الرابع، فهو وإن أمكن تحصيل العنوان منه، إلّا أنّه منظور فیه وغیر معروف عند القوم ممّا لم یقارب عصرنا، كسائر الوجوه المتقدّمة سوی دعوی كون ثبوت الاحتیاط في المحصور علی خلاف القاعدة لإجماع ونحوه، فحاله حینئذٍ كحال الوجه الأوّل في الرجوع إلی العرف، فتأمّل.

ودفع الثاني بأنّ الظاهر منه حمل كلامهم علی كون سبب العسر للعدّ هو خصوص كثرة العدد بأن یكون زیادة العدد مانعاً عن سهولة العدّ، وهو غیر ظاهر كما یظهر من كلام جدّي العلّامة طاب ثراه حيث نقل عن بعضهم تفسیره بما یكون خارجاً عن حدّ الإحصاء بحسب العادة، فیتعذّر أو یتعسّراحصاؤه في العادة، لكثرته وانتشاره، ثمّ استظهره طاب ثراه. (1)

وهذا - كَما تَریٰ - صَرِیْحٌ في عَدَمِ انْحِصارِ السبب بالکثرة، وحینئذ فالمنع من عسر العدّ في الألف مطلقاً غیر متّجه، بل الغالب في غیر المحصور

ص: 535


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص598 و 599.

هو تحقّق العسر فیه لأجل الانتشار؛ لأنّ الظاهر منه مطلق العسر الفرضي في مقابل السهولة.

وعلی كلّ حال، فاللفظ المذكور وإن لم يقع في آیة أو روایة، لكنّه وقع في معقد إجماعهم ومتون فتاویهم، ووقوعه یكشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم به مضافاً إلی ما مرّ، فلابدّ حینئذٍ من أن یعامل معه معاملة اللفظ الواقع في الكتاب والسنّة من الرجوع إلی معناه اللغوي، أو العرفي إن أمكن، وإلّا فأقرب المجازات إليه، فإن انضبط الموارد بشيء من ذلك فهو، وإلّا فإن أمكن تحصیل مناط آخر، كتعیین میزان شرعي - كما وقع في جملة من الموارد - أو ملاحظة دلیل یدلّ علی ثبوت المحمول أو نفيه فهو المتّبع، وإلّا وجب الرجوع إلی القواعد؛ وحینئذٍ فنقول: إنّ ما نحن فیه - أعني عنوان غیر المحصور - لمّا كان معناه الحقیقي اللغوي متعذّر الإرادة؛ لأنّه عبارة عن ما یحصی وهو من المقولات غیر المتحقّقة في الخارج إن أرید به عدم إمكان العدّ عقلاً والنادرة إن أرید عدم الإمكان العادي، فهو غیر مقصود في المقام، فلابدّ في معناه من الرجوع إلی العرف، فیراد به ما لا یعدّ ولا یحصی عرفاً، فیرجع إلی ما ذكروه عن عسر العدّ.

وربّما قیّده بعضهم بعسر العدّ في زمان قصیر، ففي «فوائد الشرائع» (1)

ص: 536


1- . انظر: حاشية الشرائع (المطبوعة ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره): ج10/ ص141.

و«حاشیة الإرشاد» (1) بعد أن ذكر أنّ غیر المحصور من الحقایق العرفیّة: إنّ طریق ضبطه أن یقال: لا ریب أنّه إذا أخذ مرتبة علیا من مراتب العدد - كألف مثلا - قطع بأنّه ممّا لا یحصر ولا یعدّ عادة، لعسر ذلك في الزمان الیسیر وما بینهما من الوسائط كلّما جری مجری الطرف الأوّل ألحق به، وكذا ما جری مجری الطرف الثاني ألحق (2) به، إلی آخر ما سیأتي في المقام الآتي إن شاء الله تعالی.

واعترض علیه بعض الأساطین بأنّ جعل الألف من غیر المحصور مُنافٍ لِما علّلوا وجوب الاجتناب به من لزوم العسر في الاجتناب، فانّا إذا فرضنا بیتا نسبة الجزء النجس إلیها لقلّته نسبة الواحد إلی الألف، فأيّ عسر في الاجتناب عنها والصّلاة في بیت أخری؟ وأيّ فرق بینه وبين ما لو كان النجس جزءً معتدّاً به منها؟ بحیث یكون النسبة قریبة بحیث یوجب حصر الشبهة، مع أنّ سهولة الاجتناب وعسره لا یتفاوت فیه قلّة المعلوم إجمالاً أو كثرة، وكذا لو فرضنا أوقیة من الطعام یساوي ألف حبّة، أو أزید عند العلم بكون حبّة منها نجسة أو مغصوبة، فأيّ عسر في الاجتناب عنه؟ (3)

ص: 537


1- . انظر: حاشية الإرشاد (المطبوعة ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره): ج9/ ص72. ونقل عنه في الفرائد: ج2/ ص268 و 269.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص269 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص26.
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص269.

هذا تقریب كلامه، وفيه نظر:

أوّلاً: بأنّ الِاستدلال بالحرج إنّما صدر عن بعضهم اجتهاداً ولم یعلم كونه معتمدهم في الحكم بنفسه، بل یحتمل کونه دليلاً علی بعض الموارد، فیدلّ علی غیره بعدم الفصل المحتمل تحقّقه عندهم، أو یكون مؤیّداً لما اعتمدوا علیه، ولا يضرّ التمسّك به لنقله الإجماع أيضاً، فانّه یكون من قبیل ضمّ بعض الأدلّة إلی بعض ممّا لا ینافي قصور بعضها عن إتمام المطلوب، کما هو طریقة الفقهاء في المسائل الفقهیّة.

وثانیاً: بأنّه إن أراد جعل الحرج شخصیّاً بأن یلاحظ في خصوص کلّ مورد تحقّق الحرج - كما هو مقتضی مساق كلامه - فهذا إبطال للدلیل المذكور عن الدلالة واعتراض علیهم بفساد دلیلهم، کما ذکره هناك أيضاً، لا إنكار لمعیار غیر المحصور بعد فرض حكمه، كما هو محلّ البحث في المقام ولا یجوز ردّ تفسیر الموضوع بما يبطل الدلیل.

وإن أراد جعل الحرج نوعیّاً - كما هو مبنی الدلیل المذكور عند التحقیق والتطبیق - فما ذکره غير متّجه علیه؛ لأنّه بعد أخذ عنوان غیر المحصور موضوعاً لحكم واحد عقلي أو شرعي وحكم علیه بارتفاعه لأجله، فالدليل منطبق علیه لو سلّم كون الألف من المحصور، وإلّا فقد سبق الكلام فیه.

وثالثاً: إنّا لو سلّمنا كون علّة الحكم هو الحرج في خصوص كلّ مورد عند القوم، فیكشف خصوص العلّة عن اختصاص المعلول به، كما في

ص: 538

قولك: «لا تأكل الرمّان لأنّه حامض»، حیث أنّه یقیّد الرمّان بالحامض منه، فیكون المراد من عسر العدّ هو عسر العدّ الجامع للحرج في الاجتناب، والمناقشة حینئذٍ بمثال الألف بعد فرضه ممّا لا یعتدّ بشأنها، فتدبّر.

وثانیها: ما عن «الكفایة» من أنّه عبارة عمّا یكون الاجتناب عن أطرافه مستلزماً للعسر والحرج، (1) وربّما یلوح من كلام غیره من الفقهاء ذلك.

وربّما یناقش فیه:

أوّلاً: بأنّ هذا لیس من حقیقة غیر المحصور في شيء كما یظهر بالمراجعة إلی العرف واللغة، إلّا أن یجعل ذلك بالمعنی المراد منه في المقام وهو كافٍ في أمثال المسائل.

وثانیاً: بما عن المعالم (2) في فقهه من أنّ كون المدار علی الحرج یوجب انقلاب عنوان المحصور وغیر المحصور إلی عنوان آخر، [و] هو كون الشبهة بین ما فیه الحرج وبین ما لا حرج فیه (3)، وهو كما تری.

وفیه: إنّه یمكن أن یؤخذ فیه قید آخر بأن یقال: هو الكثیر الّذي یكون في اجتنابه الحرج، كما یستفاد من قرینة المقام كما سبق نظیره.

ص: 539


1- . انظر: کفاية الأحکام: ج1/ ص66.
2- . في المخطوطة: «العالم».
3- . انظر: معالم الدين وملاذ المجتهدين (قسم الفقه): ج2/ ص582.

وثالثا: إنّه لو سُلِّمَ أن یكون مراده ما وصل أطرافه في الكثرة إلی حدّ یوجب الحرج في الاجتناب عنه، ففیه إنّ الكثرة إنّما توجب الحرج إذا كانت أطراف الشبهة من قبیل الأفعال دون التروك، فانّ التروك وإن بلغت في الكثرة إلی ما بلغت، فلیست نفس الكثرة فیها موجباً للواقع في الحرج من الاجتناب عنها؛ لأنّ الترك بنفسه لیس كلفة علی المكلّف بنفسه، كما یشهد له مع بداهته صدور التروك غیر المتناهیة بعد القیاس إلی الوجود منه في كلّ آن، بخلاف الفعل لما فیه من الكلفة علی الفاعل، فعند كثرته یكون الالتزام به حرجاً من حیث نفسه، إلّا أن یعرض هناك جهة یسهّله علیه، كما قد یقترن مع الترك مسیس حاجة المكلّف إلی الفعل ووجود الدواعي للفعل، فیلزم من ترك الجمیع عند الکثرة المستلزمة لرفع الید عن تلك الدواعي حرج وعسر، فالكثرة بنفسها ممّا لا رَبْطَ لها بالحرج أصلاً وإن اجتمع معه كثیراً لأجل الحاجة وتحقّق الدواعي، كما قد یتّفق مثل ذلك في المحصور أيضاً، إلّا أن یدفع ذلك بأنّ غرضه ليس بیان المعنی وإنّما هو بیان لحكم الموارد بعد العجز عن تمیّز الحقیقة، فیقتصر في موارد الرخصة علی الکثير الّذي فیه الحرج ویرجع في الباقي إلی أصالة الاحتیاط الثابتة لأجل العلم الإجمالي، فتأمّل في جمیع ما ذكر هنا.

وثالثها: ما ذکره شيخا المتأخّرين (1) طاب ثراهما في «الهدایة» و«الرسالة»

ص: 540


1- . في المخطوطة: «شيخنا المتأخّرين».

وإن لم یجزما به (1) واختلفا في التعبیر، حيث قال الأوّل: إنّه ما یكون [احتمال] إصابة الحرام المعلوم بالنسبة إلی الإقدام علی خصوص المصادیق الخاصّة موهوناً غیر ملتفت إليه بحسب العادة. (2)

وقال الثاني: إنّه [غير المحصور] (3) ما بلغ کثرة الوقائع المحتملة للتحریم إلی حیث لا یعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فیها والضرر المعلوم وجوده، وهما متقاربان وكلاهما مبنِیّان علی الدلیل الرابع المتقدّم، فإن تمّ ذلك هناك، صحّ ما ذكر هنا من المیزان علی نحو ما قَرّر هناك، وإلّا فلا وجه له. هذا.

واحتمل الأوّل منهما میزاناً آخر، وهو ما لا یكون الإقدام علی المصداق الخاصّ قاضیاً برفع العلم الإجمالي الحاصل بوجود الحرام، وهو محتمل لأن یراد به ما یكون الأطراف لانتشاره وعدم حضوره في الذهن فعلا بحيث لو ارتفع أحدها بقي العلم بحاله كما قبله، أو إن وهن المصادفة صار بمرتبة لا یقدح في بقاء العلم بعده، أو لما يقرب ذلك؛ وعلی كلّ حال، فهو في غایة الإجمال.

ص: 541


1- . في المخطوطة: «عليه».
2- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص598.
3- . انظر: الفرائد (لمؤسّسة النشر الإسلامي): ص438؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص271؛ والفرائد (مع حواشي الأؤثق): ج4/ ص31.

ورابعها: ما عن كاشف اللثام (1) في مسألة المكان المشتبه بالنجس قال: لعلّ الضابط أنّ ما یؤدّي اجتنابه إلی ترك الصّلاة غالبا، فهو غیر محصور، كما أنّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صُقْعٍ من الأرض یؤدّي إلی الترك غالباً.

وعن مفتاح الكرامة (2) إنّه استصوبه.

واعترض علیه بأنّه إن أرید بیان الموضوع لغیر المحصور بأن یبدّل ترك الصّلاة بمطلق ترك الواجب، فهو غیر وافٍ به، لأنّ وفاءه به مبنيّ علی وجود الواجب في جمیع أنواع الشبهة المحصورة وأفرادها، ولیس كذلك لخلوّ أكثر موارد الشبهة عن الواجب، كما في مثال المرأة والشاة المذكورتین في كلامه، وغایة ما هناك لزوم اختلال النظام والمعاش من ترك المجموع في الاحتیاط.

وإن أرید بیان الضابط في خصوص مقدّمات الصّلاة كاللباس والمكان وطهارة البدن ونجاسته، ففیه: إنّ سبب ترك الواجب فیها لیس لأجل الاجتناب عن أطراف الشبهة، بل السبب فیه ندرة وجود معلوم الطهارة والحلّ وغیرهما، ولذا لو فرضنا وجود المعلوم عنده - كالماء الطاهر الیقینيّ - فلا یوجب الاجتناب ترك الصّلاة، كما لو لم یكن عنده معلوم

ص: 542


1- . کشف اللثام: ج3/ ص349، وفي المخطوطة: «کاشف الغطاء».
2- . مفتاح الکرامة: ج6/ ص361.

وكانت الأطراف محصورة لزم من الإجتناب ترك الصّلاة، فلا ینطبق الضابط علی غیر المحصور تمام الانطباق، لحصول الانفكاك عن الطرفین، وفیه نظر، بل الظاهر عدم ورود الاعتراض المذكور علیه.

أمّا علی الثاني، فلأنّ العلم بتحقّق الموانع وفقدان الشرائط المحتاجة إلی دفعها صحّة الصّلاة إمّا أن یكون متعلّقاً بتحقّقها في تمام أفراد النوع، أو في أكثر أفراد النوع بحیث یندر وجود الخارج عنها، كعلمها بنجاسة جملة من المیاه والأمكنة والألبسة وغصبیّة المملوكات الظاهریّة، وإمّا أن یكون علماً حادثاً بسبب خاصّ متعلّق بموارد مخصوصة، والحكم بالاجتناب عن النوع الأوّل یلزمه ترك الصّلاة غالباً دون الثاني، وفرض وجود الخارج عن الأطراف نادراً لا یضرّ بالغلبة الّتي اعتبرها، كما لا یضرّ فیه النقض بلزوم ذلك نادراً في المحصور.

وعلی الأول، فالمتّجه التبدیل بلفظ ترك النوع، كترك أكل لحم الشاة وترك أصل التزویج، كما یظهر وجهه بالمقایسة، ولعلّ منشأ الضابط استظهار دخوله تحت عموم: «كلّ شيء فیه حلال وحرام فهو لك حلال»، خصوصاً ما وقع جواباً للجبن وخبر الجارود وغیره وقد أشرنا إليه سابقاً وإلی أنّه قریب من الصواب.

وخامسها: ما اختاره بعض مشايخنا (دام ظله)، وهو أنّه ما كَثُرَتْ أطرافُهُ وكان الاجتناب عنها مورِثاً للحرج، فیكون المناط في تحقّقه أمران: کثرة الأطراف المستفاد من حكم العرف في معنی اللفظ، وكون الاجتناب عنه

ص: 543

حرجاً المستفاد من استدلالهم بدليل الحرج، لظهور أنّ اختصاص العلّة یخصّص المعلوم كما سبق، ولو لم یكن مرقوماً في كلام الكلّ، فالقدر المتيقّن من الخروج هو ذلك؛ وعندي فیه نظر.

ولعلّ الأولی التفصیل بین مدارك المسألة بأن یقال: إنّه لو كان المعتمد هو الإجماع، فإن جعلنا اضطراب كلامهم في المقام في ضابط المصداق العرفي بعد الاتّفاق علی المفهوم العرفي، فالمعیار هو العرف كما تقدّم، لكن تشخیص المبنی بحیث یبني علیه الحكم الشرعي مشكل؛ لعدم ظهور ما يدلّ علیه سوی ظهور اللفظ في المعنی الحقیقيّ، والتعویل علیه مشكل؛ لأنّ غایة ما ثبت من الأدلّة اعتبار ظاهر اللفظ في إثبات الأحكام المترتّبة علیه بحیث تتبعه بالملازمة العقلیّة والشرعیّة والعادیّة والمقام لیس منه، لأنّه لا ملازمة عادة بین رأي المفتین والحكم عادة بحیث یمتنع عادة تخلّفه منه وإن حصل منه القطع بالحكم فعلاً بضمیمة خصوصیّات المقام وغیره، فانّه لا یلزم من وجود الإجماع فعلاً وجوب الملازمة العادیّة كما في محلّه، ولا یقاس ذلك بسائر الموارد المعلوم كون المعیار علی الموضوع العرفي، لكشفه عن كون الحكم معلّقاً علیه في كلام المعصوم، لقوّة احتمال انتزاعهم العنوان من الأدلّة وإن لم یتحقّق ذلك هنا، فلابدّ من الحكم بالإجمال وإناطة الحكم مدار القدر المتیقّن والرجوع في ما سواه إلی حكم الشكّ.

ولو كان هو الحرج، فإن كان شخصیّاً بمعنی لزومه من الاجتناب عن خصوص كلّ مورد فالمناط هو ذلك، وإن كان بمعنی لزومه من

ص: 544

الإجتناب عن المجموع فاللازم إناطته بما یلزم الحرج منه ولو منضمّاً إلی غیره، وحینئذٍ فیشكل التمیّز جدّاً، فیحتمل لذلك الاكتفاء بالتقریب، للزوم الحرج من الاقتصار علی المعلوم، وإن كان نوعیاً فیمكن جعل المیزان هو العنوان العرفي إن لم یناقش فیه بعدم انحصار العناوین المنتزعة بغیر المحصور.

ولو كان هو الأخبار العامّة كان اللازم ملاحظة عنوان المخرج ویحكم علی الباقي بالبراءة، كأن یجعل المخرج هو تحقّق الغایة في المحصور وإنّه لا ینصرف إلی العلم الموجود في غیر المحصور، فیتبع الإنصراف حینئذ.

ولو كان ما یختصّ بغیر المحصور اتّبع ما یستفاد منه مع الاقتصار علی المتیقّن؛ ولو كان هو الرابع، فقد سبق الكلام فیه؛ ولو كان هو الخامس، فحاله كالأوّل؛ ولو کان السادس، كانَت العِبْرَةُ بعدم تحقّق المجموع من المكلّف بحسب حاله عرفاً بأن لا یكون في عرضة الجمع؛ ولو كان السابع (1) اتّجه مراعاة تحقّق الابتلاء وعدمه؛ ولو كان الثامن (2) اتّجه الأخذ بالشبهات الشایعة في أطراف النوع کلّا ً أو جلّا ً، وتفصیل المقام یظهر بالتأمّل في ما سبق.

ص: 545


1- . في المخطوطة: «الثامن» والصحيح السابع نظراً إلی ما قبله أعني السادس.
2- . في المخطوطة: «التاسع» والصحيح الثامن.

المرحلة الرابعة

في حكم ما یُشَكُّ في دخوله تحت عنوان غير المحصور موضوعاً أو حكماً وتأسیس الأصل في المسألة.

قال في «فوائد الشرایع» و«حاشیة الإرشاد» كما حكي بعد عبارته المتقدّمة: وما یعرض فیه الشكّ یعرض فیه علی القوانین والنظائر ویراجع فیه إلی القلب، فإن غلب علی الظنّ إلحاقه بأحد الطرفین، وإلّا عمل فیه بالاستصحاب إلی أن یعلم الناقل (1).

ثمّ قال: وبهذا ینضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعاً في أبواب الطهارة والنكاح وغیرهما. (2)

أقول: قد قسّم كَلّا ً من القسمین إلی معلوم وملحق به ومظنون ومشكوك، فهاهنا أربعة أقسام ینبغي بیانها بأقسامها المتصوّرة وإن لم ینطبق علی ظاهر العبارة لما فيه من بيان جملة من المطالب المناسبة للمقام، فنقول: إنّ المرتبة المأخوذة في الطرف الأعلی كالألف؛ یمكن أن یكون هي أولی المراتب المعلومة، بحیث لا یكون قبلها ما یعلم بأنّه من غیر المحصور، وكذا في الطرف الأدنی.

ص: 546


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص269.
2- . انظر: حاشية الشرائع (المطبوعة ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره): ج10/ ص141؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص26؛ مفتاح الکرامة: ج6/ ص362؛ مفتاح الکرامة (الطبعة القديمة): ج2/ ص253.

ویمكن أن یكون هي ما ينحصر غیر المحصور بها وبما فوقها، فیكون المراد تحدید المحصور وغیر المحصور بتلك المرتبتین.

ویمكن أن یكون إحدی المراتب المعلومة، فیؤخذ مرتبة قطعیّة من كلّ منهما، وظاهر العبارة هو الأخیر، ثمّ الأوّل.

وعلی الأوّل، فالمراد بما يجري مجری غیر المحصور إمّا هو ما یجري مجراه حكماً، بأن یقال بإلحاق جملة من غیر أفراد غیر المحصور به، أو ما یشكّ في فردیّتها بها من حیث الحكم، نظراً إلی وجود المناط، أو شمول الدلیل لها؛ وإمّا هو ما یجري مجراها موضوعاً بأن یتوسّع في المرتبة المعلومة بحیث یندرج فیها مادونها تسامحاً وتوسعاً عرفیاً، كإطلاق الألف علی ما ینقص منه بفرد واحد أو بنصف فرد، نظیر إطلاق المنّ علی الناقص منه بمثقال واحد؛ وأمّا هو ما یصیر معلوم الحال بعد لحاظ كونه جاریاً مجریٰ المعلوم عرفاً ومقایسته بما علم أوّلاً.

وعلی كلّ تقدیر إمّا أن یراد بقوله: «وما یشكّ فیه» ما یشكّ في حكمه بعد إحراز عدم اندراجها موضوعاً، وهو المناسب للاحتمال الأوّل، بل یبعد عن الأخیرین جدّا، أو ما یشكّ في موضوعه المستنبط بأن یشكّ في كون مفهوم غیر المحصور بحیث یشمله أو لا، أو ما یشكّ فيه موضوعا بعد فرض معلومیّة المفهوم، كما لو شكّ في مقدار عدد الأطراف، فإن

ص: 547

حصل (1) الشكّ في الحكم، فعلاجه الرجوع إلی قوانین الشرع وملاحظة مناط الأدلّة ونظائرها من حیث الحكم والرجوع إلی الغالب من حیث الحكم، فإن حصل الظنّ بالحكم من الغلبة أو مطلقاً فهو، وإلّا عمل بالأصل، واعتبار الأصل حینئذ مبنيّ بظاهره علی اعتبار الظنّ المطلق علی خلاف المشهور كما نسب إلیهم، إلّا أن یوجّه بأنّهم ربّما یعملون بالظنّ بالمناط والحاصل من الغلبة ونحوهما، فلعلّهم یرونها ظنوناً خاصّة.

وإن جعل الشكّ في الموضوع المستنبط، فالمرجع إلی قوانین تشخیص المفاهیم ونظائر العنوان، أو المصداق لتشخيص العنوان والرجوع إلی الغالب إن حصل الظنّ بالمفهوم، وإلّا عمل علی الأصل، والظنّ حینئذٍ ظنّ بالموضوع المستنبط المعتبر علی المشهور ظاهراً المدّعی علیه الإجماع وإن كان محلّ إشكال عندنا، مقرّر في محلّه.

وإن جعل الشكّ في الموضوع، فالمرجع فیه إلی ملاحظة قوانین المصادیق ولو كانت هي قواعد الحساب والنظائر الموضوعيّة والأخذ بالغالب، وحینئذٍ فهو شكّ في الموضوع الصرف واعتباره بحسب القاعدة والأصل مخالف للإجماع.

لكن یمكن دعوی اعتبار الظنّ في ما یتعلّق بالطهارة والنجاسة في الجملة، كما ذكروا عنوان اعتبار الظنّ فیهما ونقلوا الخلاف فیه.

ص: 548


1- . في المخطوطة: مکتوب تحت «جعل»، «حصل».

وعلی الثاني وهو إرادة التحدید، فالمراد بما یجري مجریٰ ما لیس هو حصول العلم ثانیاً لمنافاته للتحدید، فالمراد به إمّا الإلحاق الحكمي ولا إشكال فیه، ویساعده الدلیل أو التوسّع بأن یكون التحدید مبنیّاً علی التوسّع، كما هو شأن العناوین العرفیة والأحكام العقلائیة کلّا أو جلّا ً، ومنشأه إمّا حصول النقل في اللفظ بحیث یدلّ بنفسه علی المعنی الأعمّ لكثرة الاستعمال فیه، کإطلاق المدّ علی الناقص بالمثقال - كما قد یدّعی ذلك في ألفاظ العبادات علی بعض الوجوه المذكورة في محلّه - أو حصول القرینة العامّة من شیوع الإطلاق ونحوه بحیث ینصرف إلی الأعمّ بملاحظتها، أو تحقّق مناط أحكام العرف في مورد التوسّع، والأوّلان علی خلاف التحقیق وإلّا لجری في الأحكام الشرعیّة، كالرطل والمدّ والمسافة ونحوهما، بخلاف الثالث لعدم معرفتنا بمناط الأحكام.

وبالجملة، فالشكّ حینئذٍ إمّا شكّ في الحكم، أو في الموضوع الصرف - كأن یشكّ في عدد الأطراف - ولا یجري هنا الشكّ في الموضوع المستنبط لمنافاته التحدید.

وعلی الثالث وهو التمثیل، فالظاهر الإلحاق في صدق العنوان والظنّ به والشكّ فیه وإن جری فیه سائر الوجوه المتقدّمة بالتفصیل المتقدّم.

ویحتمل فیه أيضاً وجه آخر، وهو أن یكون المقطوع هو ما كان من أفراد غیر المحصور متیقّن الحكم وبما یلحق به ما كان معلوم الإندراج تحت عنوان أنّ الموضوع مع عدم العلم بشمول الحكم له واحتمال اختصاصه

ص: 549

بغیره، فیلحق به بمقتضی إطلاق الدلیل، وأمّا ما سوی أفراد العنوان، فبعضها مظنون الإلحاق بها حكماً، وبعضها مشكوك الإلحاق كذلك.

وبما ذكرنا یمكن دفع ما أورده علیه بَعْضُ الأساطین من أنّ ظنّ الفقیه بكون العدد المعیّن جارِیاً مجری المحصور في سهولة الحصر، أو مجری غیره لا دلیل علیه (1) ولعلّ كلامه مبنيّ علی حمل الظنّ علی الظنّ بالموضوع الصرف، وهو بعید جدّاً.

أوّلاً: لأنّ مساق كلامه بیان أحكام الشبهة الحكمیة أو الموضوعیّة المستنبطة، وأمّا الشُّبْهَةُ في المَوْضُوْعِ الصِّرْفِ، فَغَیْرُ مُرادَةٍ من المقطوع والملحق به.

وثانیاً: إنّ العرض حینئذٍ علی القوانین غیر معقولة، وكذا النظائر والغلبة، فانّ شیئاً منها لا ینفع بظاهرها في رفع شبهة الموضوع.

وثالثاً: إنّ الإلتزام بحجّیة الظنّ في الموضوع خلاف الإجماع علی القاعدة، إلّا أن یوجّه بما تقدّم. هذا.

ولا یخفی علیك إنّ ظاهر العبارة المتقدّمة لیس إلّا مَعْنیً واحِداً، وهو أن یؤخذ من کلّ واحد من الطرفین مرتبة معلومة عالیة ودانیة كانت ما كانت علی سبیل التمثیل، ثمّ یلاحظ ما بینهما من الوسائط، فما کان منها

ص: 550


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص270؛ بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص306؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص27 وکتباً أخر.

مماثلاً لكلّ من الطرفین في ما یعتبر في صدق كلّ من العناوین وحصل العلم به ألحق به، وما یشكّ فيه من الجهة المتقدّمة عرض علی القوانین والنظائر والغلبة، فإن حصل الظنّ [فبها]، وإلّا عمل بالأصل، وإنّما الكلمات المتقدّمة لبيان أطراف المسألة.

نعم، یبقی الإشكال في ما أراده من القوانین والغلبة، ولعلّها هي (1) قوانین تشخيص المصاديق من الرجوع إلی العرف ونحوه وغلبة أفراد أحد العنوانین علی الآخر نوعاً أو صنفاً ممّا يقارب المشکوك فيه، فهي ولعلّه هو الّذي فهمه المحقّق المتقدّم (2) حیث اعترض علیه بما تقدّم، فانّه بعد تشخيص مفهوم غیر المحصور وأنّه هو الّذي عسر عدّه بزمان قصیر إذا عرض الشكّ، كان شكّاً في موضوع العرف لا في مفهوم اللفظ، وهو ممّا لا دلیل علی اعتباره.

والجواب عنه حینئذٍ: إنّ كلّ ما صار حال الفرد مشخّصاً من جمیع الوجوه المتعلّقة بها مع قطع النظر عن الحكم وحصل شكّ هنا، كان مُسَبَّباً عن إجمال المفهوم الّذي یشكّ في كونه فرداً له، ضرورة أنّه إذا ارتفع الشكّ عن خصوصیّات الفرد وكان هناك في الاندراج لم یعقل استناد الشكّ إليه،

ص: 551


1- . في المخطوطة: «هو».
2- . راجع: حاشية إرشاد الأذهان (المطبوعة ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره): ج9/ ص72.

فیكون منشؤه في نفس الكلّي، فالشكّ في اندراج السبعمائة تحت غیر المحصور مع العلم بأنّها سبعمائة وإنّه یعدّ في زمان معیّن عرفي، كربع ساعة مثلا، فهو سَبَبٌ عن أنّ مفهوم عسر العدّ في الزمان القصیر المشكّك بحسب الصدق علی أفراده هل هوما قصر عنه قصراً غیر شامل لذلك الزمان المفروض، أو لا؟ فهو شكّ في نفس الموضوع المستنبط عند التحقیق، فدفعه بعدم الدلیل علیه إن كان مبنیّاً علی المناقشة في ما أرسلوها إرسال المُسَلَّماتِ من حجّیّة الظنّ فیه، فهو - مع أنّه رجع عنه في حاشیة منسوبة إليه (1) علی الظاهر وأغمض عمّا ذكر في دفعها - أنّه إنّما یناسب مذهب القائل بالاقتصار علی الظنّ الخاصّ، وأمّا علی مذهب غیرهم - كما صرّح (2) في أصل هذه المسألة - بأنّ المسألة فرعیّة یكتفي فیها بالظنّ، فهو غیر تامّ لأجل حصول الظنّ بالواقع، فافهم.

وكیف كان، ففي كون المرجع في الموارد المشكوكة إلی البراءة، كما یظهر من الكلام المتقدّم، أو الاحتیاط - كما اختاره بعض الأساطین - قولان.

والتحقیق: التفصیل بملاحظة أدلّة الرخصة في غیر دلیل، فإن كان

ص: 552


1- . راجع: حاشية إرشاد الأذهان (المطبوعة ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره): ج9/ ص72.
2- . راجع: فرائد الأصول (للمجمع): ج2/ ص265.

المنشأ هو الوجه العقلي المتقدّم في الوجه الرابع، فظاهر بعض الأساطین تسلیم الرجوع إلی البراءة بناء علیه، حیث ذكر في توجیه الكلام المتقدّم أن یكون نظره إلی ذلك الوجه نظراً إلی عدم إحراز المقتضي في المشكوك؛ لعدم حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل في غیر المحصور الّذي هو المقتضي لوجوب الاحتیاط، ومع الشكّ في المقتضي یرجع إلی أصالة الجواز.

وفیه نظر: أمّا أوّلاً، فلأنّ خروج الشبهة غیر المحصورة - إن کان مستنداً إلی حكم العقل - كما هو ظاهر تقریره هنا - فلا یتصوّر الشكّ فیه أصلاً حتّی یحتاج إلی تأسیس الأصل في المسألة، بناء علی ما قرّر في محلّه من عدم إمكان الشكّ في الأحكام العقلیّة، فلابدّ أن یكون المشتبه الّذي يحکم فيه بوجوب الاجتناب وتنجّز العلم الإجمالي والمشتبه الّذي لا یكون كذلك عنوانین مشخّصین من جمیع الوجوه للعقل الّذي هو الحاكم حینئذ.

ودعوی فرض الشبهة موضوعیّة، كأن یشكّ في عدد المشتبهات أنّه بحیث یبلغ حدّ غیر المحصور وإن کان حکمه بعد إحرازه معلوماً للعقل؛ مدفوع بأنّ غایة ما یسلّم إمكانه في الأحكام العقلیّة إذا كان للعنوان موضوعيّة في نظره، كما في حكم العقل بقبح الكذب غیر النافع إذا شكّ في نفعه علی تأمّل فیه أيضاً.

وأمّا إذا لم يکن له موضوعیّة عنده، فلا یجوز كما في المقام، فإنّ الاحتمال الموجود فعلاً في النفس إن كان بالغاً في الوهن حدّ عدم الاعتناء استقلّ معه بالبراءة، وإلّا استقلّ بالاحتیاط؛ لفقد العلّة المرخّصة.

ص: 553

مع أنّه لو فرض إمکان الشكّ منه كذلك وإنّه غیر جازم في الأفراد المتوسّطة مثلاً بشيء من البراءة والاشتغال ولو باعتبار عجز المکلّف عن تعیینه، ففي حكمه كلام یأتي في الشكّ في أجزاء العبادة إن شاء الله تعالی.

وإن كان مستنداً إلی بناء العرف والعقلاء وإن لم یفرّق العقل بین المقامین، ففرض الشكّ حینئذٍ وإن كان معقولاً لأجل اختلاف العقلاء في الجملة، أو عدم تحصیل الجزم ببنائهم، أو بتمام الضابط المعتبر عندهم، إلّا أنّ الكلام حینئذٍ في اعتبار بنائهم علی خلاف مقتضی العقل الّذي لا یفرّق بین المقامین في لزوم الاحتیاط، فانّ غایتها یسلّم من ذلك في ما إذا تحقّق بناءهم علی اعتبار طریق للواقع، فیكشف حینئذ عدم الردع عنه من الشارع ولو بضمیمة أصالة عدمه عن رضائه وتقریره (علیه السلام) له، فبعد ذلك یخرج عن موضوع حكم العقل بعدم جواز العمل بالظنّ، لاختصاصه بما لم یكن معتبراً.

وأمّا إذا لم یكن كذلك، بل جری بِناؤُهُمْ علی [أن] یخالف حكم العقل من دون أن یكون فیه تعلیقاً علی شيء یرتفع بذلك البناء، فلا یجوز متابعتهم، بل هو حینئذٍ كاستقرار عملهم علی معصیة الخالق وترك طاعته كثیراً، فهو كاشف عن أنّ العمل ناشٍ عن عدم المبالاة، والمقام كذلك، فانّ العقل مستقلّ بوجوب دفع الضرر المحتمل الّذي هو العقاب مطلقاً، فعدم التفاتهم إليه في بعض المقامات لقلّة مبالاتهم حینئذٍ نظراً إلی وهن الاحتمال علی خلاف العقل من دون استنادهم في ذلك إلی طریق أو أمارة.

ص: 554

وهذا كما تری إنّما یتّجه علی ظاهر تقریره (قدس سره) حیث جعل المعیار عدم الاعتناء بالضرر المحتمل، وإلّا بأن قلنا بخروج الإطاعة الإجمالیّة في غیر المحصور عن الإطاعة المعتبرة وإن وهن الاحتمال أوجب عدم وجوب الترك في كلّ منها لأجل التحرّز بحیث صار طریقتهم الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، أو بترك وجوب الإطاعة مطلقاً بالبیانات المتقدّمة، فلا إشكال حینئذٍ، لأنّ المعیار والمعتبر في كیفیّة الإطاعة والعصیان هو طریقة العقلاء الکاشف عن الرضاء لولا الردع - سواء كان عملاً بطریق، أو أخذاً بأصل - ولو كان هو البراءة أو التخییر كما في المقام علی الوجهين المتقدّمین، فإطلاق المنع عن الاجتناب هنا كما جنح إليه بعض مشایخنا (دام ظله) محلّ نظر، كما أنّ ما ذکرنا علی التقدیر الثاني تحقیق حال، لا اعتراض علی كلامه (قدس سره) عند التحقیق.

وثانیاً إنّه لو سُلِّمَ حصول الشكّ حینئذٍ، فإمّا أن یقرّر علی وجه یرفع المقتضي بإلغاء العلم الحاصل في المقام بحسب المقتضی، أو إلغاء المقتضي في الإحتياط، أو یقرّر ذلك علی وجه یثبت به في المانع في المقام، كما یظهر وجهها ممّا قدّمنا هناك.

وعلی الثاني، فالحكم هو الاحتیاط نظراً إلی أصالة عدم تحقّق المانع في محلّ الشكّ، كما تمسّك بمثله قبل هذا الكلام.

ودعوی أنّ أصالة عدم المانع غیر معتبرة شرعاً ما لم یرجع إلی الاستصحاب؛ نظراً إلی أنّ عدم المانع أيضاً شرط، مدفوعة - بعد الغمض

ص: 555

عمّا فیه بما قرّر في محلّه - أنّه إنّما یسلّم حینئذٍ في الأحكام الشرعیّة دون العقلیّة والعقلائیّة، وتحقیقه في محلّه.

وعلی الأوّل، فمقتضی القاعدة وإن كان هو الحكم بالبراءة حينئذٍ، إلّا أنّه یخرج عنه في المقام بمقتضی إطلاق دلیل الحكم الواقعي الدالّ علی وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد المقتصر في الخروج عنه إلی ما علم كونه غیر محصور علی ما ذكره (رحمة الله علیه) في مسألة الشكّ في تحقّق الابتلاء كما تقدّم؛ إذ لا فرق بین المقامین من هذه الجهة - وهو إن لم یكن مرضیّاً عندنا كما سبق - إلّا أنّ الغرض منه النقض بما ذكره هناك.

ودعوی أنّ الشكّ هنا لیس مُتَعَلِّقاً بتقیید المادّة والهیئة، وإنّما هو في الشروط العقلیّة، وإنّما هو في الشروط العقلیّة، أو أنّ عموم أدلّة الحلّ والبراءة أيضاً یقتصر في الخروج عنه إلی المحصور، نظراً إلی اقتصار حكم العقل فیه، مدفوعة بجریانهما في المقامین، كما أشرنا إلی الأوّل هناك، مع أنّه لا یبعد حكومة الإطلاق الأوّل علی الثاني، فتأمّل.

وإن كان المنشأ هو أدلّة الحرج، فلا ریب في وجوب الاحتیاط في محلّ الشكّ، نظراً إلی كون الشكّ حینئذٍ في تحقّق الحرج فیه.

وإن كان هو الأخبار العامّة، فإن كان المخرج عنه أمراً مختصّاً بالمحصور كإجماع ونحوه، كان المتّجه هو البراءة، وإلّا فالاحتیاط، لكن فیه إبطال للدلیل كما تقدّم.

وإن كان بعض الأخبار الخاصّة، فلابدّ من الاقتصار علی مدلولها عند

ص: 556

العلم بتحقّق العنوان، فیحكم في الباقي بالاحتیاط لو لم یكن موجودة.

وإن كان هو الإجماع، فلا إشكال في أنّ المرجع هو الاحتیاط اقتصاراً علی المتیقّن، فلیتأمّل.

المرحلة الخامسة

في ما ربّما یلحق بالمحصور موضوعاً أو حكماً باعتبار وجوب الاحتیاط فیه من غیر المحصور بحسب بادي النظر.

وهو أمور:

أحدها: ما إذا كان المردّد بین الأمور غیر المحصورة محرّمات كثیرة نسبة مجموعها إلی الأطراف كنسبة الشيء إلی الأمور المحصورة، كما إذا علم إجمالاً بحرمة خمس مئة شاة مشتبهة في ألف وَخَمْسِ مِئَةِ شاةٍ. (1)

استظهر بعض الأساطین طاب ثراه إلحاقه بالمحصور مطلقاً، معلّلاً له بأنّ الأمر یتعلّق بالاجتناب عن مجموع الخمس مئة في المثال وَمُحْتَمَلاتُ هذا الحرامِ المُتَبایِنَةُ ثلاثة، فهو کاشتباه الواحد في الثلاثة، وأمّا ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات، فهي احتمالات لا تنفكّ عن الاشتمال علی الحرام حينئذٍ، فلا تعارض احتمال الحرمة. (2) إنتهی.

ص: 557


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص274 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص33.
2- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص274 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص33 و 34.

وحاصل ما استفدته من شیخنا (دام ظله) في بیانه: إنّه إمّا إن یجعل الأقسام الثلاثة ذهنيّةً مُعَرّاةً عن ملاحظة الخصوصیّات الفردیّة، فینقسم الأطراف إلیها علی سبیل الكلّیة ویجعل أحدها المردّد دون الباقیین.

وإمّا أن یجعل المقسم هو نفس الأفراد الخارجیّة، لكن بحیث یكون مماثلاً للحصّة المشاعة من الشيء، نظراً إلی إشاعة الحرام في المحتملات وکونها حراماً ظاهريّاً مع قابلیّتها للتعیین، كما یحرم التصرّف في المشاع قبل الأفراض وتعین المحرّم في المفروض بعده.

وتقریره علی الأوّل: إنّ محتملات الحرام المفروض في عدد الأطراف ثلاثة؛ لأنّ نسبة المحتملات إلیها هي الشكّ ومخرجه ثلاثة، فیقسم المجموع إلیها كلّیة ویكون كلّ منها صالحاً لكونه هو الحرام دون غیره، وأمّا ما عدا هذه الاحتمالات الّتي تساوي كلّ منها ثلث المجموع، كالربع والخمس وغیرهما، فهي احتمالات لا تنفكّ عن احتمال الحرمة بطريق الإضمار في العبارة؛ لأنّ التقسیم غیر الموافق كالتربیع والتخمیس لا یخرج مابقي عن المشخّص بعد فرض التشخيص عن احتمال الحرمة، لعدم انطباقها معه، بخلاف النسبة الموافقة، إذ لو فرض التشخیص فیها سلّم ماسوی المشخّص عن احتمال الحرمة لتعیّن المعلوم بالإجمال في غیره.

و [تقريره] علی الثاني: إنّ المحتملات المُتَبایِنَةَ ثلاثة، كما لو فرض إشاعة ثلث شيء في تمامه، فانّ تعیین المعلوم بالإجمال هنا، كتعیین الكسر المشاع هناك، إنّما یصحّ إذا كان التقسیم أثلاثاً؛ لأنّه حينئذٍ لو فرض تعیینه

ص: 558

ینفكّ الباقي عن الحرام، وأمّا علی غیره، فلا یصلح للتعیین، لأجل عدم الانطباق، فیبقی الباقي ولو بعد المعیّن علی حاله في الاشتمال علی الحرام، ولیس الغرض تحقّق الإشاعة هنا، بل هو تمثیل لِاسْتِكْشافِ الحال.

أقول: ولا یخفی علیك أنّ التوجیهین كلیهما غیر موافقین لظاهر العبارة لو سلّم صحّتهما في حدّ نفسهما، بل المناسب علی الأوّل التعبیر بأنّ ما عدا هذا التقسیم من سائر التقسیمات هي غیر صالحة للتعیین ورفع احتمال الحرام.

وعلی الثاني بما یقرب منه مع التمثیل بالمشاع المفروض والتطبیق علیه، بل الّذي ظهر لي في معنی العبارة إنّ ما یصلح للانطباق مع المعلوم بالإجمال من الاحتمالات المتباینة ثلاثة؛ لأنّه فیه ثلاث خَمْسمائَةٍ الّتي هي معروضة الحرمة، فهو كاشتباه الواحد بالثلاثة؛ لأنّ المحرّم هو مجموع العدد المذكور، وهو أمر واحد ولو باللحاظ ومشتبه مع ما یماثل كلّ نصف منه له، فالاشتباه وقع ابتداء بینه وبین كلّ من النصفین.

وأمّا سائِرُ الِاحتمالاتِ النَاشِئةِ من ضمّ بعض كلّ من الثلاثة إلی بعض بحیث یبلغ حدّ العدد المفروض المقابلة للمتباینة الّتي اعتبرها قیداً في الأوّل، فهي احتمالات لا تنفكّ عن الاشتمال علی الحرام؛ لمكان انضمام جزء المحرّم إلی المحلّل، وهذا المعنی مع دقّته ظاهر من العبارة عند التأمّل، ومثاله حینئذٍ ما لو كان اشتباه المحرّمة ذوات لون واحد وكلّ من المساویین لها أيضاً ذوات لون مغایر له، كما لو كان كلّ من خمسمائة منها ذات لون

ص: 559

واحد وكان أحدها حراماً، فانّه لا إشكال حینئذٍ في وجوب الاجتناب عن الجمیع المحصور، بل هو منه؛ إذ لا فرق بين أفراد الشاة وأجزاء ماء أحد الإنائین والعلم بوحدة حكم جمیع أجزاء العدد المفروض من ذات لون واحد ممّا لا يؤثّر في ضعف احتمال الحرمة وقوّتها، إذ عدم العلم بالارتباط مع تحقّقه واقعاً لادخل له بالإحتمال الموجود في کلّ من الأفراد حتّی یؤثّر فیه قوّة وضعفاً؛ هذا.

ولقد حکی لي بعض الطلّاب بعد ذلك هذا التوجیه عن جماعة من فضلاء تلامذته من مشایخ هذا العصر، وهو مؤیّد لما قرّرنا.

وعلی كلّ حال، فشبهة الكثیر في الكثیر إمّا أن یكون المحرّم كثیراً إضافیّاً في محلّل كثیر إضافي، وإمّا أن یكون حقیقيّاً في حقیقي، أو إضافیّاً في حقیقي، أو حقیقیاً في إضافيّ، والمراد بالحقیقي ما بلغ حدّ غیر المحصور، و[المراد] بالإضافيّ ما لم یبلغه مع كثرة ما بالإضافة إلی مادونه، والأوّل حکمه حكم المحصور، بل هو من أفراده، إلّا إذا بلغ المجموع حدّ الكثرة الحقیقیّة ففیه كلام، والثالث حكمه حكم غير المحصور، إلّا إذا كان نسبة الأوّل إلی الثاني نسبة القلیل إلی القلیل المعبّر عنه بالمحصور.

وأمّا إذا كان کذلك، أو بلغ المجموع حدّ غیر المحصور في الفرض السابق، أو كان من قبیل الثاني مع تساوي النسبة، أو مع غلبة الحرام، أو مع عكسه، أو مع عدم كون أحدهما أو كلّ منهما محدوداً بحدّ رأساً، أو كان من قبیل الرابع، ففي إلحاق الشبهة فیها بالمحصور مطلقاً وعدمه كذلك، أو

ص: 560

التفصیل بین الأقسام، وجوه واحتمالات، والتحقيق التفصیل بین مدارك المسألة.

فإن كان هو الوجه الرابع، كما لعلّه مبنی كلام المحقّق المتقدّم هاهُنا، فظاهر النظر هو ما ذكره (قدس سره)؛ لأنّ العبرة في وهن الاحتمال وقوّته هو بمقدار نسبة المحرّم إلی المحلّل، فكلّما ازداد الثاني علی الأوّل ضعف احتمال الحرمة والمصادفة مع الحرام وبالعكس، فإنّ احتمال الحرمة لأجل كونه هو الحرام، فبقدر عدد الحرام یتحقّق فیه جهات احتمال الحرمة، وكذا المحلّل؛ وإن شئت فلاحظ طریقة العقلاء حیث یعتنون بالاحتمال بخلاف القسم السابق، فیفرّقون بین وجود سمّ واحد في ألف وبین وجود خمسمائة مسموم فیه بعد العلم.

لكن هذا الكلام مبنيّ علی كون الفارق بین المحصور وغیره هو نفس العدد، وقد أشرنا سابقاً إلی أنّه لیس كذلك، بل قد یكون عدد واحد محصوراً في مقام دون آخر، لأجل تفرّق محتملات الثاني وتشتّته وعدم انضباطه وامتیاز محتملاته أوّلاً، كما یفرّق (1) العرف بین العلم بوجود السمّ في واحد مردّد بین مائة إناء وبین العلم بوجوده في بعض فواكه البلد الصغیر ولو كان عدده أيضاً مائة مثلاً، وحینئذٍ فلا ینبغي قصر المیزان علی خصوص النسبة، بل لابدّ من ملاحظة تشتّت الأطراف، فانّ الظاهر أنّ

ص: 561


1- . في المخطوطة: «يفرّقون».

اشتباه المائة في عشرة آلاف من غیر المحصور عند العقلاء بحیث لا یعتنون باحتمال المصادفة، بخلاف اشتباه الواحد بالمائة، فالأولی حینئذٍ جعل المیزان هو مجموع الجهات وملاحظة العرف والعقلاء في الموارد، فتأمّل.

وربّما یدّعی البراءة هنا أيضاً عن الموافقة القطعیّة بعد فرض صحّة المبنی في نفسه بلزوم الحرج الّذي هو الحكمة عند الشرع والعقلاء في نحو المقام، بل الحرج اللازم من الحكم بالاحتیاط، كالحرج المتحقّق هناك، فانّ کثيراً من موارد غیر المحصور من هذه القبیل، كما هو الحال في باب النجاسة والغصب، فانّا نعلم بنجاسة جملة كثیرة من الأراضي المبتلی بها والمأكولات والملبوسات والمشروبات والمیاه وغیرها، وكذا [نعلم] بغصبیّة جملة كثیرة منها، بل لو ادّعی أحد أنّ النجس والمغصوب منها أكثر من الطاهر والمباح، كان قریباً عند التأمّل، لكثرة أسباب النجاسة وقلّة اعتناء النّاس بشأنها وكثرة أسباب الغصب، لكثرة الأموال المحرّمة من الأعیان المأخوذة ظُلْماً وغَصْباً وغیرها المُقْتَضِيْ وُجُوْدُ كُلٍّ مِنْها حُرْمَةَ بَدَلِه عند المعاوضة ونمائه المتولّد منه [إذ قلّما] يحصل طعام یكون من أوّل مجيء بذره في هذا العالم إلی الآن عدم عروض اليد المحرّمة علیه.

وقس علیه سائر الأشیاء، خصوصاً في هذا الزمان الّذي شاع فیه معاملة الكفّار، ومن هاهنا یظهر إلحاق المسألة بغیر المحصور لو كان الدلیل هو الحرج - سواء جعل نوعیّا أو شخصیّا - علی حسب ذلك المقام؛ هذا.

ولكن قد یقال: إنّ موارد الحرج في المقام قلیلة، لانحصاره بالمثالین

ص: 562

المتقدّمین وما یحذو حذوهما، ولا حرج في أكثر أحكام الفقه ممّا عدا جهة النجاسة والتصرّف في مال الغیر بغیر إذنه، فلابدّ من الاقتصار علی مقدار الحرج بخلاف غیره، فانّ الحرج المدّعی هناك إنّما هو في أكثر الأفراد والموارد، فیمكن جعل الحرج نوعیّاً كما قدّم، فلعلّ الأولی حینئذٍ إلغاء المشتبهات من الجهتین المتقدّمتین مطلقاً بناء علی نوعیّة الحرج.

وأمّا لو كان هو الأخبار العامّة، فهي شاملة للمقام من دون إشكال كالمقام السابق، إلّا أنّ العبرة حینئذٍ بملاحظة الدلیل المخرج كما مرّ نظیره.

ولو كان الأخبار الخاصّة فخبر الجبن ونحوه وإن أمكن دعوی كون الظاهر من السؤال هو تعدّد جعل المیتة فیه، كالعلّة المنساق من التعبیر بلفظ (ویجعل فیه المیتة)، إلّا أنّ بلوغه حدّ الكثیر في الكثیر بالمیزان المتقدّم غیر ظاهر منه.

وأمّا الأخبار الدالة علی أنّ كلّما فیه حلال وحرام، فلا یبعد شمول عمومها بالبیان المتقدّم للمقام، إلّا أن یدّعی استحالة الترخیص في المخالفة القطعیّة هنا ویدّعی وقوع التعارض بین فردي العامّ كالمحصور، لكن قد عرفت ما فیه من التأمّل.

وأمّا الإجماع بالتمسّك بإطلاق كثیر من كلماتهم - وإن أمكن نظراً إلی شمول لفظ الشبهة غیر المحصورة والمشتبه بغیر المحصور للمقام أيضاً مطلقاً أو في بعض الأقسام - إلّا أنّ الاعتماد علی مثل ذلك مع قوّة احتمال إرادة غیر هذا القسم مشكل، وقد مرّ الكلام في نظیره.

ص: 563

وقد یعتضد شمول الإجماع للمقام بما ذكره الْقَوْمُ في مسألة دلیل الانسداد عند العلم الإجمالي، حیث لم یلتزم أحد یعتدّ بخلافه بوجوب الاحتیاط، ولیس له مدرك خاصّ یعتدّ به سوی الإجماع الّذي لا مدرك للمجمعین فیه ظاهراً من حیث المسألة، فیكشف عن كون الحكم علی القاعدة؛ وأمّا الحرج، فهو غیر وافٍ بالمدّعی، لأنّه لا یصحّ جعله نوعیّاً بعد تعدّد العناوین، فهو لغیر المحصور الّذي عرفت الحال فیه، وإن جعل شخصیّاً لزم منه التفصیل بین موارد الحرج وغیره، مع أنّه لم یفصّل أحد كذلك؛ وفيه عندي نظر؛ فانّ الحرج هناك قائم بالجمع بین مراعاة تلك الأحكام، فاللازم منه إلغاءه كذلك بمقدار الحرج، بخلاف المقام، لحصوله في بعض أفراد الشبهة دون بعض.

وأمّا تعمیمه بالنسبة إلی من علیه الحرج وغیره، فهو غیر ضائر، كما سبق نظيره، لكن یبقی الإشكال في شذوذ من الأحكام الّتي لیس فیه صلاحیة لتحقّق الحرج لا منفرداً ولا منضمّاً، لشدة سهولة الاحتیاط فیه هذا، مضافاً إلی أنّه لو كان مبنی الكلام هو اندراجه تحت غیر المحصور، كان اللازم الحكم بالبراءة مطلقاً، أو الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، لا تعیین المظنون، كما في سائر موارد غیر المحصور، إلّا أن یثبت هناك مانع خاصّ من لزوم الهرج والمرج، أو من تحقّق العلم الإجمالي في خصوص المظنونات، فلا یجوز تركها، أو نحو ذلك؛ وتفصیل ذلك موكول إلی محلّه.

ولو كان المستند هو اختصاص دليل الاحتیاط بالمحصور، فالظاهر

ص: 564

قصور الأدلّة عن إفادة الحكم في جمیع موارد المقام، فلابدّ من الاقتصار علی المتیقّن؛

ولو كان هو السابع، فهو جارٍ في المقام إن حصل فیه مناطه الّذي [هو] عدم كون المكلّف في عرضة المخالفة القطعیّة، كما یجري نظیره علی الثامن، ویظهر حال الأخیر ممّا تقدّم.

ثمّ إنّه لو بنینا علی البراءة، فهل يعمّ الحکم جمیع تلك الصور حتّی ما لو كان الحرام كثیراً والحلال قلیلا، أو كانا مساویین، أو لا؟

وجهان ممّا تقدّم ومن أنّ مناط المحصور جارٍ في الصورتین بعینه، ولا یبعد أن یكون المعیار بكون أفراد المحلّل ناقصاً عن عدد المحصور؛ فانّه لو أخذ ما یساویه من الأفراد مع زیادة واحد علیه یكون حرمة أحدهما معلوماً مع كون الأطراف محصوراً؛ واحتمال حرمة الزائد علی الواحد من باب العلم الإجمالي بالأكثر لا یوهن حكم العقل الإجمالي، بل یزیده قوّة وتأيیداً، فإخراج مثل ذلك عن تحت المحصور لا وجه له، فافهم؛ ولو لم یكن كذلك، بل كان العدد زائداً علی المحصور، فالمناط غیر منقّح، لمكان الانتشار الحاصل فیه، فلابدّ من الرجوع إلی ما قدّمنا.

وثانیها: ما حكي عن بعض مشایخ العصر من إخراج ما لو كان المحرّم المردّد بین غیر المحصور ممّا تعلّق غرض الشارع بعدم وقوعه في الخارج - كما إذا اشتبه نبيّ أو وليّ بین أهل بلد وسیع مع كون أهله كُفّاراً حَرْبِيِّيْنَ - فانّه لا یجوزالحكم بإباحة إهراق دمائهم وطرح العلم الإجمالي.

ص: 565

وأقول: إن كان ذلك لأجل كون المحرّم المفروض ممّا لا یجري الأصل في كلّ ما یحتمل انطباقه علیه نظراً إلی الجهة المذكورة، فهذا فرض انقلاب الأصل عن الإباحة إلی الحرمة في كلّ واحد من الأطراف بنفسه ولو لم یكن هناك علم إجمالي، ولو كان الأمر كذلك لم یكن بینه وبین سائر موارد انقلاب الأصل فرق ظاهر، فما الوجه في الاقتصار علیه، وإن كان مع فرض جریان الأصل في مشتبهاته بدواً فالحكم بالاحتیاط هنا غیر سدید؛ لأنّ الجهة المذكورة موجودة هناك أيضاً.

إلّا أن یقال: إنّه مبنيّ علی كون الأصل الإباحة في النوع الأوّل إلّا في هذه الصورة، نظراً إلی شدّة الاهتمام به بحیث نعلم أنّ الشارع لا یرخّص في شيء یحتمل معه تفویته، ومرجعه إلی العلم بعدم ترخیص الشارع في أطراف تلك الشبهة لذلك.

وثالثها: ما لو كان الأصل الجاري في المورد قاضیاً بالاحتیاط مع قطع النظر عن العلم الإجمالي، كما لو كانت الأطراف من قبیل الدماء والفروج والأموال عند عدم الأصول الخاصّة والأمارات القاضیة بالحلّ، وما إذا كانت الأطراف مستصحبة الحرمة بأنفسها، فانّ غایة ما ثبت من الأدلّة إلغاء العلم الإجمالي وإلحاقه بالبَدْوِیَّةٍ، وأمّا إلغاء احتمال الحرمة ورفع الشكّ الموجود فعلاً في كلّ من الأطراف فغیر ثابت، بل إطلاق دلیل تلك الأصول باقٍ بحاله وضعف الاحتمال هنا كما لو كان احتمال الحرمة في البدویّة ضعیفاً مع أنّه یعمل فیه بالأصل حتّی یعلم خلافه. وبالجملة،

ص: 566

فالعلم غیر حاصل هناك وبدونه لا یجوز الارتكاب للأصل.

وربّما یقال: إنّ احتمال الحرمة إذا كان ناشِئاً عن العلم الإجمالي بوجود الحرام بحیث یعلم بإباحته علی تقدیر عدم المصادفة - كما هو المفروض - فمقتضی ما مرّ من الدلیل الرابع هو عدم الاعتناء هنا أيضاً؛ لأنّ المفروض عدم اعتناء العقلاء باحتمال المصادفة، ولا شكّ من غیر هذه الجهة هنا حتّی یجب الإحتیاط لأجله.

وفیه نظر، فانّ غایة ما یسلّم من حكم العقلاء هو عدم ترتیب أحكام المعلوم إجمالاً بشيء من الأطراف - حتّی ولو من باب المقدّمة - لا ترتیب آثار العلم بكونه حلالاً مع عدم حصوله، فتدبّر.

ورابعها: ما لو قامت أمارة علی كون جملة من الأطراف حلالاً واقعاً بحیث كان عدد الأطراف الخالية محصوراً، فانّه ربّما یثبت بضمیمة العلم الإجمالي كون واحد من الموارد الخالیة هو الحرام مع انحصار الأطراف، فیحكم بوجوب الاحتیاط لأجله.

وفیه: إنّ أدلّة الأمارات وإن أثبتت بعض اللوازم غیر الشرعیة، إلّا أنّها قاصرة عن ترتیب مثل ذلك علیه، بل غایة ما ثبت منها ترتّب مطلق آثار مفادها علی موردها، لا ثبوت المقارنات الاتّفاقیة بها بعد إحراز الاقتران كما في المقام، وتحقیقه في محلّه.

ص: 567

المسألةُ الثانیة والثالثة

اشارة

ما إذا تردّد الحرام بین أمرین أو أمور محصورة مع الشبهة الحكمیة الناشئة (1) من فقدان النصّ أو إجماله.

ومثّل للثاني منهما بالغناء المردّد مفهومه بین مفهومین [و] بینهما عموم من وجه، فانّ مادّتي الافتراق من هذا القبیل، و [مثّل] بما إذا ثبت بالدلیل حرمة الأذان الثالث یوم الجمعة واختلف في تعیینه، ومثل قوله: «من جدّد قبراً أو مثّل مثالاً، فقد خرج عن الإسلام» (2)، حیث قرئ: جدّد بالجیم والحاء المهملة والخاء المعجمة، و [قرئ]: جدث بالجیم والثاء المثلثّة. (3)

ص: 568


1- . في المخطوطة: «حکمية ناشية».
2- . انظر: الوسائل: ج2/ ص868/ ح1.
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص275 و 276 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص35 و 36.

والظاهر إنّ شیئاً منها لیس مثالاً تحقیقیّاً للمقام، فانّ الغناء وإن احتمل فیه الوجهان، إلّا أنّه قد فسّر بما اجتمع فیه الترجیع مع الطرب أيضاً، فاحْتِمالُهُ یمنع من حصول العلم الإجمالي بمادّتي الإفتراق، فلا یعلم بحرمة الزائد علی الجامع نظراً إلی ذلك التفسیر، فالمرجع في الزائد هو البراءة.

وأمّا الأذان الثالث، فبعد فرض المساعدة علی كون الحرمة ذاتیة - كما هو الظاهر من محلّ البحث - [ف-]قد یقال بأنّ المتیقّن هو الأذان الّذي شرّعه الملعون الثالث ویرجع في غیره إلی البراءة.

وأمّا الأخیر، فهو وإن كان مجملاً لفظاً، إلّا أنّ بعض معانیه معلوم الحرمة تفصیلاً من الخارج، كما في تفسیر جدّد بتجدید القبر بمعنی قتل النفس - كما عن بعض - أو بمعنی نبشه كما عن [بعض] آخر - فما سوی ما علم حرمته من المحتملات يرجع إلی البراءة، فالضابط أن لا یتردّد المحكوم علیه بین أمرین متباینین لا یعلم حرمة شيء منهما.

وعلی کلّ حال، فالظاهر إنّ الحكم فیه هو الاحتیاط، لما مرّ في المحصور من أنّ مقتضی حكم العقل هو الاحتیاط، وأخبار الاحتیاط أكثرها مختصّة بالشبهة الموضوعیّة، وما یشمل الحكمیّة - أو یختصّ بها - مطلقات يمکن المناقشة في إطلاقها بما تقدّمه مراراً، وتوضیحه یظهر ممّا تقدّم مفصّلاً ویأتي في الوجوبیّة الحكمیّة إن شاء الله تعالی.

ص: 569

تذییل

من جملة أقسام الشبهة التحریمیّة صور دوران الأمر بین الأقلّ والأكثر.

قال بعض الأساطين: إنّ مرجع الشكّ فیها إلی الشكّ في [أصل] التكلیف، لأنّ الأكثر حینئذٍ معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأقلّ. (1)

وتفصيل الصور: إنّ الأقلّ والأكثر إمّا استقلالي، أو ارتباطي، وعلی التقدیرین إمّا خارجي، أو ذهني، وعلی التقادیر إمّا تكون الشبهة موضوعیة، أو حكمیة.

فالاستقلالي الخارجي في الشبهة الحكمیة كما لو شكّ في أنّ النذر [هل] یحصل حنثه بالمرّة الأولی بحیث لا یحرم الارتكاب بعدها أو لا، بل یحرم ذلك أبداً.

و [الاستقلالي الخارجي] في الموضوعیّة ما لو علم لزوم الحنث في النذر بالمرّات مثلا وفي ملزم آخر كالیمین، أو أمر من یجب إطاعته، أو بعض أقسام النذر بالمرّة فقط وشكّ في ما تحقّق في الخارج.

والاستقلالي الذهني في الحكمیّة ما لو شكّ أنّ الغناء [هَلْ هُوَ]

ص: 570


1- . انظر: بحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص316 وحاشية فرائد الأصول: ج2/ ص340.

الصوتُ المُطْرِبُ مطلقاً، أو مع الترجیع (1) مثلاً.

و [الاستقلالي الذهني] في الموضوعیة ما لو شكّ في تحقّق الترجیع في الصوت بعد إحراز كون المحرّم هو ما اشتمل علی الأمرین معاً.

والارتباطي الخارجي في الشبهة الحكمیة ما لو شكّ في أنّ المحرّم هو عمل الصور المجسّمة التامّة، أو مع الناقصة.

و[الارتباطي] الذهنيّ منها ما لو شكّ في أنّ المحرّم علی الصائم أو المعتكف [هل هو] أربعة أو خمسة؟ مثلاً.

وعلی كلّ حال، فالحكم في الجمیع هو البراءة في محلّ الشكّ ظاهر، لرجوعه إلی البدویّة؛ والفرق بینه وبین الوجوبیّة الّتي اختلف فیها إنّ الحكم هناك بدلي یكتفي في الخروج عنه بواحد، فلزوم الأكثر علیه كلفة غیر معلومة، بخلاف التحریمیّة، فانّه استغراقي، فإلزامه بترك مازاد علی المتیقّن غیر معلوم.

وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: إنّ الفارق بین المقامین إنّ الوجوب إلزام بالفعل، فإذا تردّد بین الأمرین انحلّ إلی علم بوجوب الأقلّ وشكّ في لزوم الزائد، بخلاف النهي، فانّه ینحلّ إلی علم بحرمة القدر المتیقّن الّذي هو الأكثر في

ص: 571


1- . وَتَرْجِيْعُ الصَّوْتِ: تَرْدِيْدُهُ في الحَلْقِ (الْفَمِ) کَقِراءَةِ أصْحابِ الألْحانِ - والتَّرْجِيْعُ - بِلِحاظِ مَعْنیٰ التَّرْدِيد (الإعادة) في الأذانِ مَعْروفٌ عِنْدَ العامّة وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ في مَذْهَبِ الْعِتْرَةِ.

الارتباطي وشكّ في غیره، كما هو الحال في الأوّل بالنسبة إلی مقام الامتثال، فانّ الأكثر هو المتیقّن أيضاً، وهو عمدة المنشأ في الخلاف هناك، فتدبّر.

ثمّ إنّ المنسوب إلی بَعْضٍ أنّه ذكر تصویر الدوران بین التعیین والتخییر هنا في الشبهة التحریمیّة أيضاً؛ فإن أراد به الأقلّ والأكثر علی نحو الشبهة الوجوبیّة حیث يدور الأمر فیها حینئذٍ بین التعیین والتخییر العقلي، فهو فاسد؛ لأنّ الحرمة بالنسبة إلی أفراده متعلّقها استغراقيّ، بمعنی توقّف امتثالها علی ترك الجمیع، نظراً إلی تحقّق المخالفة بوجود الطبیعة المتحقّق بأيّ فرد كان، بخلاف الواجب، وإن أراد به التخییر الشرعيّ، ففي صحّته إشكال مقرّر في محلّه، نظراً إلی رجوع النهي التخییري عن النهي عن صفة الاجتماع، كما في الجمع بین الأختین.

وأظهر ما یمكن التمثیل للحرام التخییري ما إذا اضطرّ المكلّف إلی أكل أحد الأمرین من المیتة ومال الغیر مع ارتفاع الضرروة بأكل أحدهما، فانّ كلّا ً منهما حرام حینئذٍ تخییراً بینه وبین الآخر من دون رجوعه إلی حرمة الجمع؛ لأنّ المفسدة ثابتة في كلّ من الخصوصیّتین من دون أن یكون لصفة الجمع خصوصیّة في ذلك.

وبالجملة، فحكم المسألة علی تقدیر فرضه یظهر مما سنحقّقه إن شاء الله تعالی.

ص: 572

المطلب الثاني: في اشتباه الواجب بغیر الحرام

اشارة

وهو علی قسمین؛ لأنّ الواجب إمّا مردّد بین أمرین متباینین - کما في مسألة الظهر والجمعة في یوم الجمعة - وإمّا مردّد بین الأقلّ والأكثر - كما إذا تردّد الواجب من الصّلاة بین ذات السورة أو السلام أو غیرهما وفاقدها - (1) ومثّل للأوّل أيضاً بتردّد الصّلاة الواجبة بین القصر والإتمام.

وربّما یشكل فیه

بأنّه لو كان القصر والإتمام من المتباینین بأن یكونا ماهِیَّتَيْنِ مختلفتین، لوجب قصد عنوانهما في مقام الامتثال، مع أنّ المشهور بین المحقّقین عدم وجوب قصد الخصوصیّة، كما ذكروا في موارد التخییر بینهما.

والجواب عنه

اشارة

إنّ ما یجب قصده من المتباینین إنّما هو ما كان كلّ منهما علی نحو التباین متعلّقاً للأمر، مثل أن یقال: صلّ الظهر وصلّ العصر

ص: 573


1- . الفرائد (للمجمع): ج2/ ص277 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص39.

وصلّ الصبح وصلّ نافلته، فیمكن الالتزام بوجوب قصد عنوان المأمور به حینئذٍ، وأمّا إذا لم یكن كذلك، بل كان عنوان المأمور به قدراً مشتركاً بینهما وإن كان تعیین خصوصیّات الأفراد أيضاً بید الشارع، فوجوب قصد خصوصیّة الفردین غیر معلوم كما في المقام، حيث أنّ متعلّق الأمر هنا هو صلاة الظهر والعصر وإن كان جعل كلّ من القصر والإتمام علی المكلّف من الشارع، كما في سائر اختلاف حالات المكلّفین الموجبة لاختلاف أحوال الصّلاة من العلم والجهل والقدرة والعجز والصحّة والمرض وضیق الوقت وسعته وأمثال ذلك، حیث أنّ الظاهر عدم التزامهم بوجوب تشخیص تلك الخصوصیّات في النیّة، فالتخییر والتعیین هنا كالتخییر والتعیین العقلیّین، أو هو منه حقیقة، فافهم.

هذا تحقیق حال المسألة إجمالاً، وإلّا فیكفي في خروج المسألة عن الأقلّ والأكثر كون الأقلّ مأخوذاً بشرط عدم الزائد، كما في المقام [من] حیث [أنّ] زیادة الركن، بل الأركان توجب فساد الصلاة المقصورة.

وكیف كان، فالكلام في الْقِسْمِ الأوّلِ یَقَعُ في مَسائِلَ:

الأوْلی

ما إذا اشتبه الواجب بغیره في الحكم الكلّي مع كون المنشأ فقد النصّ المعتبر؛ وفي كون الحكم فیه [هل] هو الاحتیاط، أو البراءة مطلقا، أو الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي؟ وجوه وأقوال.

ولعلّ الكلام هنا في غیر ما علم بالإجماع، أو غیره عدم جواز إهمال الواقع رأساً، وأمّا هو كما في مسألة الظهر والجمعة، فلا إشكال في انتفاء

ص: 574

الاحتمال الثاني وإن جری الكلام بالنسبة إلی الأخیر، والمشهور ظاهراً علی الأوّل، وعن المحقّق الخوانساري (1) والقميّ (2) طاب ثراهما الثاني، ودوران حرمة المخالفة القطعیّة مدار الإجماع وعلی تقدیر وجوده فالثالث وهو الاقتصار علی ذلك وعدم وجوب الموافقة القطعیّة إلّا في بعض الموارد.

ویدلّ علی الأوّل أمور:

الأوّل: إنّ المقتضي له موجود، وهو وجوب الأمر المعیّن في الواقع المعلوم إجمالاً علی المكلّف، والمانع عنه من العقل والشرع مفقود.

أمّا الأوّل، فلأنّ موضوع الوجوب الواقعي لیس مشروطاً بالعلم، بل هو شامل له وللجاهل مع العلم الإجمالي وبدونه، وإلّا لزم التصویب الباطل من وجوه أقلّها لزوم الدور الّذي ذكره العلّامة (3) (قدس سره)؛ لأنّ العلم بالوجوب تابع للوجوب، ضرورة تبعیّة العلم للمعلوم، فكیف یتوقّف الوجوب علیه؟ فإذا ثبت تحقّق الوجوب علی ذلك الأمر المردّد، لزم الخروج عنه ما لم یكن هناك عذر عقلي أو شرعي، وهو المراد بالمقتضي.

وأمّا الثاني، فلأنّه لا مانع منه سوی الجهل التفصیلي، وهو غیر مانع

ص: 575


1- . انظر: مشارق الشموس: ص267 وأيضاً الفرائد (للمجمع): ج2/ ص279.
2- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج2/ ص37 وأيضاً الفرائد (للمجمع): ج2/ ص280.
3- . انظر: منتهی المطلب: ج4/ ص230؛ ونقل عنه في الفرائد (للمجمع): ج2/ ص280.

عقلاً وشرعاً؛ أمّا العقل، فلما ذكره بعض الأساطین (رحمة الله علیه) من أنّ حكمه بالعذر إن كان من جهة عجز الجاهل عن الإتیان بالواقع حتّی یرجع إلی فقد شرط من شروط وجود المأمور به، فلا استقلال للعقل بذلك، كما یشهد به جواز التكلیف بالمجمل في الجملة، کما اعترف به غیر واحد ممّن قال بالبراءة في ما نحن فیه، وإن كان من جهة كونه غیر قابل لتوجّه التكلیف إليه، فهو أشدّ منعاً وإلّا لجاز إهمال المعلوم اجمالا رأساً، فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعیّة، وَلِقُبْحِ عِقابِ الجاهل المقصّر علی ترك الواجبات الواقعیّة وفعل المحرّمات كما هو المشهور. (1)

وأمّا النقل، فلیس ما يصلح للمانعیّة سوی عمومات البراءة الشاملة للشبهة الوجوبیّة الحكمیة، وجریانها في المقام ممنوع.

أوّلا: لأنّ إجراءها (2) في المقام یستلزم جواز المخالفة القطعیّة، وهو مخالف لصریح حكم العقل بحرمتها، فلابدّ فیه من التأویل. (3)

وثانیاً: إنّ العمل بها في كلّ من الموردین بخصوصه ینافي طرحها بالنسبة إلی أحدهما المعیّن عند الله المعلوم وجوبه، فانّ وجوب واحدة من

ص: 576


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص280 و 281.
2- . قال الميرزا موسی التبريزي: قد أوضحه في الشبهة المحصورة وسيشير إليه في الجواب عمّا أورده علی نفسه. الفرائد (مع حواشي الأؤثق): ج4/ ص47.
3- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص281.

الظهر والجمعة أو من القصر والإتمام لیس محجوباً عنّا ولسنا في سَعَةٍ منه. (1)

وثالثا: إنّ غایة مدلول تلك الروایات هو البراءة أو الحلّ من حیث هو مشكوك ومشتبه، فلاینافي طریان الوجوب علیه باعتبار كونه مقدّمة علیه للواجب وواجباً من جهته كما هو المدّعی، فلا یصلح مانعاً من هذه الجهة.

وقد یورد علیه بوجوه:

أحدها: إنّ ما ذكره في منع المانع العقليّ غیر تامّ، لما قرّروه في محلّه من قبح التكلیف من دون بیان، وإنّه لا تكلیف إلّا بعده، وإنّ تكلیف الجاهل قبیح في قبال الأخباریّة، فانّ هذا الحكم العقلي حكم ابتدائي عقلي لیس تابعاً لامتناع التكلیف بما لایطاق وغیره، وإلّا لما صحّ التمسّك به هناك في قبال الأخباریّة أيضاً، وحینئذٍ فنقول: إنّ المكلّف في المقام وغیره من جمیع الشبهات الحكمیة جاهل بالحكم الشرعي، فلا یجوز تكلیفه، وذلك لأنّ الحكم عبارة عن خطاب المتعلّق بأفعال المكلّفین، أو عن المحمولات المنتسبة إلی موضوعاتها، أو القضایا، أو النّسِبَ التامّة؛ وعلی كلّ تقدیر، فلابدّ في كونه معلوماً من العلم بالموضوع والمحمول والنسبة، فإذا فرض الجهل بواحد منها، فهو جاهل بالحكم الشرعي؛ ولمّا كان المكلّف هنا جاهلاً بموضوع الخطاب والنسبة الخاصّة، كان جاهلاً بالحكم حقیقة وإن

ص: 577


1- . انظر: تعليقة علی معالم الأصول: ج6/ ص171.

كان عالماً بالمحمول المردّد، كما أنّ الجاهل بزید أو بالقیام أو بالنسبة، جاهل بقیام زید.

ودعوی أنّه وإن لم یكن عالماً بالحکم تفصیلاً، لكنّه عالم به إجمالاً في المقام، وهو كاف في الخروج عن حكم العقل المذكور مدفوعة بأنّ العلم لا إجمال فیه أبداً ولا ینقسم بنفسه إلی قسمین، بل العلم الإجمالي إنّما هو بالنسبة إلی متعلّق العلم، فهو ینقسم إليهما باعتبار متعلّقه، فإن كان أمراً معیّناً عند العالم بخصوصیّاتها، سمّي علماً تفصیلیّاً، وإن كان متعلّقه أمراً مجملا مرّدداً بین شیئین أو أشیاء، سمّي إجمالیّاً.

وحینئذٍ فنقول: إنّ أحدهما لیس متعلّقا للوجوب واقعاً وإنّما الواجب هو خصوص واحد منهما، فما تعلّق به الوجوب غیر معلوم وإنّما المعلوم هو أحدهما، وهذا بخلاف الشبهات الموضوعیّة - وجوبیّة أو تحریمیّة - فانّه إن قلنا بكفایة العلم بالكبری وحده في تنجّز الخطاب، فلا إشكال، وإلّا فغایة لزوم (1) العلم بالصغری هو العلم بوجوده الصادق في مورد العلم الإجمالي، لا العلم بأنّ هذا الشيء هو خمر حتّی تحتاج فیه إلی العلم بمحلّه، فانّ العلم بمحلّ الموضوع لیس معتبراً في التنجّز رأساً، بخلاف محلّ الوجوب والحرمة، لتوقّف بالحكم الشرعيّ علیه.

وأمّا ما ذكره أخیراً من أنّه لو كان غیر قابل للتكلیف لجازت المخالفة

ص: 578


1- . ولکن في المخطوطة: «فغاية من لزوم».

القطعیّة، فیدفعه الالتزام به في غیر مورد الإجماع والضرورة، وممّا ذكره من أنّه لم یصحّ عقاب الجاهل المقصّر، ففیه إمكان التفرقة بین المقامین، فإنّ الظاهر أنّ الجاهل الّذي یحكم العقل بقبح تكلیفه هو الجاهل غیر المتمكّن من تحصیل العلم بالحكم في الشبهة الحكمیّة.

وأمّا من یتمكّن من إزالة الجهل عن نفسه، فیتّجه تكلیفه مع العلم الإجمالي، أو مطلقا ممّا لا شبهة فیه جزماً؛ وإن شئت قلت: إنّ شرط التكلیف هو التمكّن من العلم، لا العلم نفسه، وبه یتمّ المدّعی؛ لاشتراط الفحص في جریان البراءة في الشبهة الحكمیّة ولو مع قطع النظر عن العلم الإجمالي. ومنه یمكن دفع إشكال الدور الّذي أورده في إثبات المقتضي.

والجواب عنه: إنّ القَدرَ المُسَلَّمَ من حكم العقل والعقلاء بقبح تكلیف الجاهل هو الجاهل بالحكم رأساً، وأمّا الجهل المقترن بالعلم الإجمالي، فلا قُبْحَ في تكلیف صاحبه عَقْلاً عند تمكّنه من الاحتیاط وإن كان جاهلاً عند التحقیق، فانّه لیس هنا دلیل لفظي حتّی یتمسّك بإطلاقه، ونحن لمّا راجعنا وجداننا لم نجد فیه مانعاً عنه، بل العقل بعد علمه بالحكم یُلزم بالاحتیاط، كما یشهد له بناء العقلاء كما یأتي إن شاء الله تعالی؛ مضافاً إلی أنّ جعل الحكم بالمعاني المذكورة غیر متّجه، بل الظاهر أنّ المعیار في حكمه هو الجهل بالحكم التكلیفي الّذي هو نفس المحمولات من الوجوب والحرمة ونحوهما، فانّ تحقّقه هو المؤثّر في وجوب الإطاعة وإن توقّف ثبوته واقعاً علی موضوع یقوم به، فافهم.

ص: 579

وثانیها
اشارة

ما ذكره المحقّق القمي (رحمة الله علیه) ردّاً علی المحقّق الخوانساري (رحمة الله علیه) وإن وافقه في بعض كلماته الأخری (1)، بل دقیق النظر في كلامه المورد علیه لا یقتضي المخالفة أيضاً حیث فرض الیقین بالتكلیف وتصریح الأمر، فهو من قبیل ما لو اعترف به.

قال بعد نقل كلامه: وأقول: وإن كان مقتضی النظر الجليّ هو ما ذكره، ولكن دقیق النظر یقتضي خلاف ذلك، فإنّ التكلیف بالأمر المجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فرد معیّن عند الشارع، مجهول عند المخاطب، مستلزم لتأخیر البیان عن وقت الحاجة الّذي اتّفق أهل العدل علی استحالته، وكلُّ ما یُدّعیٰ كونه من هذا القبیل فیمكن منعه؛ إذ غایة ما یسلّم في القصر والإتمام والظهر والجمعة وأمثالهما أنّ الإجْماعَ وقع علی أنّ من ترك الأمرین بأن لا یفعل شیئاً منهما یستحقّ العقاب، لا أنّ من ترك أحدهما المعیّن عند الشارع المبهم عندنا بأن ترك فعلهما مُجْتَمِعَیْنِ یستحقّ العقاب.

ونظير ذلك مطلق التكلیف بالأحكام الشرعیّة، سیّما في أمثال زماننا علی مذهب أهل الحقّ من التخطئة، فانّ التحقیق أنّ الذي ثبت علینا بالدلیل هو تحصیل ما یمكننا تحصیله من الأدلّة الظنّیة، لا تحصیل الحكم النفس الأمري في كلّ واقعة؛ ولذلك لم نقل بوجوب الاحتیاط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي في أوّل الأمر أيضاً.

ص: 580


1- . في المخطوطة: الآخر.

نعم لو فرض حصول الإجماع، أو ورود النصّ علی وجوب شيء معیّن عندي متردّد بین أمور من اشتراط بالعلم به المستلزم ذلك الفرض لإسقاط قصد التعیین في الطاعة لتمّ ذلك، ولكن لا یحسن قوله: «فلا یبعد حینئذٍ القول بالوجوب»، بل لابدّ من القول بالتعیین والجزم بالوجوب، ولكن من أین هذا الفرض وأنّی یمكن إثباته؟ (1)

إنتهی محلّ الحاجة من كلامه، ومرجعه إلی إنكار المقتضي، كما یظهر من بعض كلماته السابقة علیه أيضاً.

واعترض علیه عمّي (2) العلّامة (قدس سره) بما حاصله:

تارة إنّ المجمل الّذي اتّفقت مقالة العدلیّة علی قبح التكلیف به من دون بیان، هو ما لا سبیل للمكلّف إلی امتثاله، بدلیل أنّ جلّ المحقّقین أو كلّهم يلتزمون ببقاء التكلیف في نظائر المقام ممّا یشتبه فیه الواجب أو الحرام بغیر الآخر ویوجبون فیه الاحتیاط، بل حكمهم بالتخییر في ما تعارض فیه الأدلّة ناظر إلی بقاء التكلیف، كما هو [ظاهر] من أخباره، وذهب كثیر من القائلین بأنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحیح إلی أنّ المسمّی مجمل،

ص: 581


1- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص86؛ الفرائد (للمجمع): ج2/ ص5284 و 28؛ الفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص 56-54 وبحر الفوائد في شرح الفرائد: ج5/ ص336 وج4: ص605 و 606.
2- . انظر: الفصول الغروية: ص358.

فأوجبوا الاحتیاط عند الشكّ في الشرط والجزء.

وأخری إنّ ما استدركه بقوله: «نعم»، مخالف لكلامه السابق؛ لأنّ حكمهم بالاستحالة لأجل أنّه تكلیف بما لا یطاق - كما صرّحوا به - وامتناعه ضروريّ لا یمكن قیام دلیل علیه، ولیس لاشتراط قصد التعیین في الطاعة كما یظهر من بیانه؛ لاختصاصه بالبعض القائل به - كما حكاه عن الشهید (رحمة الله علیه) - فكیف تبتني المسألة الوفاقیّة علی الخلافیّة؟ مع أنّ الاشتراط المذكور من المسائل الظنّیة وهم قاطعون في تلك المسألة بالاستحالة، فكیف یبتني حكم قطعيّ علی ظنّي؟! مع أنّ التكلیف لا یستلزم اشتراط قصد التعیین؛ لأنّه أعمّ من الواجب غیر المشروط بالنیّة ومن الحرام، فكیف یصحّ إطلاق القول بالإستحالة؟ مع أنّ إطلاق الأمر دلیل في جمیع موارد المقام علی ما ذكره في الاستدراك، فكیف جعل قیامه علیه مجرّد فرض غیر واقع؟! (1)

مُضافاً إلی أنّ المقدار اللازم من قصد التعیین هو تعیین المطلوبیّة في الجملة، وهو حاصل في كلّ من الفردین؛ لكونه معلوم المطلوبیّة ولو من باب المقدّمة؛ هذا.

واعترض علیه بعض الأساطین أيضاً - مُضافاً إلی بعض ما مرّ - بأنّ ما ذكره من حدیث التكلیف بالمجمل وتأخیر البیان عن وقت الحاجة لا

ص: 582


1- . انظر: الفصول الغروية في الأصول الفقهية، ص358.

دخل له بالمقام؛ إذ لا إجمال في الخطاب أصلاً وإنّما طرأ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبیّن بین أمرین، وإزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب الِاختفاء غير واجبة علی الحكیم تعالی حتّی یقبح تأخیره عن وقت الحاجة، بل یجب الرجوع حینئذٍ إلی ما قرّره الشارع كلّیة للوقائع المختفیة، وإلّا فما یقتضیه العقل ونحن ندّعي أنّه الاحتیاط حینئذٍ، وأین ذلك من مسألة التكلیف بالمجمل وتأخير البیان عن وقت الحاجة؟

ثمّ إنّ ما ذكره تبعاً للمحقّق المتقدّم من الاعتراف بوجوب الِاحتیاط في الصورة الأخيرة، ففیه اعتراف بعدم كون العلم شرطاً عقلیاً، وإمكان إطلاق التكلیف واشتراط التكلیف به شرعاً غير معقول؛ لأنّ الخطاب الواقعي لا یعقل أن یكون مشروطاً بالعلم به تفصیلاً. (1) إنتهی ملخّص محلّ الحاجة من كلامه.

أقول: يمکن انتصار المحقّقین المتقدّمین ودفع الإشكالات منهما بأن یقال: إنّ الوجه في قبح التكلیف بالمجمل وتأخیر البیان إنّما هو لزوم التكلیف بما لایطاق، أو كونه نقضاً للغرض من الخطاب الّذي هو البیان، أو التكلیف الّذي هو الامتثال المتوقّف علی البیان، أو كونه إغراء بالجهل، أو كونه منافیاً للّطف الواجب علی الله سبحانه في الحكمة من حیث لزوم

ص: 583


1- . انظر: الفرائد (للمجمع): ج2/ ص286 و 287 والفرائد (مع حواشي الأوثق): ج4/ ص57 و 58.

إرشاد العباد إلی أحكامه ومصالحهم ومفاسدهم، أو علی الوسائط بینه وبین عباده حیث أنّ مقتضی منصبهم هو بیان أحكامه سبحانه لهم، أو أنّه بنفسه قبیح ذاتي نظراً إلی تجهیل المكلّف وحمله علی أمر مجهول من دون مانع عن البیان قبیح، نظراً إلی حضور محلّ الحاجة، كما یشهد له ملاحظة الوجدان، فانّه لو قال المولی لعبده: «إیتني بشيء» كان قبیحاً إذا لم یكن هناك مانع عن البیان ولو فرض له تعیّن في الجملة، وتفصیل الوجوه موكول إلی محلّه.

وحینئذ فنقول: لو كان منشأ القبح في المسألة المذکورة هو أحد الأمور الأربعة الأُوَل لم یجرما یسلّم قبحه في مثل المقام، وأمّا لو كان المنشأ هو الوجه الأخیر لم یختصّ بما لا یتمكّن المكلّف من امتثاله قطعاً، كما هو یقتضيه الوجدان في قول المولی لعبده: «إیتني بواحد من الأمور العشرة فوراً»، إلّا أن یكون هناك مانع عن البیان لما فیه من تجهیل المخاطب وحمله علی المجهول من دون سبب وخروجه عمّا یقتضیه العقل والعادة.

ثمّ إنّه لا فرق فیه بین أن یكون الخطاب ابتدائیاً أو مسبوقاً بخطاب مبیّن سابق علیه، كما لو قال المولی لعبده: «إیتني بشيء» وعیّنه له، ثمّ مات العبد، أو غاب، فقال للآخر: «إیتني بما أمرت به العبد الأوّل» ولم يعیّنه له، فانّه أيضاً قبیح عند عدم الموجب له، أو أمر أمراً عامّا وعیّنه لبعض المأمورین دون بعض، لتحقّق القبح في حقّ الجاهلین أيضاً، فیتّجه من ذلك كلّه ما ذكره المحقّق القميّ (رحمة الله علیه).

ویندفع ما أورد علیه لما عرفت من عدم التفرقة بین إمكان الامتثال

ص: 584

وعدمه؛ وما ذكر من أنّه لا إجمال هنا في الخطاب، یندفع بأنّ وجوب الأمر المردّد في المقام لابدّ له من دلیل یدلّ علیه، وإلّا فالأصل البراءة كما ذكره، والدلیل إمّا إطلاق الخطاب بشمول الخطاب الشفاهي للغائب، أو لكونه غیر خطاب كقوله تعالی:[﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (1)].

وأمّا أدلّة الاشتراك في التكلیف

فإن كان الأوّل، فیتّجه ما تقدّم من عدم جوازه إلّا مع المصلحة بالبيان المتقدّم، نظراً إلی تأخّر بیان المكلّف به لهذا العصر عن محلّ الحاجة مع توجّه التكلیف إلیهم، فیدور الأمر بین وجهین: إمّا التزام وجود المصلحة المانعة عن البیان للكلّ بأن یذكر فیه قرینة معیّنة، أو یرفع الید عن عموم اللفظ؛ وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصول الجهتیّة كأصالة عدم التقیّة ونحوها، مقدّمة علی الأصول اللفظیّة، ولا أقلّ من التساوي، فيرتفع الدلیل علی إثبات التكلیف لنا؛ علی أنّه بعد العلم بحصول المانع عن بیان الحكم علی ما ینبغي لا وجه للتمسّك بظاهره، فانّ التمسّك به بعد إحراز كون المتكلّم في صدد بیان الحكم الواقعي وعدم المانع عنه، وإلّا فیحتمل كونه إظهاراً للتکليف صورة مع كونه حكماً حقیقة للجاهلین.

ص: 585


1- . سورة آل عمران، الآية 97. في المخطوطة ترجمة هذه الآية بما هذا لفظه: و از برای... بر مردم حج خانه، بَدَلَ نَصِّ الآيةِ الشَّرِّيفَةِ وَلکِنْ جَعَلْنَا نَصَّ الآيةِ مَکانَها.

وإن كان الثاني، فهو - مضافاً إلی أنّه بمنزلة التعمیم في الخطابات الأولیّة وتسريتها إلیها، فیجري فیه نظیر ما تقدّم - مدفوع بما ذكره المحقّق المذكور في صدر كلامه حیث قال: فإذا علمنا التكلیف بالصّلاة في الجملة، فلا یثبت اشتغال ذمّتنا إلّا بما ظهر لنا أنّه صلاة إمّا بالعلم، أو الظنّ الاجتهادي بأنّه هو الصّلاة، ولم یثبت اشتغال ذمّتنا بما هو صلاة في نفس الأمر خاصة، فإنّ الألفاظ وإن كانت أسامي للأمور النفس الأمریّة ولكنّ التكلیف لم یثبت إلّا بما أمكننا معرفته، لعدم توجّه الخطاب الشفاهي إلينا حتّی یتّبع ظاهره بعد تسلیم ظهوره فیه وعدم ثبوت الاشتراك بسبب الإجماع إلّا في ما أمكننا علماً، أو ظنّاً، لاستحالة التكلیف بالمحال في بعضها ولزوم العسر والحرج المنفيّ في أكثرها؛ مع أنّا قد أشرنا في مباحث الأخبار إلی أنّ طریقة مكالمة الشارع هو طریق العرف، فانّهم یكتفون بظاهر (1) أفهام المكلّفین، فلا یجب علی الشارع أن یتفحّص عن المخاطب أيضاً هل فهم المراد الواقع النفس الأمريّ، أو شیئاً آخر؟ فانّه ممّا لا یمكن غالباً.

إلی أن قال: فلم یعلم من الخطابات المتوجّهة إلی المشافهین إلّا تکليفهم بما بیّنوه لهم وأعلموهم أنّه هو الصّلاة، مثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «صلّوا كما رأیتموني أصلّي»، أو أمكنهم معرفة أنّه هو الصّلاة؛ ولم یظهر أنّ الخطابات المتوجّهة إلیهم كانت خطاباً بما في نفس الأمر مع عدم علم المخاطبین بما في

ص: 586


1- . في المخطوطة مکتوب تحته «ظهور».

نفس الأمر حتّی یقال: إنّا أيضاً مشتركون معهم في ذلك، للإجماع علی الإشتراك؛ (1) إنتهی، وفیه تأييد لما ذكره من قبله.

ومحصّل الجواب عن قاعدة الاشتراك: إنّ غایة ما ثبت من قاعدة الِاشْتِراكِ - من الإجماع والأخبار وغیرهما - هو أنّ الزمان والحضور والغیاب وتعدّد الأعصار لیست مغیّرة للأحكام، بل الحكم الثابت في العصر السابق بجمیع شرائطه المعتبرة فیه ثابت في العصر اللاحق أيضاً، وإنّ الشریعة كافیة أبد الدهر، وأمّا إنّ الحكم الثابت حین العلم التفصیليّ ثابت للجاهل به غیر المتمكّن من العلم، فهو ممّا لا ربط له بقاعدة الاشتراك بعد اختلاف الصنفين.

ثمّ إنّ ما ذكره عمّي العلّامةُ من إخراج صورة التمكّن من الامتثال عن القاعدة، لما ذكره من الموارد المذكورة فغیر سدید؛ لأنّ احتمال غفلتهم عن أصلهم محتمل في حقّهم وتمامیّة كلامهم هو محلّ النزاع في المقام وشبهه.

وما ذكره ثانیاً مدفوع بأنّه لا مخالفة بین الكلامین، فإنّ الممنوع عنه هو التأخیر عند عدم المصلحة الموجبة له، كما سبق وقیام الدلیل الخاصّ كاشِفٌ عن تحقّقها بضمیمة حكم العقل.

وما ذكره من نفي ابتناءه علی نیّة التعیین بعد تسلیمه غیر ضائر، بل الأولی الاستناد إلی ما قدّمناه.

ص: 587


1- . انظر: هداية المسترشدين: ج3/ ص572.

وما ذكره من أنّ إطلاق الأمر دلیل قد ظهر حاله ممّا ذكرنا، علی أنّه لو كان متعلّقه عبادة أشكل التمسّك به؛ لأجل كونه مشروطاً بنیّة التعیین عند المخاطب المتمكّن من تحصیل الامتثال بالإجماع المدّعی في مثله، وقد اعترف به أيضاً، فإثبات الأمر بدون شرطه بقاعدة الاشتراك بعد اختصاص أكثر الخطابات بالمشافهین غیر سدید بعد امتناع الإتیان بشرطه.

وما ذكره في بیان إمكان قصد التعیین ستعرف ما فيه إن شاء الله تعالی.

وأمّا ما ذكره بعض الأساطین (رحمة الله علیه) فقد عرفت ما یمكن به دفع اعتراضه الأوّل، وكذا ما ذكره أخیراً، فانّ التكلیف مطلقاً ممكن، لكنّ الخطاب به عند الاختیار وعدم المصلحة غیر جائز، كما سبق بیانه.

وأمّا إنّ اشتراط التكلیف شرعاً بالعلم غیر جائز، ففیه نظر:

أمّا أوّلاً، فلأنّ الاشتراط بنفس العلم وإن سُلِّمَ امْتِناعُهُ، إلّا أنّ اشتراط التمكّن من العلم لإخراج الجاهل القاصر ونحوه غیر ضائر؛ إذ لا دور فیه ولا قبح بأن یجعل الحكم مختصّاً بالمتمكّنین من تحصیل أحكامه ومن له طریق یوصله إليه؛ وغایة الأمر أن یكون المعتبر في الحكم كونه بحیث یتمكّن من الوصول إلی الحکم بعد صدوره، كما یظهر من الكلام المتقدّم.

وأمّا ثانیاً، فلأنّا نمنع امتناع الاشتراط بالعلم، بل یصحّ أخذه شرطاً علی نحو اشتراط قصد القربة في الأوامر التعبدیّة بأن یأمر أوّلاً بنفس المشروط من دون تقیید بأمر یجري مجری الأمر المقدّمي، ثمّ یأمر بالمشروط

ص: 588

مع شرطه، أو بنفس الشرط مثلاً یقال أوّلاً: صلّ، من دون تقیید، وهو أمر جيء به للتوطئة، ثمّ یقال: [أقيموا الصّلاة] (1) المأمور بها، أو عارفاً بأحكامها تفصیلاً، فیكون العلم شرطاً للواجب، وبتعذّره یسقط التكلیف رأساً.

وأمّا ثالثاً، فلأنّ اشتراط علم المكلّف بتكلیفه - لو سلّم امتناعه - فلا امتناع في أن یكون العلم بتكلیف الغیر شرطاً في تعلّق الخطاب به كما في المقام، فإنّ الخطابَ الأَوَّلَ مُخْتَصٌّ بِالْحاضِرِیْنَ غالِباً، فكما یمكن الحكم بإجرائه في جمیع المعدومین في أزمنة وجودهم، كذا یمكن الحكم باشتراك العالمین منهم بتكلیف الحاضرین تفصیلاً معهم في الحكم دون غیرهم، ونظیره اشتراط العلم بحرمة فعل الغیر علیه في وجوب نهیه عن المنكر في وجه.

هذا غایة ما أمكن لنا في توجیه كلام المحقّقین المتقدّمین، وهو بعدُ غیر سلیمٍ مِنَ الإشكال، بل الظاهر خلاف ذلك.

وتحقیقه

إنّ قاعدة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ممّا لیس لها مسرح في مثل المقام ولو كان منشأه القبح الذاتي وجری في نحو الأمثلة المتقدّمة بعد تسلیم صحّته وتمامیّته، فإنّ ما نحن بصدده إنشاء المولی حكماً

ص: 589


1- . في هامش المخطوطة: «بپا داريد نماز را» بدل «أقيموا الصّلاة» ولکن جعلناها مکانه.

لجمیع عبیده إذا بیّنه للحاضرین منهم وأمر بتبلیغ الحاضرین الغائبین، فقصّروا في التبلیغ أو امتنع التبلیغ لأجل مانع، فعلم الغائبون الحكم إجمالاً مع تمكّنهم من الاحتیاط، فانّ الظاهر أنّ العقلاء ملتزمون في مثله بوجوب الاحتیاط لو لم یمنع عنه مانع، أو كتب طوماراً لعبیده وأمر الحاضر منهم إیصاله إلی الغائب، فتلف الطومار عن قصور من الحاضر أو تقصیر، فإنّك لا تجد في نفسك عند التأمّل شائبة من القبح المذكور؛ لكون البیان المتعارف عند العقلاء هو هذا النحو من التبلیغ وقد اقتضی الحكمة الإلهیّة بتبلیغ الأحكام علی مجاري العادات، فلا ضیر من شمول الخطاب الأوّل لنا معاشر المتأخّرین، كما لا ضیر في تعمیمه إلینا بقاعدة الاشتراك بعد العلم بطروّ المانع الّذي هو اجتناب الحجّة عجّل الله تعالی فرجه الشریف، فما ذكره بعض الأساطین في المقام سدید، لا محیص عنه بعد التأمّل.

وأمّا ما ذكره (قدس سره) في المنع عن جریان قاعدة الِاشْتِراكِ أولا من عدم ثبوته إلّا في ما أمكننا معرفته لاستحالة التكلیف بالمحال ولزوم العسر، فیدفعه أنّ قاعدة الاشتراك الثابت بالإجماع ونحوه یثبت وجود الأحكام الواقعیة في حقّنا، کما كانت ثابتة في حقّهم، فَمُفادُها لیس إلّا الاشتراك في الحكم الشأني الواقعي؛ وحینئذٍ فإن كان مراده اختصاص الحكم الواقعي بالمتمكّن من العلم به، فإن كان ذلك جاریاً في حقّ المشافه والغائب، بل وفي جمیع الأحكام أيضاً لوجود المناط فیها توجّه علیه ما سنذكره من عدم اختصاص الحكم الواقعي به، ولا ربط له بالكلام في قاعدة الاشتراك.

ص: 590

وإن كان الاشتراط مختصّاً بالْغائِبِینَ دون الحاضِرِیْنَ، تَوَجَّهَ علیه أنّه مُنْتَفٍ بقاعدة الاشتراك؛ إذ هو إثبات حكم واقعيّ في حق الغائب لأجل أنّه غائب، أو معدوم (1) مغاير لحكم المشافه، ضرورة تغاير الخطاب المطلق والمشروط، سواء كان شرطاً للحكم، أو المحكوم علیه.

وإن كان مراده اختصاص الحكم الفعلي بعد تسلیم الحكم الثاني فلابدّ له من إثبات مانع عن الفعلیة من العقل أو الشرع، ولا یكفیه دعوی عدم الدلیل، كیف؟ والمانع الفعلي أمر محسوس لابدّ من تعیینه والمانع الشرعي لابدّ من إحرازه وإثباته في رفع الید عن التكلیف.

ثمّ إنّ ما ذكره من منع تكلیف المشافهین بما في نفس الأمر، إن أراد به الحكم الواقعي، فهو ما هو في نفس الأمر، فلا یعقل منعه؛ وإن أراد الحكم الظاهري، ففیه إنّ منصب قاعدة الاشتراك هو الأحكام الواقعیّة الّتي منها كلّیات الأحكام الظاهریّة المجعولة، ولا حاجه في إثباته إلی أزید من إثبات الحكم الواقعي وعدم مانع عن تنجّزه عقلاً أو شرعاً كما تقدّم، فتحقّق المانع عن التنجّز في حقّهم وعدمه لا ربط له بما نحن فیه.

مُضافاً إلی ما في بیانه من المناقشة، فإنّ الغالب في خطاب المشافهة حصول العلم بالمراد الفعلي عند عدم المانع من تقیّة ونحوها، فكیف یمتنع بیان التكلیف بالواقع غالباً ولا ینتهي إلی التسلسل، والظنّ حاصل بتحقّق

ص: 591


1- . في المخطوطة: «معدم».

التكلیف لهم بما في نفس الأمر، والظاهر أنّ مقتضی مذاقه الاكتفاء في أمثال ذلك بالظنّ.

وأمّا الوجوه المذكورة لمعقولیة اختصاص التكلیف بغیر الجاهل، فإن أرید منها كون الحكم الظاهري مختصّاً، ففیه ما عرفت من عدم الحاجة إلی إثبات التعمیم بعد إحراز المقتضي وعدم ظهور المانع.

وإن أرید منها اختصاص الحكم الواقعيّ، فهي فاسدة:

أمّا الأوّل، فلأنّ تخصیص الحكم الواقعي بمعنی التمكّن (1) من العلم، فما دلّ علی بطلان التصویب وإثبات الحكم المشترك بین الجاهل والعالم من الأخبار المُدَّعیٰ تواترها والإجماع وغیرهما كافٍ في إبطاله، فانّ المجتهد المخطيء بعد بذل جهده غیر متمكّن بحسب حاله من تحصیل الواقع، كالقاصر الصرف، وتحقیقه موكول إلی محلّه.

ومنه یظهر الجواب عن الثاني، بل فساده أوضح؛ لأنّه تصویب صرف، بل توجیه لذلك المذهب الفاسد.

وأمّا الثالث، فلأنّه مُنافٍ لقاعدة التخطئة وقاعدة الاشتراك في التكلیف كلیهما، أو تكلیف الحاضرین مطلق بالنسبة إليه، فلو فرض جهلهم به؛ إذ لولاه لكان تصویباً صرفاً، فتخصیص الحكم المجعول في حقّ الطبقة المتأخّرة بالعالمین منهم إثبات لحكم آخر مغاير للحكم الأوّل في

ص: 592


1- . في المخطوطة: «تمکّن».

حقّهم علی نحو ثبوته علی الأوّلین وتخصیص للخطاب بالعلم ولو بحكم الغیر؛ لأنّه في معنی اعتبار العلم بتكلیف نفسه بعد ملاحظه الملازمة؛ ومادلّ علی اشتراك الحكم الواقعي ینفي مثل ذلك أيضاً، والمثال المتقدّم من اعتبار العلم بالموضوع في الحكم لا اعتبار العلم بالحكم، فافهم وتدبّر.

وثالثها
اشارة

[ف-]إنّ ما ذكر في منع مانعیّة إطلاقات البراءة غیر سدید:

أمّا الأوّل، فلما ذكر في الشبهة المحصورة من منع كون العلم الإجمالي علّة تامّة، فیكفي في دفعها أدلّة البراءة؛

نعم ما كان منها مقرّرة لحكم العقل بظاهرها لا یَصِحُّ التمسّك بها هنا بعد عدم اقتضاء العقل البراءة هاهنا، إلّا أن یجعل إطلاقها لما نحن فیه قرینة علی عدم كونها تقریراً لحكم العقل.

وأمّا الثاني، فلما مرّ نظیره سابقاً في الشبهة المحصورة أيضاً من شمول مثل العلم الإجمالي، وذلك لأنّ متعلّق الرفع والحجب ونحوهما هو الخصوصیّات الخارجیّة سواء كان المتعلّق هو الموضوع غیر المعلوم حكمه أو نفس الحکم، أمّا علی الأوّل فظاهر؛ إذ لیس شيء من الظهر والجمعة معلوم الحكم وأحدهما لیس متعلّقاً للحكم بنفسه؛ وكذا علی الثاني؛ لأنّ المراد من الحكم حینئذٍ لیس هو مطلق الوجوب حتّی یكون معلوماً في المقام، بل المراد به إمّا هو الأحكام الخاصّة المتعلّقة بموضوعاتها، أو ما يقرب من ذلك؛ إذ المرفوع والموضوع ونحوهما لا یعقل تعلّقه إلّا بالأحكام الخاصّة دون مطلق الوجوب، لأنّ رفع ذلك رفع لأصل الدین، وقد سبق

ص: 593

ما یوضّح المقام في الإشكال الأوّل.

وفي تلك المسألة علی أنّه لو سلّمنا دلالة المفهوم علی الشغل کان مُزاحِماً لدلالة المنطوق وظهوره من حیث كونه منطوقاً ومن حیث الخصوصیّة أقوی، فلابدّ من طرح عموم المفهوم هنا کما مرّ نظيره هناك؛

مضافاً إلی أنّه قد یقال: إنّه علی تقدیر تمامیّة الدلالتین، یكون ظهور المنطوق في الترخیص والإذن - ولو باللازم - حاكماً علی مفاد المفهوم؛ لأنّ المفهوم الدالّ علی لزوم مراعاة التكلیف المعلوم مقرّر لحكم العقل ولا تأسیس فيه لحکم خاصّ لموافقته مع العقل في تمام مدلوله وعدم معقولیّة جعل القطع حجّة، أو جعل الإطاعة واجبة شرعيّة، اعترف بهما بعض الأساطین، فبعد كون حكم العقل تعلیقیّاً متوقّفاً علی عدم ترخیص الشارع، كان المنطوق المفيد للإذن حاكماً علیه وعلی ما یقرّره كالمفهوم المذكور، فتأمل.

وأمّا الثالث، فلأنّ المنع من التمسّك بالإطلاق هنا غير سديد، وقياسه بعدم المنافاة بین الإباحة الذاتیة والوجوب المقدّمي الوجودي - كما یظهر من بعض الأساطین - غير صحيح؛ وذلك لأنّ حیثیّة المقدّمیة للعلم بالبراءة بالواجب لیست حیثیّة أخری مغايرة للشكّ المفروض، بل هي اعتبار آخر له، فانّ الشكّ في وجوب كلّ منهما إن قیس إلی الواقع كان شكّاً في الحكم، وإن قیس إلی المعلوم إجمالاً كان شكّاً في الِانْطِباقِ واحتمالاً لكونه هو، وهو بعینه معنی المقدّمیة.

ص: 594

والحاصل: إنّ معنی كون كلّ منهما مقدّمة واجبة للعلم، وجوب الإتیان بكلّ منهما، لاحتمال كونه هو الواجب، وهو بعینه احتمال كونه واجباً، إذ لا شكّ هنا في وجوبه من جهة أخری، فإلغاء احتمال الوجوب هنا لا یجامع لزوم مراعاة احتمال كونه هو الواجب ولا تعدّد هنا من حیث الجهة بحیث یصحّ قصر مفاد أدلّة البراءة علیها.

ومنه یظهر فساد المقایسة، فإنّ الإباحةَ الذاتِیّةَ مُغایِرَةٌ للوجوب الغَیْرِيّ من حیث الاعتبار ولو قلنا بامتناع اجتماعهما فعلاً؛ إذ لا شكّ في اجتماع الجهتین والحیثیّتین.

ولو أرید من ذلك جعل قاعدة المقدّمیة دَلِیلاً مُثْبِتاً للوجوب الظاهري بحيث یكون حاكماً علی أخبار البراءة - كما ربّما یلوح من بعض كلماتهم نظیر المقدّمة الوجودیّة مع دلیل إباحة الشيء - ففیه أنّ وجوب المقدّمة العلمیّة لیس إلّا حكماً ظاهریا عقلیّاً وقد تقرّر في محلّه إنّ الأصول الشرعیة حاكمة علی الأصول العقلیة - كما اعترف به بعض الأساطین - فَدَعْویٰ حُكُوْمَتِها علی الأَصْلِ الشَّرْعِيِّ فاسِدَةٌ جدّاً، وهذا بخلاف مقدّمة الوجود، فانّ الحكم بوجوبه حكم واقعي استكشفه العقل بعد إحراز وجوب ذي المقدّمة من دلیله، ومن المقرّر أنّ الدلیل الملزم للفعل أو الترك حاكم علی المبیح في مثل المقام، أو وارد علیه.

والجواب عن ذلك

إنّ ما ذكر في ردّ الوجه الثالث غیر سدید، وهو أقرب الوجوه المذکورة؛ وذلك لأنّ الحكم بالبراءة عن المشكوك من حیث

ص: 595

هو مشكوك مغاير للحكم بإلغاء المعلوم بالإجمال المعتبر بحکم العقل - ولو تعلیقیّاً - فالحكم بعدم ترتّب العقاب علی ترك صلاة الجمعة مثلاً من حیث كونه مشكوك الحكم مغاير للحكم بعدم ترتّب الحكم علی ترك الواجب المردّد وإن لزم من الإذن في كلّ منهما ذلك، فلزوم مراعاته أمر آخر وراء كون الحكم مشكوكاً.

وغایة ما یسلّم من الإطلاق هو عدم المؤاخذة علی المشكوك من حیث كونه مشکوکاً، لا من حیث أنّ في إلغائه طرحاً لحكم معلوم، وتعدّد الجهة في شكّ واحد كافٍ في ذلك، فافهم.

ثمّ إعلم: إنّ الفاضل النراقي طاب ثراه مع ذهابه في مسألة الشبهة المحصورة بعدم وجوب الاحتیاط متمسّكاً بأدلّة البراءة وغیرها، وافَقَنا هنا في لزوم الاحتیاط وأجاب عن أخبار البراءة:

أوّلاً: بأنّ الظاهر منها عدم التكلیف بما لم يعلم التكلیف وبدون بیانه وإتیانه، لا إتیان المكلّف به بخصوصه، ولیس في شيء دلالة علی انتفاء المكلّف به ما لم يعلم المكلّف به.

وثانیا: بمنع عدم تحقّق البیان والإتیان والعلم وأمثالها في هذا المقام؛ إذ ليس المراد البيان والعلم من جمیع وجوه المكلّف به وَلَوِ ادَّعیٰ إرادته معناها، بل المراد علی نحو یمكن الامتثال إذ لم یثبت أزيد من ذلك، وهو في ما نحن فیه متحقّق.

وثالثا: إنّ غیر المبیّن هنا وغیر المعلوم هو تعیین المكلّف به بخصوص

ص: 596

أنّه مكلّف به، وهذا غیر مكلّف به وما كلّف به وهو واحد معیّن في الواقع من هذه الأمور لیس بغیر بیّن؛ یعني أنّ ما لم یؤتَ ولم یعلم وحُجِبَ علمُهُ وأمثالها، هو تعیین المكلّف به، وأمّا التكلیف بأحد الأمور، فالمفروض إنّه ممّا أوتي به وعُلم. (1)

والحاصل: إنّ هنا أمرین:

أحدهما: التكلیف بواحد معیّن عندي من تلك الأمور والآخر التكلیف الأصلي بكلّ واحد معیّن عند المكلّف، والأوّل ممّا علم، فیجب الحكم به، وأمّا الثاني، فلمّا لم یعلم لا نحكم به.

وهذه الوجوه كما تری كلّها منظورة فیه؛ إذ المرفوع والموضوع إن كان هو الموضوع المجهول حكمه - كما لعلّه الراجح في حدیث الرفع - فَعَدَمُ تمامیّةِ هذه الوُجوهِ ظاهِرٌ؛ لأنّ شیئاً من الظهر والجمعة لم یعلم حكمه قطعاً بوجه من الوجوه، والمعلوم حكمه عنوان انتزاعيّ من الخصوصیّتین؛ وأمّا إذا جعل متعلّق الرفع ونحوه هو الحكم المجهول، فالظاهر منه إرادة الأحكام الخاصّة المتعلّقة بموضوعاتها الخاصّة، ونسبة العلم إلیها ظاهرة في كونها معلومة كذلك، ونفيه عنه أعمّ من أن لا یكون معلوماً بوجه من الوجوه أو معلوماً لا بهذا الوجه، فدعوی خروج الشكّ في المكلّف بعضها أو تحقّق العلم هنا إنّ المكلّف به غیر مجهول بعیدة عن الظاهر، مع أنّ

ص: 597


1- . انظر: خزائن الأحکام: ج2/ ص253.

الأخیر بعد تصویره راجع إلی أحد الأوّلین، بل الظاهر أن یرجع الكلّ إلی أمر واحد بعد التحلیل، فتأمّل.

ورابعها

إنّه لو تمّ الدلیل المذكور لدلّ علی وجوب الاحتیاط عند التمكّن منه، وإمكانه في العبادات ممنوع (1) كما یظهر من المحقّق القمي (رحمة الله علیه):

أمّا أوّلاً فَلِما ذكره في مسألة الفوائت من أنّ الفائدة في الإتیان بالكلّ إن كان هو تحصیل الیقین بالمكلّف به الواقعي، فلا ریب أنّه لا یحصل بذلك - أيضاً - لأنّ اشتراط قصد التعیین في الامتثال بالمكلّف به من المسائل الاجتهادیّة، وهو ممّا لا یمكن هنا، فمع عدمه كیف یحصل الیقین بانّه هو مجرّد المطابقة في عدد الرکعة لا یكفي في الإتیان به. (2)

وأمّا ثانیاً فَلِما ذكره أيضاً في الظهر والجمعة وما شابههما من أنّه لا معنی للاحتیاط هنا؛ لحرمة كلّ منهما علی فرض ثبوت الآخر، فالمكلّف المحتاط وإن كان خرج بزعمك من تبعة ترك الواجب لأجل إتیانه بما یحتمله، لكنّه بقي علیه تبعة ارتكاب المحرّم الواقعي جزماً، ولا ریب أنّ ارتكاب ما لا یعلم فیه ارتكاب الحرام واحتمل فیه إتيان الواجب، أسلم

ص: 598


1- . في المخطوطة: «ممنوعة».
2- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة، ج3، ص87 و 88 والفصول الغروية في الأصول الفقهية (الطبعة الحجرية)، ص359.

من ارتكاب ما علم فیه ارتكاب الحرام وإتیان الواجب. (1)

وتوضیحُ الإشكالِ الأَوّلِ

أنّ الامتثال التفصیليّ بمعنی العلم بكون المأتيّ به مقرّباً حین الإتیان معتبر في العبادات في الجملة، بل لا یبعد كونه اتّفاقیّاً، ولذا ادّعی الحلّي (2) في الثوبین المشتبهین عدم جواز تكرار الصّلاة للاحتیاط حتّی مع عدم المتمكّن من العلم التفصیليّ، ولازم ذلك سقوط العبادة رأساً إن لم یقم إجماع ونحوه علی عدم جواز تركها، وإلّا فالتخییر؛ وذلك لما ستعرفه إن شاء الله تعالی من أنّ الأصل في الشرائط الركنیّة وعدم اختصاص الشرطیّة بحال التمكّن والعلم، ولعلّ ذلك مراد المحقّق المذكور، من حیث ذكر أنّ تنجّز التكلیف بالأمر المردّد مستلزم لِإسقاط قَصْدِ التَّعَیِیْنِ المعتبر في العبادة في عبارته المتقدّمة آنفاً.

وأمّا ما أورده علیه بعض الأساطین من أنّ سقوط قصد التعیین لیس لازماً لتنجّز التكلیف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم، بل إنّما حصل بمجرّد التردّد والإجمال في المكلّف به - سواء قلنا فیه بالبراءة أو الإحتیاط - (3) ففیه أنّه:

إن أرید بذلك أنّ سقوط قصد التعیین من لوازم تعذّره الناشي من

ص: 599


1- . انظر: القوانين المحکمة في الأصول المتقنة: ج3/ ص90 وخلاصة القوانين: ص150.
2- . انظر: السرائر: ج1/ ص185.
3- . انظر: فرائد الأصول: ج2/ ص288.

الجهل التفصیلي؛ لعدم جواز التكلیف بما لا یطاق، لا من لوازم تنجّز التكلیف بالواقع، فهو إنّما یتمّ إذا أرید بالإسقاط إسقاط الوجوب، وإلّا كما هو الظاهر بأن كان المراد إسقاط الشرطیّة، فلا ربط له بما ذكره؛ لأنّ مجرّد التعذّر لا یقضي بسقوطها ما لم ینضمّ إليه تحقّق المشروط.

وإن أرید به أنّ بقاء الحكم الواقعي - ولو من دون تنجّز - كافٍ في سقوط الاشتراط، حتّی أنّ القائل بالبراءة لا یمنع من استحباب الاحتیاط وإنّما یمنع وجوبه، فالالتزام بإطلاق التكلیف الثاني مشترك بینهما، وإنّما الكلام في وجوب مراعاته وعدمه، ففیه أنّ التزامه بثبوت التكلیف الشأني غیر مشترط بالعلم غیر ظاهر، بل الظاهر منه إنكاره.

والحكم برجحان الاحتیاط لعلّه لأجل احتمال وجوده، وهو كافٍ له بخلاف الوجوب، فلابدّ من إثبات إطلاق التكلیف وسقوط الشرطیّة حال التعذّر، وإلّا فالأصل یقضي بسقوطه.

ثمّ إن قام إجماع ونحوه علی عدم جواز ترك المجموع، فلعلّه یلتزم بالتخییر مع مراعاة قصد التعیین في المأتيّ به، كما في سائر موارد التخییر الشرعيّ بأن یختار أحدهما، ثمّ یأتي به بعنوان الوجوب هذا.

والظاهر إنّ مراده من قصد التعیین خلاف الشائع في كلام الفقهاءمن إرادة تعیین الفعل المشترك - كالظهر والعصر -؛ لأنّ المناسب للمقام إرادة الامتثال التفصیلي.

وتوضیح الإشكال الثاني

إنّ قصد القربة معتبرة في العبادات، ومن

ص: 600

البیّن إنّ الجمع بین المحتملین بوصف أنّ كلّ واحد منهما عبادة مقرّبة مستلزم للتشریع المحرّم بالنسبة إلی الواجب، وإن شئت قلت: إنّ طَرَفَي الشُّبّهَةِ مُتَساوِیانِ في نظر المكلّف، فإمّا أن لا یتحقّق قَصْدُ القُربَةِ والِامْتِثالِ في شَيْءٍ منهما، أو یكون متحقّقاً في كلّ منهما؛ فعلی الأوّل یكون احتیاطاً وامتثالا إجمالیاً، بل لغواً محضاً، لخلوّ العبادة عن شرطه الّذي هو قصد القربة؛ وعلی الثاني یلزم العلم بتحقّق التشریع المحرّم.

ثمّ إنّ هذا الاعتراض الثالث بِكِلا وَجْهَیْهِ - وإن اختصّ بالعبادات بالمعنی الأخصّ - لكنّه ربّما یتمّ في غیره بالإجماع المركّب، ویمكن دعوی القلب وسیأتي الكلام في نظيره إن شاء الله تعالی.

لكنَّ التَّحْقِیْقَ فَسادُ دَعْوَی الْإجماعِ في المُرَكَّبِ في الطَّرَفَیْنِ وأنّه كلام صوريّ في نظر التحقیق، فإنّ المسألة عمدة جهتها عضلته یشكل التشبّث فیها بِالإجماع البسیط فضلاً عنه؛ هذا.

والتحقیق في الجواب عن الأوّل

إنّ اشتِراطَ الِامْتِثالِ التفصیلي لَیْسَ شَرْطاً شَرْعِیّاً كَسائرِ الشروط المعتبرة في المأمور به حتّی یدّعی أنّ الأصل الركنیّة لإطلاق الدلیل وغیره، بل لو سلّم شرطیّته - علی إشكال مقرّر في محلّه - فهو شرط في صدق الامتثال والطاعة، ومن البیّن إنّهم لا یحكمون بالشرطیة إلّا حال تحقّق العلم التفصیلي لو كان، وأمّا مع عدمه فهم یحكمون بتحقّق الامتثال بإتیان شیئین یقطع بكون أحدهما مأمورا به، فكیفیّة الإطاعة حینئذٍ هو ترك الامتثال التفصیلي والاكتفاء بالإجمالي، فافهم

ص: 601

وانتظر لتمام الكلام في نظیره.

[والتحقيق في الجواب] عن الثاني

بأنّ قصد التقرّب بالواجب الواقعي المردّد لا یتوقّف علی إتیان كلّ من المحتملین بوصف كون كلّ منهما عبادة مقرّبة، بل یكفي في ذلك مجرّد إتیان كلّ منهما برجاء أنّه الواقع؛ إذ لیس المراد به إلّا إتیان الفعل بداعي الأمر، وهو مَوْجُوْدٌ هُنا؛ لِأَنَّ الأَمْرَ بالواجِبِ الواقِعِيّ صارَ سَبَباً لإتیان كُلٍّ منهما برجاء كونِه هو الواقع.

وتوضیح المقام

إنّ قصد القربة بمعنی كون العلّة الغائیّة للفعل هو امتثال الأمر، قد یكون جزمیاً وقد یكون رجائیاً - كما هو ظاهر بملاحظة العادیات - فَإِنْ كان الأمر معلوماً تفصیلاً استدعی الْإتْیانَ بمتعلّقه فقط، وإن كان مردّداً بین شیئین اقتضی ذلك العلم الإجمالي الإتیان بِكِلا الطَّرَفَیْنِ، لا علی أن یكون كُلٌّ منهما مأموراً بِهِ حتّی یَلْزَمَ التشریع. (1)

ص: 602


1- . کتب کاتب النسخة في آخرها: «يا عليّ، یا عليّ، إلی هنا تمّ كلامه رُفِعَ في الخلد مقامُه. اللهم اغفرله واحشره مع موالیه محمّد وآله الطّیّبین الطاهرین صلواتك علیهم أجمعین. ولقد وقع الفراغ من تسوید هذه الأوراق لیلة السبت السادسة والعشرین من شهر ذي [الْ-]-قَعْدَةِ سنة 1322 اثنتین [وعشرين] وثلاثمائة بعد الألف بید الأقلّ الراجي محمّدرضا بن محمّدعلی التيکني العربستاني. غفر [الله] لهما بمحمّد وآله: تمّت بالخير». قال المحقّق: تِيْکَن: قرية من قری منطقة عربستان من ضمن مدينة گلپايگان في محافظة أصبهان. راجع: فرهنگ جامع نام ها و آبادی های کهن اصفهان: ج1/ ص276.

مصادر تحقيق الکتاب

- الأربعين، العلّامة الشيخ محمّدباقر المجلسي، طهران.

- الاستبصار، أبوجعفر محمّد بن الحسن الطّوسي، تحقيق وتعليق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، دارالکتب الإسلامية، طهران، 1363ش، الطبعة الرابعة.

- الإقبال بالأعمال الحسنة في ما يعمل في السّنة، السيّد ابن طاووس الحلّي، تحقيق وتصحيح: جواد القيومي الإصفهاني، منشورات مکتب الإعلام الإسلامي، قم، 1415ق، الطبعة الأولی.

- الإقبال بالأعمال في ما يعمل في السّنة، السيّد ابن طاووس الحلّي، دارالکتب الإسلامية، طهران، 1409ق، الطبعة الثانية.

- الأمالي، أبوجعفر محمّد بن حسن الطوسي، تصحيح وتحقيق: مؤسسة البعثة، دارالثّقافة، قم، 1414ق، الطبعة الأولی.

- الأمالي، الشيخ محمّد بن حسن الطوسي، المترجم: صادق حسن زاده، انتشارات انديشه هادی، قم، 1393ش، الطبعة الثانية.

- الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، حسين بن محمّد البحراني، تصحيح وتحقيق: محسن آل عصفور، مجمع البحوث العلمية، قم، الطبعة الأولی.

- أنيس المجتهدين، محمّدمهدي النراقي، منشورات مکتب الإعلام الإسلامي، قم، 1430ق، الطبعة الأولی.

- أوثق الوسائل، موسی بن جعفر التبريزي، الطبعة الحجرية.

- إيضاح الفوائد في شرح إشکالات القواعد، الشيخ أبوطالب محمّد بن الحسن الحلّي، تحقيق وتعليق: السيّد حسين الموسوي الکرماني و...، مؤسسة إسماعيليان، 1389ق، الطبعة الأولی.

- بحارالأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، العلّامة الشيخ محمّدباقر المجلسي، دار إحياء التراث العربي، 1403ق، بيروت، الطبعة الثانية.

- بحرالفوائد في شرح الفرائد، الميرزا محمّدحسن الآشتياني، تحقيق وتدقيق: لجنة إحياء

ص: 603

التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1429ق، الطبعة الأولی.

- تحف العقول عن آل الرسول، حسن بن شعبه الحرّاني، منشورات جماعة المدرّسين، قم، 1404ق، الطبعة الثانية.

- تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلّي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت، قم، 1414ق.

- تعليقة علی معالم الأصول، السيّد عليّ الموسوي القزويني، تحقيق: السيّد عليّ العلوي القزويني، مؤسسة النّشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1422ق، الطبعة الأولی.

- التنقيح الرائع للمختصر النافع، الفاضل المقداد، تحقيق: عبداللطيف الحسيني، مکتبة آيةالله المرعشي النجفي، قم، 1404ق.

- التوحيد، الصّدوق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1398ق، الطبعة الثانية.

- تهذيب الأحکام، الشيخ محمّد بن حسن الطّوسي، دارالکتاب الإسلامية، طهران، 1365ش، الطبعة الرابعة.

- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، الشيخ الصدوق، انتشارات شريف رضی، قم، 1364ش.

- جامع أحاديث الشيعة، آيةالله العظمی الحاج آقا حسين البروجردي، المطبعة العلمية، 1399ق، قم.

- جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقّق الشيخ عليّ بن الحسين الکرکي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1408ق، الطبعة الأولی.

- جواهر الکلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمّدحسن النجفي، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدّرسين، قم، 1417ق.

- حاشية الإرشاد، الشهيد الثّاني، تحقيق: رضا مختاري، انتشارات دفتر تبليغات اسلامي، قم، 1414ق.

- حاشية إرشاد الأذهان، للمحقّق الكركي، طبعت في ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره،

ص: 604

المجلد 9، تحقيق: الشيخ محمّد الحسون،منشورات الاحتجاج، قم، 1423ق.

- حاشية شرائع الإسلام، الشهيد الثّاني، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية قسم إحياء التراث الإسلامي، دفتر تبليغات اسلامي، قم، 1422ق.

- حاشية شرائع الإسلام، للمحقّق الكركي، طبعت في ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره، المجلد 10، تحقيق: الشيخ محمّد الحسون،منشورات الاحتجاج، قم، 1423ق.

- الحاشية علی مدارك الأحکام، المولی محمّدباقر الوحيد البهبهاني، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1419ق، الطبعة الأولی.

- الحدائق النّاضرة في أحکام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف بن أحمد البحراني، تحقيق: محمّدتقي ايرواني وسيّد عبدالرزاق مقرم، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1363ش.

- خلاصة الفصول في علم الأصول، السيّد صدرالدين بن إسماعيل الصدر، قم، الطبعة الأولی.

- الدّراية (في علم مصطلح الحديث)، زين الدين العاملي (الشهيد الثاني)، مطبعة النعمان، قم، 1409ق، الطبعة الثالثة.

- درر الفوائد في شرح الفرائد، السيّد يوسف المدني التبريزي، مکتبة بصيرتي، قم، الطبعة الثانية.

- الدّرر النّجفية في الملتقطات اليّوسفية، يوسف بن أحمد البحراني، تحقيق: لجنة تحقيق دارالمصطفی لإحياء التّراث، دارالمصطفی لإحياء التّراث، بيروت، 1423ق، الطبعة الأولی.

- الدروس الشّرعية في فقه الإمامية، الشهيد الأوّل، انتشارات إسلامي، قم، 1412ق.

- دروس في الرسائل، غلام علي المحمّدي البامياني، مکتبة المفيد، قم، 1410ق.

- ذکری الشيعة في أحکام الشريعة، محمّد بن جمال الدين المکّي العاملي (الشهيد الأوّل)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت، قم، 1418ق.

- الرسائل الفشارکيه، السيّد محمّد بن قاسم الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة

ص: 605

لجماعة المدرّسين، قم، 1413ق، الطبعة الأولی.

- رسائل الميرزا القمي، الميرزا أبوالقاسم القمي، منشورات مکتب الإعلام الإسلامي خراسان، قم، 1427ق، الطبعة الأولی.

- الرعاية في علم الدّراية، زين الدين بن عليّ العاملي، اخراج، تعليق وتحقيق: عبدالحسين محمّدعلي بقّال، مکتبة آيةالله العظمی المرعشي النجفي، قم، 1408ق.

- روضة المتّقين، المولی محمّدتقي المجلسي، تحقيق: السيّد حسين الموسوي الکرماني والشّيخ علي پناه الإشتهاردي، بنياد حاج محمّدحسين کوشانپور، طهران.

- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، ابن إدريس الحلّي، تحقيق ونشر: جامعة المدّرسين، 1410ق.

- السنن الکبری، أبوبکر أحمد بن الحسين البيهقي، دارالمعرفة، بيروت، 1413ق.

- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن المحقّق الحلّي، مع تعليقات السيّد صادق الشيرازي، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403ق.

- شرح الرسائل، مصطفی اعتمادي، انتشارات علّامه، قم، 1366ش، الطبعة العاشرة.

- شرح معالم الدين، المولی محمّدصالح المازندراني، منشورات مکتبة الدّاوري، قم.

- شرح هداية المسترشدين (حجّيّة الظن)، الشيخ محمّدباقر ابن الشيخ محمّدتقي النجفي الإصفهاني، تحقيق: الشيخ مهدي الباقري السياني، مکتبة آيةالله النجفي، قم، 1427.

- عدّة الدّاعي ونجاح السّاعي، جمال الدين أحمد بن محمّد الحلّي، دارالکتاب الإسلامي، 1407ق، الطبعة الأولی.

- العدّة في أصول الفقه، أبوجعفر محمّد بن حسن الطوسي، تحقيق: محمّدرضا الأنصاري القمي، النّاشر: المحقّق، قم، 1376ش. الطبعة الأولی.

- عناية الأصول في شرح کفاية الأصول، السيّد مرتضی الحسيني اليزدي الفيروزآبادي، انتشارات فيروزآبادی، قم، 1405ق، الطبعة الخامسة.

- عوالي اللآلي العزيزية، الإحسائي، دار سيّدالشهداء للنّشر، قم، 1405ق، الطبعة الأولی.

ص: 606

- غررالحکم ودرر الکلم، عبدالواحد بن محمّد التميمي الآمدي، مقدمه، تصحيح وتحقيق: المير جلال الدين الحسيني الارموي، مؤسسه انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1360ش.

- غررالحکم ودرر الکلم، عبدالواحد بن محمّد التميمي الآمدي، انتشارات دفتر تبليغات اسلامی، قم، 1366ش، چاپ اول.

- فرائد الأصول، الشيخ مرتضی الأنصاري، تحقيق: لجنة التحقيق، مجمع الفکر الإسلامي، قم، 1424ق، الطبعة الخامسة.

- فرائد الأصول، الشيخ مرتضی الأنصاري، تحقيق وتعليق: عبدالله النّوراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1407.

- فرائد الأصول مع حواشي أوثق الوسائل، الميرزا موسی التبريزي، سماء قلم، قم، 1388ش، الطبعة الثّانية.

- فرهنگ جامع نام ها وآبادی های کهن اصفهان، محمّد مهريار، فرهنگ مردم، اصفهان، 1382ش.

- الفصول الغروية في الأصول الفقهية، محمّدحسين الإصفهاني، دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1363ش.

- الفوائد الحائرية، الشيخ محمّدباقر الوحيد البهبهاني، تحقيق: لجنة تحقيق مجمع الفکر الإسلامي، مجمع الفکر الإسلامي، قم، 1424ق، الطبعة الثانية.

- الفوائد المدنية، محمّدأمين الأسترآبادي، مؤسسة النّشر الإسلامي التابعة لجماعة المدّرسين، قم، 1429ق، الطبعة الثالثة.

- قواعد الأحکام، العلّامة الحلّي، تحقيق ونشر: جامعة المدرّسين، قم، 1413ق.

- القوانين المحکمة في الأصول المتقنة، الميرزا أبوالقاسم القمي، شرح وتعليق: رضا حسين صبح، دارالمرتضی، بيروت، 1430ق، الطبعة الأولی.

- الکافي، أبوجعفر محمّد بن يعقوب الکليني، تصحيح وتحقيق: علي أکبر الغفّاري، دارالکتب الإسلامية، طهران، 1407ق، الطبعة الرابعة.

ص: 607

- الکافي، أبوجعفر محمّد بن يعقوب الکليني، تحقيق: مرکز تحقيقات دارالحديث، قم، 1429ق، الطبعة الأولی.

- کتاب المکاسب، الشيخ مرتضی الأنصاري، تحقيق: لجنة تحقيق: مجمع الفکر الإسلامي، 1435ق، الطبعة التاسعة عشرة.

- کفاية الفقه (=کفاية الأحکام)، العلّامة محمّدباقر السبزواري، تحقيق: الشيخ مرتضی الواعظي الأراکي، مؤسسة النشرالإسلامي، قم، 1423ق، الطبعة الأولی.

- مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، المولی أحمد الأردبيلي، تصحيح: مجتبی العراقي و علي پناه الاشتهاردي و...، جماعة المدرّسين في الحوزة العلميّة، قم.

- مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان (مع حاشية آيةالله الشيخ يوسف الصانعي)، تحقيق وتصحيح: مؤسسة فقه الثقلين، قم، 1429ق، الطبعة الأولی.

- المحاسن، أبوجعفر أحمد بن محمّد البرقي، دارالکتب الإسلامية، قم، 1371ق، الطبعة الثانية.

- مدارك الأحکام في شرح شرائع الإسلام، السيّد محمّد العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت، قم، 1410ق.

- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلّامة محمّدباقر المجلسي، تحقّيق: السيّد هاشم الرسولي المحلاتي، دارالکتب الإسلامية، طهران، 1404ق، الطبعة الثانية.

- مستدرك الوسائل، النوري، مؤسسة آل البيت لإحياء التّراث، قم، 1408ق، الطبعة الأولی.

- مسالك الأفهام إلی تنقيح شرائع الإسلام، زين الدين بن عليّ العاملي، تحقيق: مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، 1413ق.

- مستند الشيعة في أحکام الشّريعة، المولی أحمد النّراقي، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مشهد، 1415ق، الطبعة الأولی.

- مشارق الأحکام، المولی محمّد بن أحمد النّراقي، تحقيق وتصحيح: السيّد حسن وحدتي الشّبيري، مؤتمر النراقيين ملّا مهدي وملّا أحمد، قم، 1422ق، الطبعة الثانية.

ص: 608

- مشارق الشموس في شرح الدروس، الشيخ حسين الخوانساري، الطبعة الحجرية.

- مصابيح الظّلام في شرح مفاتيح الشرائع، العلّامة الوحيد البهبهاني، تحقيق ونشر: مؤسسة العلّامة الوحيد البهبهاني، قم، 1424ق.

- معارج الأصول، العلّامة الحلّي، مؤسسة آل البيت، 1403ق.

- معالم الدّين وملاذ المجتهدين (قسم الفقه)، الشيخ حسن بن زين الدّين العاملي الشهيد الثاني، تحقيق: السيّد منذر الحکيم، مؤسسة الفقه، قم، 1418ق.

- المعتبر في شرح المختصر، جعفر بن الحسن المحقّق الحلّي، مؤسسة سيّدالشهداء، قم، 1364ش.

- مفتاح الکرامة في شرح قواعد العلّامة، تحقيق وتعليق: الشيخ محمّدباقر الخالصي، مؤسسة النّشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1419ق.

- مفاتيح الأصول، السيّد محمّد الطباطبائي المجاهد، الطبعة الحجرية، (افست)، مؤسسة آل البيت.

- مفاتيح الشرائع، المولی محسن الفيض الکاشاني، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، مجمع الذخائر الإسلامية، قم، 1410ق.

- ملاذ الأخيار في شرح تهذيب الأخبار، العلّامة محمّدباقر المجلسي، مكتبة آيةالله المرعشي النجفي، قم.

- منتهی الدراية في توضيح الکفاية، السيّد محمّدجعفر الجزائري المروّج، الناشر: المؤلّف، مطبعة الخيام، قم، 1403ق، الطبعة الثانية.

- منتهی المطلب في تحقيق المذهب، العلّامة حسن بن يوسف الحلّي، تحقيق: قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلامية، الناشر: مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، 1412ق، الطبعة الأولی.

- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصّدوق، تصحيح وتحقيق: عليّ أکبر الغفّاري، مؤسسة النّشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1426ق، الطبعة الرابعة.

- موسوعة طبقات الفقهاء، أُلِّفَ تحت إشراف آيةالله الشيخ جعفر السبحاني، مؤسسة

ص: 609

الإمام الصادق (علیه السلام)، قم المقدسة.

- نهاية الإحکام في معرفة الأحکام، العلّامة حسن بن يوسف الحلّي، مؤسسة آل البيت، قم، الطبعة الأولی.

- نهاية الوصول إلی علم الأصول، العلّامة حسن بن يوسف الحلّي، مؤسسة آل البيت، قم، 1431ق، الطبعة الأولی.

- نهاية الوصول إلی علم الأصول، العلّامة حسن بن يوسف الحلّي، تحقيق: الشيخ إبراهيم البهادراني، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1425ق، الطبعة الأولی.

- الوافي، المولی محمّدمحسن الفيض، تحقيق وتصحيح: ضياءالدّين الحسيني الإصفهاني، مکتبة إمام أميرالمؤمنين عليّ (علیه السلام)، اصفهان، 1406ق، الطبعة الأوّل.

- الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن ايبك الصّفدي، باعتناء هلموت ريتر، 1411ق، دارالنشر فرانزشتاينر شتوتغارت.

- وسائل الشيعة إلی تحصيل مسائل الشّريعة، محمّد بن حسن الحرّ العاملي، تحقيق: عبدالرحيم الرّباني الشيرازي، المکتبة العلمية، طهران، 1403ق، الطبعة السادسة وطبعة آل البيت.

- الوصائل إلی الرسائل، آيةالله السيّد محمّد بن مهدي الشيرازي، مؤسسة عاشورا، قم.

- وقاية الأذهان (مع رسالتي سِمطا اللآل في مسألتي الوضع والاستعمال)، أبوالمجد الشيخ محمّد الرضا النجفي الإصفهاني، مؤسسة آل البيت لاحياء التّراث، قم، 1413ق، الطبعة الأولی.

- هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين، الشيخ محمّدتقي الرازي النجفي الإصفهاني، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1420ق، الطبعة الأولی.

ص: 610

فهرس

تاريخ طبع کِتابِ «أَصْلِ الْبَراءَة» من نظم سماحة العلّامة الأستاذ السيّد عبدالسّتّار الحسني (دامت برکاته) 3

تمهيد بقلم آيةالله الشيخ هادي النجفي (دام ظله) حفيد المؤلّف 5

أمّا المؤلِّف 5

اسمه ونسبه وأمّه وولادته 5

دراسته وهجرته إلی النجف الأشرف وأساتيده 6

تصحيحان 10

رجوعه إلی إصفهان 11

حضوره علی والده 12

إنقلابه الروحي 12

هجرته إلی العراق ثانية ثمّ رجوعه إلی إصفهان مجدّداً 16

تلاميذه 18

تصحيح 23

تأليفاته 24

تصحيح 28

قالوا فيه 29

زوجته وأولاده 49

هجرته الثالثة إلی النجف الأشرف مع والده 50

کراماته 51

وفاته ومدفنه 53

ص: 611

رؤيا 53

مراثيه ومادّة تاريخ وفاته 54

أمّا المؤلَّف 66

أصل البراءة 66

شکر وتقدير 67

بعض مصادر ترجمة المؤلّف 69

الصفحة الأولی من مخطوطة الکتاب 70

الصفحة الأخيرة من مخطوطة الکتاب 71

أصل البراءة / 73

المطلب الثاني: في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه مسائل / 79

[المسألة] الأولی 81

وينبغي التنبيه علی أمور / 90

أحدها 90

ویمكن الاحتجاج للقاعدة المذكورة بوجوه 101

أحدها 101

وثانیها 105

وثالثها 112

ورابعها 119

الخامس 132

السادس 139

السابع 145

التنبیه الثاني / 147

المسألة الثانیة والثالثة / 166

المسألة الرابعة / 170

المطلب الثالث: في ما دار الأمر فیه بین الوجوب والحرمة / 191

المسألة الأولی / 191

ص: 612

أحدها 205

وثانیها 206

وثالثها 207

ورابعها 208

وخامسها 223

أمّا الأوّل 225

وأمّا الثاني 225

وأمّا الثالث 225

وأمّا الرابع 226

وأمّا الخامس 228

وأمّا السادس 229

المسألة الثانیة و[المسألة] الثالثة [في] ما إذا دار الأمر بین الوجوب والحرمة / 255

المسألة الرابعة [في] ما إذا دار الأمر بینهما / 256

الموضع الثاني في الشكّ في المكلّف به مع العلم بنوع التكلیف 257

الأوّل 257

وتحقیق مرام المستدلّ 261

الأوّل 263

الثاني 264

الثالث 269

الرابع من وجوه الِاعتراض 277

الخامس 281

وأمّا مسألة الودیعة 289

منها الأخبار الدالّة علی البراءة عند الشكّ والجهالة وعدم العلم 291

ومنها مادلّ علی الحلیة ما لم یعرف الحرام بعینه 292

ومنها مادلّ بظاهره علی حلّیة المال المختلط بالحرام في الجملة 293

ومنها: مادلّ علی حلّیة نسل الغنم المرتضع مِنَ الخنزیر عند الِاشْتِباه 294

ص: 613

ومنها: ما ورد في حلّیة السمك المشتبه بالمیّت في الماء في الجملة 295

ومنها: مادلّ علی حلیّة الربا مع الاشتباه 295

ومنها: الأخبار المستفیضة الدالّة علی جواز الشراء من الظالم والسلطان والعامل مع العلم بظلمهما إلّا أن یعلم أنّه الحرام 295

ومنها ما ورد في حلّیة الحلال المختلط بالحرام مع عدم التمیّز عند إخراج الخمس 296

وربّما یجاب عن الطائفة الأولی 297

ویمكن الذبّ عنه 297

ولو نوقش في ذلك بأنّ النسبة بینهما عموم من وجه 311

وأمّا [الجواب] عن روایة النوادر 316

وعن الطائفة الرابعة 316

وعن الطائفة الخامسة 318

وعن السادسة 318

وعن السابعة 318

وعن الثامنة 319

المسلك الثالث ما ذكره جماعة 319

المسلك الرابع: ما ذكره الفاضل النراقي 325

المقام الثاني في وجوب الموافقة القطعیة / 327

وتحقیق المقام 339

وأمّا أخبار البراءة وماضاهاها 340

وأمّا الثوب النجس بعضه 357

وأمّا مسألة اشتباه المذكّی بالمیتة 357

وینبغي التنبیه علی أمور 367

الأوّل 367

وربّما تُبْنیٰ المسألة 374

ویمكن توجیه الاحتیاط 375

وأمّا عمدة الجواب عن الأخبار 376

ص: 614

ویمكن منعه 377

الثاني من تلك الأمور 379

الثالث 379

وتحقيق المقام 386

الأمر الرابع 395

وأمّا ما ذكره (قدس سره) من الأخبار الواردة في الثوب النجس 401

والجواب عنه 404

ویمكن الجواب بوجوه 407

الأمر الخامس انّه لو اضطرّ إلی ارتكاب بعض محتملات الشبهة 418

الأمر السادس 436

الأمر السابع 458

الأمر الثامن 476

الأمر التاسع 483

الأمر العاشر 485

[الأمر] الحادي عشر 486

[الأمر] الثاني عشر 486

المقام الثاني: في الشبهة غیر المحصورة / 487

المرحلة الأولی 489

ويمكن أن يستدل بوجوه: أحدها 489

وثانیها 502

وثالثها 506

ورابعها 510

وخامسها 517

وسادسها 518

وسابعها 518

وثامنها 522

ص: 615

وتاسعها 522

المرحلة الثانیة 523

المرحلة الثالثة 533

المرحلة الرابعة 546

المرحلة الخامسة 557

المسألةُ الثانیة والثالثة / 568

تذییل 570

المطلب الثاني: في اشتباه الواجب بغیر الحرام / 573

وربّما یشكل فیه 573

والجواب عنه 573

الأوْلی 574

وثانیها 580

وأمّا أدلّة الاشتراك في التكلیف 585

وتحقیقه 589

وثالثها 593

والجواب عن ذلك 595

ورابعها 598

وتوضیحُ الإشكالِ الأَوّلِ 599

وأمّا ما أورده علیه بعض الأساطین 599

وتوضیح الإشكال الثاني 600

والتحقیق في الجواب عن الأوّل 601

[والتحقيق في الجواب] وعن الثاني 602

وتوضیح المقام 602

بعض مصادر تحقيق الکتاب 603

فهرس 611

ص: 616

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.